خريستو المرّ
الثلاثاء ٢١ حزيران / يونيو ٢٠٢٢ أدلى البطريرك يوحنّا العاشر (يازجي) بكلمة في مؤتمر حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة شدّد فيها أنّ الإنجيل هو سقف الجميع، ودعا إلى الابتعاد عن هرطقة الآخر عند كلّ اختلاف بالرأي، وإلى الابتعاد عن التعالي في إدلاء الرأي، ونبّه إلى ضرورة الّا نتوه عن الانجيل في خضمّ النشاطات الضروريّة، وضرورة التعاون بين الأبرشيّات والرعايا. ولكن ورد أيضا في كلمته عبارات تبدو جيّدة ولكنّها ملتبسة، كقوله ما معناه أنّ أيّ كلمة ينطق بها إنسان لا تُحتَسَب عليه فقط وإنّما على المؤسّسة التي ينتمي إليها، ونقدِهِ لما يراه تعاليًا في كلام البعض وخاصّة "المغتربين منهم"، وقوله أنّه كبطريرك يقوم "بالاستشارة بكلّ أعمالنا"، وقوله أنّه لا يمكنه أن "يفضح كلّ شيء لتقتنع أنت" في "قضايا التأديب والمساءلة". وعلّ هذه المقالة القصيرة تساهم في إغناء النقاش مع علمي أنّه لا يجدي نفعا في الأذهان المتطبّعة إمّا على التسلّط أو على التذلّل، أو على الاثنين معًا. في معرض طلب الرعيّة لشفافيّةٍ وفهمٍ في القرارات المتعلّقة بـ"قضايا التأديب والمساءلة"، يقول البطريرك أنّه يبدو أنّ "الثقة ببعضنا معدومة"؛ وفي ذلك هو يصيب لبّ المشكلة، ولكنّه لا يبحث في أسبابها، وإنّما فحوى حديثه هو أنّ على المسيحيّات والمسيحيّين أن يثقوا بالرعاة فهم لا يمكنهم أن يقولوا كلّ شيء في العلن. وهنا يبرز أمرين: من جهة الهوّة القائمة بين العالم الذي يعيش فيه معظم السادة المطارنة (ومنهم سيادة البطريرك) وبين العالم الذي يعيش فيه معظم المسيحيّين والمسيحّيات الذي لا يمكن للإنسان أن يرى في نفسه غنمةً في قطيع وإنّما إنسانا مسؤولا مشاركا في صناعة مصيره قدر الإمكان. إنسان اليوم يريد أن يفهم، وأن يناقش وأن يشارك. أمّا الأمر الآخر الذي يكشفه كلام البطريرك، فهو أنّه لا يرى أنّ انعدام الثقة مرتبط بوقائع منها أنّ المطارنة ومَن ينوب عنهم عندما تصل إليهم شكاوى في الرعية يقفون موقف الحامي للإكليروس، أي أنّ القرارات والمواقف العلنية والملموسة التي تتلقّفها الرعية هي موقف يضرب بعرض الحائط بالعدالة مقابل حماية الإكليروس، وهذا يعني أنّ الشعب المؤمن لا بدّ أن يفقد ثقته بالقادة الدينيّين، تمامًا كما فقد ثقته بالقادة السياسيّين. فمثلا في إحدى الرعايا غير البعيدة عن البطريركيّة، عندما اشتكت سيّدة إلى أحد الأساقفة من تحرّش خوري الرعيّة بها لم يحدث شيء، بل تابع الخوري خدمته في الكنيسة. انتهت الشكوى. الأمر متروك بشكل مطلق للأسقف وما يراه مناسبًا. هل هذه هي الثقة التي يطلّبها سيادة البطريرك من الرعيّة؟ أن يثق الناس بأنّ الأسقف فعل اللازم، ولكنّه لا يمكنه الإفصاح عن الأسباب بسبب سرّ الاعتراف أو موقعه؟ "لا بالطبع"، يقول العقل والقلب السليمَين، مهما رأى سيادته من أمر. المشكلة المطروحة هي بالضبط عدم ثقة، ولكن عدم الثقة لم يأتِ من فراغ وإنّما من ممارسات الإكليروس. الكنيسة تُدار من دون مؤسّسات، ومن دون شفافية، ومن دون مشاركة من الشعب المؤمن، فكيف للثقة أن تُبنى؟ هذا عدا عن كون التسلّط والاعتباطيّة هما الخبز اليوميّ للتعامل الكنسيّ: إنسان يخدم عشرات السنين في مؤسّسة بطريركيّة انتعشت على يديه، وأيدي فريقه، يُقال من عمله في دقائق دون تبرير، ويُطلب منه أن يغادر المكتب فورًا، بالكاد يتمكّن من جمع حاجيّاته. أستاذ يُقال من منصبه وتصدر بحقّه الإشاعات، دون أيّة آليّة رسميّة (لا لجنة ولا مَن يحزنون)، مجرّد قرار. والحالة هذه ليست فريدة. هل المطلوب ألّا يرى الشعب تسلّطًا، وإنّما حكمة لا يعلم بها إلّا العالِمُ القدير؟ جامعة "العائلة البلمنديّة" مثلها مثل غيرها صورة عن البلاد، والتحزّبات، والطعن في الظهر، والتآمر التافه، والأنا المنتفخة. هذه جامعة سعت إدارتها منذ تأسيسها إلى عرقلة إنشاء نقابة لموظّفيها. زد على ذلك أنّه على حدّ علمنا نحن عموم الشعب، ما من تدقيق محاسبيّ لأبرشيّة واحدة أو رعيّة واحدة أو للبطريركيّة، أو ربّما يوجد، ولكنّه لا يُنشَر علنيّا. لا مشاركة شعبيّة، لا إدارة محترفة، لا شفافية، لا مؤسّسات مستقلّة لتلقّي الشكاوى (مثلًا شكاوى التحرّش الذي "لا" يحدث)، ولا محاسبة. المحاكم الروحيّة رجعيّة.أمّا الذكورية وتهميش دور النساء فحدّث ولا حرج. معظم السادة المطارنة يعيشون في قلّة ضائقة لافتة، يُحكى عمّن يضربون أيديهم فتخرج الأموال من خزائن المؤسّسات التي يشرفون عليها متى يشاؤون ليصرفوا كما يشاؤون بعد استشارتهم لا أحد. ليس الموضوع موضوع استشارة مجلس «أحباب»، الموضوع موضوع مشاركة الشعب المؤمن في قيادة حياته الكنسيّة. هل في هذا الكلام تنظير وتعالٍ أم مصارحة؟ هل يحمّل أحدُهم من الضيّقي الأفق والعقل، حركةَ الشبيبة الأرثوذكسيّة مسؤوليّة كلامي أم هو رأيي الشخصيّ؟ إنّ العالم الذي يعيش فيها السادة المطارنة انتهى إلى غير رجعة. أمّا همَّ مَن يكتب ومَن يتكلّم ومَن يعمل، ومَن لم ييأس بعد، فهو ألاّ تستيقظ كنيسة أنطاكية إلى يومٍ يفتّش شبابها فيه عن المسيح خارجها، وأن يبقى الناس متذكّرين وجهَ المسيح المضيء، الذي لا يشبه أحدًا منّا في خطيئته، والذي نجده في الحبّ الفاعل من أجل الحياة. خريستو المرّ
الثلاثاء ١٤ حزيران / يونيو ٢٠٢٢ في بلادنا وغيرها، يتأفّف الناس من "الفساد"، والفقر، وتدنّي مستوى الدخل، والغلاء، ولكن لا يذكرون الأسباب القائمة وراء هذا الواقع ألا وهو بنية النظام القائم: الرأسماليّة. فكلمة " الرأسماليّة" باتت غير متداولة وكأنّها غير موجودة، بل أنّ الكثيرين -فقراء وأغنياء- ما يزالوا مسحورين بإنجازات الرأسماليّة بحيث باتوا يرون بها النظام الذي لا نظام إلّاه. الحقيقة أنّ الرأسماليّة لا تعمل دون استغلال، وأنّها تسلّع كلّ شيء، من الاختراعات، إلى الطبيعة، إلى الناس (فما معنى أن يُسمّى العُمّال "مُستَخدمون" سوى أنّهم يُستخدمون كأدوات في يد ربّ العمل؟). لكنّ الذين يحبّون الحرّية ليسوا حريصين جميعهم عليها في ظلّ جميع الأنظمة. فبينما ينتقد العاقلون محاصرة حرّية الناس في بلاد الديكتاتوريّات، يغفل معظمهم عن محاصرة الرأسماليّةِ لحريّةِ الناس وافتراسها لهم في الديموقراطيّات المتوحّشة. لا يعرف معظم المسيحيّين أنّه عدا المفكّرين الشيوعيّين والاشتراكيّين الفذّين، لاحظ مفكّرون عديدون مسيحيّون – وهم لم يكونوا مسحورين كما اليوم بالرأسماليّة ويمتنعون طوعا عن نقدها – بأنّ حرّية العمّال في ظلّ الديموقراطيّات الرأسماليّة في حرّية وهميّة وشكليّة: ما هي حرّية ٨٠٪ من سكّان لبنان القابعين تحت خطّ الفقر عندما بالكاد يستطيعون تأمين قوتهم اليوميّ؟ إنّ شخصًا يتربّص به الجوع أو المرض أو يرتع في الأمّية (نسبة الأمّية في العالم العربيّ حوالي ٤٠٪) لن يستطيع أكل بطاقته الإنتخابيّة، أو أن يتطبّب بها. إن واقعَي الاستغلال والفقر ليسا صدفة، أو نتيجة "طبيعيّة" لبلد أو منطقة، إنّهما نتيجة للرأسماليّة في كلّ الدول التي تدين بها. إلّا أنّ صحفيّ في جريدة النهار تفتّق فكره يومًا على وصف للفقر بأنّه "عاهة فظيعة" لإخفاء طبيعة الصراع الطبقيّ القائم في لبنان، هذا بينما كان ميشال شيحا، منظّر الاقتصاد اللبنانيّ، يرى أنّ الفقر هو من "القباحات" المرتبطة بالشرق، أي بالجغرافيا، وبيير الجميّل يرى أنّ المساواة الاجتماعيّة غير موجودة إلّا في الجنّة. والنتيجة أنّه لتحقيق المساواة أو لمواجهة الفقر (إلّا الصلاة ربّما). لا بدّ أن نتذكّر بأنّ المساواة في فرص التعلّم والتي تحقّقت بتأسيس الجامعة اللبنانيّة المجانيّة لم تحصل إلّا عنوةً، بعد سقوط ضحايا في تظاهرات، فطبقة الأغنياء التي حكمت لبنان كانت مرتاحة للفقراء دون تعليم. هناك شبه إيمان بالرأسماليّة يقوم على السجود لإله السوق، إيمان عقيدته تقول بأنّ الدولة لا يمكنها أن تدير مؤسّسات وأنّ الخصخصة والمنافسة هي طريقة الحياة "الطبيعيّة" للمجتمعات الانسانيّة، وأنّه يجب خفض نفقات الدولة الاجتماعيّة من تأمين صحّي ونظام تقاعد ونظام حماية من البطالة وتعليم مجاني، لأنّها تُضِرّ بالمنافسة وبالتحفيز على الإنتاج؛ فالبقاء «للأقوى و«الأذكى» بين الناس لأنّ هذه سنّة "الطبيعة" والتطوّر. ومن «ينجح» وسط هذه الداروينيّة الاجتماعيّة يكون قد تمّ انتقاءه «طبيعيّا» بحسب كفاءته وجدارته. لكنّنا نعلم أنّ الناس لا يبدأون حياتهم من فرص متساويّة، لا يتساوى في الفرص مَن والده نائب في البرلمان أو رئيس شركة تجاريّة كُبرى ومَن والده عاطل عن العمل أو حاجب في مصرف. حتّى نسبة الذكاء نعلم علميّا أنّها تتأثّر بالتغذية وبالظروف المادّية للأهل (كمّية المال) وبأنّ "اللامساواة في الذكاء هي لامساواة اجتماعيّة"، كما كان عالم الاجتماع الفرنسيّ بورديّو يقول. نعم يولد الناس متساوون في الكرامة، لكنّ النظام الرأسماليّ لا يمنحهم تساويًا لا في الفرص ولا في الكرامة. إنّ كهّان وعبّاد الاقتصاد الـ"حرّ" يؤمنون بقوى السوق-الإله و«حكمته»، ولكنّهم أيضًا يؤمنون بالاشتراكيّة عندما يخسرون ملياراتهم في عمليّات المقامرة في السوق، إذ عندها يضغطون لكي يشاركهم كلّ المجتمع خسائرهم بأن تعطيهم الدولة تعويضات عن الخسائر (نذكر ما جرى إثر خسارات البنوك حول العالم عام ٢٠٠٨، وما يطرحه المصرفيّون في لبنان من أن يسمح لهم البرلمان بالسطو على مقدّرات المجتمع بعدما بدّدوا -هُم لا الدولة- أموال المودعين). هذا عدا الاشتراكيّة التي يمارسها الرأسماليّون فيما بينهم في العمل فيتعاونون لدعم نظام الاستغلال القائم وتوزيع الغنائم. وفيما يعظ كهّان الرأسماليّة بضرورة تفكيك شبكات الأمان الاجتماعيّ للدولة الحامية من صحّة وتعليم مجّانيّين ونظام تقاعديّ، وغير ذلك، هم يغرفون الأموال غرفًا من بيع بوليصات تأمين مذكّرين الناس بعدم الأمان -الذي خلقه الرأسماليّون- في الصحة والعمل والتقاعد. بواسطة قمع شرس للحرّية الفكريّة بخطابٍ تحريريّ ظاهريّاً (حرّية الاقتصاد، حرّية السوق، الحرّية الفرديّة، المبادرة الفرديّة، الحلم الأميركيّ)، وإيديولوجيّة تبسيطيّة (المنافسة والبقاء للأقوى، تخفيض الضرائب على الشركات سيؤدّي إلى نسب توظيف أعلى، إلخ.)، تجري محاولة تحطيم حرّية الإنسان ومنعه من مجرّد التفكير بإمكانيّات أُخرى. مَن كان همّه بالفعل المسيح، كان همّه بالفعل الإنسان، ولهذا لا بدّ إن كان على شيء بسيط من الاطّلاع، أو من الحسّ، أو من كليهما، أن يقول مع كوستي بندلي "بأنّ "الرأسماليّة نبذت الله فعليّاً، وإن لم تجاهر بذلك، لأنّها ألّهت المال والإنتاج"، كانت السلطات الكنسيّة والإسلاميّة – ولم تزل- تنتقد الإلحاد الشيوعيّ، لكنّها لا ترى ولا تنتقد نظامًا كامًلا يعمل على تدجين المؤمنين على عبادة السوق-الإله، ولكن توهمهم على أنّهم ما يزالون على إيمان مستقيم لأنّهم ما يزالون يرتادون الكنائس والجوامع. وإن كانت الشيوعيّة كما طبّقها الاتّحاد السوفيياتيّ قمعت الحرّية، فإنّ الرأسماليّة خانت كلّ المفهوم المسيحيّ للحرّية الذي يقول بأنّ الحرّية لا تقوم دون مساواة ومشاركة، وحدهم المشارِكون المتعاضدون القابلون للمساواة، أحرارٌ من انغلاقهم. كان يوحنا الذهبي الفم يعظ ويقول "مهما صُمت، ومهما ركعت، ومهما أكلت الرماد، وذرفت الدموع، فإنك لا تكون قد قمت بشيء عظيم إذا لم تكن مفيدًا للغير"، وأيضًا "لقد اقامنا المسيح على هذه الارض لكي ننشر النور، لكي نكون الخميرة. الأعمال تقوم مقام الكلام أفضل قيام. لو سلكنا سلوكًا مسيحيًا حقيقيًا لزالت الوثنية". لو عاش الذهبي الفم في زماننا لسمعناه يقول: لو سلكنا سلوكًا مسيحيًا حقيقيًا لَكُنّا بالتأكيد عملنا على نقد الرأسماليّة وإزالتها، عوض قبولها صاغرين دون إعمالٍ للعقل؛ لَكُنّا قاومناها، لَكُنّا رفضنا فكرة نهب المصارف لنا ولأولادنا وأحفادنا بواسطة ما يُسمّى بالـ«الصندوق السياديّ»، لواجهنا السياسيّين والمصرفيّين والتجّار عوض أن ننتخبهم من جديد. لو عاش الذهبي الفم في زماننا لسمعناه يقول: لو سلكنا سلوكًا مسيحيًا حقيقيًا لزالت الرأسماليّة. خريستو المرّ
الثلاثاء ٧ حزيران / يونيو ٢٠٢٢ يتساءل الإنسان - بينه وبين نفسه على الأقلّ – أن ما فائدة كلّ عملٍ عام في بلاد تحت حُكمٍ لا يتبدّل، أكان ديكتاتوريّا أو قبليًّا طائفيًّا؟ الجواب قد يأتي من وقائع علينا أن نسهر عليها دائمًا. الواقع الأوّل هو أنّ ما من شيء يدوم في الحياة، لا روما دامت ولا اليونان ولا غيرهما من الإمبراطوريات والاحتلالات، التغيير هو واقع طالما بقي الصراع حيًّا، قد لا يأتي التغيير خلال فترة امتداد حياة إنسانيّة واحدة (حوالي القرن بالأكثر) ولكنّه يأتي طالما بقي السعي. المطلوب هنا هو شيء من التواضع الشخصيّ أمام الأحداث، حتّى يقبل الإنسان بألّا يرى جهوده قد أثمرت بشكل ناجز خلال فترة حياته. إن لم يَقبل الإنسان أن يسهر على تواضعه فالنتيجة هي ما نلاحظه عند البعض من كآبة وسلبيّة وجبريّة وتبريٍر للانهزام والاستسلام أمام أعداء الأمس، ومن لهاث خلف الثروة التي يتوهّم البعض بأنّها تعطيهم قدرةً تعوّض عن شعورهم بالهزيمة، ومن استسلامٍ «للواقع» أحيانًا في انزواء عن الصراع ونقدٍ للمستمرّين فيه. أمّا الواقع الآخر فهو أنّ الإنسان مخلوق باحث عن معنى، وكباحث عن معنى لا يمكنه أن يكتفي بالأفعال التي يفعلها، على أهمّيتها، بل عليه أن يعطيها معنى لكي يكون قادرا على الاستمرار بها، ولكي تكتسب تلك الأفعال لديه أهمّية وتصبح جزءا من هويّته الشخصيّة. عندما تكون الأفعال مجرّد نتيجة لعادة اجتماعيّة أو لوجود جغرافيّ أو مرتبطة بسعي لتحقيق انتصار سريع أو شهرة أو ما شابه لا تتجذّر تلك الأفعال في الشخصيّة، وعندها يمكن أن يتوقّف الإنسان عن الأفعال تلك بتبدّل الظروف الخارجيّة (الجغرافيا، المجتمع) أو بسبب عدم تحقيق الأهداف (انتصار، شهرة). عندها عادة ما يتصرّف الإنسان بردّة فِعل الخائب الذي ينتقم من ماضيه بالانكباب على نقيضه، أو كلّ ما يظنّه تعويضًا عن ذاك «الفشل». من هنا تدخل كلّ الأوهام إلى القلب والفكر. أمّا مَن كانت أفعاله قد اكتسبت معنى لديه، فكانت مرتبطة برؤية للحياة وبمجموعة من المبادئ التي يرى الإنسان فيها معنى لحياته ولحياة كلّ إنسان، فإنّ التغيير في الظروف الخارجيّة أو عدم تحقيق الأهداف المرجوّة، يكون مدعاةً للمثابرة في التوجّه نفسه، وإعادة النظر بطرق العمل ضمن الإمكانيّات المتاحة في كلّ ظرف، والتعاون مع الغير، من أجل حماية وتثبيت مجموعة المبادئ وتسليمها لأجيال أخرى. والذي يدعوه الـمُنقَلبُ على مبادئه «فشلًا» يدعوه المثابرُ «ليس بعد». وحيث يسير الأوّل مسار الانقلاب بتدرّج، يُفاجَئُ الثاني بما يتفتّق في ذاته من طاقاتَ لا حصر لها تتفتّح عفويّا مشاعرَ وفكرًا وعملًا. بالنسبة للإنسان الذي يعطي لأعماله معنى، الأفعال ليست مجرّد أشياء انتهت وإنّما هي خطوات في طريقٍ، طريق مليئة بالوجوه الجميلة التي سبقته، والتي معه، والتي ستأتي بعده؛ ولذلك ليس هو بمعزول ولا بحالة ضعف، وإنّما مجرّد مُشاركٍ في ورشةٍ إنسانيّةٍ ليجمُلَ هذا العالم، ولذلك فمسعاه الأكبر هو أن تستمرّ تلك الورشة. الإيمان يشدّ ذلك كلّه إلى بعضه: إيمان ذلك الإنسان بأنّه قد مشى الطريق الصحيح. وهو قد يشكّ والشكّ جيّد فهو يغسل عين القلب وعين العقل، ولكنّه يبقى مؤمنًا بأنّ الإنسان دون هذا الطريق يصبح من عداد الأشياء، أي يخسر نفسه كإنسان. وتبقى كلمة المسيح -آمنّا به أم لم نؤمن - ترنّ في داخلنا: وماذا يفعل الإنسان لو ربح العالم كلّه وخسر نفسه أو فقدها. من خلاله هذا المنظور، يمكننا متابعة مواجهة الوقائع المؤلمة في الحقل العام التي تحدث حولنا في حياتنا. وعندها، وإلى حدّ كبير، لا يصبح لموتنا الكلمة الأخيرة، بل تصبح الكلمة الأخيرة للحياة التي وُهِبناها ووهبناها للعالم بمشاعرنا وفكرنا وعملنا. هذا كلّه، يذكّر بقول آخر للمسيح «مَن يؤمن بي فالأعمال التي أنا أعملها يعملها هو أيضاً، ويعمل أعظم منها». فمن يؤمن بأنّ عالـمًا آخرَ ممكنٌ، بأنّ الإنسان مقدّس، يعملُ من أجل تكون الحياة وتكون أوفر، ولذلك هو رفيق طريق، رفيق يسوع-الطريق وكلمة الحياة، والسائرون في الطريق يسمعون بآذانهم، ويرون بعيونهم، ويلامسون بأيديهم، ويصنعون ويحيون كلَّ ما هو تجلٍّ لكلمة الحياة متابعين عمل يسوع في هذا العالم. |
الكاتبخريستو المر الأرشيف
December 2023
Categories |