خريستو المرّ
الثلاثاء ٣٠ حزيران/يونيو ٢٠٢١ "إنّ اسم استفانوس [أوّل شهداء المسيحيّة] يعني «التاجَ»، «الاكليلَ الامبراطوريّ». موت استفانوس شهيدًا، يعني، في ما يعنيه، إلقاء كلّ تاج وعرش وكرسيّ أمام أقدام المعلّق على الصليب"(نقولا أبومراد) يوم الأحد الماضي وخلال لندوة رقميّة حول كتاب «مع المسيح في جحيم هذا العالم» علّق الصديق د. أسعد قطّان ومن ضمن تعليقه أشار إلى قلق الشاعر الذي يتحسّسه من خلال كتاباتي، وأجبت ما معناه أنّ أحد أسباب هذا القلق هو التضارب الذي أراه بين المسيح المحرِّر وخيانتنا لرسالته باسمه بالذات. ولا شكّ أنّ الجزء الثاني من عنوان الكتاب «نصوصٌ في محوريّة الإنسان» هو مفتاح لفهم المعنى الملموس للإيمان بيسوع المسيح مصلوبًا نازلا إلى الجحيم ومحرّرا الموتى من براثن الموت بالقيامة: المسيح حرٌّ ومُحَرِّر، الإنسانُ مُقدَّس إن كان المسيح قدّوس. العمل على تحرير الإنسان من الموت: موت الظلم والقهر، وموت الاستغلال، وموت العزلة، ليكون قائمًا في الكرامة البشريّة ومحقّقا كمل صورة الله في ذاته، منذ الآن، وهنا على هذه الأرض، هذا ما أعتقده معنى المسيحيّة وهو أحد محرّكات قلقي ودافعي للكتابة. وقد قرأت يوما من انتقد دفاعي الدائم عن الحرّية الإنسانيّة، إنّ دفاعي الدائم هذا هو نتيجة قناعتي بأنّ إيمان المسيحيّة بأنّ الله محبّة وبأنّ الإنسان على صورته يعني مباشرةً بأنّ لا تحقيق لإنسانيّة الإنسان دون أن يصبح محبّة على مثال الله، وأنّه لا محبّة دون حرّية، وبالتالي ومن وجهة نظر لاهوتيّة بحتة، يصبح تحقيق الحرّية شرطًا لتحقيق إنسانيّة الإنسان، لأنّه لا محبّة بذهنيّة عبوديّة. وبتعبير آخر لا معنى للإيمان بدون حرّية. والسبب الآخر لهذا التشديد الدائم هو انتهاك السلطات الدينيّة للحرّية الإنسانيّة في الكنيسة عبر تعليم وتصرّف يسعى لقولبة الإنسان والتسلّط عليه بالإغراء بالمناصب أو بالتهديد بلقمة العيش أو بالتعليم المشوَّه الذي يسعى للتسلّط على الناس والتحكّم بضمائرهم، ولا شكّ أنّ هذا التسلّط الكنسيّ يضاعف الضغط على حرّية الناس التي تعاني أصلا من ضغط السلطات السياسيّة والاقتصادّية. الحرّية تكمن باختصار بالقدرة على قول "لا" لأنّه عندها يمكن لكلمة "نعم" أن يكون لها معنى؛ نفسيًّا ولاهوتيّا لا معنى لمحبّة إن كانت قسريّة. هذه الحرّية مفقودة في بلاد القهر في سوريا وفلسطين ولبنان والعراق وغيرها من بلدان العالم العربيّ. ولكن ما هو غامض هو أنّ الحرّية لا تكتمل أيضًا دون اكتفاء مادّي، دون عدالة اقتصاديّة، فحرّية إنسان لا يملك أن يأكل هي شبه معدومة. من هنا أيضًا، تأكيدي الدائم على أنّ التشديد على حرّية التعبير دون العدالة الاقتصاديّة خطأ كبير وقاتل، قاتل مادّيا (بسبب الأمراض الناتجة عن الفقر) وقاتل روحيًّا لأنّه يُبقي على أشكال من العبوديّة والأَسْرِ التي تنتهك الكرامة البشريّة. الأمر الآخر في الندوة كان بروز حوار حول دور التربية في بناء شخصيّة إنسانيّة تحترم الإنسان والآخر. لا شكّ بدور التربية في بناء الشخصية، ولكنّ ذلك غير كافٍ، لأنّ العلوم الإنسانيّة برهنت بما لا يرقى إليه الشكّ على دور النُظُم والبُنى في التأثير على فكر وتصرّفات الإنسان. فإن كان النظام طائفيّا في كلّ نواحي الحياة فإنّ ضغوط النظام المستمرّة والمحيطة بشكل دائم بالإنسان تؤثّر في أفكاره وتصرّفاته وتغيّر إلى حدّ كبير أثر التربية. من هنا فإنّ ما أودّ قوله في جميع كتاباتي أنّ التشديد على التربية والمسؤوليّة الشخصيّة لا يكفي ويجب أن يكمّله السعي لتغيير الأنظمة والبُنى السياسيّة والاقتصاديّة. إنّ كلمة الصديق د. نقولا أبو مراد النبويّة فوق توضح بأنّ الشهادة ليسوع لا يمكن إلّا بتحويل السلطة لتكون خادمة للإنسان؛ أي، بقراءتي، بتحويل نوع البُنى والأنظمة والسياسات. الشهادة ليسوع شهادة تحرير للإنسان ودفاع عن كرامته، بتحطيم تاج الظلم وتيجان الاستغلال. الكارثة الروحيّة عند المسيحيّين هي غياب القيادة وخفوت صوت التيّارات النبويّة، فترى الغالبيّة الساحقة – وكم أرجو أن أكون مخطئًا - إمّا ينسحبون من الشأن العام وينكفئون هاربين من مسؤوليّة الحياة والإيمان بالطقوس (وبعض هؤلاء ينجذب لتيّارات أصوليّة)، أو صامتون متردّدون راضخون للواقع بشيء من الجبريّة، وإن تدخّلوا في الحياة السياسيّة فهم يتدخلّون للهتاف للمرتكبين والرعاع والمستبدّ والمستغلّ والطائفيّ. هذه الكارثة تتفاقم مع مرّ السنين ولا يبدو لي أنّه سيكسرها سوى عمل روحي «ثوريّ» داخل الكنائس، ثوريّ لأنّه يكسر نمطيّة الكلام المنمّق والخطابات البليدة والمشاريع المنغلقة عندما ينفض الغبار عن كلمات الإنجيل لتضيء نارًا ونورًا على واقع الحياة اليوم. وعندها يعمل المسيحيّون كمواطنين مع مواطنيهم في الشأن العام، بنفسٍ إنجيليٍّ ينفخُ ريحَ الحرّيةِ والكرامة البشريّة. في هذا المجال لا يمكنني اليوم إلّا أن أذكر الشعب الفلسطينيّ في صراع تحرّره المستمرّ من أجل العيش الحرّ من الاحتلال والعنصريّة والاستغلال، والحرّ من البطش الداخليّ، ويثلج القلب ما جاء في بيان "شباب فلسطينيّ مسيحيّ" صادر عن منظّمة كايروس-فلسطين التي تمثّل الكنائس الفلسطينيّة يعلن فيه الشباب أنّنا "نعترف بذنبنا ونتوب عن سلبيتنا وتقاعسنا وعدم تضامننا مع أولئك الذين عانوا أسوأ ما في القمع الاستعماري في الأحداث الأخيرة وعلى مر السنين. لقد فشلنا في أن نكون ملحًا ونورًا في الأرض، وبالتالي نتوب عن تجاوزاتنا بالتزامنا بالعمل. لقد أظهر أولئك الذين يشغلون مواقع سلطةٍ في مجتمعاتنا، أوجه قصورٍ كبيرةٍ في تصريحاتهم وأفعالهم فيما يتعلق بالظلم المستمر المرتكب. نحن نرفض الوقوع في فخ المساواة بين العنف والهيمنة اللذين يرتكبهما النظام، وبين عنف المظلوم الذي يردّ على النظام. إن عدم اتخاذ موقف حازم وصادق ضد الأنظمة الظالمة ومحاولة تبنّي الحياد من خلال إدانة جميع أشكال العنف هو ببساطة إما دليل جهل أو دعمٌ متعمد من الأقوياء". كلام نبويّ إنجيليّ يستطيع أن يتعلّم منه اللبنانيّون والسوريّون والعراقيّون الكثير. خريستو المرّ الثلاثاء ٢٢ حزيران/يونيو ٢٠٢١ احتفلت الكنيسة الأرثوذكسيّة بعيد العنصرة يوم الأحد الماضي. والعنصرة ذكرى نزول الروح القدس على التلاميذ بعد خمسين يوم من قيامة المسيح وصعوده. يُخبِرُ الكتاب عن العنصرة باقتضاب فيرد فيه "ولمّا حضر يوم الخمسين كان الجميع معًا بِنَفْسٍ واحدة، وصار بَغْتَةً من السّماء صوت كما من هبوب ريح عاصفة وملأ كلّ البيت حيث كانوا جالسين، وظهرت لهم ألسنة منقسمة كأنّها من نار واستقرّت على كلِ واحد منهم. وامتلأ الجميع من الرّوح القدس". المسيح حاضر بكلمته في الانجيل وحاضر بروحه في الأسرار الكنسيّة، ويمكن القول أنّنا نحيا في مرحلة يبرز فيها عمل الروح القدس الذي أرسله الابن ليكمل العمل الخلاصيّ، أي ليجمع أبناء الله المتفرّقين إلى واحدٍ في قلب الله، في ملكوت الحبّ؛ حتّى يملك الحبّ في القلوب، فنتلألأ بالفرح إذ نصير حبًّا. "كان الجميع بنفس واحدة". هناك وحدة عضويّة تجمع المؤمنين بحيث يعيشوا متعاطفين متحسّسين لبعضهم البعض، خادمين لبعضهم البعض. لا يُقصَدُ من هذا العيش النموذجيّ أن يكون منغلقا بحيث لا تتعاطف الجماعة إلّا على بعضها، وإنّما المقصود منه أن تكون هناك بيئة يتربّى فيها الإنسان على التعاطف والتعاضد لكي يصبح إنسانًا مُحِبًّا أينما كان، مع كلّ إنسان. ليس من "داخل" و"خارج" أمام المحبّين، فالمحبّة لا يمكن أن تنغلق وإلّا خانت نفسها، وكفّت عن كونها محبّة. لا يحبّ الإنسان من يشبهونه فقط عائلةً وطائفةً ودينًا ووطنا وقوميّة ولغة، وإنّما يحبّ حقًّا إن كان الحبّ أصبح عنده طريقة حياة. العاطفة المنغلقة على جماعة ما هي سوى نرجسيّة تحوّل الجماعة إلى مرآة تغرق فيها الذات فتختنق. إن كانت الجماعة المسيحيّة "نَفْسًا واحدةً" فلا تصبح وحدتها حبًّا إلّا إن صارت نَفْسًا واحدة مع البشريّة جمعاء، ومع الخليقة الممتدّة خارج البشريّة. الأمر الآخر الذي طالما ذُكِرّ دون أن نذهب في معناه إلى نهايته، هو أنّ نزول الروح القدس لم يكن بشكل جماعيّ وإنّما أعطى الروح نفسه بشكل ألسنة ناريّة استقرّت على كلّ واحد من المجتمعين. في قلب "النفس الواحدة" التي بدا عليها الجميع، كلُّ إنسان فريدٌ، كلّ واحد مهمّ بحدّ ذاته. لي بالذات ولك بالذات أَعطى الروحُ القدس ذاته. في قلب العلاقة الجماعيّة للجماعة المؤمنة مع الله، هناك علاقة شخصيّة فريدة لكلّ واحد مع الله، ويسوع كان قد سبق فقال أنّه كراعٍ صالح "يدعو خرافه بأسمائها"، أي يدعوها شخصيّا، يعرفها شخصيّا. الله لا يحبّ الناس فقط، هو يحبّك ويحبّني شخصيّا. هناك غياب عام في التعليم الكنسيّ لهذه العلاقة الشخصيّة والضروريّة حتّى التنفّس مع الله. هذا يُفضي إلى عدم توازن بين العلاقة الجماعيّة مع يسوع وكون المحبّين جسده السرّي في الكون، وبين العلاقة الشخصيّة معه؛ فتتضاءل عمليّا أهمّية الفرادة على حساب الجماعة، وهذا يؤدّي في النهاية إلى استتباب أشكال من التعليم "اللاهوتيّ" الفاشيّ، الذي يشدّد على "الوحدة" على حساب الحرّية، فنصل إلى القمع والاستبداد في قلب العلاقات الكنسيّة. إنّ التركيز على عمل الروح في تشكيل الجماعة الكنسيّة أي تشكيل الكنيسة كـ«جسد» للمسيح، ووحدةٍ معه تجعل من الكنيسة حضورًا له في التاريخ؛ دون التركيز على الفرادة ودور الروح القدس في العلاقة الشخصيّة الفريدة بين الله وكلّ إنسان، مرشّحٌ أن يهيئُ ويعطي الأرضيّة اللاهوتيّة لبيئة تتفتّح فيها زهور الشرّ من قمع واستبداد واستغلال وصرف نفوذ واعتداء على كرامة الانسان. الله لا "يقولبنا"، الله يريدنا أحرارًا بفراداتنا، بشخصيّاتنا، بسرّ وجوهنا التي لا يمكن أن يُسبَرَ غورها. معموديّة الروح هي أيضًا معموديّة الحرّية والفرادة، لأنّها معموديّة الحبّ ولا حبّ دون حرّية وفرادة، ولكنّ هذا الحبّ ليس منغلقًا على جماعة، فهناك مهمّة للمسيحيين في العالم: أن يحبّوا هذا العالم بناسه، وأن يتعلّموا من جميع المحبّين ويتعاونوا معهم ليؤسّسوا ويحموا في هذا العالم بُنى العدل والمشاركة، بُنى الوحدة في الفرادة والفرادة في الوحدة، فـ«يصطادوا المسكونة» لله عندما يضيفون إلى بهاء هذا العالم بهاءً بتعميده بالحبّ المُشارِك. الثلاثاء ١٥ حزيران ٢٠٢١
خريستو المرّ ماذا يريد الإنسان في النهاية؟ ليس فقط أن يعيش بل أن يحيا، أن تتأجّج فيه الحياة، أن يفرح. ولكن كيف ذلك؟ الإنسان مفطورٌ على التواصل مع آخرين منذ عمر الساعتين، أي قبل أن يتعلّم وأن يتكلّم. إن مددت لطفل ٍلسانك مدّ لسانه، وإن توقّفت مدّ أيضًا لسانه كدعوة إلى المتابعة، إلى التواصل. هذا شيء ممّا بيّنته الأبحاث في العقود الأخيرة. وقد بيّنت أيضًا، بما لا يدع مجالًا للشكّ، بأنّ الإنسان مفطور على التعاطف. ففي عمر ١٤ شهرًا، يتعاطف الطفل تلقائيّا مع الآخرين دون طلب من أهله، فيقدّم مساعدة لإنسان غريب يُعاني أمامه من صعوبةٍ، مثل فتح باب، أو الإمساك بغرض وقع منه على الأرض، خلال ٧ ثوانٍ (كمعدّل وسطيّ) من ملاحظته للصعوبة التي يعانيها. في عمر ١٨ شهرًا تزيد القدرة على المساعدة في الحالات المعقدّة. وقد يظنّ قارئ أنّ الطفل كان يقلّد بالغًا أمامه، ولكنّ الأمر ليس كذلك، كما أنّ الأطفال كانوا يعبّرون تلقائيّا عن قصدهم الواضح بالتفوّه بعبارة مثل "سأساعدك". كما أنّ الطفل لا يكتفي بالمساعدة، بل يقدّم الدعم العاطفيّ للآخرين. قبل عمر السنتين يقدّم دعما عاطفيّا كأن يحاول إعطاء لعبته الذاتية لولد آخر يبكي، ولكن في عمر السنتين يصبح قادرًا على فهم أوضاع الولد الآخر الذي يبكي بشكل أكثر فيأتي له بلعبته (لعبة الولد الذي يبكي) المفضّلة لكي يخفّف عنه. ماذا عن العطاء؟ عندما قال بولس أنّ العطاء مغبوط أكثر من الأخذ تكلّم عن إحساس، عن خبرة نعرفها جميعًا عندما نُعطي، ونحن نفرح لفرح غيرنا عندما نأخذ منه أيضًا، والمحبّة تقتضي أن نتيح لغيرنا أن يفرح بأن يعطينا. وتبيّن الأبحاث اليوم بواسطة تصوير عمليّات الدماغ بالرنين المغناطيسي (fMRI) أنّ الإنسان يفرح بالعطاء كما وبالأخذ، ولكنّه يفرح بالعطاء أكثر من الأخذ، بل ويشعر بنشوة. ماذا عن المشاركة؟ بيّنت الدراسات أنّ هرمون الأوكسيتوسين (Oxytocin) يحفّز لدينا التعاطف والكرم والثقة بالآخرين، ولكنّها بيّنت أيضًا أنّ نسبة الهرمون تتزايد في أوضاع مثل الوضع، والنشوة الجنسيّة، والثقة بالآخرين وتحقيق العدالة (بعكس انعدام العدالة الذي يحفّز في الدماغ الشعور بالألم والقرف)، ونظرة متعاطفة. أيّ أنّ الأوضاع هذه نفسها تُفرحُنا. وأظهرت التجارب أنّ نظام المكافأة في الدماغ يتحفّز في حالات مثل: التعاطف مع آخر يُعاني، الحبّ، تمنّي أمر جميلٍ لإنسان نحبّه، تمنّي أمر جميلٍ لإنسان لا نحبّه (تذكرون نصيحة أن يذكر الإنسان في صلاته إنسانًا لا يرتاح إليه)، تحقيقُ عدالة، التعاونُ مع آخرين، طلب آخرين منّا التعاون معهم، الأخذ، العطاء (بشكل أكبر من الأخذ). وهذا كلّه يعني أنّ فرحنا لا يتعلّق بشيء يجب أن نجده في مكان ما بعيد عنّا، وإنّما بموقفنا الداخليّ: هل نعطي؟ هل نأخذ؟ هل نتعاطف؟ هل لنتمنّى أمورا جميلة لآخرين؟ هل نطلب التعاون؟ هل نستجيب لطلب تعاون؟ ماذا عن العدل؟ تجارب أخرى لا مجال لذكر تفاصيلها، دلّت أنّ الإنسان يفضّل العدل والمعاملة بالمثل على الربح، أي أنّه يفضّل ألّا يربح مالًا أبدًا في لعبة قد تدرّ عليه مالًا يسيرًا إن شعر أنّ الفريق الآخر في اللعبة لا يلعب بشكل عادل ويستغلّه. وهذا يعاكس النظرة الخياليّة في الاقتصاد أنّ الإنسان مدفوع بدافع الربح فقط. إنّ التجارب الملموسة العلميّة التي ذكرنا نتائجها، تدلّ أنّنا مخلوقون لنفرح بالتواصل والتعاطف والعطاء والمشاركة، والعدل، أي بما ندعوه محبّة. عندما يقول لنا يسوع والأنبياء أن نحبّ ونعدل ونتعاطف ونشارك فإنّهم لا يفرضون علينا فروضًا خارجيّة قسريّة، وإنّما يشيرون إلينا إلى «صورة الله» التي نحن عليها مخلوقون وينبّهونا أن نتبنّاها، أن نقبلها ونتعاون مع الله لتنمو هذه الطاقات-الصورة، نحو ملئها-المثال، عوض أن ندفنها أو نجمّدها، أو نعمل عكسها، فنحكم على أنفسنا بعيدًا عن الفرح. المحبّة ليست حكاية جميلة، إنّها نسيجنا الداخليّ، والفرح ليس بعيدًا «هناك»، إنّه ينبع من طريقة حياة. هذه قصّة الإنسان الجميل على صورة الإله الجميل، كما يمكن أن نقرأها بين سطور العلوم اليوم. خريستو المرّ
الثلاثاء ٨ حزيران/يونيو ٢٠٢١ دَهسَ رجلٌ عائلةً في مدينة لندن-أونتاريو الكنديّة لسببٍ واحدٍ ألا وهو أنّه بدا له من لباسهم أنّهم مسلمون. جريمة ذهب ضحيّتها ٤ أشخاص: الزوجين سلمان ومديحة أفضال (٤٦ و ٤٤ عامًا)، وابنتهما يُمنى (١٥ عامًا) ووالدة الزوج (٧٤ عامًا) ولم ينجُ سوى طفل العائلة (٩ سنوات) وهو مصاب بجراح خطيرة. ما ذنب العائلة؟ ما ذنب كلّ وجه فيها؟ لا شيء. أن تكون مُهاجرًا وأن تتعرّف في بلد ما على أصدقاء وزملاء من عشرات الدول والأديان والطوائف والثقافات لا ينجّيك بالضرورة من العنصريّة، ولكن إن حافظت خلال حياتك على نفسك من الحقد، وبالأحرى إن أدَمْت السعي كي تكون إنسانًا متعاطفًا مع الآخر المُهمّش والمُستَضعَف، خاصّة إن كنت من تلك الفئة في بلادك الأصليّة، أمرٌ يسمح لك بأن تتنفّس حرّية من العنصريّة، وبشكل أعمّ من العصبيّة الاجتماعيّة للأديان والطوائف والثقافات والأوطان. قَتَل حاقدٌ العائلةَ لا لسبب إلّا لأنّ ثقافةً حاقدةً صوّرت له أنّهم لا يستحقّون الحياة، أنّهم ليسوا بشرا متساوين في الكرامة معه. نَفْيُ الآخر عن الإنسانيّة خطوةٌ أولى نحو تسويغ قتله، هو قتل له معنويّ يفتح الباب للقتل الجسديّ. هكذا سعى كلّ الحاقدين. هل كان مرتكبو المجازر والداعون إليها يرون الآخرين بشرًا متساوين في الإنسانيّة؟ حتمًا لا. القتل في الحروب يُفهم كفِعلٍ يتناوب عليه كلّ المتحاربين الخائفين من الموت، يَقتلون كي لا يُقتَلوا حتّى ولو لم ينزعوا عن الآخر صفته الإنسانيّة، وتُظهر الأدلّة أنّ الإنسان يكره القتل فطريًّا ويحاول تجنّبه. لكن لا يُمكن عدم إدانة خطابات الحقد التي تبرّر وتمهّد للقتل، وكذلك لا يمكن تبرير من قَتَل أناسًا عزّلًا أو نكّل بهم حتّى ولو كان متأثّرًا بخطابات الحقد، فالإنسان يحكمه ضميره ولا يمكن نزع المسؤوليّة الشخصيّة عن الذات نهائيًّا بحجّة طغيان خطابات الحقد الدينيّ أو العنصريّ أو القوميّ أو أيّ حقد آخر. يبدو لي أنّ من وسائل تعميم الحقد هو الدمج بين الشخص والمجموعة التي ينتمي إليها، أي اختصار الأشخاص وقيمتهم اللامتناهية كأشخاص بوضعهم في خانة فكرة مشوّهة ومختزِلَة ومنحازة عن مجموعةٍ من الناس مختلفةٍ عن المجموعة التي ينتمي الحاقد إليها. محو الوجوه هو الخطيئة التي تمهّد للقتل الحاقد، للعنصريّة، للإرهاب. لا يغدو الآخر وجهًا وإنّما صورة لفكرة مُتَخيَّلة وبشعةٍ عن «الآخرين» «الغرباء». لهذا من الضرورة الوقوف بصلابة أمام كلّ حديث اختزاليّ للآخرين، خاصّة في العائلات وبين الأصدقاء. الاختزال ومحو الوجوه خطيئة تمهّد لجريمة. ولهذا فإنّ الفكر المسيحيّ المشدّد على أنّ الإنسان هو «صورة الله» والفكر الإسلاميّ الذي يرى في الخلق «عيال الله» جذريّان والتركيز عليهما ضرورة، ليس فقط لأنّهما يجعلانا جميعًا من كلّ الأرض، أخوات وإخوة، وإنّما أيضًا لأنّهما يحملان فيهما رؤيةً تُعطي قيمةً كبرى للوجوه: حين ترى إنسانًا أنت ترى الله، وجه الإنسان الآخر يحمل وجه الله إليك، يحمل حضوره كما وجه الولد يحمل شيئا من حضور أهله؛ وإن كان الكلّ عائلة واحدة فكلّ وجه لا مثيل له، وله فرادته التي لا تُختَزَل بكونه عضوًا من العائلة، أخًا أو أختًا. في الأفق اللامتناهي للوجه الإنسانيّ يكمن الأفق اللامتناهي للوجه الإلهيّ، العنصريّة تختزل الفرادة اللامتناهية للوجه بقناعٍ متماثلٍ متشابهٍ تخفي فيه الوجوه. لا مجال لمحاربة لعنصريّة إلّا بضرب الفكر الاختزاليّ الذي يصنع من الآخر فكرةً يضعه بها خارج الإنسانيّة بمحو فرادته. تشديدي اللاهوتيّ المتكرّر على أنّ المحبّة لا يمكن أن تكون دون جمع الوحدة بالتمايز هو لحماية القيمة اللامتناهية للوجوه، للفرادة، حتّى لا تتحوّل مطلق أيّ جماعة أو مجموعة إلى مكان اختناق للإنسان، وأحيانًا إلى آلة قتل. ------------------------------- خريستو المرّ الثلاثاء 1 حزيران/يونيو ٢٠٢١ استفاقت كندا على خبر العثور على مقبرة جماعيّة لـ215 (مائتين وخمسة عشر) طفلًا من أطفال السكان الأصليين في "مدرسة" كاملووبس الداخليّة (Kamloops Indian Residential School) في مقاطعة كولومبيا البريطانيّة؛ و"المدارس الداخليّة" هذه، هي بمثابة معتقلات غسل دماغ وتعذيب نفسيّ وجسديّ لأطفال السكّان الأصليّين في كندا، وهي نظام ابتكره المشروع الاستيطانيّ الاستعماريّ الأوروبّي لكي يقضي على الهويّة الأصليّة لسكّان كندا الأصليّين. معتقلات الأطفال هذه استمرّت للتسعينات حين أُغلِقَ آخر مُعتَقَل. وقد حاول المشروع الاستيطانيّ بواسطة هذه المعتقلات محو الهويّة الذاتيّة للسكّان الأصليّين بحجّة " تمدينهم"، حاول القضاءَ على لغتهم وعاداتهم وتقاليدهم منذ الصغر. هل يمكنك عزيزتي القارئة أن تتخيّلي بشكل شخصيّ للحظة حين كنتِ طفلةً ما معنى أن تُنزَعي قسرًا من أهلك وأن يُزجّ بك في سجن لتتعلّمي لغة أخرى وتقاليد أخرى وتُمنعي من التكلّم بلغتك؟ وهل يمكنك للحظة عزيزي القارئ أن تضع نفسك مكان أهل أولئك الأطفال وأن تتخيّل للحظة ما معنى أن تأتي الشرطة لتنفيذ حكم الدولة وتنزع منك طفلك أو طفلتك بحيث أنّك لا تراهم بعد اليوم إلّا حين تقرّر الدولة ذلك أو لا تراه ملأنّهم لن يعودوا أبدًا أحياء ولن تعرف مصيرهم أبدًا؟ ويتساءل البعض عن انتشار استهلاك الكحول المخدّرات وارتفاع نسبة الانتحار بين السكّان الأصليّين اليوم، وينسون أنّهم كانوا أطفالًا في تلك المدارس. الوجه الآخر لهذه الجريمة هي أنّ الكنيسة الكاثوليكيّة الرسميّة في كندا قامت بإدارة هذه المدراس، أي هي التي "اعتنت" بالأطفال، أي قامت بتنفيذ برنامج محو الهويّة، وأضاف المسؤولون والمسؤولات من عندهم ألوان القسوة. الدين أتى لمساندة الشروع الاستعماريّ الاستيطانيّ في تنفيذ برنامج استلاب السكّان الأصليّين وتغريبهم عن ذواتهم الجماعيّة. وضع الدين يده بيد الدولة ليس للرفق بالإنسان، بل لإخضاعه لمشروع جني أرباح (أسمه استيطان) وترسيخ شعور وهميّ بالتفوّق (اسمه تفوّق العنصر الأبيض). المشروع هو لجني الأرباح كونه يصطنع المستوطن فيه من لا شيء ثروةً: يكفي أن يأتي شخص أو مجموعة وتدّعي ملكيّتها لقطعة أرض لتكتسب ثروة من لا شيء، من لا عمل، من لا إنتاج، من مجرّد السطو على ما هو في الأصل مُشترك أو ملك أناس آخرين. هل فهمنا هذا البعد المادّي الماليّ ممّا حصل ويحصل في فلسطين أم ليس بعد؟ والمشروع الاستيطانيّ يرسّخ شعورًا وهميّا لدى المستوطِن بأنّه صاحب موقع أعلى في «الحضارة» بالنسبة للآخر الذي تمّ السطو على مقدّراته والعمل على محو هويّته. لكن خلف وهم التفوّق الحضاريّ يحتاج المستعمِر لتبرير جرائمه لأدوات الأخلاق أو الدين، فيصوّر لذاته أوّلا ثمّ للآخرين أنّ جريمته هي عمل أخلاقيّ رفيع، فيسبغ عليها صفة «تحضير» (نقل الآخرين إلى الحضارة) كما برّرت الحكومة الكنديّة إرسائها لنظام معتقلات الأطفال، وكما برّر وتبرّر الحكومات الفرنسيّة والانكليزيّة جرائمها في حقّ سكّان المعمورة ومنهم سكّان بلادنا من شمال أفريقيا إلى شرق المتوسّط، أو صفة «تحرير» كما برّرت الحكومات الأميركيّة تدميرها للعراق، أو صفة «تحضير» الأرض من خلال تأسيس مدنيّة في أرض خالية لإيواء المشرّدين وهي الصفات الكامنة في الشعار المنافق «الأرض التي بلا شعب للشعب الذي بلا أرض». في هذا السياق، يؤدّي الدين خدمة جلّى، فهو وسيلة تبرير محفّزة لصنع كلّ جريمة بضمير مرتاح، من جريمة «تبشير» السكّان الأصليّين التي وضعت فيها الكنائس يدها بيد المستعمر، إلى جريمة احتلال فلسطين وطرد الفلسطينيّين والتنكيل بهم باسم وعود إله تحوّل سمسار أراضٍ على يد عصابات الحركة الصهيونيّة، إلى جريمة داعش وأخواتها لتحقيق خلافةَ إلهٍ على الأرض، باستباحة حياة الذين تسمّوا عياله وتدميرها! السكّان الأصليون حول العالم خضعوا لنفس «الأخلاق»: «أخلاق» الإبادة والسطو. مَنْ هو حزين وغاضب ممّا حصل لأطفال السكّان الأصليّين في كندا واجبه أن يدافع عنهم وعن حقوق السكّان الأصليّين في كلّ مكان، لهذا من واجب سكّان بلادنا أن يقفوا مع الفلسطينيّين، وكذلك أن يتعاونوا في بلادهم كي تسقط الحمايات الدينيّة للجرائم التي تحدث باسم الدين داخل المؤسّسات الدينيّة قبل أن تحدث خارجها. كم من طفلٍ وبالغٍ مسجّى تحت أنظمة الحكم، والسياسة، والاقتصاد، والتربية، والتعليم الدينيّ، تخفيهم عن العيون طبقاتٌ سميكة من الخطب الدينيّة الجوفاء مغلّفة بأوهام عن تاريخ دينيّ مُختَزَل خالٍ من الفكر النقديّ منفصل عن الواقع التاريخيّ. |
الكاتبخريستو المر الأرشيف
December 2023
Categories |