خريستو المرّ
الثلاثاء ٢٥ أيّار/مايو ٢٠٢١ عيد تحرير أرض جنوب لبنان من الاحتلال الاسرائيليّ عام ٢٠٠٠ لربّما من أهمّ ما يميّز الإنسان أنّه قادر على الحرّية، دونها ينقطع الإنسان عن ذاته حتّى الاختناق. ليس من قبيل الصدفة أن يفهم قدّيسون كثيرون أنّ معنى عبارة «صورة الله» التي وردت في الكتاب لتصف الإنسان كمخلوق على أنّها تعني، من جملة ما تعنيه، الحرّية الإنسانيّة التي على صورة الحرّية الإلهيّة. الصدق الروحيّ والأخلاقيّ يقتضي ألّا يُقارب الإنسان الحرّية بشكل انتقائيّ واستنسابيّ. لهذا، لا يمكن أن يحتفل الإنسان بالتحرّر من عدوّ خارجيّ ويبقى لا مباليّاً للقمع الداخليّ، أو لبُنى استلاب الناس وإفقارهم، لأنّ أساس مقاومة العدوّ الخارجيّ ليست هي هويّة العدوّ وإنّما هي التوق للعيش بكرامة انسانيّة. أمام تضارب كهذا، يحقّ للناس المُحبّة للحرّية والكرامة أن تقف موقفًا نقديًّا. كذلك لا يستقيم بأن يوصف نظامٌ يقمع شعبًا بكامله ويسحق معارضيه بأنّه داعم لتحرّر شعوب أخرى، قد يكون داعما لحركات تحرّر شعوب أخرى، ولكن لأهداف لا علاقة لها بالحرّية؛ ويحقّ للناس الصادقة أن تقف موقف المشكّك والحريص على خطاب واضح ودقيق. العالم معقّد وليس بالبسيط، ولكن بالضبط لأجل هذا لا يمكن للخطاب أن يكون بالبسيط والتبسيطيّ، بل ينبغي احترام العقول والفكر النقديّ، فالتاريخ مليء بالشواهد عن حركات تحرّر تحوّلت إلى حركات قمع داخليّ بعد التحرّر. لكنّ الخطاب النقديّ لا يُحتَرَم عادة لأنّ المشاعر السائدة هي أنّه إمّا انت معنا بشكل متطابق وإلّا أنت ضدّنا تمامًا، والفكر الفصاميّ هذا يتجلّى بخطاب تخوين تمتهنه الجماعات الحزبيّة من كلّ صوب في بلادنا. لا يُلام في خطب التخوين هذا أحدٌ أكثر من القادة. في المُقابل، النقطة الأخرى هي التغييبُ الفاضح عن خطاب «محبّي» الحرّية والحياة، لأيّ نقدٍ للمستعمرِ الذي يريد سيطرة كاملة على أنفسنا وعقولنا ومقدّرات بلادنا وتمزيقنا إلى جماعات متناحرة. مَن يحبّ الحياة يحبّها حقّا، ولهذا يعمل لحمايتها من كلّ «قاتل» لها، أكان يحاول قتلها بآلة اقتصاديّة، أو عسكريّة، أو فكريّة، أو ثقافيّة، أو غيرها. أخيرًا، في بلادنا، هناك أشكالا من الخطاب لو قيلت في بلاد أخرى تقدّس الحرّية بحدودٍ قانونيّة، لا يمكن أن تمرّ دون عقاب قانونيّ وربّما سجن، مثل خطابات الكراهية، خطابات عنصريّة، خطابات تمجيد المحتلّ... لكنّ بلادنا المتروكة للمصارف وتجّار الأديان من السياسيّين والاقتصاديّين لا تحارب إلّا الضعفاء الذين لا قوّة لهم. إنّ كلّ خطاب وفعل عنصريّ يفضح أتباعه بأنّهم هم أيضا لا يحبّون الحرّية ولو أنشدوا عنها الأشعار، فمن يحبّ الحرّية يحبّها للناس جميعًا، وقد كتب الفيلسوف بردياييف يومًا عن حقّ ما معناه أنّ «الحرّية» المحصورة بالذات أرادها المستبدّون عبر التاريخ. النقطة الأخيرة الضروريّة هنا هي أنّ خطاب التحرّر والحرّية لا يستقيم دون ربطه بخطاب العدالة الاقتصاديّة، فما هي حرّية الإنسان إن كان لا يمتلك ما يكفي عائلته لتحيا بكرامة إنسانيّة أي لتحيا بما تحتاجه من طعامٍ، وتعليمٍ، وصحّةٍ، وسكن؟ وما هي حرّية ناخب لا يتمكّن من القراءة والكتابة؟ أين هي حرّية إنسان لا يستطيع تأمين قوته؟ بالحقيقة والواقع هذا الإنسان لا يستطيع أن يستخدم حرّيته بالفعل، وأن يستفيد منها بشكل ملموس، إلّا بشكل ضئيل جدّا. لطالما أعلى البرجوازيّون والرأسماليّون قيمة خطاب «الحرّية» ودفنوا ما أمكنهم خطاب العدالة الاقتصاديّة وغيّبوه عن النقاش العام لأنّه لا يناسب مصالحهم، لأنّه يعني ليس انعداما في الأرباح وإنّما أرباحًا أقلّ، مجرّد أقلّ. لا معنى لحرّية إلّا التي يتشارك فيه الجميع؛ وفي حياة الشعوب، لا معنى لخبزٍ دون حرّية، كذلك لا معنى لحرّيةٍ دون خبز. إنّ خطاب الحرّية وخطاب العدالة الاقتصاديّة توأمان، لا معنى لواحدهما دون الآخر، ومن الضروريّ الحذر من أيّ خطاب يفصل بينهما. خريستو المرّ
الثلاثاء ١٨ أيّار/مايو ٢٠٢١ القلوب المجروحةُ بحبّ الإنسان لا تعرف انفصالا في الجغرافية، والقلوب الممتدّة بحبّ الناصريّ لا تعرف الحدود؛ فالحبّ واحد في الخبرة البشريّة، ولا يَخصُّ إنسانٌ حبَّه ببشر دون آخرين إلّا إذا كان قد التبست عليه خبرته، فَحَسِبَ عاطفته الفطريّة لجماعته حبًّا. أُحِبُّ الإنسان في لبنان، وأحبُّه في سوريا، وأحبّه في فلسطين، وأحبّه في كندا وفي كلّ هذه الأرض. لهذا كرِهَت نفسي أنظمةَ الظلم في كلّ بلد، وكان تأجيل التحرّر في كلّ أرض جلجلةً لسكّانِه ولمحبّيهم الذين غدت قلوبهم تشبه «قلب الله»، علموا أم لم يعلموا. يخدع الإنسان نفسه كي يُعَقلن ردّات فعله الشعوريّة المـُبغِضة ويبرّرها. تَحَجَّج المتحجّجون لعدم تضامنهم مع الإنسان الفلسطينيّ بأنّ منهم من ليسوا بالصالحين أو من ظَلَموا. نسوا أنّ يسوع قال أنّه «لا صالح إلاّ الله وحده». هو الضوء، وهو فينا، وأمّا نحن فكلّنا نحجب قلوبنا، عنه هو فينا، فيداخلنا العتم الكثير. والمسيحيّون يعرفون أنّ الكنيسة هي جماعة الخطأة الذين يتوبون، لذلك أشار يسوع إلى الطراوة ونبّه ألّا يحاول أحدٌ أن يمحو أحدًا بقلبٍ من حجر، وكذلك لا يرمي شعبٌ على شعب اتّهامًا ويستكبر. كلّ الشعوب فيها المضيء والمظلم. إن لم تقف مع المظلوم لم تكن مع نفسك، تغرّبت عنك، وإن أوغلتَ أضحيتَ لا-أنت، ويومًا ما ستبكي لأنّك نسيت طفولتك حين كان البشرُ لديك وجوهًا. لهذا ربّما قال يسوع بأنّ الملكوت هو لمن صار مثل الأطفال. يولدُ الإنسان على كثير من الرقّة والتعاطف، يتعلّم الحقد لاحقًا، ويموت عندها شيئا فشيئا، أمّا من يعود كالأطفال فيولد جديدًا، وهذه المرّة «يولد من فوق». يولد الإنسان من الرَحم ومن الرحمة لتصبح الأخوّة بلا حدود، ويصبحَ قادرًا على الحبّ، والحبّ فِعلٌ في الدنيا كي تصبحَ سماءً، أي مكانًا يحيا فيه الناس بعدلٍ وأخوّة. بعدما رأى المسيحيّون يسوعَ مُعلَّقا من قِبَلِ المستكبرين، باتوا حلفاءُ المقهورين في الأرض، أولئك الذين علّقهم المستكبرون على صليب الظلم اليوميّ. حين يصبح الإنسان مجروحًا مع المجروحين، ومُعتَقلًا مع المعتقلين، ومضروبًا مع المضروبين، ينخرطُ في ورشة تحرير البشريّة التي أطلقها يسوع يومًا ويتابعها مع كلّ أخواته وإخوته من الناس، أولئك الذي يناضلون في كلّ ساعةٍ لكي يغيب مساءٌ ويكون صباحٌ فتُخلَقُ الأرض من جديد بالحبّ والحرّية، بروح اللهِ الذي يرفّ على وجه القلب، لتخلع الأرض عنها الخراب والفراغ وتلبس النور فنحتفل بالدهشة. حدود القلب هي قلبُ المسيح، وذاك هو لا حدود، ولهذا مَن أحبّوا وكانوا مع المظلومين عرفوا الحياة بدايةَ حبٍّ مفتوحةٍ على بداية، على بدايات مُغَمَّسات بالسهر والعمل والإبداع، ومُعَطّرةٍ بالرجاء الذي لا يفتُر. قلوبنا وعقولنا، وأفعالُنا على تواضعها، هي مع الفلسطينيّات والفلسطينيّين العظماء بإضرابهم الكبير اليوم، والذين يصرخون «لا» للمحتلّ العنصريّ، ويدقّون باب الحرّية بقلوبٍ مضرّجة بالنضال والدم، محمّلة بالرغبة بالحياة، مدفوعة بذكرى سنواتٍ من القمع، معمّدةٍ بالحبّ، ومكلّلة بالشهادة. فلسطين ستلد نفسها حرّة من الفصل العنصريّ، وبلادنا ستطرد عنها المستبدّين، لنحيا معًا في الحرّية والكرامة دون حدود. أؤمن. الثلاثاء ١١ أيّار/مايو ٢٠٢١
خريستو المرّ لماذا الفلسطينيّون حاضرون في ضميري وعملي؟ ليس لأنّهم من العالم العربيّ، ولا لأنّهم يشبهونني لغةً أو ثقافةً، بل لأنّهم يشبهون المسيح. وهم أيضًا يُشبهون إنسانًا أخبر عنه يسوع. إنسانٌ مضروبٌ متروكٌ على قارعة الزمن والشاشات يجتاز به بشرٌ قريبون منه، ولكنّهم يسرعون الخُطى، لا يلتفتون إليه، لانشغالهم بالخبز وبالطقوس، أو بالنفط والمال والسلطة، إنسان يحتاج أن يقف إلى جانبه إنسان ليُصبحا قريبين؛ وعندما أخبرَ يسوعُ عن ذاك الإنسان وَكَّلَني به كي لا يموت، وكي لا أموت إن ماتَ وحيدًا. الفلسطينيّ في ضميري لأنّه اليوم يحمل سمات المسيح الذي قال فيه إشعياء أنّه «محتقرٌ ومخذولٌ من الناس، إنسانُ أوجاعٍ ومختبِرٍ الحزنَ... مُحتقَرٌ فلمْ نَعتَدّ به، لكن أحزاننا حملها، وأوجاعنا تحمّلها» حين أخذ عام ١٩٤٨ على جسده الضربات الأولى للوحش الأوروبيّ القادم من بعيد. ونحن «حسبناه مُصابًا مضروبًا من الله ومذلولًا» لأنّه في المخيّمات، وهو «مجروحٌ لأجل معاصينا، مسحوق لأجل آثامنا»، فإثمنا ومعصيتنا أنّنا نتركه وحيدًا معلّقا على خشبة الاحتلال مسمّرٍ بمسامير التمييز العنصريّ. أنا مع دماء الفلسطينيّين لأنّهم كمظلومينَ نزيفُ الثائرِ المعلّق خارج الأسوار، وأنا أتيتُ وآتي من جنب المطعون بحربة. هناك شيءٌ في الكيان المُعَمَّدِ بكلمات يسوع وبالروح الذي يهبّ في القلوب لتصبح سماءً أو تجلّياتها، هناك شيءٌ يحتجّ ويرفض أن يستكينَ أمام الوجوه المضروبةِ بالظُلمِ، والدماء المسفوكة على الأرض. شيء ما يخضّه ويعود به بالذاكرة إلى هابيل الذي سفك أخاهُ دماءَه وأبغضه دون سبب. لا يسعُ مَن فتحت عينيه أحرفُ الإنجيل على يسوع أن يُغلقهما عن يسوع الذي قال أنا والمظلوم واحد. لا فصل بين آلام الناس وآلام السيّد الأوحد، سيّد الحبّ الثائر الذي يحضن طعنةً كي لا يُطعن أحد بعد الآن دون احتجاجٍ ومقاومةٍ. سيّدي أتى وقال لي: إقبلني فيكَ كي لا تنامَ نومةَ الموت، وانزل كلّ جحيم لتكسر معي أبوابها، فتُعَمِّد معي الأرضَ بالحبّ لتصبحَ سماءً؛ أعدك أنّك قد تفقد أشياءَك، وأعدك أنّك لن تفقدَ نفسك. المسيح لاجئٌ، وولدٌ حملَ حجرًا، وشابّةٌ دفعت عنها الشرطيّ الذي ضربها، وشابٌ رفع العلمَ، وإنسانٌ قال أنّه يريد الحرّية، قالها بعضوٍ من جسمه مبتور، بصدرٍ مثقوب، وبصرخة جسده تحت الركام. الوقوف إلى جانب حياة الفلسطينيّين هو رفضٌ للظلم وشهادةُ بأنّ حقوق الإنسان هي للجميع، وليست لمجموعة من الناس فقط. هي احتجاج على نفاق الحكومات العربيّة والأوروبيّة والأميركيّة، وهاتان الأخيرتان ترتاحان للخطاب حقوق الإنسان، وتُشيحان بوجهيهما عن الإنسان المسحوق إن كان آخرَ ولم يكن حليفًا أو عبدًا، أي إن لم يكن وسيلةً لتحقيق مصالحها. وفي مكان ما، ترتاح «أخلاقها» للانكسار الفلسطينيّ لأنّه يسمح لها أن تُدْفِقَ العطاءَ الماليّ لتخدّر احتجاجات الضمير على حمايتها لسياسات القتل والعنصريّة لنظام الفصل العنصريّ، وليصبح الشقاء الفلسطينيّ مرآة ترى فيه بِرّها. تمرّدُ الفلسطينيّين الكاملَ شهادةٌ أنّ توق الحرّية لا يمكن أن يُقمَع، ولهذا لا حياة على هذه الأرض لا لاحتلال، ولا لنظامِ فصلٍ عنصريّ اسرائيليّ، ولا لنظام قمعٍ عربيٍّ يقتات بالنفاق. التمرُّدُ الفلسطينيّ يشهدُ لعظمة الإنسان الواقف أمام "الوحش الطالع من الهاوية" والمتسلّح بحقّه بالحياة وبالأرض، يشهد لانتصار «جاورجيوس» القادم. يحتفل المسيحيّون بعيد الصعود بعد شهر، و«صعود يسوع إلى السماء» إشارةٌ أنّ المصيرَ الذي يريده المسيح للإنسان هو أن يسكن الكرامة والنور مع الله. كلّ نشاطٍ يحترم الكرامة الإنسانيّة وهو يعمل في سبيل تحريرها، ونموّها في أضواء الحرّية، ترجمةٌ للصعود. ويحتفل المسلمون بعيد الفطر بعد يوم، ويومًا ما سنحتفل بالفطرِ بحرّية، في عرس سماءٍ وأرضٍ جدّدتهما محبّةُ الحقّ المناضِل، فيُنزِلُ عندها ربّنا علينا مائدةً للحرّيةِ والكرامةِ «مائدةً من السماء تكون لنا عيدًا لأوّلِنا وآخرِنا وآيةً» منه (المائدة، الآية 114)، فنفرح بفلسطين في فلسطين. الثلاثاء ٤ أيّار/مايو ٢٠٢١
خريستو المرّ إنّ حدث القيامة ليس نهاية وإنّما فاتحةُ زمنٍ جديد، فاتحةُ ورشةِ تجديد هذا الكون، تجديد العلاقات البشريّة والعلاقة بين البشر والطبيعة. لم يتجسّد كلمة الله لتنتهي الحكاية، بل لتبدأ، أو بالأحرى ليكتب معنا فصلًا جديدًا فيها، هو فصل تجلّي هذا الكون بتحويله إلى زمان محبّة ومكان محبّة، إلى زمكانٍ ملكوتيّ. تجلّي الكون يعني أن يخلص الإنسان من الخطيئة، أي، حرفيّا، من إخطاءِ الهدف: العيش في وحدة مع الله-المحبّة على مستوى العلاقات الشخصيّة، وعلى مستوى العلاقات الجماعيّة. على المستوى الشخصيّ يجاهد الإنسان طوال حياته كي يتجاوز انغلاقه على ذاته، لكي يلاقي ويهتمّ بالآخرين ونموّهم وانتعاشهم من أجل ذواتهم. لكن ما لم يستوعبه المسيحيّون كفايةً هو أنّهم مسؤولون أيضًا ليس فقط عن خطاياهم الشخصيّة، بل أيضا على الأثر الاجتماعي للخطايا الفرديّة، عن الخطايا الجماعيّة للمجتمعات، هذه الخطايا الجماعيّة لديها أسماء ولربّما يختصرها اسمان: الاستغلال والبطش. يولّد الاستغلال الظلم الذي يظهر في وجوه كثيرة: فقر، مرض، استعباد وظيفيّ... هناك ما يكفي من البراهين العلميّة على أنّ المرض مرتبط مباشرة بمستوى الدخل، هذا أمر معروف في الجامعات منذ عشرات السنوات (للأسف، معرفته محصورة ببعض الاختصاصات)، ومن آخر الأدلّة على ذلك أنّ الإصابات بفيروس كورونا ١٩ تنتشر بشكل أعلى بكثير، وتسبّب الموت بشكل أكبر، في المناطق الأكثر فقرًا في أيّة مدينة. لكنّ مستوى الدخل لا يحدث صدفة، بل هو نتيجة عمليّة استغلالٍ مجموعة من الناس لمجموعة أخرى تشرّعها قوانين. ما الذي يمنع أرباب العمل من أن يعطوا مرتّبات أعلى للعمّال في مؤسّساتهم؟ لا شيء سوى رغبتهم بأرباح عالية، وشعورهم بمشروعيّة تلك الرغبة. لكنّ هذا الشعور بالمشروعيّة يعني مباشرة استغلال يتسبّب بتدمير لحياة الناس وللطبية. علينا أن نعي أنّ تدميرَ الحياة، حياة الناس وحياة الطبيعة، هو لبُّ الأزمة الروحيّة للاستغلال. أمّا البطش، فهدفه تقييدُ الحرّية الإنسانيّة، ولو أمكنه محوها. من ناحية إيمانيّة هذا اعتداء على «جوهر» الإنسان، على «صورة الله» في الإنسان، أي على ما يشبه الله فيه. استعباد الإنسان وتحويله من شخص إلى أداة، إلى شيء، إلى وسيلة، هو قلب الأزمة الروحيّة للتسلّط. حكاية الله مع البشر - بحسب الإيمان المسيحيّ - حكاية حبّ بدأت بالخلق، يخاطب خلالها الله قلب الإنسان علّه يتوجّه إلى قلب الله؛ هي مغامرةٌ يخطب الله فيها ودّ قلب الإنسان، كي يقبل حبّ الله، فيتّحد به ويعبّ من حياة الله الأبديّة حياةً وفرحًا في رحلة من الأغاني التي لا تنتهي. حدثُ قيامةِ يسوع دشّنَ هذه الإمكانيّة، وحمّل كّل مَنْ يريد أن يتبع يسوع مسؤوليّةَ متابعة تحقيق هذا المشروع. لكنّ للمشروع وجهان: واحد شخصيّ حرّ، والآخر جماعيّ لا يمكن تحقيقه بانتظار تآلف كلّ حرّيات الأفراد على هدف واحد، ولذلك لا بدّ لتحقيقه من منع الاستغلال بفرض العدالة بالقوّة، ومنع التسلّط بفرض احترام الحرّية الإنسانيّة بالقوّة. قد يختلف أتباع يسوع في نوع القوّة التي يجب استعمالها: قوّة المقاطعة الاقتصاديّة والسياسيّة والفنّية والأكاديميّة وغيرها، وقوّة التظاهر، وقوّة التنظيم السياسيّ السلميّ؟ أم قوّة العنف إن انتفت كلّ الوسائل اللاعنفيّة؟ أم كلاهما؟ هذا اختلاف ممكن، ولكن ما من مناص من استخدام القوّة والصراع والنضال. يسوع لم يقمْ بهذا العمل، يسوع أشار إلى المبادئ الكبرى التي يجب أن تحكم أيّ عمل (محبّة، احترام الحرّية في العلاقات الشخصيّة، بذل الذات وحمل الصليب من أجل مَن نُحِبّ...)، وأشار إلى أفقِ أيّ عمل (المصالحة بين البشر كأخوات وإخوة)، أمّا ترجمة هذه المبادئ وهذا الأفق في لحم الحياة اليوميّة للأفراد والجماعات فهي المسؤوليّة الحضاريّة المشتركة لأتباعه مع غيرهم من الناس في مجتمعاتهم، ولهم أن يكونوا ملح المسيح في عجينة الحضارة البشريّة وأن يُشعلوا وجوههم من وجهه ليُسهموا باحتضان نور القيامة لفرح الحبّ في برد هذا العالم. |
الكاتبخريستو المر الأرشيف
December 2023
Categories |