خريستو المرّ
ما من قضيّة كالقضيّة الفلسطينيّة، في وطننا العربيّ، يمكنها أن تعلّم الإنسان وتكشف له العالم الذي نحيا فيه. الواقع أنّه ما من حكومة في هذا العالم الأوروبيّ (ما عدا إيرلندا المحتلّ شمالها) والشمال أميركيّ تعمل، أو تريد فعلاً، للفلسطينيّين أن يتحرّروا. فتلك البلاد لا تزال استعماريّة الفكر والنهج والتصرّف، ولا تزال تحاول استغلال مقدّرات بلاد الآخرين بالحرب المباشرة أو بأدوات الكلام الفوقيّ عن حقوق الإنسان كوسيلة جديدة للتدخّل الاستعماريّ، شبيهة بتلك القديمة القائمة على أساطير «التفوّق» الحضاريّ والثقافيّ. ما يثير العجب ليس ما أقوله، بل مدى استفحال الاستعمار الداخليّ الفكريّ الذي يخضع له مثقّفونا الذين لا يرون هذا الواقع، ولا أقصد الذين لا يريدون أن يروا للإبقاء على سيل دولارات شيوخ التطبيع. فالواقع أنّ جشع الشركات وحكومات بلادها، ستسحق سحقاً أيّ بلد أو شعب غير قادر على إعانة نفسه، والاجتماع على مشروع تحرّر أو دفاع عن بلاده. ما لم يتّحد الفلسطينيّون في الداخل لن يجدوا الحرّية؛ يمكن للخارج أن يدعم، لكنّ الداخل الفلسطينيّ وحده هو القادر على هزيمة الاحتلال، وفرض خشية الدول. كلّ دعم خارجيّ مشروع هو ضروريّ، وجيّد، ومفيد، ويسهم في حركة التحرّر. لكنّ التحرّر لا يمكن أن يحصّل من دون عناصر قوّة. ما من حركة تحرّر حول العالم خيضت بالمفاوضات، وحتّى في الهند، لم تكن حركة التحرّر حركة مفاوضات ومناشدة لحكومات «مجتمع دولي»، بل كان النضال اللاعنفيّ وسيلة قوّة تضرب المصالح الاقتصاديّة البريطانيّة، وتنزع عن وحشيّتها قناع «الحضارة». فلسطين ما من إنسان غير عنصريّ يتمكّن من رؤية جرائم الاحتلال في فلسطين إلّا ويقف موقف التعاضد مع الفلسطينيّين. قد لا يعرف ما هو الحلّ، قد يختلف مع آخرين في تقدير الحلول، ولكن لا يمكنه -إن لم يكن عنصريّاً- أن يقبل هذه الجرائم اليوميّة. هذه هي الأرضيّة الأخلاقيّة الإنسانيّة التي تستند إليها كلّ حركة تحرّر، لأنّها تعرف أنّها تحرّض المستعمَرين وعامّة البشر الأسوياء ضدّ الظلم. معرفة هذه الأرضيّة نفسها هي التي تدفع بالاحتلال الاستعماريّ العنصريّ الصهيونيّ لبذل الجهود الهائلة لإخفاء واقع الاحتلال والتمييز العنصريّ عن الإعلام الغربيّ والعربيّ، ولمحاولة منع أيّ انتقاد لإسرائيل تحت مظلّة معاداة الساميّة. ومعاداة الساميّة وإن كانت صحيحة وموجودة لدى الأوروبيّين والشمال أميركيّين أساساً، فقد جرى توسيعها أخيراً من قبل الصهاينة لتشمل انتقاد إسرائيل، وهو ما تلقّفته بشغف حكومات العار الأوروبيّة والشمال أميركيّة، بينما يلاقي رفضاً قاطعاً من النقابات (جميع نقابات الأساتذة الجامعيّين في كندا، مثلاً) والمنظّمات المختلفة (اتّحادات طلّاب، مثلاً) ومنها منظّمات يهوديّة. «المجتمع الدولي» الأوروبيّ والشمال أميركيّ، أي حكوماته، لا يأبه للشأن الفلسطينيّ ولا للشأن العربيّ، يجب النظر إلى حكومات أوروبا وشمال أميركا على أنّها أساساً حكومات استغلاليّة، لا تأبه إن عشنا أو متنا جميعاً، فهي لا تعطي قيمة لحياة الإنسان خارج أوطانها، وتهتمّ لمصالحها حتّى ولو كانت لا تتحقّق إلّا فوق تلال من الجثث، وهي بالفعل لا تتحقّق إلّا فوق الجثث، كما يدلّ دعمها المطلق لقمع الفلسطينيّين، وتدلّ الحروب على سكّان أفغانستان، والعراق، وليبيا، وسوريا في العقود الأخيرة. لكنّ الحكومات غير المواطنين، الأوروبيّون والكنديّون والأميركيّون غير العنصريّين هم غير الحكومات الأوروبيّة والكنديّة والأميركيّة، الناس في تلك الدول يتعاطفون معنا إن رأوا أوجاعنا، كما يتعاطف معهم غير العنصريّين منّا إن رأوا أوجاعهم، يكرهون القتل كما يكره كلّ إنسان سويّ القتل، يدعمون الفلسطينيّين عندما يرون الفظائع التي تُرتكب بحقّهم، يتظاهرون بالملايين ضدّ حكوماتهم وقراراتها بخوض حرب وحشيّة (على العراق مثلاً). أمّا الحكومات فغير شعوبها، فهي تعمل أجيرة لمصالح شركات بلادها، والازدياد المطّرد لأرباحها، ولو أنّ ذلك يقتضي القتل ودوس حقوق الإنسان وتنصيب الديكتاتوريّين والوحوش على بلاد المستغلَّة. المهم أن نعي مركزيّة هدف التحرّر في العمل الجماعيّ حول القضيّة الفلسطينيّة. ولهذا فبينما تختلف الوسائل حكماً، بين بلد وبلد، وبين الداخل الفلسطينيّ والخارج، فالمهمّ أن نلتقي على الهدف باختلاف الوسائل والعقائد. ولا شكّ أنّ أبرز نقاط الضعف في حركة التحرّر الفلسطينيّة، هي أنّها لم تعد تشكّل حركة تحرّر واحدة، وأنّ اتّفاق أوسلو جعل من السلطة الفلسطينيّة سلطة مأجورة من الاحتلال للعمل من أجل استتباب أمنه. كلّ عذر لعدم التعاون والوحدة هو خيانة للشعب الفلسطينيّ. المقاطعة وتجربتها المقاطعة خارج فلسطين وداخلها عمل أساس، نضال فعليّ، بخاصّة في العالم العربيّ الذي تهرول حكوماته اليوم نحو التعاون مع الجلّاد باسم الضحيّة! إنّ المقاطعة ونقل حقيقة الواقع الفلسطينيّ وجرائم دولة إسرائيل، يشكّلان نضالاً حقيقيّاً. فأنت أحياناً تخاطر بوظيفتك حين تكتب أو تحاضر أو تناصر حرّية الفلسطينيّين وتنتقد إسرائيل، في بلدان الحكومات المعادية لنا، في أوروبا وشمال أميركا؛ الدعاوى لطرد أساتذة مدارس وجامعات من عملهم، ولمعاقبة طلّاب، تتتابع، ومواجهتها الناجحة تتتابع أيضاً. لقد توسّعت حركة المقاطعة التي أطلقها فلسطينيّو الداخل عبر السنوات، وما الحرب القانونية الإعلاميّة الشعواء التي تُشنّ على حركة المقاطعة، إلّا الدليل القاطع على فاعليّتها، لأنها بالضبط تكشف الوجه العاري لوحشيّة المحتلّ. حركة المقاطعة حركةٌ متناسبة مع ما يمكن أن يقوم به أناس يحيون في بلاد بعيدة أو قريبة، يمكنهم أن يدعموا حركة تحرّر وطنيّة، بتوسيع الوعي الشعبي والانخراط في ضرب مصالح الاحتلال، بالضغط على حكوماتهم لدعم التحرّر أو الامتناع عن دعم الاحتلال. النجاح مختلف بحسب البلدان لكنّه يتقدّم بالفعل. المقاطعة والتظاهر هو فعل حقيقيّ، لا يحرّر وحده، ولكنّه يؤمّن أسباب الدعم والبيئة العربيّة والعالميّة الحاضنة التي تحتاجها كلّ حركة تحرّر. لاهوت التحرير الفلسطينيّ في الداخل الفلسطينيّ، ترتفع أصوات عالية للاهوتيّين فلسطينيّين (القسّ الدكتور متري الراهب، القسّ الدكتور نعيم عتيق) يخاطبون مواطنيهم باللغة العربيّة، ويخاطبون المسيحيّين بلغاتهم الأجنبيّة في أوروبا والأميركيّتين، ويدافعون، من منظور مسيحيّ، عن خطّ التحرّر من الاحتلال، ويرسخون أسس لاهوت تحرّر مسيحيّ فلسطينيّ، يفضح العنصريّة الصهيونيّة ويدعو لمناهضة الاحتلال، ويدحض مواقف المسيحيّين الصهاينة. أمّا الكنائس الفلسطينيّة، فقد تجرّأت مجتمعةً في «وقفة حقّ» (كايروس-فلسطين)، على الخروج من اللغة الخشبيّة التقليديّة حول السلام، لتدعو إلى مقاومة الاحتلال مرتكزة على تعاليم المسيح، وسمّت صراحة الاحتلال بالتمييز العنصريّ، كما أنّها عبّرت بصراحة ووضوح عن مشروعيّة الصراع المسلّح لرفع الاحتلال والتمييز والتنكيل، على رغم انتهاجها الدعوة للصراع غير المسلّح تناسباً مع الموقف الكنسيّ التقليديّ. نحو التحرّر الصراع في فلسطين ليس معقّداً كما يحلو للناس في بلاد الغرب أن يقولوا (أو كما يبدو لهم فعلاً إن كانوا يجهلون معطيات الواقع). إنّ استتباب العدالة والسلام في أرض فلسطين أمر بسيط يقوم على أن ينتهي الاحتلال ومشروع الاستيطان الصهيونيّ، ويحيا الناس في مساواة وعدالة في قانون يحترم حقوق المواطنين، مع ما يستتبع ذلك من إحقاق جميع حقوق الشعب الفلسطينيّ، فتكون دولة تعامل المواطنة والمواطن بمساواة أمام القانون من دون أيّ نوع من أنواع التمييز. لكن، للأسف، يبدو أنّه لا يمكن الوصول إلى هذا الحلّ، على وضوحه وبساطته، إلّا عبر سيل من الدماء، سيل كان من الممكن تجنّبه، لولا أنّ الجشع والعنصريّة استحوذتا على قلوب وعقول ممثّلي النظام الرأسماليّ الأميركيّ-الأوروبيّ العنصريّ، الذي يسعى لتحقيق مصالحه الاقتصاديّة على جثثنا، والذي يدعم من دون هوادة النظام الصهيونيّ العنصريّ المدجّج بالسلاح، والذي يسعى هو الآخر لتحقيق مصالح اقتصاديّة بمتابعة سرقة الأرض من أهلها. للأسف، على سكّان بلادنا أن يدفعوا ثمناً باهظاً للتحرّر، كان يمكن الاستغناء عنه لولا الجشع الذي يتجسّد أنظمة عنصريّة ورأسماليّة. لن نتحرّر إلّا حين تكون كلفة الأرباح التي تجنيها هذه الأنظمة من استغلالنا وقتلنا، أعلى بكثير من كلفة إنهاء نظام الفصل العنصريّ. قد يكون لهذه الكلفة أكثر من وجه، فقد يكون لها وجه اقتصاديّ وآخر سياسيّ وآخر عسكريّ. من هنا، يتكامل العمل المقاوم، في جميع أشكاله المقبولة لدى جميع الشعوب، والمعترف به كحقّ عابر للزمن وللحضارات. تلك الأشكال التي يريد سلبنا إياها جميعاً، أولئك الذين يريدون مراكمة الثروات فوق جثثنا، داخل وخارج فلسطين. إنّ «الوحش الصاعد من الهاوية» لن يُطرح في «بحيرة النار» بلا مقاومة، المهمّ أن تتنبّه كلّ مقاومة، فلا تتبنّى أساليب «الوحش»، وأن تحافظ على رؤيتها الأولى فلا يظلّلها أيّ حقد لجماعة، فالتركيز على مقاومة الشرّ لا على هويّة الشرّير -ولا حتّى على شخصه إن استطاع الإنسان- يفيدنا ويهمّنا من أجل مستقبلنا جميعاً كبشر على هذه الأرض. خريستو المر
الثلاثاء 28 شباط 2023 خلال أسابيع يكون المسيحيّون والمسلمون معاً في صوم. الصوم طريق؛ هو أن يقول الإنسان أنّ توقه هو إلى ملء الحياة. يأكل الإنسان كلّ يوم ليعيش، وبالصوم يقول إنّه يعيش من أجل هدف من أجل أن يكون حيّاً، من أجل أن تتأجّج فيه الحياة، لكي يعانقها وليس فقط ليبقى على قيدها. بالصوم يشحذ الإنسان رغبته في الحياة بالامتناع المرحليّ عن مجرّد العيش، بالامتناع عن أسباب العيش. الصوم تأكيد للرغبة بالامتناع عن ملحاحيّة الحاجة، تأجيج للرغبة بإعطائها أولويّة على الحاجة، تأكيد للعيش من أجل هدف، من أجل الحياة كمعنى. الصوم يقول إنّ الحياة-المعنى أهمّ من الحاجة-الطريق، يقول إنّ المعنى هو الأساس ليكتسب الطريق طعماً. التمسّك الغريزيّ بالعيش أمرٌ فطريّ جميل. الخوف من الموت طبيعيّ، بل هو جيّد لكي يرعى الإنسان الحياة في ذاته وفي مَن هو مسؤول عنهم. يمكن للإنسان أن يرى من خلال الخوف من الموت أنّه خُلق من أجل الحياة، وأنّ طبيعته تخشى من الموت لأنّها تخشى العودة إلى العدم الذي منه خُلقت. من هذه الزاوية يمكن للإنسان أن يتصالح مع الخوف من الموت لكونه يرى فيه إشارة إلى حضور الله، إشارة إلى أنّ كلمة الله الخالقة مغروسةٌ في الإنسان، وأنّ الإنسان بانشداده إلى العيش هو مشدودٌ رمزيّاً إلى الله. يتمسّك الإنسان بالعيش طبيعيّاً، ولكن ما معنى العيش المحض في غياب أيّ هدف؟ لا شيء. التمسّك بالعيش المحض، بالعيش من دون غاية لا يمكن احتماله. لا يمكننا أن نعيش من دون معنى. لا يكتسب العيش معنىً إلّا بالنسبة إلى غاية. لكنّ تعرّجات الحياة والظروف عادة ما تُنسي الإنسان الغاية. الصوم يأتي كي يستعيد الإنسان الغاية. بالصوم يقول الإنسان بكلّ جسده ونفسه وعقله إنّ الغاية أساس الطريق؛ وبالنسبة لمن آمن الغاية هي محبّة الله والناس. بالصوم يقول الإنسان إنّ أسباب الحياة من طعام وشراب هي وسائل للعيش وأمّا غاية العيش فهي محبّة الله والناس، ويقول إنّ تأكيد ذلك بالكلام غير كافٍ فمن الضرورة لكلّ محبّة أن تترافق مع فعل يؤكّدها. لهذا يترافق الصوم الحقّ مع تكثيف لفعل محبّة الله بحوار الصلاة، ومع تكثيف لفعل محبّة الإنسان الآخر بالمشاركة المادّية. هذا التكثيف للمحبّة هو ما يعطي للصوم معناه، فالمحبّة الملموسة تؤكّد أنّ الطعام والشراب جيّدان، ولكنّها تراهما مجرّد هديّة حبّ من الله المحبّ الذي يمدّنا بهداياه للعيش من أجل غاية: عيش المحبّة معه على هذه الأرض. الصوم رفع الانتباه عن الهدايا وتوجيهها نحو الـمُهدي، لأنّ المهمّ هو علاقة الحبّ بيننا وبينه. وإذ يمكن محبّة الله بفعل حوار الصلاة، فإنّ تلك المحبّة لا تكتسب مصداقيّتها إلّا بمحبّة الآخرين الواقعيّة أي بالمشاركة المادّية معهم، فالمهمّشون هم وجه الله وحضوره السرّي بيننا. السجناء المضربون عن الطعام يشيرون إلى ما يشير الصوم إليه؛ هم يقولون بإضرابهم عن الطعام: لا يهمّنا فقط أن نعيش وإنّما يهمّنا غاية العيش، تهمّنا الحرّية والعدالة. المضربون عن الطعام في السجون يحبّون الله بالتزامهم غايات الخلق: أن يحيا الإنسان بكرامة إنسانيّة تتوّجها الحرّية من البطش ومن الاستغلال؛ هم يريدون الطعام، ولكن يريدونه تحت شمس الحرّية والعدالة. الفلسطينيّون يقولون الأمر نفسه باستشهادهم، ويؤكّدون على غاية الوجود الإنسانيّ باستغنائهم عن مجرّد العيش عندما يواجهون المتربّصين بنا من أجل قتلنا واستعبادنا جميعاً في هذه المنطقة. سكّان منطقتنا يمكنهم بتواضع كبير أن يتمثّلوا شجاعة الفلسطينيّين في مواجهة الطغاة المحلّيين في بلادهم كما والطغاة الخارجيّين. إثر كلام له عن الصوم يضع الإنجيليّ متّى جملة ليسوع يقول فيها «لا تكنزوا لكم كنوزاً على الأرض حيث يُفسـد السوس والآكلة وينقب السارقون ويسرقون، لكن اكنزوا لكم كنوزاً في السماء حيث لا يُفسد سوس، ولا آكلة، ولا ينقب السارقون ولا يسرقون، لأنّه حيث تكون كنوزكم هناك تكون قلوبكم». الكنز الذي لا يمكن لأحد انتزاعه منّا، هو القدرة على المحبّة. الصوم -عند من استطاع إليه سبيلاً- هو تأكيد على أنّنا نرى خبرة المحبّة كنزاً، وهي الكنز الوحيد الذي كلّما استعملناه كلّما زاد. الصوم تأكيد على أنّ غاية «القلب» هي الرحيل اللانهائيّ في وجه الآخر، وأنّ ذلك يتجسّد في كلّ عمل من أجل حياة الإنسان والخليقة، وكلّ نضال لا يمكنه أن يستكين من أجل الحرّية والعدالة وفرض المشاركة في الخيرات. أمّا الرحيل في وجه الآخر، ذاك الإلهيّ وذاك الإنسانيّ، فيبدأ هنا ويستمرّ «هناك» لأنّ بداية الرحيل تطلّ دائماً على بداية. خريستو المرّ
الثلاثاء ٢١ شباط / فبراير ٢٠٢٣ يعتقد المسيحيّون أنّ يسوع هو كلمة الله المتجسّد، لذلك يقرأوا فيه «وجه» الله. سجّل تلامذة يسوع أنّه وجّه دعوة للبشر كي يحبّوا بعضهم بعضا كما هو أحبّهم. وهو أحبّهم وترك لحرّيتهم أن تقدّم جوابا على حبّه إمّا حبّا، أو ما هو ضدّ. هذا الردّ الإنسانيّ على الحبّ الإلهيّ بالحبّ كطريقة حياة، هو لبّ الحياة. بالحبّ يعجن الله الإنسان ويكمل خلقه. إن استخدمنا لغة الرمز التي كُتبت فيها رواية آدم وحوّاء التي في كتاب العهد القديم، يمكننا أن نكتب بأنّ الله قد خلق الإنسان «على صورته» (أي فيه إمكانات المحبّة والفكر والحرّية) من التراب ونفخ فيه الحياة، فإنّه بإنماء الله للحبّ في الإنسان فهو يخلقه «على شبهه»، أي أنّه يساعد الإنسان كي ينمو فيحقّق تلك الإمكانات الكامنة فيه. يعجننا الله من التراب ويخبزنا بالحبّ لنصبح ما نحن مخلوقون أن نكونه: مخلوقات مشاركة نعيش الحبّ كطريقة حياة. بالطبع، مَن يقول حبّ يعني أيضًا حرّية، إذ لا حبّ بدون حرّية، ويعني مسؤوليّة عن حياة الآخرين وحياة الخليقة، ويعني احترامًا للآخرين وللخليقة كي لا تجنح المسؤوليّة إلى تحكّم، ويعني معرفة متعاطفة، معرفة من الداخل، كي يتمكّن الإنسان من خدمة الحياة بطريقة أفضل. كانت قمّة محبّة يسوع للناس أنّه ترك لهم الجواب الأخير على حبه البادئ؛ ولهذا هتف قلب يوحنّا على ورقة يومًا صارت جزءا من الانجيل أنّ: الله محبّة. كان يوحنّا يومها ينقل ما اختبره من حياته مع يسوع. فبموت يسوع – كما يؤمن المسيحيّون – أظهر الله أنّه هو المحبّة التي تحترم الحرّية الإنسانيّة حتّى عندما ترفضه برفض كلمته يسوع. لكن لم يكن للموت الكلمة الأخيرة، فيسوع كان كامل المحبّة، ولم يعرف قلبه غشّا لذاته أو لغيره، ولذلك كان كامل الانفتاح على مصدر المحبّة، أي الله. هكذا، فإنّ إنسانيّة يسوع بموتها الطوعيّ، امتلأت بالحياة الإلهيّة (إن صحّ التعبير، فالكلام تأمّل ومقاربة لما هو غامض) فقامت من الموت. بيسوع نفهم أنّ الكلمة الأخيرة ليست للموت، بل للحياة، أنّ هذا التراب الذي إلى التراب يعود لا يفنى، وإنّما يمكن بسبب الحبّ الإلهيّ الذي لا يريد للمحبوب أن يفنى أن يقيمه في اليوم الأخير، حيث يتجلّى مدى انفتاح الإنسان على إمكانيّات المحبّة خلال حياته. ولكن هناك شيئا آخر، أظهر الله بيسوع أنّ كلمته الإلهيّة مضروب ومضطهد من مناهضي المحبّة، ولكنّه أظهر أيضًا أنّه ينتصر حيث يظنّ المناهضون أنّه هُزِمُ. لو تأمّل المؤمنون مليّا وذهبوا أبعد من الطقوس، ومن العادات الاجتماعيّة الجميلة، واعتبروا إيمانهم أمرا جذريّا في حياتهم، لفهموا أيضًا أنّ كلمة الله مضطهد أمامهم في كلّ مهمّش، وكلّ رهينة تعسّف، وكلّ ضحيّة تعذيب، وكلّ شعب محاصر، وكلّ مظلوم، فردًا كان أو جماعة. الناس باضطهادهم بعضهم البعض هم يضطهدون دائمًا صورة الله وخليفته في الأرض، وأولئك الصامتون هم لا يبالون باضطهاده. في وجه كلّ إنسان بريء يُقتل نرى وجه يسوع على الصليب؛ لكنّ قيامة يسوع تدلّنا أنّ الكلمة الأخيرة ليست لموت البريء، بل لكلمة الله الذي يريد ويعمل كي تتجسّد المحبّة والعدل في هذه الدنيا، وهو يعمل بواسطة البشر، فـ«نحن عاملون مع الله» كما كتب تلميذ لاحق ليسوع. إن كان الله متمّ نوره ولو كره الكارهون لصورته فيبدو أنّه يريد أن يفعل ذلك بواسطة الناس، ولذلك نستنتج أنّ اليوم الأخير، يوم العدل والحرّية والمحبّة، ليس يوما مُرجًأ، وإنّما هو يبدأ ويتجسّد - ولو نسبيّا - في اليوم الحاليّ حين ينضمّ ناس اليوم إلى «قلب» الله بالعمل لإرساء المحبّة والعدل والرحمة. وحيث ينبغي لمحبّة الإنسان لله، ومحبّة الإنسان لإنسان آخر، أن تحكمهما الحرّية المطلقة، فإنّ نتائج الحرّية البشريّة، أي وقعها وأثرها على الناس، لا يمكن أن يُحتَرَم بشكل مطلق، بل ينبغي أن يُناهض حين تتوه تلك الحرّية عن خطّ المحبّة وتبدأ بنشر الموت، كلّ أنواع الموت، الجسديّ والمعنويّ. إنّ كتب الناس المقدّسة مليئة بالدعوة لإقامة العدل ودفع الظلم؛ أي مليئة بالإشارة إلى مسؤوليّة الناس عن رفع الظلم عن بعضهم البعض، وعن نشر العدل، أي إلى مسؤوليّتهم عن مقاومة انحراف الحرّية البشريّة وأثر ذاك الانحراف على الحياة. الله الحيّ القيّوم هو الذي يريد رعاية الحياة ونموّها، وقد جعلَنا مسؤولين معه عن ذلك، عاملون معه على استتباب المحبّة والعدل على هذه الأرض حتّى يحين موعدٌ مع اليوم الأخير. في اليوم الأخير، حين تقف الخليقة أمام وجهه عاريّة من كلّ أنواع الهروب، ينبلج فجر الله محبّة، فيضمّ إليه الخليقة ويغدق عليها من ينابيع محبّته. عندها سيكون باستطاعة الناس الذين تمرّنوا على المحبّة ومقاومة الشرّ على هذه الأرض رغم أخطائهم، أن يشاركوا عطايا الله ويجلسوا معه حول مائدة الحبّ والمشاركة. أمّا الذين اضطهدوا الله باضطهاد خلقه، فلن يتمكّنوا لقساوة قلوبهم أن يشاركوا بهذه المحبّة، فيكونوا كمن أغلق على نفسه إمكانيّة الفرح، وإنّه لعذاب عظيم أن يعزل إنسان نفسه وسط عرس. عندها، محبّة الله تقتضي احترام الحرّية الإنسانيّة للمنغلقين عنه، ولو أنّ جمال وجهه وألق محبّته سينتظران على مشارف القلوب إلى ما لانهاية يقرعان أبوابها. الملكوت هو ملكوت الحبّ، ولكنّ حضور الله-المحبّة سيفعل بطريقتين مختلفتين، إذ سيكون عذابا لغير المحبّين لأنّ أولئك ينغلقون أمام الله، مصدر كلّ فرح ومُتمّ إنسانيّة الإنسان؛ ويكون جمالًا وفرحًا للمُحِبّين لأنّ هؤلاء ينفتحون على محبّة الله بعد أن تكون هذه قد تسرّبت إلى قلوبهم أو خبزتها من خلال كلّ حبّ أحبّوه به وكلّ نضال ناضلوه في هذه الحياة من أجل حبّ «صورته» بينهم: ذاك الإنسان المضطهد. خريستو المرّ
الثلاثاء ١٤ شباط / فبراير ٢٠٢٣ لا يعدو الكلام والكتابة عن الله، كونهما مقاربة محدودة بالضرورة لله، إذ لا يمكن الإحاطة بالإله، وما نحن - فرادى ومجتمعين - إلّا بشر محدودون بألف طريقة وطريقة، وسيبقى الله متجاوزاً بما لا يُقاس كلامنا وكتاباتنا عنه، كما وكلّ العقائد الدينيّة. الكلمات إنسانيّة بالضرورة، ولا يمكن أن نقبض على الله في تعريف. بالإضافة إلى ذلك، فإنّ كلّ كتابة وكلام يرتكزان بالضرورة على منطلقات إيمانيّة، وهذه تتمايز في أديان ومذاهب وفلسفات وعقائد متباينة، ومن هنا لا بدّ من أن تأتي الرؤى متباينة. كتب أحد تلامذة يسوع يوماً بأنّ «الله محبّة». عندما تقولُ المسيحيّة إنّ «الله محبّة» هي لا تعني فقط أنّ الله يحبّ الناس، وإنّما تعني أنّ ذاته هي محبّة، أنّه هو محبّة، كينونته محبّة. وبالتالي فإنّ كلّ أمر إلهيّ نعقله، نقرأه، وكلّ ما نظنّه من الله وفيه (قدرة، حكمة) يجب أن يكون مرتبطاً به كمحبّة. قدرة الله هي قدرة محبّة، وحكمته هي حكمة محبّة، إلى ما هنالك. من خلال هذه الرؤية كيف نقرأ المآسي الإنسانيّة؟ عدا الآلام الفظيعة، تثير المآسي الإنسانيّة تساؤلات من نوع: لماذا تحدث المآسي للناس الطيّبين؟ عبر التاريخ الإيمانيّ ربط الإنسانُ وقوع المآسي بخطايا يفعلها البشر، وذلك قياساً على خبرة الإنسان الملموسة من أنّ انحرافات الإنسان تستجلب العقاب في المجتمع. حين تفَكَّر الإنسان بالألوهة، لا بدّ أنّه أسقط تجربته الإنسانيّة عليها فشعر بأنّ المآسي العظام التي تحدث في الطبيعة هي عقاب إلهيّ، واعتقد أحياناً أنّ المآسي التي يفعلها البشر ببعضهم البعض لا بدّ أن تكون عقاباً على شرّ ما. ولكنّ الإنسان اصطدم بمشكلة المآسي التي تصيب البريء. قصّة أيّوب هي تماماً معركة فكريّة إيمانيّة مع هذا السؤال: إنسان بريء بارّ ومحبّ لله، لمَ إذاً تصيبه المآسي؟ فنحن فطريّاً، نشعر بالظلم أمام عقاب بلا سبب. بعض المآسي يرتكبها البشر وعندها قد نرجعُ أسباب حدوثها إلى إرادة الإنسان عندما تنحرف عن المحبّة، فترتكب الشرّ (ارتكاب مجزرة بحقّ جماعة). ولكن حتّى عندها نتساءل كيف لا يتدخّل الله ليمنع استفحال الشر؟ وبعض المآسي هي نتيجة أحداث الطبيعة (زلزال، بركان، مرض) التي تقع على الأبرياء. لا مسؤوليّة على الإنسان عند وقوع مأساة نتيجة عوامل الطبيعة، إلّا بقدر انعدام تطبيق الناس لمحاذير السلامة (إهمال، غياب قوانين، غياب التخطيط، حصار اقتصاديّ،…). أمام الحدث الطبيعيّ، يتوجّه الإنسان إلى خالق هذا العالم، الله، ويتساءل «لماذا»؟ فالله بحكم خَلْقِه للعالم مسؤول عن وجود أحداث طبيعيّة. هكذا، في حالة المآسي التي يختبرها الأبرياء، بسبب أذى ناتج من حرّية الإنسان عندما تجنح لفعل الشرّ، أو بسبب أذى ناتج من الطبيعة، نوجّه سؤالنا إلى المسؤول الأوّل عن وجود الخليقة (والسؤال اتّهاميّ ولو بشكل مبطّن). هناك قراءة تقليديّة للعلاقة مع الله تقول إنّ المآسي تحدث للبريء وإنّ الله «يسمح» بحدوثها بسبب «حكمة» إلهيّة لا يمكن أن نفهمها. تحاول هذه القراءة أن تخفّف من الاتّهام المبطّن لله بمسؤوليّته عن المآسي، وترفع الاتّهام عنه بالقول بأنّ هناك أمراً جيّداً لا بدّ يصنعه الله، ولكنّا عاجزين عن فهمه. هذا الموقف، على علّاته، ينطلق من إحساس جيّد بأنّ الله لا يظلم. هو موقف يحاول أن ينزّه الله عن الظلم. لكنّ المرارة تبطّن معظم الأحيان هذا الجواب، فالإنسان عادة يشعر باللامعنى، وباحتجاج لعدم تدخّل الله لمنع المآسي. لكنّ المجال مفتوح في المسيحيّة لقراءة أخرى، ابتكرها في الكنيسة المشرقيّة اللاهوتيّ كوستي بندلي. القراءة هذه تستند إلى كلام يسوع في الإنجيل. فحين سُئِلَ يسوع مرّة عمّن ارتكب معصية لكي يولد إنسان أعمى، هو أم والداه، رفض يسوع جملة وتفصيلاً هذا الموقف، وقال بصراحة كلّية «لا هذا ولا والداه». الإنجيل يقول إنّ يسوع أجاب ثمّ شفى الأعمى. إذاً، انطلق يسوع من العمى كواقع موجود في الطبيعة، من دون أن يعيد أسبابه لـ«ضربة» إلهيّة «حكيمة»، ثمّ قاوم مفاعيله بطريقته، بقدرته على الشفاء. واليوم، يمكن أن يقاوم الإنسان مفاعيل انعدام البصر بقوانين متعدّدة تعدّ المجتمع كي يكون قادراً على فتح مجالٍ فيه كي يحيا الإنسان الذي لا يبصر ويعمل بحسب إمكاناته. انطلاقاً من هنا، لا تقبَل هذه القراءة الإشارة إلى مواقف الله بطريقة لا تنسجم مع المعطى الأساس: الله محبّة؛ وبالتالي ترفض التفسير القائل بأنّ الله يريد، لـ«حكمة» له لا نعلمها، أن تقع مأساة، وبأنّه يعلّم بواسطتها الإنسانَ أمراً ما، وبأنّه «يفيد» هذا الأخير من حيث لا يعلم. فإلحاق الضرر بالإنسان بحدّ ذاته غير منسجم مع المحبّة: كلّ منّا ينبّه أولاده ويحرمهم من ألعاب لفترة لكي يهذّبوا رغباتهم ويغيّروا أفعالهم، ولكن ما من أحد يقتل أحد أولاده لـ«يعلّم» الآخر درساً، أو لـ«ينقذ» القتيل من ارتكاب أخطاء كان سيرتكبها لو عاش (على هذا الأساس قتل البشريّة أمر جيّد إذ يمنع الجميع عن الخطيئة!). إنّ القول بأنّ الله «يسمح» بالمآسي لـ«حكمة» ما، يجعله مشاركاً بوقوعها بشكل فاعل، شئنا أو أبينا. عوض ذلك، يمكن التفكّر بالأمور بطريقة أخرى منسجمة أكثر مع كون الله محبّة، ومع احتجاجنا على المأساة. إنّ الكون مخلوق، ولذلك هو حكماً متمايزٌ عن الخالق الكامل وحده. الخليقة هي حكماً ليست الخالق، وبالتالي هي حُكماً ناقصة، بحكم مخلوقيّتها. من عدم كمال الخليقة، تنبع معطوبيّتها: وجود الموت، وجود المرض، وجود الأحداث الطبيعيّة التي نعيشها ككوارث...إلى ما هنالك من خبرات نقص ومحدوديّات. لكن، لماذا لم يخلق الله الكون كاملاً دون نقصان؟ على هذا نجيب أنّ المخلوق هو حكماً غير الخالق، وحكماً ناقص، لا يمكن تجاوز هذا المُعطى الأساس، إن آمنّا بشكل جدّي بأنّ الله محبّة. فكونه محبّة فهذا يعني أنّه يحترم تمايز الكون عنه، وبالتالي لا يخلقه دون كينونة، لا يخلقه ولكأنّه ظلّ للألوهة، أو دمية يتلاعب بها. هذا نقيض المحبّة. لهذا كلّه، لأنّ الله محبّة وخالق والكون مخلوق محبوب، فالكون ناقصٌ وفيه ما فيه من زلازل وبراكين وما شاكل. أمّا الكوارث غير الطبيعيّة، فهي نتيجة وجود حرّية الإنسان التي خلقها الله واحترمها لأنّه محبّة. ولكن لمَ خلق الله الحرّية؟ لا يمكننا بالطبع سوى أن نتأمّل لنحاول أن نفهم. الإنسان هو المخلوق الذي نقول عنه إنّه شخص، ولعلّ كونه شخصاً حرّاً (إلى حدّ) هو ما يجعله «صورةَ الله» وخليفته. الله حرّ، وأراد - كما نلاحظ من وجودنا - أن يخلق مخلوقاً حرّاً مثله، على صورته، لكي يتمكّن الإنسان أن يحبّ مثل الله. خلق الله هذه الحرّية التي يمكنها أن تعارض الإله أو أن تحبّه. حرّيتنا هي تاج الكرامة الإنسانيّة، ولكن هي مأساتنا أيضاً، بل وهي «مأساة» الله (إن جاز التعبير) لأنّ كلّ مأساة تصيب الإنسان هي بلا شك مأساة تصيب بطريقة لا نفهمها محبَّ الإنسان الأكبر: الله. حرّية الإنسان تلد الحبّ والتعاطف والموسيقى والشعر والفرح وغير ذلك من جمالات، ويمكنها أيضاً أن تسبّب المآسي. بالطبع، بحسب الإيمان، الله لا يقف موقف المتفرّج على مآسي الإنسان، بل موقفاً فاعلاً، عاضداً للعمل الإنسانيّ الذي يواجه الظلم ويحاول منع وقوع المآسي، كما يواجه تبعات المآسي إن وقعت. كيف يفعل ذلك لا نعرف بالتفصيل، ولكنّنا نثق ونؤمن بأنّه المحبّة، ولذلك فإنّ كلّ خير وكلّ عمل لمواجهة الشرّ، ولمواجهة أثر نواقص الطبيعة، يقف وراءها الله. الله هو خلف العقل والفكر والتعاطف، هو منحنا هذا كلّه وهو يعضدنا - لا نعلم كيف - في فعل هذا كلّه. كونه أرسل الأنبياء، ثمّ أرسل كلمته بيننا ليتجسّد بيننا، دليل على أنّ الله «خاض» غمار التاريخ مع الإنسان ولم يجلس «فوق». لِمَ خلق الله هذه الحرّية الإنسانيّة، هذا المخلوق الحرّ، إن كان يعلم أنّ حرّيته ستتسبّب بالمآسي؟ ما نعرفه من وجودنا ووجود حرّيتنا، أنّ الله - المحبّة أراد أن يدخل في علاقة محبّة مع الإنسان المخلوق وأن يغدق عليه حبّاً وفرحاً؛ وبما أنّ المحبّة لا يمكن أن تكون دون حرّية، فقد خلق اللهُ الإنسان حرّاً لكي يتمكّن من أن يحبّ الله والبشر. لا محبّة دون حرّية، لا قيمة لتقديم جواب «نعم» على محبّة الله البادئة (أو محبّة إنسان آخر)، دون أن يكون لدينا إمكانيّة قول «لا» لتلك المحبّة. الحرّية الإنسانيّة موجودة لتكون المحبّة الإنسانيّة ممكنة. رغم محاولات الإجابة هذه، فإنّ وعينا للمآسي يوجعنا، ولا يخفّف برأيي من الوجع إلّا العمل الحثيث لمقاومة الشرّ (نتيجة انحراف الحرّية عن المحبّة) ولتقليص تبعات نواقص الطبيعة (أمراض، زلازل…). الكلّ يمكن أن يقاوم الشرّ، والكلّ من خلال نوع عمله يمكنه - إن أراد - أن يساهم في بناء مجتمع متحابّ وتأمين حاجات الآخرين الحقيقيّة والمشروعة، والكلّ يمكنه أن يتبرّع بماله، ووقته، إلخ… وبالرغم من وجعنا جرّاء وعْينا، وتعبنا، هل يتمنّى أحد منّا لو أنّه ولد حجراً، مثلاً، عوض أن يكون إنساناً؟ لقد حاولنا أن نحلّل ما أمكن بالعقل الذي منحنا إيّاه الله، لكن لا جواب للسؤال الأخير: ولماذا أراد الله مغامرة الخلق هذه؟ فلقدرتنا على التأمّل في إرادة الله حدود تكلّمنا عنها في البداية. أمّا بالنسبة إلى من آمن بيسوع، فيكفيه أنّ الله، من خلال خبرة يسوع، أخذ على نفسه أوضاع الخليقة وخبرتها (ما خلا الخطيئة). بيسوع «اختبر» الله المآسي الإنسانيّة كمن يختبرها «من الداخل» لا كمن يشاهدها من بعيد أو من «فوق»، فصار مع الإنسان ليكون الإنسان معه، أو صار كلمة الله إنساناً ليصير الإنسان على مثاله كلمة لله. من خلال يسوع، عرفنا أنّ الله «يحبّ الإنسان حبّاً جنونيّاً» كما كتب القدّيس نيقولا كاباسيلاس يوماً. وفي قارب الحبّ هذا، يضع الإنسان أسئلته كي تذكّره بضرورة السفر أبعد؛ في قارب الحبّ يقوم الإنسان بمغامرة الحياة مع الله، ويركع مع المحبّين ركعتين في العشق ذكرهما الحلّاج، لا يصحّ وضوؤهُما إلّا بالحرّية المغمّسة بالفرح، وبالدمع، وبالدم أحياناً. خريستو المرّ – الثلاثاء ٧ شباط / فبراير ٢٠٢٣
هناك أخلاق مغلقة (والعبارة للفيلسوف هنري برغسون) يشترك بها جميع الناس، وهي تلك التي لا تطلب التعاطف والعدالة إلّا للناس الذين يشبهوني. هناك أساس تطوّري وظيفي، على الأرجح، لنشوء هكذا أخلاق عند الإنسان، ألا وهو ضرورة العصبيّة للحمة المجتمع، ونشوء التعاضد بين أفراده، واستمرار النوع البشريّ. وهناك أخلاق منفتحة، وهي تلك التي تطلب التعاطف والعدالة لكلّ إنسان، بل وللحيوان والطبيعة أيضًا. هذه دعا إليها الأنبياء، ولاحظها الفلاسفة ومنهم مَن دعا إليها بغضّ النظر عن موقفه من الله. لكن من الواضح أنّ طلب العدالة للحيوان وللطبيعة قد يكون مترافقا مع أخلاق مغلقة، مع كراهية أو عنصريّة تجاه الآخرين، أو بالأقلّ مع لا مبالاة تجاه مصيرهم. هذا ميلٌ إنسانيّ لاحظه المحلّل النفسيّ كارل يونغ، ميلٌ إلى نزع صفة الإنسانيّة الكاملة عن الذين هم «في الخارج» واحتكار هذه الصفة للذين هم في «الداخل»، وكلّ جماعة تحدّد الداخل والخارج بالطريقة التي تراها. هذه الأخلاق إذا استبدّت بالإنسان، تبدأ بـ«خارج» جدّ مختلف (العنصر الآخر، البلد الآخر، الثقافة الأخرى، الدين الآخر، الطائفة الأخرى) ثمّ تنزع إلى تقليص دائرة «الداخل». فإن بدأت بأنّ الخارج الأقلّ إنسانيّة، «العدوّ»، هو هم أولئك الذين من الدين الآخر، تنزع إلى الوصول بهذا التوصيف إلى أولئك المنتمين إلى الطائفة الأخرى، ثمّ تقلّصه إلى الطائفة نفسها لتقول بأنّ الآخرين الذين من نفس الطائفة ولا يقولون قول «جماعتنا» هم «الأعداء» الذين لا يستحقّون صفة الإنسانيّة الكاملة (فكّروا بالحروب الداخليّة في جميع طوائف لبنان). داخل الطوائف، النابعة من العقائد نفسها، يكون التهاب المشاعر في أوجه بين المختلفين، لأنّ وجود الآخر المختلف المنطلق من نفس العقائد هو دليل واضح أنّ موقف «جماعتنا» ليس حقيقة مطلقة، وذلك أنّ «جماعتهم» انطلقت من نفس المنطلقات العقائديّة نفسها لتصل إلى استنتاجات مختلفة. المشاعر المتأجّجة نراها أيضا في المختلفين من نفس العقيدة السياسيّة أو الفلسفيّة. قاع هذه الأخلاق المغلقة نراها عند من يمتلك القدرة العسكريّة إذ ينحو أن يقول أنّ مَن يختلف معي أنا، هو «العدوّ» الأقلّ إنسانيّة. طبعا هناك كلام صريح يبخّس من إنسانيّة «الآخر» الذي في «الخارج»، ولكن معظم ما يُقال يأتي بتلميح غير مباشر من خلال صفات يُدمَغُ بها «الآخرون»: وسخون، كاذبون، منافقون، سارقون... لنصل إلى تشبـيههم صراحة بكائنات لا بشريّة: جرذان، حيّات، وحوش، حشرات، تستحقّ الإبادة دون اعتبار لإنسانيّتها. لم يدعُ يسوع إلى أخلاق مغلقة، بل إلى أخلاق منفتحة، والدليل الدامغ كلامه في مثل السامري الشفوق الذي يجزم فيه بأنّ القريب هو المحتاج إلى مساعدتك، أي بأنّ القرابة بين البشر يصنعها الإنسان صُنعًا بتعاطفه الفاعل بالأعمال. للنبيّ إشعياء موقفا متوازيا، فهو يضع على لسان الله كلامًا يعتبر فيه أنّ الصومَ المقبول عنده هو تحرير المسحوقين، وقطع كلّ قيد، ومشاركة الجياع، وكساء الفقراء، وإيواء التائهين، «وأن لا تتغاضى عن لحمك» (إشعياء ٥٨: ٧). الآخر المسحوق هو لحمي، هذا لبّ الأخلاق المنفتحة. المسيحيّون والمسلمون مقبلون على شهر أو أكثر من الصوم، إن تنبّهنا إلى ما قاله إشعياء يغدو الصوم عن الطعام غير ذي معنى إن لم يترافق مع الوقوف إلى جانب «لحمنا» في بلادنا لإحقاق العدالة للمسحوقين الذين نهبتهم وأسَرَتْهم القوى الاقتصاديّة والسياسيّة، وإلى جانب «لحمنا» في فلسطين في نضالهم من أجل العدالة والتحرّر من آلة الاحتلال والتمييز العنصريّ الاسرائيليّة. لا معنى لإيمان لا يُعاش، وبالنسبة للإنسان وحياته، الله، والكلام عنه، لا معنى لهما ما لم يكونا منطلقًا لتجربة حياتيّة: لمشاعر وفكر وتصرّفات. الفلسطينيّون لحمنا، إن لم نفهم هذا لم نعرف يسوع ولم نفهم الكتاب. لا أتكلّم عن القرابة الجسديّة ولا عن الأمّة ولا عن الوطن ولا عن القوم، أتكلّم عن المسحوقين يوميّا تحت إرهاب الآلة العسكريّة اليوميّة للاحتلال ونظام الفصل العنصريّ الاسرائيليّ. إنّهم لحمنا. كلّ إنسان مسحوق هو لحمنا. لكنّ سكّان المعمورة البعيدون جغرافيّا عن فلسطين، والذين يقصفهم الإعلام بالمنطق العنصريّ، معذورون إلى حدّ ما من عدم معرفتهم وعدم إعطائهم الأولويّة الكبرى لمصير الفلسطينيّين. أمّا نحن القريبون جغرافيًّا، وبغضّ النظر عن المصير المشترك، فجهلنا لأوضاع الفلسطينيّين غير معذور، وعدم إعطاء فلسطين أولويّة في حياتنا الإيمانيّة غير معذور، ولا نحن معذورون إن قصّرنا في إظهار حقيقة أوضاع الفلسطينيّين في المجتمعات التي نعيش فيها، أكان ذلك في أرضنا الأمّ أم أرض المهجر. ويجب أن تؤرّقنا كلمات يسوع «لو لم أكن جئت وكلّمتكم لما كانت عليكم خطيئة، وأمّا الآن فليس لكم عذرٌ في خطيئتكم» وكذلك «لو كنتم لا تبصرون لما كانت عليكم خطيئة، ولكنّكم تقولون: إنّنا نبصر، فخطيئتكم باقية». النضال من أجل دحر القوى السياسيّة والاقتصاديّة التي تدوس «لحمنا» في بلادنا، والنضال من أجل تحرّر «لحمنا» في فلسطين، نضالٌ واحدُ لا نضالان. هو نضالُ الأخلاق المنفتحة من أجل وحدة عائلة بشريّة تحيا في العدالة والحقّ، وتحقيقٌ لصوم مقبول أمام وجه الله. ما عدا ذلك نفاق في نفاق، وتقوقعٌ في الأخلاق المغلقة المدمّرة، عاجلا أم آجلًا. |
الكاتبخريستو المر الأرشيف
December 2023
Categories |