خريستو المرّ – السبت ٢٣ كانون أوّل/ديسمبر ٢٠٢٣
في العراء الكامل، بلا بيت، بل شيء، جاءَ هو طفلًا عاريًا، واضعًا رأسه على صدر امرأة، متروكًا بهشاشةٍ لحنانها. وبالعراء الكامل غادر لاحقًا، أمام حنانها المفجوع تحت صليب. وبالعراءين الكاملَين حطّم يسوع صورة إله الـحرب إلى الأبد، وبذلك مات الإله القاتل، ولم تمت قدرتُنا على تنصيبه مجدّدا، سيّدَ ظلمةٍ، ندعوه نورًا لنكون خدعةً. جاءَ طفلًا عاريًا، وجاءَ جواب القُساةِ حمّامَ دمٍ في بيت لحم. أطفالٌ يذبحهم هيردوسٌ يتناسلُ عبر الأجيال في كلِّ سفّاحٍ جعلته الكراهيةُ، وصمتُ الآخرين سيّدَ العسكر. كلّ طفلٍ ذبيحٍ واحدٌ مع طفل المغارة، ذاك الذي صار شابًا متوّجًا بالشوكِ والدم. فمَن عيّد له اليوم حمل في قلبه الأطفالَ المطعونين بحربة البطشِ، كي لا ينسى مَن هو السيّدُ الوحيدُ ولا يجعل سيّدًا لحياته غيرَ الحبّ. بين عراء المذود وعراء الصليب قال الطفل السيّدُ حبَّه حتّى لا يبقى قلبٌ بلا رجاءٍ، حتّى يشرقَ النورُ في الظلمة كلّما وقف إنسانٌ في وجه العتاةِ فسكب قلبه أو دمه، ليكون شهيدًا وشاهدًا لذلك الشهيدُ خارج أسوار المدينة، القديمةِ في عنجهيّتها. مَن عرف المجدَ الإلهيَّ في ذاك الذي لفّتْهُ أمُّه بأقمطةٍ في مود العراء، رأى الأطفالَ الملفوفين بأقمطةٍ في عراءِ شوارع غزّة، كبارًا في قلب الألوهة التي تلفّ براءَتهم في كلّ حين. ورأى البياض الـمُلتمع في دموع أمّهاتهم نداءً إلهيّا كي يقفَ في وجه الوحش ويسدّد له طعنة جاورجيوس. ورأى اليوم التنّين ساقطًا كالبرق في الهاوية لأنّه آمن أنّ هشاشةَ الطفولةِ تغلب الوحش. وتتمّ الرؤيةُ إذا تابَ القلبُ إلى جمال الحبّ الذي يحوّله إلى نارٍ ملتهبةٍ تشعل العالم ولا تحرقه، ليصبحَ عائلة ًمن ضوء. ويلفّ التائبُ، أي المحبُّ، بشيءٍ من الزهد كلَّ التماعٍ له في الدنيا، فيقاوم ويجازفُ حتّى يبقى الحبُّ وسط العالم فيصبح كنيسة. في المود رسَمَ الله وجهَ الإله القابل للجرح والألم. ولذلك يراه المحبّون في وجوه المرميّين على طرقات الموت في غزّة. فمَن قرأ الحبّ الإلهيّ المسكوبَ طفلًا في مذودٍ يقوده الحبُّ إلى المتروكين العراةِ من الخبز والماء والسقفِ والدواءِ، أولئك المسلوبين من ألق الحياة، أولئك المطروحين للموت والشامخين أحياءَ بكامل كرامتهم البشريّة، رافعين سبابتهم في وجه الوحش، أحرارًا من إرهابه. هذا الوحيد لأبيه السماويّ، الملفوف بالضعفِ في مذودِ، والملفوف بالضعفِ فوق آلام الصليب، قام ليصبح وحيدَ الإنسانيّة، أوّلَ المولودين في نسل الظافرين على الموت، أولئك الذين يصيرون إخوته حين يتوحّدون بهشاشته وأوجاعه فلا يحنون ركبةً لوحشٍ. بأولئك تصبح هنيهةُ التجلّي على جبلٍ شعشعةً سرّيةً تمتدّ في الكون، وتسكن كلّ وجه وكلّ جسدٍ أحبّ فغلب الموت. بهؤلاء تتجدّد أزليّة المملكة الأبديّة بالحياة الأرضيّة حين تتصاعد أناشيدُ النصر لتدقّ أبواب السماء بقلوب الذين أحبّوا، فيكون فرح كما في السماء كذلك على الأرض، وتتمّ مشيئة الآب. حينها، يمكن للإنسان أخيرًا أن يولدَ؛ يمكنه، كطفلِ المذودِ، أن يضع رأسَه بهدوءٍ على صدرِ الله، ويسلم القلب للنبع، ويقول: قد تمّ. خريستو المرّ – الثلاثاء ١٩ كانون أوّل/ديسمبر ٢٠٢٣
عندما تنظر في وجوه السياسيّين المسؤولين عن مجازر تقضي على حياة ملايين من البشر، تراها خالية من أيّة مشاعر، يحكمون ببرودة بالقضاء على البشر ويدافعون عن مواقفهم دون أن يشعروا بشيء تقريبًا، على الأقلّ في العلن، ومن المرجّح عندي أنّهم لا يشعرون بشيء عند الاختلاء بأنفسهم. فعندما يُلحِقُ الإنسان نفسَه بمؤسّسة بحيث أنّه يعامل ذاته ليس كإنسان أوّلًا وإنّما أساسًا كبرغيّ في آلتها، عندها قد يجني اكتفاءً وظيفيّا من كونه يحقّق مهمّته المطلوبة على أتمّ وجه، ويشعر بشيء من الاحترام أو الهيبة في الوسط الذي يحيط به، وبسلطة تسمح له بالسيطرة على من هم أدنى منه مرتبة وظيفيّة فيعطيه ذلك تعويضا عن الخواء الوجوديّ الذي يشعر به الإنسان عندما تكون حياته بلا إحساس؛ هكذا إنسان هو – على صعيد الإنسانيّة ميّت لأنّ لبّ الحياة التي يُمكن أن نسمّيها إنسانيّة هي ليست تلك التي تكتفي بالعيش الجسديّ المحض، وإنّما بالقدرة على إقامة علاقة من التعاطف مع الآخرين والقدرة على المحبّة، وإلّا ما الفرق بين الحيوان والإنسان؟ (لن أسترسل في برهان هذا الأمر). ملاحظتي هي أنّ النظام السياسيّ في الغرب، كما هو مطبّق، هو نظام زومبي يؤدّي إلى صعود مَن هم موتى داخليّا وأحياء خارجيّا إلى طبقة الحكم، وهؤلاء يؤدّون وظائفهم كبراغٍ في آلة الاستعمار المدمّرة. نظام الزومبي هذا الذي يجذب مشتهي السلطة، يمتصّ من هؤلاء الحياة الإنسانيّة قليلًا قليلًا خلال صعودهم السلّم الوظيفي حتّى يفرغوا تمامًا منها، وعندها يراهم النظام صالحين للوظائف العليا لخدمته. الخادم قد يكون رئيسا لدولة أو رئيسا لجامعة لا فرق (الحرب في غزّة أوضحت أنّهما زومبيّان في خدمة النظام)، المهمّ أن يكون خادمًا لاستمرار النظام لا المجموعة الإنسانيّة التي تحيا في ظلّ دولة ما. لهذا نرى حاليّا خلال حرب الإبادة الجماعيّة للاحتلال الصهيونيّ على غزّة الترداد الآليّ دون أيّة ذرّة منطق لكلمات مفاتيح «حقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها» «معاداة السامية» «فظائع ٧ أوكتوبر»، والفيتو الأميركيّ وغير الأميركيّ، وكلّها تسعى إلى استمرار الإبادة ويُطالب عمليّا بمتابعتها (والفيتو يضمن هذه المتابعة) تحت مبرّرات لا تستقيم منطقيّا إذا اعتبرنا أنّ المنطق يأخذ بكلّ الوقائع وليس بالجزء الذي يخدم النظام. لكنّ البشر الزومبي يدركون أنّهم خدم، وأنّ النظام هو نظام تراكم الأرباح اللامحدود، وأنّه يحتاج إلى امتصاص الحياة البشر قبل حياة الطبيعة (كما عبّر الصديق علي قادري في مقابلة له أخيرًا)، أي أنّ أيّ استمرار لاستخراج الأموال، من المنطقة العربيّة مثلًا، مرتبط حكما باستخراج الحياة من أهلها أوّلا، بإخضاع أهلها إمّا بقتلهم (وهو أمر مكلف وغير ممكن) أو بإرهابهم بارتكاب إبادة بحقّهم. منطق نظام الزومبي هذا هو وراء الإبادة. لكن بينما ينجح نظام الزومبي في امتصاص الحياة من أولئك البشر الذين يرضون بحرّية أن يحوّلوا أنفسهم إلى براغٍ في خدمته، فإنّه يفشل في تحويل الفقراء إلى زومبي. هو قد ينجح في قتلهم أو في إخضاعهم إلى حين، إلّا أنّ الفقراء المقموعون لا يتحوّلون إلى زومبي لحسن الحظّ، ذلك أنّ الإنسان المقموع مخلوق مفطور على مقاومة القمع محبّةً بالحياة والحرّية. لا ينجح – ولا يسعى- نظام الزومبي إلّا في تحويل جزء من بلاد الفقراء، بضعة من الحكّام والصحفيّين والأساتذة جامعيّين والأطبّاء والمهندسين وغيرهم من غير الفقراء، إلى زومبي بحرّيتهم ليخدموا آلته التي تستخرج الحياة الإنسانيّة والطبيعة؛ فنظام الزومبي لا ينظر إلي البشر أو الطبيعة إلّا كمواد أوليّة للاستخراج بأبخس الأثمان. هكذا يصبح زومبي بلاد الفقراء براغٍ صغرى في نظام الزومبي، ويخدمونه كأنّهم أموات دون تعاطف مع ضحاياه. محاربة الإبادة التي يتعرّض لها أهلنا في غزّة مرتبطة بمحاربة نظام الزومبي عبر العالم، لهذا أكثر ما تتعاطف معه الشعوب المقهور التي اكتوت أو تكتوي بنظام الزومبي. نظام الزومبي رآه العديدون وسمّوه أسماء أخرى، سمّاه الشاعر الألماني غوته «مفيستو» (الشيطان) في مسرحيّته فاوست، ففاوست باع روحه لمفيستو مقابل تحقيق بعض أحلامه، ونظام الزومبي اليوم اسمه الرأسماليّة. فحذار نظام الزومبي الذي يمتصّ الحياة من الذين يقايضونه أرباحًا بأرواحهم. كما أنّ تقديس الله للإنسان يتطلّب مؤازرة حرّيته، فإنّ نجاح الزومبي بتحويل الناس إلى زومبي يتطلّب مؤازرة وموافقة من حرّيتهم أوّلا. أمّا الذين يقولون «لا» لنظام الزومبي ويقولون نعم للحرّية والحبّ هؤلاء يقدّسهم الله. أهلنا الأبطال في غزّة يرفضون ويقايضون أجسادهم بالحرّية. خريستو المرّ – الثلاثاء ٥ كانون أوّل/ديسمبر ٢٠٢٣
يتساقط الأطفال كالعصافير، والحبّ صامتاً يرزح تحت طبقات الإسمنت. متروك هذا الشعب، متروك ومشرّد. متروك هو إلّا من نفسه ومن الأحرار، ومزروعٌ هو، مزروعٌ في الشجاعة والأرض، ومزروعٌ في تربة التمسّك بحمد الله الذي يستمدّ منه الفقير قوّة ليقف في وجه العتاة. لا وجه لهذا الوحش القادم من الجحيم، وحشٌ يأكل الإنسانيّة ليتقيّأ جنوداً، وأسلحةً، و«إخوةً» يتحلّقون بكلمات شاحبة حول تلال الجثث ويغسلون أيديهم من الدم المسفوك على أرض فلسطين وفي زنازينها. تآمروا عليكما يا أخي وأختي. تآمر المتلهّفون للمال على البراءة. تآمروا على الله الساكن في البراءة. تآمر الذين أذلّوا أنفسهم للوحش. تآمروا عليكما. تآمروا على الجسد الذي يريد أن يحيا لأنّه يرفض أن يعود إلى اللاشيء بعدما الله أخرجه من اللاشيء إلى الوجود. تآمروا على الحرّية التي تشتدّ وتراً يرمي شوق الإنسان نحو الكرامة. تآمروا على العيون التي تطلق ضحكاتُها العصافيرَ في جوّ المكان المتقشّف، فتتلوّن الحياة بالبهجة والفرح. تآمروا على عرق الجبين الذي يخرج من الصباح إلى المساء كي تضمّ العصافير الطعام في فمها، ويضمّها هو إلى قلبه بابتسامة رضى. تآمروا على الصوت الأموميّ الذي يلاحق الأطفال كي لا يتأذّوا. تآمروا على التفاتات الطفل إلى أمّه إذا ركض بعيداً عنها. تآمروا على الأصابع التي تلعب بأصابع الأمّهات كي تجد الراحة وتلمح وجه الله خلفها. تكتبان على ذراعيكما أسماءكما. «لعبةٌ جديدة»، تقول والدتكما وهي تبكي بعد أن تناما وتسلّمكما للرحمة الإلهية. تغمض عينيها وهي لا تعرف ما تتمنّى: أتتمنّى أن تراكما معها إن فتحت عيونها على الأبديّة، أم لا؟ يُعجزها السؤال الذي يصمت أمامه كلّ فكرٍ؛ لا تعرف ماذا تتمنّى فتغمض عينيها وتسلّم عجزها إلى الرحمن. تهرب المسؤوليّةُ بنوم والدكما حتّى يسرق التعبُ سهرَه، فيشرق فيه النوم الذي هرب. أراكما يا أختي وأخي. أرى جسدكما الأرض، وعيونكما السماء. أرى دماءكما فلسطين المطعونة في جنبها والتي تقاوم الموت. أرى موتكما القيامة الآتية التي لا نراها جهاراً في اليوم الأوّل. أرى أمّكما مريمَ تحت الصليب. أرى الشاهدين على براءتكما بكلّ وسيلة وفي كلّ مكان، يوحنّا الواقفَ قرب مريم. وأرى الضاحكَ لضعف الجسد أمام الحديد، واقفاً على شرفة الانتحار لأنّه لم يعد يطيق نفسه، وأراه ينتحر بقتلكما. أراكما، وأرى الضوء القادم من بعيد، أراه منبلجاً من عمق جسديكما اليوم بشكل سرّي لا تراه إلّا عيونُ القمر، ذاك الشاهد على مذابح البشريّة من دم هابيل إلى دمائكما. لا خطيئة إلّا الجشع الذي يستولد كلّ خطيئة، الذي يلد كلّ جريمة، الذي يسكن كلّ ظلم، والذي يرمي الليل فوق ألوان العصافير. سينحسر الموت القادم من الجشع الذي يخاف الموت فينهش بلحم الأبرياء، سينحسر لأنّ هناك، في قديم الأيّام، بضع قطرات دمٍ لبريءٍ هُزِئَ به ورُمي به خارج أسوار مدينة الأقوياء، كسرت أسلحة الإمبراطورية وأسقطت جيوش الرومان. سينحسر الموت القادم من الجشع لأنّ هناك مَن قالت حياتُه بعد موته أنّ الكلمة الأخيرة هي للحياة. وعندها، عند انحسار الجشع والموت، سنحتفل ونهتف: لا حبّ إلّا الحبّ الشبيه بحبّ الألوهة للحياة، لا براءة إلّا للحبّ الراكض في أحياء طفولة الذاكرة ليقفز إلى آفاق الخاطرة. البراءة تشبهكما. ناما الآن في عيوننا وذاكرتنا، ولكن عندها، عند اندحار الجشع والموت، سنحتفل بكما بعد الليل الطويل. خريستو المرّ – الثلاثاء ٢٨ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٣
كشفت قضيّة فلسطين من جديد حقيقة القوى المسيطرة في الدول الديموقراطيّة. من ناحية المبدأ تعمل الديموقراطيّة على تمثيل الحكّام للشعب، ولكنّها في الممارسة تقتضي انتخاب الشعب لممثّلين عنه في يوم واحد كلّ فترة. لكن بعدها، يقوم الحكّام بقيادة البلاد كما يشاؤون ولو بعكش الطريق التي وعدوا بها أثناء حملاتهم الانتخابية (الرئيس الأميركيّ بايدين كان يعد برفع العقوبات عن كوبا، ولكنّه كذب). فإذا بنا نصل إلى المفارقة التي رأيناها في حرب العراق التي خضها الإرهاب الأميركيّ الرسميّ، حيث يقوم ملايين من الناس بالتظاهر لمناهضة دخول الحرب (كما حدث في بريطانيا، مثلا) بينما يتابع الحكّام خططهم الحربيّة دون الالتفات لرأي شعوبهم. الإبادة الجماعيّة التي انتهجها نظام الاحتلال والفصل العنصريّ الصهيونيّ أوضحت هذه النقطة من جديد. يتظاهر الناس في بلادنا وحول العالم بينا الحكّام يدعمون الإبادة الجماعيّة، وفي بلادنا الحكّام خوانعٌ مبايعون للصهاينة أسيادًا. في الواقع، الحكّام الحقيقيّون وراء الحكّام السياسيّين هم أولئك أصحاب المصالح الاقتصاديّة الكبرى الذين لا يأبهون لأمر آخر غير تراكم أرباحهم. وقد سمّى الرئيس الأميركيّ أيزنهاور هذه الشركات المجمع الصناعي العسكريّ في خطاب له عام ١٩٦١، وقال بأنّها تتحكّم بالقرارات السياسيّة، وهي تحتاج بطبيعة الحال لحروب لا تنتهي لتتراكم أرباحها. لكنّ السعي إلى تراكمٍ مُتصاعد للأرباح هو سعي إلى السلطة، والاستحواذ الأنانيّ -الفرديّ أو الجماعيّ- على القدر الأكبر من المال، يحمل في طيّاته ذهنيّة عدوانيّة عدوّة للمشاركة وبالتالي للحياة. لا شكّ أنّ طلب المال في أعماقه هو طلب سلطة، فلو فكّر الإنسان منطقيّا لوجد أنّ تراكم المال مهما بلغ من مليارات لا يقدّم ولا يؤخّر في حياة الإنسان المادّية، فحاجاته المادّية اليوميّة محدودة. الأمر الحقيقيّ المطلوب من وراء المال هو السيطرة، القدرة على التشبّه بصورة إله قادر على كلّ شيء (في تناس بالطبع للموت). هذا الاتّجاه النفسيّ المنحرف هو ما يغذّي هذا السعي لتزايد أنانيّ للأرباح مدمّر للعالم. الاتّجاه المعكوس هو الذي يقول بمشاركة خيرات العالم بين الناس، ليحيا الجميع بكرامة محقّقين حاجاتهم الأساس، وبفائض يمكن مشاركته للتسلية والابداع العلمي والفنّي والتمتّع بهما من قبل الجميع؛ وهو ما يسمح بإنقاذ كوكبنا فعليًّا. لكنّا لا نستطيع إلّا أن نلاحظ أيضا أنّ تراكم وتصاعد الأرباح مركزيّ في النظام الرأسماليّ، فالربح ليس فقط ضروريّ، ولكن تصاعده ضروريّ أيضا. إنّ نظام السوق يدفع المؤسّسات المساهمة الضخمة باتّجاه السعي لتصاعد الأرباح لكي يتصاعد سعر السهم وإلّا ذهب المستثمرون إلى شركات أخرى. آليّات السوق تستعبد الجميع في هذه الحالة. الإبادة الجماعيّة في غزّة، الحروب على منطقتنا، الحروب حول الكوكب، الانفصال الذي نلاحظه في قلب الديموقراطيّات الغربيّة بين رغبة الشعوب بالسلام ورغبة الحكّام في الحروب، أمور مرتبطة بالرأسماليّة. الديموقراطيّة نفسها لا يمكن ممارستها بالفعل في ظلّ الرأسماليّة إلّا بشكل صوريّ، حيث يخدع أصحاب السلطة الفعليّون الشعوبَ بالسماح لهم بحرّية شكليّة تقوم على مرتّبات استغلال وإفقار يُسمّى حدًّا أدنى، وعلى تعدّد إعلاميّ صوريّ يتعدّد في النغم ولكن يقول الشيء نفسه فيما يتعلّق بمصالح الشركات الكبرى الحاكمة الفعليّة للبلاد، وعلى انتخابات شكليّة تأتي بأحد حزبين أو ثلاثة يختلفون قليلًا في كمّية الفتات المقدّمة لشعوبهم ويتّفقون في السياسات العدوانيّة نفسها تجاه الشعوب المستضعفة ويعيثون في الأرض خرابا وتدميرا من أجل مراكمة الأرباح. أميركا اللاتينيّة حاولت أن تحقن الرأسماليّة بجرعة كبيرة من السياسات الاشتراكيّة وامتنعت عن انتهاج سياسات عدائيّة حربيّة. الموضوع ليس جديدًا، لكنّ قضيّة فلسطين فضحت من جديد وبوضوح هذا الكمّ الهائل من الهراء الذي يتفوّه به المسؤولون الغربيّون حول حقوق الإنسان وحرّية التعبير، والذي في حقيقته وتطبيقه الجدّي كانا ليهدّدان العدوانيّة الوحشيّة لأولئك الذين يتوهّمون أنّهم آلهة. والوهم قائم ليس فقط لأنّهم يموتون، ولكن لأنّهم يفتقدون أيضا إلى ميّزة أساس أخرى في الألوهة: الرحمة التي ترى في البشر عائلة واحدة. أمّا بالنسبة لفلسطين، فقد أثبت الشعب الفلسطينيّ أنّه اليوم على المسافة صفر من انتزاع حقوقه وحرّيته في وجه الآلة العسكريّة للوحش، وأنّ التعاون بين سكّان منطقتنا هو المسار الذي يمكنه أن يفضي إلى تحريرنا من الغزاة. وعند اندحار الاستعمار سيكون حظّنا أكبر في أن ينتهي ليل القمع الداخليّ وأن نحيا في ظلّ حرّية نستحقّ أن نتمتّع بها. خريستو المرّ – الثلاثاء ٢١ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٣
نقلت الأخبار محاولات كمّ العقل والنقد التي جرت في الجامعة الأميركيّة في بيروت وفي «الليسيه» مدارس البعثة العلمانيّة الفرنسيّة لمنع التعبير عن الرأي وإعمال العقل والقلب في أحداث تدور على أرضنا في فلسطين. في الجامعة الأميركيّة ناوئ بعض أساتذة طلّابهم وهاجموهم لمواقفهم السياسيّة كما حاول أحدهم استضافة صهيونيّ لنقاش أكاديميّ حول «أخلاقيات الحرب في غزة»! بينما في المدارس الفرنسيّة حاولت الإدارة قمع أيّ تعبير ونقاش حول الهجوم الوحشي الصهيونيّ على المدنيّين في غزّة حتّى من خلال موضوع للكتابة، وتراوح موقفها بين الخوف من معاداة الساميّة وبين أفضليّة الوقوف على «الحياد». كلّ التحصيل العلمي في الغرب كما عندنا يقوم على النقد وضرورة النقد. ولكنّنا وجدنا في الحربين الأخيرتين – أوكرانيا وغزّة- أنّ الغرب حاول قمع أيّ رأي مناهض لموقف الحكومات، وتحوّل الإعلام إلى سيمفونيّة تهلّل لحرب يمكن ان تتحوّل إلى حرب عالميّة نوويّة مدمّرة للبشريّة، دون أيّ حسّ نقديّ أو دعوة لنقاش حول كيفيّة تفادي الحرب أو إنهائها. في الحرب على غزّة تبنّى السياسيّون وإدارات الجامعات السرديّة الرسميّة الصهيونيّة وحاولت مجالس مدن منع التظاهرات وتشويه صورتها، وحين عبّر الطلّاب عن مواقف سياسيّة حاولت إدارات الجامعات قمعهم بتهديدهم بمنع التمويل عنهم، وحاول بعضها (جامعة يورك مثلا) حلّ إدارات مجالس طلّابيّة وفرض انتخاب مجالس جديدة لا يترشّح عليها طلّاب محدّدون، وقد لاحق أساتذة طلّابهم ووضعوا لوائح سوداء لمنعهم من العمل أو من إيجاد مكان للتدريب... اللائحة تطول. بضعة أستاذة في الجامعة الأميركيّة انضمّوا إلى هذا الجوق بينما أصدر أساتذة الجامعة الأميركيّة بيانا أعلنوا فيه تضامنهم الكامل وغير المشروط مع الشعب الفلسطيني في مواجهة جرائم الاحتلال، وهذا بارقة أمل. أمّا الليسيه فقالت في بيان لها أنّها تريد قطع الطريق على «معاداة السامية وضرب الهوية العلمانية» ولكأنّ العلمانيّة تفترض الامتناع عن النقد والتفكير والنقاش. ولكن كيف يمكن أن نتوقّع أمرا آخر من مؤسّسات تربويّة أجنبيّة هي جزء من آلة الاستعمار ويد له تغرّب الأجيال عن واقعها؟ إن لم تسمح المدارس والجامعات النقاش والتعبير فأين سيتمّ هذان؟ إن لم يتدرّب الناس على النقاش فيهما فأين سيتدرّبون؟ هذا يفرّغ المدارس والجامعات من معناها الأخير: أن يتفتّح والعقل والقلب في الإنسان ليتمكّن من نقد الواقع ودفعه إلى التحسّن. لكنّ الاتجاه الحاليّ ومنذ سنوات في الغرب كما عندنا هو أن تكون الجماعات مكانا لإعداد براغٍ جديدة في آلة الاقتصاد، أو بكلمة أخرى عبيد جدد لرأس المال والمتحكّمين في السياسة والاقتصاد. مرحلة التسعينات في لبنان ما بعد الحرب الأهليّة هي خير دليل لدينا عن المتعلّمين الذين صاروا إلى اليوم أتباعا، دخلوا قفص الزعماء زرافات زرافات وقدّموا فروض الطاعة صاغرين مقابل بدل مادّي. قدّموا الفكر والحرّية أضحيّتين على مذبح الإفادة المادّية، والتبرير كان أنّ هذا المشروع أفضل من ذاك. عندما سألني مرّة صديق عن عدم اهتمامي بالـ«الإتيكيت» قلت له أنّي ربّما من حسنات الدكتوراة أنّي أستطيع أن أبصق على الإيتيكيت بكلّ راحة، اكتشفت مع الوقت أنّ من حسناتها أن أقول بكلّ راحة لا تحترموا الأستاذة ولا غيرهم، لا تحترموا أحدًا لوظيفته (وخاصّة رجال الدين)، يمكنهم أن يكونوا مرتزقة بكلّ معنى الكلمة، يقدّمون عقلهم وجهدهم سلاحا لمن يدفع أكثر، أو يطوّعونه لأحقادهم الطبقيّة والطائفيّة والعنصريّة. كلّ شيء يجب أن يتبع احترام الحياة، احترام الحياة هو الذي يحدّد قيمة فكر أو كلام أو فعل إنسان. مقاطعة ومناهضة إسرائيل هي واجب أخلاقيّ أعلى في بلادنا، ليكون الإنسان متضامنا مع الحياة. الصهيونيّة استعلاء يزرع الموت في بلادنا، ليس فقط لشعبنا، ولكن للجميع، للإنسان كإنسان، وقد حضّ في الماضي الخارج عن الصهيونيّة الأستاذ إسرائيل شاحاك ألاّ يوصِلَ المنتخبون في كيان الاحتلال السفّاحَ شارونَ وأمثاله إلى الحكم «حتى لا يقضوا على الفلسطينيين، وعلى الاسرائيليّين ككائنات بشريّة». فشل نداء شاحاك حتّى الآن. بقي أن نشارك جهود مقاومة في دحر مشروع الاحتلال والهيمنة الصهيونيّ ليكون سلام وتنجو الإنسانيّة، والمقاطعة طريق مشاركة في مقاومة الظلم مفتوح أمام الجميع. خريستو المرّ، ١٤ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٣
ترد جملة الأراضي المقدّسة، عوض فلسطين، في بيانات البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان. أتت تلك البيانات في ضعفٍ مُشين أمام الأحداث الجسام (انظر مقالتنا في «الأخبار»: المواقف الرسميّة للكنائس في بلادنا حول فلسطين اليوم)، ضعفٌ يتضارب مع متطلّبات الإنجيل، ذلك أنّ هذا التعلّق بالأرض المقدّسة غير مقدّس البتّة حين يترافق مع كلام من نوع «الحرب بين الفلسطينيّين والإسرائيليّين» وهروب من تسمية الأشياء بأسمائها. لا مقدّس أعلى من الإنسان، لأن المقدّس هو الإنسان بوصفه على «صورة الله»، وهو ما فهمه المسيحيّون منذ بدايات المسيحيّة. ولا يمكن حصر القداسة بالمسيحيّين دون أن يخون الإنسانُ المسيحَ القائل أنّ الروح القدس يهبّ حيث يشاء ولا أحد يعرف موضعه، والذي وضع المسيحيّين أمام مسؤوليّاتهم على هذه الأرض حين قال لهم إنّ موقفهم من المهمّشين هو الذي سيحدّد مصيرهم يوم الدينونة. فأيّ جماعة هي أكثر تهميشاً من الفلسطينيّين المطرودين من أرضهم والخاضعين للاحتلال والتنكيل من نظام عنصريّ؟ لا قداسة تُرتجى من دون الشهادة الكاملة لهذا الحقّ. إن كان وجه المسيح يطلّ إلينا بشكل مميّز في وجه المهمّش المسحوق، فإنّ المقدّس هو هذا الوجه بالذات، هو كلّ بريء قضى ظُلماً، والإنسان الفلسطينيّ الذي يتلقّى حقد العالم ودولة الاحتلال العنصريّة، وهو في منزله أو على الطرقات أو في المستشفى، هو الذي تتكثّف فيه القداسةُ بقدر تكثّف الحقد في العنصريّ القاتل. لا أرض مقدّسة أكثر من جسد الأبرياء، لا أرض مقدّسة أكثر من طراوة وجوههم النقيّة التي تحاول الإشراف على آفاق الحبّ والحياة، فترفع يد الحقد أمامها جدار الألم والموت. ولا يعرف القتلةُ أنّ موت الأبرياءِ شهادة تخترق جدار الموت لأنّ الأبرياء يصبحون أولاداً لله يُرزقون وأنواراً تتراجع أمامها عتمات الموت. وتخترق شهادة الأبرياء جدار الموتِ لأنّهم حاضرون أبداً بيننا ليؤجّجوا في الأحياءِ الشوقَ إلى الحرّية ونبضَ التضحية، لأنّهم بشهادتهم الزكيّة يشعلون نضال الأحياء لدخول ملكوت الكرامة البشريّة عنوةً. الفلسطينيّون هم أكثر مَن يوضح لنا اليوم معنى جملة يسوع الغامضة أنّ ملكوت الله يؤخذ عنوةً (لو ١٦: ١٦)، إذ لا يضمّ الإنسان الحرّية والحبّ إلّا بنضالٍ وجهادٍ، وهو يتابعهما إلى آخر العمر فيصدّ هجمات البرابرة من كلّ العقائد والأجناس على كرامته فـ«لا فرق بين عربيّ وأعجميّ إلّا بالتقوى»، أي باحترام كرامة الإنسان وحرّيته. ذاك أنّ كلّ الناس إخوة ولا «غريب» عن الإنسانيّة إلّا من غرّب نفسه عن قلبه فصار شيطاناً لأخيه وأخته. والحقيقة أنّ الشيطان الأكبر لا يكمن في البشر الأفراد، ولو كانوا أشراراً حتّى النخاع، وإنّما في الأنظمة التي يخلقها الأشرار لتصير مصنعاً للشرّ. الرأسماليّة مصنع شرّ، والصهيونيّة مصنع شرّ، كلاهما يسطوان على أرواح البشر فيحوّلونهم إلى جنود شرّ تغزو العالم لتسحق وتنكّل وتفتك بأرضنا المقدّسة: أجساد الأبرياء. لهذا، لا تحريراً كاملاً لنا إلّا بدحر أنظمة الشرّ تلك، المولّدة للحروب والموت. وبطريقة غريبة، حين نهزم جلّادينا سنفتح لنا أبواب الحرّية ونهزم أوهاماً، أن يتحرّروا بعدها من أوهامهم أو لا يتحرّروا، سيكون ذاك شأنهم، هذا نقوله رؤيويّاً على ضوء الكلام النبويّ الذي ذكّر الإنسانيّة بآفاقها بقوله «الخلق كلّهم عيال الله». كلّ همّنا أن يخرج شعبنا إلى الحرّية وألّا يلامس طراوة الأولاد سوى حضن الأمّهات. شهداء غزّة اليوم هم الذين يحرّرون شعوب العالم من خداع حكومات أوروبا وشمال أميركا إذ تُسقط أدوات الاستعمار الحديث الذي عمل على استعمار عقولنا بخطابات «حقوق الإنسان» و«حرّية التعبير»، وما كانت تلك إلّا ستاراً لمشروعه الاستعماريّ المستمرّ داسها في أوّل تهديد لمشروعه في فلسطين. من أجساد شهدائنا، من طراوة أطفالنا، سينفجر الفجر الجديد، فجر الحرّية والحبّ، وسيمحو آثار ٧٥ عاماً من الاحتلال والتنكيل والقتل، لتكون أمُّنا فلسطينُ حرّةً، فتدلّي لنا من سدرة المنتهى في قُدسها نوراً عظيماً يرفعنا إلى السماء. خريستو المرّ، ٦ تشرين ثاني / نوفمبر ٢٠٢٣ (المفكرة القانونية)
------- يذكر خافيير عيد في كتابه «متجذّر في فلسطين»[1] بأنّ الفلسطينيّين المسيحيّين يفخرون بأنّهم امتداد غير منقطع للمسيحيّين الأوائل منذ العنصرة وتأسيس الكنيسة. وغزّة بالتحديد كانت مركزًا مسيحيًّا وعلميّا مهمّا منذ بدايات المسيحيّة، ويرد ذكر الجماعة المسيحيّة وأسقفها سيلفانوس في كتاب «تاريخ الشهداء في فلسطين» للمؤرّخ يوسابيوس القيصريّ (بدايات القرن الرابع) الذي يؤرّخ للمسيحيّين الذين قضوا تحت الاضطهاد الرومانيّ. وقد شارك أسقف غزّة في المجمع المسكونيّ الأوّل الذي بدأ بوضع أسس العقائد اللاهوتيّة المسيحيّة والمنعقد في مدينة نيقية (تركيا اليوم) عام 325م، وبالتالي تكون غزّة قد ساهمت في وضع أسس العقيدة المسيحيّة. أمّا الأسقف بورفيريوس (347 – 420م.) فكان أسقف غزّة حتّى وفاته في القرن الخامس وعلى اسمه سمّيت كنيسة غزّة الحاليّة التي دكّها الاحتلال الصهيونيّ على رؤوس الملتجئين إليها. ومنذ الفتح العربيّ للمنطقة تعرّب لسان شعوب المنطقة، ويتبع المسيحيّون العرب الأرثوذكس في فلسطين والأردن بطريركيّة القدس وعلى رأسها بطريرك يونانيّ. وبالإضافة إلى الأكثريّة الأرثوذكسيّة هناك السريان والأقباط والأرمن والأثيوبيّون والموارنة والكلدان والأشوريّون والبروتستانت. وإن كان معظم المسيحيّين الموجودين في غزّة اليوم هم من اللاجئين من يافا واللدّ بعد احتلال أجزاء من فلسطين عام 1948[2]، إلا أن التقديرات تشير إلى أنّ حوالي ثلثيْ المسيحيّين فيها حاليّا هم من الأرثوذكس والثلث الباقي من الكاثوليك. كنيسة بورفيريس كنيسة بورفيريوس التي دكّها الاحتلال هي من أقدم كنائس العالم إذ يعود بناؤها إلى القرن الخامس. وتذكر أستاذة الأديان في جامعة تينيسسي (Tennessee) كريتين شيباردسون (Christine Shepardson) أنّ مبنى الكنيسة «هو تجديد في القرن التاسع عشر لكنيسة بناها الصليبيون الأوروبيون في القرن الثاني عشر فوق أنقاض نسختها من القرن الخامس، كان قد تمّ تحويلها إلى مسجد»[3]. المصير الواحد يتشارك المسيحيّون والمسلمون المصير نفسه منذ أكثر من ألف عام. معًا عانوا من الحروب الصليبيّة التي لم تسلم المسيحيّة الشرقيّة من شرورها. وقد عانى الفلسطينيّون معا من المشروع الصهيونيّ الذي غرسته اللاساميّة الأوروبيّة في فلسطين والذي احتلّ الأرض وطرد الفلسطينيّين، سكّان الأرض، وعاث فسادا وإجراما وتنكيلا بشكل متصاعد منذ عام 1948، ولم يزل حتّى كتابة هذه السطور حيث يدكّ سكّان مدينة غزّة ويقتل فيها المدنيّين ويقصف المستشفيات والمدارس البيوت حارقا من فيها وهادمها على رؤوس الفلسطينيّين، وحيث يقوم المستوطنون في الضفّة الغربيّة بهجمات إرهابيّة ويمعنون قتلا وتنكيلا وإرهابا وحرقا بحماية جنود الاحتلال، وحيث تعتقل أدوات الاحتلال ألاف الفلسطينيّين ومنهم أطفال دون وازع ودون سبب ودون محاكمة. في غزّة، كما في الضفّة كما في الداخل الفلسطينيّ، يتجرّع المسلمون والمسيحيّون كأس آلام الاحتلال العنصريّ ويعانون معا من التمييز العنصريّ ومن سياسات التدمير. معا يعيشون ومعا يموتون تحت الركام على مرأى ومسمع من العالم وبمشاركة فاعلة من الاستعمار الأوروبيّ والشمال الأميركيّ. معا تنتثر جثثهم تحت الركام، معًا يموتون، معا يبكون، ومعا يقاومون بطرق شتّى ليصلوا إلى حياة حرّة كريمة على أرضهم. اشتراك المسيحيّين في مقاومة الاحتلال يفصّل خافيير أبو عيد («متجذّر في فلسطين») مساهمات المسيحيّين الفلسطينيّين في ملحمة مواجهة الفلسطينيّين من زاوية وطنيّة كجزء من الشعب الفلسطينيّ – وليس من زاوية طائفيّة أو استعماريّة (أقلّية دينيّة) – لمشاريع استعمار فلسطين بدءا من وعد بلفور. ففي ثلاثينات القرن العشرين، شارك فلسطينيّون مسيحيّون في اللجنة العربيّة العليا (1936). وكان الفلسطينيّون المسيحيّون الأرثوذكس ولا يزالون في تضاد صارخ مع بطريركهم اليونانيّ الذي كان -وما يزال- يؤجّر ويبيع أراضي إلى الحركة الصهيونيّة (أبو عيد ص. 38). وانسحبت مشاركتهم على مراحل النضال الفلسطينيّ منذ مواجهات عام 1948: مثل المواجهات في الناصرة والقرى المحيطة بها مثل قريتي معلول (التي لم يبقَ منها سوى بقايا كنيسة) ومجيدل، وقرى في الجليل، أكثرها دمّر تماما ولم يبقَ منه أثر، مرورا بقيادات الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بقيادات مسيحيّة (جورج حبش، المهجّر من اللدّ قرية القدّيس جاورجيوس ووديع حدّاد) والانخراط في النضال العسكريّ بعد هزيمة 1967 وبالأخصّ بعد معركة الكرامة في الأردن (التي هُزِمَ فيها كومندوس صهيونيّ هاجم مخيّمات للتدريب) التي أجّجت الأمل بتحرّر فلسطين. وصولا إلى داعم المقاومة الفلسطينيّة المطران هيلاريون كبّوجي الذي سمّى نفسه على اسم قدّيس من غزّة هو هيلاريون الكبير (291 – 371 ميلادي) والذي يُعتبر مؤسّس الرهبنة الفلسطينيّة. وصولا إلى تأسيس كايروس فلسطين وانخراط المسؤولين الكنسيّين بشكل جماعي وعلنيّ بالنضال من أجل تحرير فلسطين من خلال مشاركتهم بالدعوة إلى مقاطعة كيان الاحتلال وتوجّههم إلى الكنائس العالميّة وإدانتهم الاحتلال بكلماتٍ لا لُبس فيها، وإبقائهم باب النضال العنفيّ مفتوحا مع تشديدهم على تبنّي خيار النضال اللاعنفيّ بالنسبة للكنيسة. ومن الأسماء الوازنة لاهوتيّا اليوم في كشف وجه إجرام الاحتلال وتناقضه مع الرسالة الإنجيليّة، ودحض الرواية الصهيونيّة-المسيحيّة حول وجود «إسرائيل»، نذكر القسّ متري الراهب من الكنيسة البروتستانتيّة اللوثريّة ورئيس جامعة دار الكلمة في بيت لحم، والقسّ نعيم عتيق من الكنيسة الأنغليكانيّة (مهجّر من بيسان)، والمطران عطا الله حنّا من الكنيسة الأرثوذكسيّة. هجرة المسيحيّين يفيد تعداد عام 1922 للانتداب البريطاني في فلسطين بوجود أكثر من 73 ألف مسيحيّ، وقد انخفض عدد المسيحيين في فلسطين اليوم بعد قرن من الزمن إلى حوالي 50 ألفًا، منهم حوالي الألف شخص في غزّة ،[4] نصفهم من الفلسطينيين الذين هجّرهم التطهير العرقيّ للاحتلال الصهيونيّ عام 1948. يوضح الدكتور متري الراهب والدكتور خافيير أبو عيد بشكل لا لُبسَ فيه أنّ انخفاض عدد المسيحّين يعود لنفس الأسباب التي يعاني منها المسلمون ألا وهي الاحتلال الاسرائيليّ. وبينما يخدع الصهاينة الغرب بقولهم أنّهم يحمون المسيحيّين من التطرّف الإسلاميّ، فإنّ المسيحيّين في فلسطين يخبرون عن معاناتهم المشتركة من الاحتلال الذي يسبّب ضيق الحال وانعدام الأمن والأمان فـ «الهجرة والنزوح يستمرّان كجرح مفتوح… دون سلام [قائم على العدل] سيستمرّ هذا الجرح بالنزف، والمسيحيّون سيستمرّون في الهجرة»[5] (ص. 131). والسبب الأساس في كلّ هذا هو الاستعمار الأوروبّي الذي نزع الأرض من سكّانها ودعم قيام نظام استعمار احتلاليّ وتمييز عنصريّ في فلسطين. وكانت تعاملت بعض الكنائس المسيحيّة الإنجيليّة مع المسيحيّين في بلادنا من خلال نظرة ضيّقة تؤسطر وضع مسيحيّي بلادنا كـ «أقلّية»، وتغرّبهم عن واقعهم، وتحوّلهم إلى مادة للتعاطف الفوقيّ لكنّ هذا هو «تصورٌ غربي وليس وصفًا واقعيًا للواقع على الأرض… مثل هذا الخطاب يوضح [واقع] الغرب أكثر ممّا هو يوضح [واقع] مسيحيي الشرق الأوسط، ويهدف إلى جعل الغرب يشعر بالتفوق باعتباره قارّة “متحضرة” مقارنة بالشرق الأوسط المتوحش»(ص. 149). وتحليل القسّ متري راهب يوضح الوعي الثاقب للفلسطينيّين المسيحيّين، ومسؤوليهم الكنسيّين، الذين يرون أنّ «مسيحيّي الشرق الأوسط كانوا ضحايا استعمار أوروبّي- أميركي أدّى إلى إضفاء الصعوبة على حياة المسيحيّين» منذ بداية المشروع وحتّى أيّامنا (ص. 151)؛ وفي ختام تحليله، يخلص متري راهب إلى القول: «لست على علم بحالة واحدة لعبت فيها الإمبراطوريات الغربية دورًا بناءً في خلق إطار سياسي حيث يمكن للمسيحيين ولغيرهم في الشرق الأوسط أن يزدهروا.» (ص. 150). يجب أن نفهم أن الإجرام الحالي الذي يُنزله النظام الصهيونيّ (والإمبراطوريات الغربيّة السابقة والحاليّة) بفلسطينيّي غزّة هي متابعة للمشروع الاستعماريّ الصهيونيّ والأوروبّي-الشمال أميركيّ. إن فهمنا ذلك يتّضح وجه الإجرام برؤوسه الثلاثة الصهيونيّة-الأوروبيّة-الأميركيّة. كايروس أمام هذا الإجرام بحقّ الحياة والإنسان، لا ينفع الكلام فقط ولا مخاطبة الضمير، بل استخدام القوّة. وبالقوّة لا نعني العنف ضرورة. القوّة هي الضغط الذي يمارسه إنسان أو مجموعة على مجموعة أخرى لتوقف ظلمها وهذه ضرورة للدفاع عن الحياة التي تبقى الهدف الأساس. بناء على الإيمان المسيحيّ القائل بأنّ كلّ إنسان هو على صورة الله وأنّ الإنسان مقدّس وبالتالي القتل شرّ، يمكن للإنسان اتّخاذ موقف صارم بعدم الدعوة للقتل تحت أيّ ذريعة، وهو الموقف الذي يفترض أن يتّخذه عادة رجال الدين المسيحيّون (مع أنّ التاريخ البعيد والقريب يحمل دعوات من رجال الدين تشرّع قتل الأعداء). التقى ممثّلو ثلاث عشرة كنيسةً رسميّةً ومؤسّسةً فلسطينيّةً[6] من أجل إطلاق “وقفة حقّ – فلسطين” (Kairos Palestine) عام 2009، ووقّعوا على البيان التأسيسيّ الذي قالوا فيه بشكلٍ لا لبسَ فيه: “نعلن، نحن الفلسطينيين المسيحيّين، في هذه الوثيقة التاريخيّة، أنّ الاحتلالَ العسكريّ لأرضنا هي خطيئةٌ ضدّ الله والإنسان، وأنّ اللاهوت الذي يبرِّر هذا الاحتلالَ هو لاهوتٌ تحريفيٌّ بعيدٌ جدًّا عن التعاليم المسيحيّة؛ حيث إنّ اللاهوت المسيحيّ الحقَّ هو لاهوتُ محبّةٍ وتضامنٍ مع المظلوم، ودعوةٌ إلى إحقاق العدل والمساواة بين الشعوب… إنّ استخدامَ الكتاب المقدّس لتبرير (أو تأييد) تيّاراتٍ ومواقفَ سياسيّةٍ فيها ظلمٌ يفرضه إنسانٌ على إنسان، وشعبٌ على شعبٍ آخر، يحوِّل الدينَ إلى إيديولوجيا بشريّة، ويجرِّد ’كلمةَ الله‘ من قداستها وشموليّتِها وحقيقتها.” وأكّدت الوثيقة أنّ “الحلَّ الذي سيؤدّي إلى السلام العادل والدائم، ألا وهو إنهاءُ الاحتلال الإسرائيليّ للأرض الفلسطينيّة، بالإضافة إلى إنهاء كلّ أنواع التمييز العنصريّ…” وتضيف أنّ المحبّة هي رؤيةُ “وجه الله” في كلّ إنسان؛ فـ “كلُّ إنسانٍ أخي وأختي.” غير أنّها تستدرك قائلة: “لكنّ رؤيةَ ’وجه الله‘ في كلّ إنسان لا تعني قبولَ الشرّ، أو الاعتداءِ من قبَله، بل تقوم المحبّةُ بإصلاح الشرّ ووقفِ الاعتداء. والظلمُ الواقعُ على الشعب الفلسطينيّ هو شرٌّ تجب مقاومتُه… تقع هذه المسؤوليّة أوّلًا على عاتق الفلسطينيين أنفسِهم، الواقعين تحت الاحتلال. فالمحبّة المسيحيّة تدعو إلى المقاومة، إلّا أنّ المحبّة تضع حدًّا للشرّ بسلوك طرق العدل. إنّنا نرى في المقاطعة وسحبِ الاستثمارات [من الكيان الصهيونيّ] وسائلَ لاعنفيّةً لتحقيق العدل والسلام والأمن للجميع.”[7] ثمّ التقى 300 من ممثّلي الكنائس المسيحيّة الفلسطينيّة في “وقفة حقّ،” مع حركة “وقفة حقّ العالميّة من أجل العدالة”، وممثّلين من المنظّمات الفلسطينيّة المدنيّة، في بيت لحم، في الذكرى التاسعة لتأسيس “وقفة حقّ[8].” وتبنّوا معًا موقفَ “التجمّع الوطنيّ للمنظّمات المسيحيّة في فلسطين” الصادر في رسالته المفتوحة، في 12 حزيران 2017، إلى مجلس الكنائس العالميّ، والذي حيّته حركةُ المقاطعة الفلسطينيّة (BDS)[9]. وأجمعت مطالبُ المجتمعين على الآتي: ١) اعتبار “إسرائيل” دولةَ فصلٍ عنصريّ من حيث القانون الدوليّ، والتصرّف معها وفقًا لذلك. ٢) اتخاذ موقفٍ لاهوتيّ واضح ضدّ أيّ جماعة مسيحيّة تبرِّر هذا الفصلَ العنصريّ. ٣) اتخاذ موقف ضدّ التطرّف الدينيّ، وضدّ أيّ محاولة لإنشاء دولةٍ دينيّةٍ في أرضنا أو منطقتنا. ٤) الدفاع عن حقّنا وواجبنا في مقاومة الاحتلال بشكل خلّاقٍ وغير عنيف. ٥) تأييد التدابير الاقتصاديّة التي تضغط على إسرائيل لتبنّي طريق العدالة والسلام ووقف الاحتلال. ٦) تكثيف المقاطعة والوقوف إلى جانب أولئك الذين يدافعون عن حقّ الفلسطينيين ردًّا على الهجمات الإسرائيليّة على حركة المقاطعة العالمية. ٧) إنشاء جماعات ضغط دفاعًا عن المسيحيين الفلسطينيين، والطعن علنًا وقانونيًّا بالمنظّمات المسيحيّة التي تشوّه سمعةَ “التجمّع الوطنيّ للمنظّمات المسيحيّة في فلسطين” وشرعيّته[10]. ملاقاة كايروس: أين جواب الكنائس الشرقيّة؟ رغم هذه المواقف المتقدّمة للكنائس والمنظّمات المسيحيّة في فلسطين، فإنّنا اليوم نلاحظ أنّ الكنائس في مصر وأنطاكية التي تمثّل جغرافيّا سوريا، العراق، لبنان والخليج، لم تبنِ جوابًا على دعوة أخواتها في فلسطين. إنّنا نعتقد أنّ من واجب الكنائس الأنطاكيّة وكنيسة مصر أن تصيغ جوابا لاهوتيّا يؤكّد على ضرورة تجسيد الإيمان بالمسيح كمخلّص للعالم من خلال مسؤوليّة المؤمنات والمؤمنين على إرساء بُنى العدل والمشاركة في هذا العالم، وهذا يعني بالنسبة لفلسطين التزام مقاومة نظام الاحتلال الاستعماريّ والتمييز العنصريّ القائم في فلسطين أقلّه من خلال المقاطعة الفاعلة. ولا يُعَدٌّ ذلك تدخّلا للكنيسة في مشروع سياسيّ حزبيّ ضيّق (وهو ما يجب تجنّبه)، وإنّما تذكير للمسيحيين والمسيحيّات (وهنا ربّما هنّ الأهمّ) بمسؤوليّتهم عن رفع الظلم والوقوف بوجهه في هذا العالم كي يساهموا في رفع الحواجز أمام محبّة الله كي تشمل البشر، فكلّ روحانيّةٍ لا تُشْعل هذا العالمَ بمزيدٍ من الإنسانيّة هي روحانيّةٌ كاذبة. برأينا، الكنائس في بلادنا مقصّرة جدّا بحقّ الكنائس في فلسطين لفشلها بصياغة جواب عمليّ وفاعل على صرخة أخواتها في «وقفة حقّ»[11]. نحو التحرّر إن المسيحيّين مدعوّون مع إخوتهم من جميع الأديان والمذاهب للعمل معًا من أجل بناء بُنى العدل والحرّية والاحترام لإنسانيّة الإنسان الواحدة، وإلّا لن يتسنّى أن يعيش «عيال الله» في سلام وكرامة إنسانيّة على هذه الأرض، وعندها لا تكون المسؤوليّة فقط على الأشرار وإنّما أيضا على كلّ إنسان وقف على الحياد متخاذلا ولم يساهم في رفع الظلم عن المظلومين. على المسيحيّين أن يتذكّروا جيّدا أنّ يسوع حذّر أنّنا سنُسأل في اليوم الأخير ليس فقط عمّا فعلناه، بل أيضاً عمّا لم نفعله (متّى 25: 31- 46)، أي أنّ دخول الملكوت مرتبط بمساهمة الإنسان الفعّالة في رفع الظلم عن المهمّشين، أمّا موقف التخاذل الذي لا يأبه بحياة البشر ولا يساهم في الدفاع عن الحياة فهو موقف خطير يقسّي قلب الإنسان ويعيق مشاركته لله ومحبّيه احتفالَ الفرح والحياة. خريستو المر، الثلاثاء ٧ ت٢ / نوفمبر، ٢٠٢٣(الأخبار)
لا بدّ من التمييز بين الحكومات الاستعماريّة والمواطنين؛ فالحكومات تعلم تماماً الحقائق على الأرض، ولكنّها تقف إلى جانب الجريمة والوحشيّة لمصالح ماليّة تنفع عادة قلّة قليلة من المتولّين في بلدانها. الناس في معظمهم يعيشون جماعات، وقوّة الانصياع للجماعة لا يمكن الاستخفاف بها، ونجد كأفراد صعوبة كبيرة في مخالفة جماعاتنا. لهذا لوسائل الإعلام أثر كبير في توجيه الحسّ الجماعيّ نحو توافق مطلوب من الحكومات. وقد رأينا أنّ وسائل الإعلام الغربيّة تعمل في التوجّه نفسه، كأنّها أوركسترا واحدة تستخدم تعابير شبيهة تجرّم جهة وتبرّئ جهة في حربين خلال السنتين الأخيرتين: اجتياح روسيا لأوكرانيا، ومحاصرة كيان الاحتلال الاستعماريّ والأبرتهايد الصهيونيّ لمليونَي مدنيّ فلسطينيّ وتجويعهم ودكّهم بمختلف أنواع الأسلحة في غزّة. وفي كلّ حالة كانت أبواق الإعلام تتناغم مع المسؤولين الحكوميّين في غرب أوروبا وأميركا الشماليّة وتتصرّف في طريقتين عكسيّتين بحيث تدعم أوكرانيا وتدين الهجوم الروسيّ تحت شعار دعم الحرّية مقابل الطغيان، وتسوّغ للاحتلال جرائمه بحقّ جميع الفلسطينيّين تحت شعار تجريم «حماس» والحرب عليها. لكنّ الأمر المشترك بين الحالتين هو نزع الأحداث من سياقها بحيث لا يعود مفهوماً في الحالتين لماذا اجتاحت الحكومة الروسيّة أوكرانيا، ولماذا تسلّلت «حماس» وخطفت مستوطنين من مستوطنات الاحتلال (التي تجري إعادة تسميتها في بعض وسائل الإعلام بالضيع أو المدن). الإنسان عادة لا يريد أن يموت ولا حتّى أن يُقتل، وبالتالي لا يحبّ الحرب؛ ولهذا تحتاج الحكومات الراغبة بالحرب، إلى إقناع مواطنيها بضرورة القتال وتصويره على أنّه ضرورة لا بدّ منها «للدفاع» عن النفس: الحكومة النازيّة في الحرب العالميّة الثانية أحرقت البرلمان لتصوّر ذلك على أنّه هجوم خارجيّ، والحكومة الأميركيّة أغرقت سفينة أميركيّة قبالة فيتنام لتتّهم فيتنام بالقيام بذلك وتبرّر دخولها الحرب، وكذلك فعلوا أخيراً في العراق تحت ذريعة أسلحة الدمار الشامل غير الموجودة. واليوم في غزّة فعلت دولة الاحتلال مع حكومات الاستعمار بترداد كذبة قطع رؤوس الأطفال لتسويغ كلّ ما حصل لاحقاً ويحصل اليوم. وعدا دور الإعلام والسينما في تسويغ الحروب، هناك دور في شحذ العنصريّة بواسطة رسم صورة نمطيّة لشعوب بأكملها وديانات بأكملها. أفلام ستيفن سبيلبرغ، وهو داعم لكيان الاحتلال، تعجّ بالعرب الهمجيّين «المتخلّفين»، إذ لا نفهم حتّى أسباب عنفهم في سياق الفيلم (أفلام إنديانا جونز، و«العودة إلى المستقبل» الجزء الأوّل على الأقلّ، على سبيل المثال). مسلسلات رعاة البقر التي شاهدناها في بداية السبعينيات تنتهي بخلاصة واحدة: الهنود الحمر متوحّشون وقتلهم ضرورة، وخلاصة الأفلام الهوليووديّة لعقود خلت كانت أنّ البشر ذوي البشرة السوداء عنيفون، إلى اليوم يخشى بعض المهاجرين من بلادنا من زميل إنسان أسود البشرة، ويُسبغون على الجسم الأفريقي سمات العنف دون أيّ سبب، عند سؤال أحدهم عن الأسباب يعيده إلى خشيته من ضخامة الجسم مثلاً، وقد يكون المتكلّم ضخم الجسم أساساً ولكن لا يرى لا في جسمه ولا في كلامه عنفاً. الصورة النمطيّة تأثيرها هائل في المخيّلة ويمكن بناؤها عبر السنين، ثمّ تحفيزها من جديد بسرعة: اليوم تخشى الطالبات المتحجّبات في جامعات الغرب بحقّ من تداعيات الأحداث في فلسطين لأنّ صورة الإسلام النمطيّة كديانة عنف تمّ تحفيزها من جديد (الأخبار الملفّقة حول اغتصاب وقطع رؤوس لا يزال الصهاينة هنا يردّدونها مع أنّه قد تبيّن بطلانها)، ومعظم الناس في الغرب باتوا جاهزين لقبول استخدام العنف المفرط ضدّ الفلسطينيّين، وللتبرير اليوميّ لوحشيّة الاحتلال والتقليل من أثره على المدنيّين (آليّات التشكيك تأتي من خلال التشكيك في أرقام الضحايا الفلسطينيّين بإرفاق أرقام وزارة الصحّة بعبارة «التي تديرها حماس»، مثلاً، أو بنقل أوتوماتيكيّ للقصف الصهيونيّ دون إظهار الأثر الإنسانيّ في وجوه أمّهات وأطفال وأقارب الضحايا، أو بإتباع كلّ خبر يظهر فيه القصف الصهيونيّ بقصّة طويلة عن عائلة مخطوف صهيونيّ وأفراد عائلته وأقاربه وصوره مع الأطفال. المسؤولون الرسميّون من عمدة مدينة إلى حاكم ولاية إلى رئيس وزراء في كندا يتّهمون المتظاهرين بأنّهم يدعمون «حماس»، ووسائل الإعلام تردّد ذلك بكلّ خسّة (على سبيل الإبلاغ البريء) لتخويف الناس من التظاهر. لم يخترق إعلامنا المجتمعات الغربيّة، وعدا الحضور الفرديّ فإنّ الحضور الثقافيّ الجماعيّ للمهاجرين في الغرب ضعيف؛ ورغم ذلك هناك مئات الآلاف في كلّ بلد يخرجون إلى الشوارع ليدعموا حقّ الشعب الفلسطينيّ في الحياة بكرامة حرّاً على أرضه. ولا يفهم خبرة الفلسطينيّين ومعاناتهم من الداخل، أكثر من الشعوب التي اكتوت بالاستعمار المباشر، ولا تزال تحت تهديد عدائيّته ووحشيّة جشعه، أكان السكّان أصليّين في شمال أميركا وجنوبها، أم أفارقة في أفريقيا أو أميركا الشماليّة، أو أميركا اللاتينيّة. في دفاعنا عن ذاتنا، الحلفاء مهمّون، الإعلام مهمّ، الحجّة مهمّة، ولكنّ الأهمّ هو الانتصار على الأرض، هو الكلمة الفصل، بلادنا فشلت في الدفاع عنّا (حتّى اليوم طائرات العدوّ تهاجم أينما شاءت دون قدرة دفاع جويّة لدينا لتحمينا) ولكنّ شعبنا نفسه يبتكر الوسائل للدفاع عن الحياة وللنصر، وليدفع الموت القادم من الاستعمار إلى أن يحين موعدنا مع هزيمته النهائيّة. الأحياء منّا واعون أنّهم يحيون في الفسحات الضئيلة بين هجمات الاستعمار. شعبنا الجميل والكريم يخترع الحياة كلّ يوم. ولكن كيف نمنع الموت عن الأبرياء، هذا الذي يمزّق الملايين الذين يرون بأمّهات عيونهم الموت القادم من الوحش الصهيونيّ-الشمال الأميركيّ-الأوروبيّ كلّ دقيقة، أمّا حكّام العار في بلادنا وبعضهم يشارك في مذبحة غزّة فسندفن ذكرهم في أحطّ مكان في تاريخ شعوبنا، وستسقط أنظمتهم لا بدّ مع سقوط نظام الاحتلال، وهذا الأخير قادم لا محالة. الفرنجة بقوا في قلاعهم العسكريّة أكثر من مئة عام ورحلوا. دولة ديموقراطيّة واحدة على فلسطين الحرّة من البحر إلى النهر هي الحلّ الإنسانيّ الحقيقيّ الوحيد لتحقيق كلّ حقوق الشعب الفلسطينيّ بكامله ولإرساء السلام القائم على العدل والمساواة بين البشر. كلّ ما هو أقلّ من ذلك هو غير أخلاقيّ لأنّه غير عادل. خريستو المر الثلاثاء 31 تشرين الأول 2023
بينما تقع منطقتنا تحت هجومات استعماريّة مستمرّة ومتواصلة، تغيّب أكثريّة المدارس وأكثر الإعلام هذا الواقع عن الفكر الاجتماعيّ، عن الطلّاب والأهل، وعن مجالات النقاش الثقافيّ، بل وصل البعض إلى قمع كلّ مجال للنقاش في هذا الواقع تحت مسمّى «اللغة الخشبيّة»، بمعنى أنّ الزمن في رأيهم (المنفصل عن الواقع) تجاوز هذا الخطاب، بينما قتل آلاف المدنيّين الفلسطينيّين من شعبنا الذي يقوم به الاستيطان العنصريّ التدميريّ في فلسطين المحتلّة مع «المتوحّشين» الحقيقيّين الذين يقدّمون له الدعم، يوضح من جديد أنّ حرب الاستعمار علينا قائمة على قدم وساق، وأنّ العدوّ الصهيونيّ يمثّلها اليوم بشكل صاف. أمام هذا الواقع، نجادل في هذه المقالة أنّ الكنائس مقصّرة في الطلب من مؤمنيها الالتزام الإيمانيّ بالمساهمة الفاعلة في رفع الظلم القائم بمشروع الاستعمار. في رأيي، على الكنيسة، بلسان الناطقين باسمها، أن تنأى عن توجيه المؤمنين إلى مشروع سياسيّ أو حزبيّ، فهدف الكنيسة أن تحفظ الإيمان الفاعل وأن تكون مجالاً لكي يبقى المؤمنون مخلصين ليسوع ومحبّين له. لكنّ محبّة المسيحيّين يسوعَ لها أبعاد اجتماعيّة سياسيّة اقتصاديّة، ليس بمعنى المشروع، ولكن بمعنى التوجّهات السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة في هذا العالم. لا يمكن لمؤمن يرى أنّ الله محبّة وبالتالي أنّ المحبّة هي طريقة الحياة الإلهيّة، وأنّه ليحيا بالفعل ينبغي أن يتمرّن على عيش المحبّة في هذه الحياة (وهذا برأيي لبّ الإيمان المسيحيّ متجسّداً ومضغوطاً في جملة)، أن يكون لا مبالياً في هذه الأرض، وما يجري فيها من سياسة واجتماع واقتصاد. إنّ الإيمان المسيحيّ يفرض الالتزام فرضاً في وجوه الحياة كافّة، يفرض طريقة حياة تريد أن تُمسك بهذه الأرض وأن تجبلها مع يدَيّ الخالق لكي تصير تباشير سماء، قدر الممكن، قبل اليوم الأخير، وإلّا كان الإيمان وهماً وهروباً من المسؤوليّة. لهذا السبب من واجب الكنيسة أن تلاحظ مواطن الظلم في المجتمع وأن تدعو مؤمنيها إلى الالتزام الجذريّ برفع الظلم، بالطريقة التي يرتؤونها. هدف الالتزام هو الدفاع عن الحياة بتحويل هذه الأرض إلى مكان مشاركة، كتعبير عن المحبّة، إذ لا محبّة دون مشاركة. فكما أنّ محبّة الآب والكلمة والروح القدس قائمة في وحدانيّةٍ هي المشاركة في كمالها، كذلك يكون مسعى المؤمنين على هذه الأرض. كلّ ما هو بتضاد مع المحبّة المشارِكة هو ظلمٌ مضاد للمسيحيّة، وتنبغي مواجهته بإيمان ملتزم يسعى إلى العدالة على الأقلّ وإرساءِ أسس المحبّة في المجتمع، في النُّظُم الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة. المحبّة المشارِكة هي التي تحدّد عدالة القضية التي يسعى الإنسان من أجلها. فمثلاً، نظام اقتصاديّ ينفع 1% من السكّان ويُفقِر معظمهم هو نظام مضادّ للمسيحيّة وينبغي تغييره لصالح نظام يعكس المشاركة في خيرات الأرض وما عليها، فهي في النهاية للّه، ونحن نتشارك فيها. وعلى ذلك قِس وقيسي. لكن، كلّ ذي عقل يعلم أنّه دون قوّة لا يمكن الوصول إلى عدالة، ولذلك يجب رفض الاستكانة والخنوع للظلم وأن نفهم أنّ النضال هو الوسيلة الوحيدة لممارسة القوّة. أن تكون القوّة قوّةَ نضالٍ عنفيّ أو لا عنفيّ، فهذا أمر يمكن بحثه. وبما أنّ هناك وصيّة بعدم القتل وتأبى الكنيسة في تعليمها الرسميّ أن تدعو إلى العنف (وهذا أمر جيّد)، وحتّى الذين مثلي يقولون بجواز استخدام العنف لرفع الظلم يعلنون أنّ القتل يبقى شرّاً دائماً، وأنّ استعماله هو اضطراريّ لردّ شرّ أعظم على أن يكون مضبوطاً أخلاقيّاً ومرتبطاً بهدف التحرير؛ يكون لزاماً على الكنيسة في الحدّ الأدنى أن تشجّع وتعلّم المؤمنين على رفض الخنوع أمام الظلم، والتمسّكِ بالعمل لردع الظالم وفرضِ العدالة عن طريق قوّة نضال لا عنفيّ منسجم مع المبادئ المسيحيّة. هذا أقلّ الإيمان. غياب التوجيه، كما هي الحال اليوم، أدّى إلى نتيجتين كارثيّتين؛ الأولى في الحرب اللبنانيّة ألا وهي ميليشيات مسلّحة ارتكبت مجازر ولا تزال تشيع الحقد والعنصريّة، والثانية اليوم، ألا وهي غياب أيّ حضور مسيحيّ جماعيّ فاعل في النضال اللاعنفيّ ضدّ الظلم. يمكن للنضال أن يكون عنفيّاً أو لا عنفيّاً في أفق عدالة تجسّد المحبّة المُشاركة، أمّا غياب النضال ضدّ الظلم فهو خيانة لرسالة الإنجيل. في موضوعنا اليوم، ألا وهو الاستعمار الأوروبّي والأميركيّ المتمثّل بمشروعه المدمّر في المنطقة الذي يمثّله نظام الاحتلال العنصريّ، فإنّ الكنائس مدعوّة لغرس وعي الظلم القائم هذا، وللطلب رسميّاً من مؤمنيها بأن يلتزموا النضال لرفع هذا الظلم عن شعبنا وأرضنا في فلسطين. هذا واجب إيمانيّ، وهو أيضاً يمثّل جواباً إيمانيّاً على أمرين: الأوّل هو الدعوة التي وجّهها المجتمع الفلسطينيّ عام 2009 إلى كلّ المجتمعات كي تساهم برفع الظلم والقتل والتنكيل، وبالتحرير عن طريق المقاطعة الاقتصاديّة والثقافيّة والأكاديميّة، والثاني هو الدعوة التي وجّهتها الكنائس رسميّاً من خلال نداء «كايروس فلسطين» لدعم المقاطعة كطريقة نضال لا عنفيّ (دون أن تغلق الباب على النضال العنفيّ) من أجل تحرير الفلسطينيّين عن طريق هزيمة المشروع الاستيطانيّ الاستعماريّ ونظام الفصل العنصريّ القائم في فلسطين المحتلّة. إن كان الواجب الإيمانيّ المسيحيّ هو دائماً تجسيد المحبّة على هذه الأرض، وبالتالي السعي إلى تحقيق العدالة وطرق المشاركة في الخيرات، فإنّ دعوة الكنائس في بلادنا رسميّاً لمؤمنيها للالتزام بالمقاطعة الشاملة لكيان الاحتلال الصهيونيّ ستكون جواباً كنسيّاً طبيعيّاً على نداء إخوتهم وأخواتهم في فلسطين المحتلّة، ويعبّر بشكل مباشر عن الإيمان المسيحيّ بأنّ كلمة الله تجسّد وأحبّ العالم حتّى بذل نفسه لأجله. وبالإضافة إلى الدعوة هذه، من واجب الكنائس الأنطاكيّة الرسميّة أن تلتزم بالعمل الفاعل العلنيّ في الغرب، بواسطة مطارنتها وكهنتها ولاهوتيّيها، وشرح واقع فلسطين والاحتلال العنصريّ الصهيونيّ ودفع الكنائس الغربيّة كي تلتزم بمقاطعة الاحتلال. هذا واجب صعب، صليب، ينبغي للكنيسة أن تحمله كي تدافع عن الحياة في فلسطين. نعم تنأى الكنيسة بنفسها عن تفاصيل المشاريع السياسيّة والحزبيّة والاقتصاديّة، ولكن ينبغي لها ألّا تنأى عن تعليم أنّ الإيمان التزام بتجسيد المحبّة ومواجهة كلّ ما هو ضدّها، ينبغي ألّا تنأى عن الدعوة العلنيّة لمناهضة الاستعمار المدمّر لشعوبنا، خاصّة بعدما صدر نداء «كايروس فلسطين»، وإلّا تكنْ تنأى عن مسيحها المصلوب المرسوم على وجوه المظلومين. الوقت قد حان لإصدار الكنائس المسيحيّة الأنطاكيّة، مجتمعة أو متفرّقة، نداء إلى مؤمنيها كي يلتزموا يوميّاً بمقاطعة الكيان الاستعماريّ المحتلّ وأن يصبحوا مشاركين فاعلين مع الجميع في المقاطعة، لأنّ هذا يكون جواباً حقيقيّاً متجسّداً في لحم هذا العالم لمحبّتهم ليسوع المسيح، وسعيهم إلى تجسيد محبّتهم له بتعميد العالم ليصير مكان مشاركة، ليصبح كنيسة بالمعنى العميق للكلمة، تجمع أبناء وبنات الله جميعاً في وحدة محبّة راسخة في العدالة والمشاركة، فيعمّ السلام. |
الكاتبخريستو المر الأرشيف
December 2023
Categories |