خريستو المرّ
الثلاثاء ٢٩ تشرين ثاني / نوفمبر ٢٠٢٢ هناك أكثر من وجه مشترك بين حكم الاتحاد السوفياتي المعادي للدين وبين حكم الدول الدينية، أبرزها التشدد العقائدي المتمثل بمحاولةِ الدولة فرض قناعات على جميع الناس بالقهر. كانت الدولة في الاتحاد السوفياتي (التي طبقت فكرَ رأسمالية دولة أكثر ما طبقت فكراً شيوعياً) متشددة في رؤيتها المعادية للدين، فضيقت على المؤمنين وحاولت أن تمنع الممارسة الدينية بواسطة الدولة وأدواتها. من جهتها، تفرض الدول الدينية تطبيق ممارسات على الناس في مجتمعاتها منطلقة من رؤيتها الدينيةِ المخالفة بالضرورة لرؤى أخرى في الحياة. على السطح تبدو الدولة السوفياتية والدول الدينية طرفين مضادين، ولكن لديهما مقاربة مشتركة: فرض تصرفات اجتماعية انطلاقاً من رؤيةٍ أحادية للعالم. ولكن مقاربة الدول الدينية أدهى، فبينما حصر الاتحاد السوفياتي محاولاته فرض ممارسات على المجال الديني (وإلى حد ما الفني)، تسعى الدول الدينية إلى فرض ممارسات على جميع أوجه الحياة الاجتماعية تقريباً، من المأكل، إلى المشرب، واللباس، والعلاقات الإنسانية، هذا عدا المسموح والممنوع في الفن والفلسفة، وغير ذلك. لا شك أن كل دول العالم تنطلق من رؤية محددة (وأساساً من مصالح الفئات المستفيدة) لكي تُعَلم الأولاد في المدارس مبادئ محددة، ولكن لا تفرض جميعها بالقسر على الناس أن يقوموا بممارسات اجتماعية محددة بناء على رؤية واحدة للحياة. فالكثير من الدول، رغم عللها (العنصرية مثلاً) لا تفرض قانونياً ممارسات محددة على الناس داخل مجتمعاتها، بل تترك لهم أن يعيشوا اجتماعياً بناء على منطلقاتهم الفكرية أو الإيمانية. لا شك أن لهذه الدول رؤية للعالم، ولكنها لا تجبر شعوبها على اتباع شكل محدد للممارسات الاجتماعية؛ وقد تكون دولاً استغلالية وإجرامية بحق شعوب أُخرى لكنها تسمح داخلياً بمساحة حرية اجتماعية مريحة لشعوبها. لا يَسَع لمن يرى الضيق الذي يعانيه كثيرون في الدول الدينية من الشدة الدينية التي تريد فرض رؤيتها للحياة فرضاً على ممارسات المواطنين، والمواطنات خصوصاً، إلا أن يتساءل عما يربحه مطلق أي نظام من هكذا تعسف؟ مهما ساق المتشددون الدينيون، في أية دولة، من حججٍ بضرورة أن يلتزم الإنسان في ممارساته الاجتماعية برؤيتهم الدينية التي يجزمون بصحتها، فما يخفقون في رؤيته هو أن البشر مفطورون على الحرية في شؤون حياتهم وشؤون أجسادهم، وينسون أن تلك الحرية قد خلقها الله لا إنسان. قد يسوق المتعسفون في شؤون الدين ألف حجةٍ لتبيان صحة وجهة نظرهم في التفسير الديني، وينسون أنه لا بد أن آخرين في طائفتهم وفي طوائف وأديان أخرى يرفضونها، وأنه قد يرفضها حتى أتباعهم في المستقبل؛ فكيف، إذاً، يسمح مطلق أي فريق ديني لنفسه من فرض ممارسات اجتماعية قسراً في مجتمعٍ تتعدد فيه التفسيرات حُكماً، وتتعدد فيه الرؤى بالتأكيد لأن ما من مجتمع أحادي في أي مكان، حتى لو كان الناس كلهم فيه من طائفة واحدة؟ كل المتشددين المتدينين سواسية، يريدون أن يفرضوا ممارسات في الحياة الاجتماعية تنطلق من نظرتهم إلى الحياة: ما هو المسموح وما هو الممنوع في اللباس، والمأكل، والمشرب، والفن، والفلسفة، والآراء، وقد خبِرنا ذلك في لبنان لدى المسيحيين والمسلمين. يريد المتشددون أن يتحكموا بحياة البشر وبأساليب التعبير عنها، وهذه لم تكن يوماً واحدة في مطلق أي مجتمع. ينسى هؤلاء أن غيرهم موجود ويريد أن يحيا الآن وهنا، كما هو يشاء لا كما غيره يشاء، وفي هذه الجغرافية التي فيها ولد. ينسى هؤلاء مبدأ أساساً للحياة بسلام: لا يضر الإنسان بشيء أن تضع الدولة قوانين تسمح للناس بأن يتصرفوا بحسب إيمان أو اعتقاد لهم مغاير لإيمان واعتقاد جماعة أخرى، وإنما المهم ألا تضع قوانينَ تمنع جماعةً من ممارسة قناعاتها دينية كانت تلك أم لا دينية. الفرق شاسع بين الأمرين، وفهمه بوضوح مدخلٌ للسلام الاجتماعي. السماح بالتنوع الفكري-الإيماني في الحياة الاجتماعية للشعوب لا يضر أحداً، أما فرض طريقة حياة اجتماعية على الآخرين فهو تعسف يؤسس للنفاق الذي يمكن ملاحظته عبر العالم: مَن يسكن فرنسا أو مقاطعة كيبيك في كندا، يعرف أن القوانين تجبر الإنسانة المسلمة، المقتنعة بوضع الحجاب، أن تخلع حجابها أثناء تأديتها عملها في وظيفة محسوبة على القطاع العام؛ والدول الدينية تفرض على المرأة أن تضع الحجاب ليس فقط خلال تأدية الوظيفة، ولكن في الفضاء العام كله. القوانين المعاكسة لبعضها البعض لها وجه مشترك: عدم احتمال التنوع والإكراه لفرض رؤية أحادية للحياة، إكراهُ إنسان أن يحيا اجتماعياً بحسب قناعات آخرين. النفاق يكمن في أن هناك مَن يرحب بقوانين فرنسا وكيبيك ويناهض تلك التي في دولة كإيران، وكان يصمت عنها في السعودية حتى وقت قريب، وهناك مَن يكره قوانين فرنسا وكيبيك، ولكنه يرحب بالقوانين المماثلة الروح في إيران، وفي السعودية حتى وقت قريب. لب الحكم الأيديولوجي المتعسف، أكان دينياً أم لا، هو أن يفرض قوانين تجبر الناس على التصرف في حياتهم الاجتماعية بحسب رؤيته هو للحياة، بينما احترام البشر والحكمة يقتضيان أن تسمح الدولة للجماعات المختلفة في شعبها الواحد بأن تحيا قناعاتها في الفضاء العام كما تشاء، من دون أن تُجبِرَ إحداها الأخرى على ممارسة. هكذا يحيا كل إنسان وكل جماعة كمواطنات ومواطنين في دولة تسمح لهم بأن يحيوا كما هم في الحقيقة من دون تزوير، وكل عاقل حكيم، كما كل مَن يهتم فعلاً لا شكلاً بعلاقة الإنسان بالله، يعلم تماماً أنه ما من قيمةٍ لتصرف مزور لا في العلاقة بين إنسان وإنسان، ولا في العلاقة بين الإنسان والله. خريستو المرّ
السبت ١٩تشرين ثاني / نوفمبر ٢٠٢٢ كلّ مَن يحاول أن يبني عملًا سياسيّا إنسانيًّا يخدم المصلحة العامّة في عالمنا العربيّ، يواجه أبعادًا لاعقلانيّة في عمله ينبغي أن يكون واعيًا لها. ما من عقلانيّة تقول بأن ينتخب الناس في لبنان القادة الذين أودوا بهم إلى الهاوية. وإن كان القادة السامّون في السياسة والدين قد أودوا ببلادنا إلى تشظٍّ اجتماعيّ لم نعرفه قبلًا، فإنّ التعلّق الشعبيّ الطوعيّ بهؤلاء يحتاج لفهم لأنّ له منطقه رغم لاعقلانيّته. لدى كلّ إنسان حاجات أساس كالحاجة إلى الطعام والشراب والانتماء إلى جماعة، والأمان، والاعتبار الذاتيّ. والحاجة بالانتماء قد تعلو عن الطعام والشراب، إذ يمكن للإنسان أن يستغني عن شيء من طعامه وشرابه (أو حتّى عن كلّه)، ولكنّه لا يستطيع أن يستغني عن انتمائه إلى جماعة، وهو حتّى إذا خرج عن جماعته بشكل كامل (وهو أمر جدّ نادر) فإنّه يحتاج لا محالة إلى الانتماء إلى جماعة أخرى تؤمن بما يؤمن به. حتّى الأنبياء في مخالفتهم للجماعات التي نشأوا فيها كانوا يشعرون بأنّهم ينتمون إلى جماعة عابرة للعصور تنتمي إلى الخطّ نفسه، وهذا الشعور ما زال يحفّز كلّ مؤمن ناطقٍ بحقٍّ في مخالفة لانحرافات جماعته الإيمانيّة. هذه الحاجة إلى الانتماء تزداد في عالم متغيّر وغير ثابت، والتغيير والثبات هما ميّزتا العالم الحيّ، الثبات هو بالفعل رديف الموت على هذه الأرض. هكذا فالحاجة إلى الانتماء تتضاعف في زمن كزمننا حيث التغيّرات تُعْمِلُ قتلًا وتدميرًا حول العالم وتهدّد وجودنا كبشر على هذه البسيطة، والاستعمار يتكالب علينا من كلّ حدب وصوب، والديكتاتوريّات تنهال علينا بالتحكّم والتحريم والتحليل، مع جرعة من فرص اللهو والتسلية أحيانًا. في ظلّ ظروف كهذه ، يتصاعد القلق والشعور باللاأمان، ولهذا قد تدفع الحاجةُ للانتماء إلى جماعة، والشعور بالأمان في حضنها، الإنسانَ إلى التعلّق بأيّ شيء مؤكّد ويقينيّ، أو تبدو عليه مظاهر الثبات واليقين، وقد يبتدع الإنسان أمام قلقه من اللايقين، يقينيّات مختلفة، منها اليقينيّات الدينيّة الطابع، وهي اليقينيّات الأسهل والتي كلّما كانت أكثر أصوليّة كلّما أعطت شعورًا أكثر حدّة بالثبات والأمان؛ ومنها اليقينيّات الثقافيّة الطابع، كشبكة العلاقات والهويّات والنشاطات، والانتماء إلى جماعة الزعيم المفدّى، والمواعيد الثابتة لظهوره على شاشة التلفاز (يوميّا، أو في مناسبات معروفة)، والأعياد الوطنيّة السنويّة، والانتخابات بمواعيدها الثابتة. والانتماء للقائد يتعاظم كلّما كان القائد يَعِدُ باليقين: يقين في العقيدة، يقين في شرح المشاكل، يقين في الحلول المطروحة، يقين في الهويّة، يقين في رِفْعَة الانتماء إلى مشروعه الوطنيّ أو الإلهيّ، يقين في حكمته. أكثرنا قد يضحّي بفرادته وحرّيته من أجل اليقين في ظلّ قادة يصوّرون أنفسهم بأنّهم «أقوياء» ثابتون، وفي قلب جماعات نتخيّل دائمًا أنّها ذات ماضٍ «ذهبيّ» ومجيد. تشبّث الناس بالقائد المتسلّط و/أو الفاشل ليس كلّه كذب ونفاق نتيجة الخوف. مهما تقلّب القادة وفشلوا فإنّ أكثرنا مستعدّ لأن يوجد لهم التبريرات حتّى قبل أن يوجدوها هم لأنفسهم، فقط للحفاظ على هذا اليقين ودرء قلق اللاأمان. أكثرنا مستعدّ لأن يبني بيديه الأساطير حول القادة الذين أودوا بهم إلى الهاوية، فقط من أجل تلبية حاجاته الإنسانيّة إلى الانتماء، والشعور بالأمان، والشعور باليقين، كما وشعوره بالتقدير الذاتيّ، وبفهم ما يجري حوله من أحداث. بالطبع، كلّ تلك التلبية للحاجات هي تلبية وهميّة لأنّها تأتي عن طريق اختراع واقع وهميّ، وتعلّق بأوهام، واستقالة من المسؤوليّة الشخصيّة؛ بينما التلبية الحقيقيّة لهذه الحاجات المشروعة تأتي عن طريق فهم الواقع ومحاولة تغييره. من التضارب الإنسانيّ أنّ الإنسان الذي يتوق إلى الحرّية مستعدّ أن ينحر حرّيته مقابل الاستعفاء من القلق واللايقين المرافق لكلّ شعور بالمسؤوليّة الذاتيّة عن المصير. تعدّد جان ليبمان بلومان في كتابها «جاذبيّة القادة السامّين»، ستّ أساطير يبنيها الأتباع حول القادّة، ونقدّمها هنا بخلاصة مطبوعة بقراءتنا الشخصيّة لمجتمعاتنا العربيّة. الأسطورة الأولى تُبنى حول الزعيم الخارق شبه الإله الذي يعلم ما لا نعلمه والأقوى منّا والأقدر (تلبية الحاجة إلى الحماية)، والذي يعمل لمصلحتنا في الظروف الأصعب (الحاجة إلى الانتماء والمحبوبيّة). الأسطورة الثانية تشدّد على خطر مخالفة القائد، وتقول بأنّ القائد مختار من الله، أو من الأقدار، في مخالفته مخالفة للإيمان أو للأخلاق، وفي طاعته الأمان (الحاجة إلى الأمان، الانتماء، والمحبوبيّة)؛ وفي حالة الخسارة أو الفشل فإنّ الاطمئنان يأتي من التضحية في سبيل المبدأ المشترك الأعلى، إن كان الله أو التاريخ. الأسطورة الثالثة تتمحور حول الخوف من مخالفة القائد، وهو خوفٌ من خسران مصادر الرزق (حاجات جسديّة، وحاجة إلى الأمان والانتماء)، فالقائد في النهاية لديه شبكات توزيع منافع، ولو أنّها جزءٌ بسيطٌ ممّا يخسره الناس جرّاء قيادته. الأسطورة الرابعة تقوم على أنّ الأمور ثابتة، لا يمكن أن تتغيّر، وأنّ القيادةَ هي جزء من وجود القائد تقليديّا وثقافيّا، واتّباعَهُ جزءٌ من التقليد (حاجة إلى الأمان، والانتماء). أمّا الأسطورة الخامسة فتعتبر أنّ وجودَ القائد نعمةٌ، لأنّه يرفع عن الناس المسؤوليّة الجسيمة عن تقريرهم لمصيرهم طالما هو يقدّم لهم مصادر الرزق والحماية (الحاجة إلى أمان). وأخيرًا، فالأسطورة السادسة تَعِدُنا بالانتماء إلى جماعة القائد فهي جماعة ذات مشروع بطوليّ متميّز نبيل يتطلّب التضحية، والانتماء إليها يجعلنا نبلاء، وأبطالًا، ومتميّزين، وهو ما يلبّي حاجتنا إلى الاعتبار والإنجاز (الوهميّين طبعًا). لا يهمّ نفسيّا إن كانت تلك كلّها أساطير والحقيقة مجافية لها، فكلّها وسائل لهروب أكثرنا من أمر واحد: مسؤوليّة الحرّية. الحرّية أمر صعب وتترافق مع تعب وقلق ومواجهة وتتطلّب شجاعة شخصيّة، لكنّ أكثرنا «يعيش» الشجاعة بتأمّل صورة جماعته في مرآة القائد. الحاجات التي عدّدناها حقيقيّة ومشروعة، لكنّ الطريق إلى تحقيقها ينبغي ألّا يكون وهميًّا. الخلاص الحقيقيّ من كوارثنا لن يأتي من الأساطير، وإنّما من تحمّل مسؤوليّة الحرّية التي منحها الله للبشر لكي يكونوا مسؤولين، فيجتمعون على البِرّ، ويتفكّرون في سُبُل تغيير هذا العالم، بدءًا من بلادهم، ليكون «على حسب قلب الله»: مكانًا لبناء الأخوّة والإنسانيّة والمشاركة، وللدفاع عنهما. الطريق إلى الحرّية الحقّة طويل وبابها بابٌ ضيّق، ولكنّ الحرّية تاج كرامتنا الإنسانيّة تستحقّ أن نطرق من أجلها الطريق الطويل وأن نلج الباب الضيّق. خريستو المر
الثلاثاء 15 تشرين الثاني 2022 دور القائد أمرٌ ملتبس، وهو يتعلّق أساسًا بممارسة سلطة على آخرين. كلمة السلطة في جذرها اللاتيني مرتبطة بالزراعة، وتتعلّق بعملٍ ينمّي شيئًا. هدفُ السلطة الحقّة هو أن تنمّي الآخر. ولكن أن تنمّيه نحو ماذا؟ السلطة الحقّة تنمّي الآخر ليصبح ما هو عليه بالطاقة، كما أنّ سلطة الزارع تعتني بالبذور والأغراس كي تنمو تلك إلى مآلاتها، منها ما يُصبح الأثمار ومنها الخضار وغير ذلك. الإنسان أيضًا ينمو ليصبح ما هو عليه بالإمكانيّة. كلّ إنسان لديه إمكانات مشتركة تعود للجنس البشريّ برمّته، وإمكانات خاصّة تعود لفرادته، ولهذا كلّ إنسان يحتاج لنموّ قدراته المشتركة مع كلّ الجنس البشريّ، من جسم-عقل-نفس، تحتاج لطعام وشراب وعاطفة وتعليم وعمل وغير ذلك؛ كما ويحتاج إلى نموّ فرادته، فإمكاناته الفريدة ليست مجرّد مواهب خاصّة (قدرة على الغناء، التعليم، صناعة الخبز، مثلاً)، فهذه قد تكون مشتركة مع عدد كبير من الناس؛ وإنّما إمكانيّاته الفريدة هي طريقته الخاصّة الفريدة في عيش تلك المواهب والتعبير عنها من خلال شخصيّته الفريدة، وهذه الشخصيّة الفريدة تُعاش وتُصقَلُ بحرّيته الشخصيّة. إنّ مطلق أيّ سلطة لا يمكنها أن تكون حقّة، وعقلانيّة بالمعنى الواسع للعبارة، إلّا إن سعت إلى تنمية طاقات الإنسان المشتركة مع غيره، كما تلك الفريدة لشخصه، بحيث ينمو الفرد إلى إمكاناته التي هو عليها، وهذا لا يمكن أن يكون إلّا في بيئة من الحرّية، إذ وحدها الحرّية تسمح للفرادة بأن تنمو معبّرةً عن نفسها بشكل أصيل غير مزوّر. السلطة اللاعقلانيّة أو السامّة هي تلك التي لا تخدم أن يكون الإنسان ذاته، بل تحوّله إلى مُلحق لأهدافها، فتجعله وسيلة لا غاية، وتعرقل نموّه نحو تحقيق فرادته، قد تعطيه الطعام والشراب ولا تسمح له بأن يكون ذاته. لبّ فساد السلطة القاهرة هو أنّها تعرقل نموّ الإنسان، وفي عرقلتها تسعى لتشييئه. وفي مسعاها السامّ هذا تولّد الدمار في الآخرين وفي للمجتمع. يمكن لكلّ سلطة، دينيّة كانت أم سياسيّة أم اقتصاديّة، أن تكون لاعقلانيّة سامّة. ويمكن لكلّ شخص منّا أن يذكر أمثلة من واقعه التربويّ أو السياسيّ أو الاقتصاديّ أو الاجتماعيّ أو الدينيّ لشخصيّات سامّة. وللشخصيّات السامّة عدّة شغلٍ تقوم على أدوات تهدف إلى تكبيل الحرّية وخلق الأتباع. تشرح جان ليبمان بلومان "جاذبيّة القادة السامّين"، أنّ القادة السامّين يفخّخون قدرة المحيطين بهم عن الاستقلال عنهم، ويهمّشون كلّ معارضة لهم، أو يحيّدونها أو يقتلونها. وهم عندما يدوسون عمليّا على حقوق الخاضعين لسلطتهم، يقنعون هؤلاء بأنّهم لا يستطيعون شيئا من دونهم (من دون القادة)، مصوّرين أنفسهم على أنّهم يمتلكون قدرات خارقة وعظيمة. وللوصول إلى هذا التحكّم، يلعبون على مخاوف أتباعهم لخنق أيّ عمليّة نقد، ويروّجون لـمُثُلٍ عُليا مفرّغة من مضمونها، فيصبح الامتثال الكامل للقائد عوض مساءلته فضيلة تُدعى الطاعة، وفي حالة السلطة الدينيّة يُعطى مفهوم الطاعة بُعدًا دينيًّا إيجابيّا خلاصيًّا بحيث يصبح الخضوع المطلق الـمُسَمّى زورًا "طاعة" (واللفظة لا في جذورها اللاتينيّة لا تعني سوى الإصغاء) ويغيبون عمق الطاعة ألا وهو الإصغاء لكلمة الحقّ ونبذ الباطل. ويضلّل القادة السامّون الأتباع من خلال الكذب المقصود، والتشخيصات الخاطئة للتحدّيات الحقيقيّة، ثمّ الإيحاء بأنّ السلطة تعرف ما لا يعرفونه. وهنا تكمن عند الخاضعين لسلطة القادة عمليّة تبرير لخضوعهم لا تتوقّف مبنيّة على معرفة للقادة لا يملكونها. وتضرب السلطة السامّة أيّ بنية ملموسة لإحقاق عدالة، أو لتبيان حقيقة، يمكن أن يلجأ إليها الخاضعون لسلطتهم، طالما المعرفة الكاملة للحقائق والظروف غير متاحة سوى للقائد. هكذا، يتمّ رويدًا رويدًا بناء نظام قمعيّ، وضرب أيّ آليات لمساءلة القيادة، أو للتفكير بتغييرها. فالاتّكاليّة تسود بعد اقتناع الخاضعين للسلطة السّامة بضعفهم وبتفوّق القيادة الصحيح أو الوهميّ. ويمتنع القادة السامّين عن وضع أيّة آليّات لخلافتهم، وعن إنماء روح القيادة في المجموعة، فإذا بالفوضى تعمّ بعد تنحّيهم عن القيادة لسبب أو لآخر. وتسعى القيادة السامّة إلى تحريض الأتباع على بعض لكي يستتبّ لها أن تكون الملجأ للجميع فتكون "الحَكَم" في الخلافات التي تشجّعها، والملجأ "الحكيم" للجميع. ولضبط العصبيّة تسعى القيادة السامّة إلى معاملة الخاضعين لها بشكل جيّد، وتحرّضهم كي يخافوا أو يكرهوا الآخرين المختلفين. وعند فشل سياسات القادة السّامين وتضرّر الأتباع من جرّاء ذلك، يسعون إلى خلق كبش محرقة (من الآخرين عادة) والتحريض عليه، لتحويل غضب الأتباع. ويتّبع هكذا قادة سامّون سياسة معروفة لا تفاجئ أحدًا، ألا وهي ترقية أناس عديمي الكفاءة يعلمون تمامًا عدم كفاءتهم وأنّهم لا يمكنهم بكفاءتهم الذاتيّة أن يحوزوا على ما يوازي فتات السلطة والمال الذي يحصلون عليه جرّاء خضوعهم المطلق للقيادة السامّة، ولذلك يسعون دائما إلى استرضاء تلك القيادة بالمزيد من الخضوع والاستزلام حتّى ذاك غير المطلوب؛ ويتناسخ الخضوع من المحيطين بالقائد إلى المحيطين بهم، وهكذا دواليك في سلسلة معروفة من الخضوع للأقوى والتسلّط على الأضعف. نهاية الأمر، بيئة سياسيّة اقتصاديّة اجتماعيّة دينيّة تُعمل هدمًا في الشخصيّة الإنسانيّة، بيئةٌ لا تناسب الإنسان كي ينمو نحو ما يمكنه أن يكون عليه لأنّها بيئة تنفي الحرّية، وهي شرط نموّ الفرادة. ومن وجهة نظر إيمانيّة، لبّ هكذا سلطة سامّة هو عبادة الإنسان لذاته، وعبادة الخاضعين لصنم القائد، وتكبيل لهِبَةِ الحياة التي منحها الله للبشر، ولهِبَة الحرّية، تاج الكرامة الإنسانيّة، تلك الحرّية التي تشكّل لبّ ما يجعل من كلّ منّا إنسانًا فريدًا. وبالنسبة إلى الإيمان فهذا أمر جدّ حسّاس، فالمؤمنون والمؤمنات يرون الحقّ في وجه الله، ولذلك فَهُم يرون السلطة حقّةً إن خدمت نموّ الإنسان الآخر لأنّ كلّ إنسان هو على «صورة» الله المحبوب، كما تقول المسيحيّة، وكما أقرأ رمزيّا في العبارة الكريمة "الخلق كلّهم عيال الله". تكون السلطة حقّة عندما تكون قريبة من الله، وتكون قريبة منه إن كانت خادمة لنموّ الإنسان، ذلك أنّ "أحبّهم إليه أنفعهم لعياله" وما من نفع أفضل من أن ينمو الإنسان إلى ملء ما هو عليه بالإمكانيّة. خريستو المرّ
الثلاثاء 8 تشرين الثاني 2022 إنّ الاستعمار الداخليّ (أو الـمُدَخْلَن) أدهى وأفدح من الاستعمار الخارجيّ المسلّح بأدوات الحرب التقليديّة، فهو حاضر بسلاسله وقضبانه على مستوى النفس، وينعكس في الرؤية والأفكار التي ننتجها. على فوائدها «التقنيّة»، فإنّ المدارس الأجنبيّة والأدب والفلسفة الأجنبيّين، ساهمت في استلاب الإنسان وتغريبه عن واقعه، إذ أسكنت في عقله ونفسه أنّ أوروبا وأميركا الشماليّة شبيهتان بأدبها وفلسفتها وأنّ تيْنك المنطقتين هما معيار كلّ شيء، وجعلته يعرف عنهما أكثر ممّا يعرفه عن تاريخ منطقته وحاضره. بالإضافة إلى هذا الاستعمار الداخليّ فإنّ بُعد الناس عن حركات نقابيّة وازنة وحركات تحرّر، إمّا بسبب القبضة الحديديّة لأنظمة الطغيان، أو بسبب انكفاء معظم الناس خلال الحروب الداخليّة عن العمل العام، ترك معظمنا في حالة انسحاب عن العالم، مهتمّاً بقضايا فرديّة أو عائليّة متوهّمين أنّ العائلة بنية قائمة بشكل مستقلّ عن محيطها ولا تتأثّر به. أمّا الإنسان الذي على شيء من التمسّك بقيمته كشخص فاعلٍ في الحياة فيفعل الممكن – والممكن في أنظمة التعسّف ضيّقٌ بحدود الكلام – فيقول الأشياء «الكبرى» عن الثورة الفرنسيّة، والأميركيّة، وعن الحرّية، مسحوراً بتلك الثورات وأبطالها وقد يعرّج على غاندي ومانديلا بعد أن أصبحا محترمين في الغرب. يحيا ذاك الإنسان غريباً بشكل شبه كامل عن تاريخ منطقته وواقعها، ولهذا يغيب عن حديثه أيّ نقدٍ (حتّى ولو كان مسموحاً) عن أوضاع الاستغلال، والاستغلال في بلادنا له اسم وهو الرأسماليّة، ولكنّ الرأسماليّة أمرٌ محبوب ومفروغٌ من أمره في بلاد الغرب، ولهذا فنقدها لا يمكن أن يخطر في باله. كما يغيب عن حديثه اليد الطولى للدول الأوروبيّة والأميركيّة في زرع إسرائيل وحمايتها، وواقع إسرائيل كقلعة استعماريّة متقدّمة لأوروبا وشمال أميركا لفرض سياسات الاستغلال على أهل المنطقة وإخضاعهم لمصالح المستعمِر. هكذا، نلاحظ أنّ الاستعمار الخارجيّ أصبح داخليّاً بحيث عطّل وعي وجوده، إذ لا يرى جلّ مثقّفينا وكتّابنا وصحافيّينا وشعبنا، في دول الاستعمار المستمرّ، إلّا أفضل ما أنتجته شعوب تلك الدول من كتّاب وأُدباء وفلاسفة، وثورات بعيدة جميلة الطيف، والديموقراطيّات الأجمل بلا شكّ من قبح الأنظمة الشموليّة ومن التعذيب في السجون (وهو تعذيب لا تمانع الديموقراطيّات بممارسته بحقّنا أثناء احتلالاتها). ما يغيب عن الوعي هو أنّ هذه الأنظمة الجميلة لسكّانها من الطبقة الميسورة والوسطى، هي وحشيّة في ما يخصّ الطبقة الفقيرة فيها، وأكثر وحشيّة في ما يخصّ شعوبنا وأيّ شعب آخر خارج أوطانها (استغلال، سلب، قتل، تشريد وحروب)، وأنّها تدعم بدون شكّ الأنظمة الشموليّة التي يكرهها أيّ عاقل، وأنّها بالتعاون والتكافل الواقعيّ مع حكّامنا تستغلّ ثرواتنا، وأنّها زرعت إسرائيل قاعدةً عسكريّة بيننا لتتمكّن من الاستغلال. لهذا، يغيب عن المثقّف الـمُعجَب بالثورات الداخليّة لشعوب بلاد الاستعمار، والتي تمّت فيها اغتيالات وحتّى قتلٌ للأبرياء، أيّ إعجاب أو تعاطف مع مَن يقاوم المشروع الاستعماريّ في بلاده، وكيف له ذلك وهو لا يرى أصلاً مشروعاً استعماريّاً يهاجم أهل هذه المنطقة، وإنّما بلاداً متحضّرة أفضل من بلاده، كيف له ذلك وهو لا يعلم -أو لا يريد أن يعلم- أنّ هذا الأفضل مبنيّ على بحيرة من دماء أجداده ومواطنيه، وأجداد ومواطني بلاد الله الواسعة (أفريقيا لا تزال تحت الاستغلال حتّى اليوم من فرنسا وغيرها). وكيف يمكنه أن تكون له رؤية كهذه، وهو أصلاً لا يرى -أو لا يريد أن يرى- أنّ بلاد الغرب السعيد تنهبه، وتقمعه، وتضحّي به، وبمستقبله، على مذبح أرباح شركاتها؟ إنّ وعي واقع الدول الغربيّة ودورها الوحشيّ في تدمير كوكبنا وشعوبه أساسٌ لكي نفهم أنّنا في حالة حرب علينا، وأنّنا لم ننته من الاستعمار بعدُ، وأنّ مواجهته ضرورةٌ لمن يؤمن بإله أو بفلسفة إنسانيّة. عندما يغيب الوعي يتحيّد حتّى الإيمان ومطالبته اللجوجة بمواجهة الظلم. مَن لا يرى واقع ظلم الخارج إلى جانب الظلم الداخليّ ويقاومه، يتضاءل حظّه في مقاومة الظلم الداخليّ، لأنّ ذاك الخارجيّ ضالعٌ في الظلم الداخليّ. أمّا مَن لا يرى واقع الظُّلمِ الداخليّ إلى جانب الظلم الخارجيّ ويقاومه، فقد بات حليفاً عمليّاً للظلم، واختلف فقط على هويّة الظالم. مواجهة الواقع تبدأ بالوعي، والوعي يتطلّب أن نعرف أنّنا نتعرّض لعُنفين وليس لعنفٍ واحدٍ: عنف الظلم الداخليّ وعنف ظلم الاستعمار. |
الكاتبخريستو المر الأرشيف
December 2023
Categories |