خريستو المرّ
السبت ٢٤ أيلول / سبتمبر ٢٠٢٢ (المقالة في الصحف) لا يوجد عيش حقيقيّ للإيمان دون حرّية. الإكراه، القسر، ينفي الصدق في التصرّف والقول ويدفع الإنسان دفعًا إلى تزوير وجوده، إلى الانشطار، إلى العيش في ازدواجيّة، بحيث يعيش على الصعيد الظاهر قولًا وتصرّفًا في حالة مفروضة بالإكراه، وعلى الصعيد الفكريّ والشعوري في حالة معاكسة. الإكراه يدفع لا محالة إلى النفاق. لكنّ النفاق لا يتوافق مع الإيمان، وكيف له أن يتوافق؟ قد يدخل الإنسان في دين ويتّبع جميع الطقوس وتبقى الشخصيّة بعيدة عن مقتضيات الإيمان. جذر الإيمان لا يكمن في اتّباع الطقوس ولا في الدخول في دين، وإنّما في العلاقة الصادقة بالله، وهذه العلاقة لا يمكن لها أن تتمّ بشكل صحيح إلّا إذا انعكست في علاقة صادقة للإنسان بغيره، وعلاقة صادقة للإنسان بنفسه بحيث يتوافق فيه ما يضمر وما يُبدي، دون ازدواجيّة. الطقوس تعبير عن العلاقة بالله وبالآخرين وبالذات، وتجذير لها، لكنّها ليست الأصل. في الأصل كان الاهتداء، والاهتداء لا يكون بالقسر، كلمة الاهتداء نفسها منافية للقسر. الاهتداء يعني اكتشافا وقبولا شخصيًّا لما يتلمّسه الإنسان بكيانه، أي بعقله ونفسه ووجدانه، في جوّ من الاحترام لحرّيته كإنسان. بالاهتداء تبدأ العلاقة بالله وتستمرّ بألف طريقة وطريقة، منها الطقوس، ولكنّ محكّها هو العلاقة بالآخر الإنسان وحياته، والعلاقة لا يمكن أن تكون سليمة إن لم تكن صادقة، ولا يمكن أن تكون صادقة إن لم تكن حرّة. العلاقة بالله، محبّة الله التي منها تنبع عبادته، تفترض الحرّية شرطًا، لا يوجد محبّة دون حرّية. الدولة شكل من الحياة الاجتماعيّة أدواته القسر (قانون، شرطة، قضاء، إلخ.). مشكلة الدولة الدينيّة أنّها تفترض أنّها لها أن تدخل في حيّز الإيمان الشخصيّ، وهي حين تدخله لا يمكنها أن تفعل ذلك إلّا بأدواتها، أي بأدوات القهر. حين تستخدم الدولة أدواتها لتفرض على إنسان الامتناع عن الضجيج في منزله في منتصف الليل، مثلًا، فهي تحدّ بالقسر من حرّيته بأن يفعل كلّ ما يشاء، ولكنّها لا تتدخّل في علاقته بالله؛ هي فقط تحدّ من جوامح نرجسيّته وتدفعه للأخذ بعين الاعتبار حياة غيره، مهما كانت علاقته بهم. أمّا حين تتدخّل لتفرض على إنسان طريقةَ لباس، أو صيامًا، أو صلاةً، فإنّها تتدخّل في علاقة ذاك الإنسان الفريد بالله وفي قناعاته النابعة من وجوده الذاتيّ الفريد، هي بالقسر تريد لو استطاعت أن تجبره أن يتصرّف بطريقة محدّدة تبعًا لتفسيرات الدولة للدين، وهي بالضرورة تفسيرات ظرفيّة وجزئيّة طالما أنّها لا تمثّل كلّ الأزمان (لا تمثّل ما سيقوله البشر في المستقبل) ولا تمثّل جميع الطوائف ولا جميع التفسيرات في طائفة معيّنة. وفي النهاية، ومهما كانت تلك التفسيرات الدينيّة صحيحة، فالدولة بأدواتها القسريّة تتدخّل بعلاقة ذاك الإنسان بالله: هي تحدّ من حرّيته في أن يؤمن أو لا يؤمن، وأن يحيا علاقته بالله كما يراها هو لا كما يراها غيره، وأن يتحمّل مسؤوليّته عن إيمانه الذاتيّ أمام الله. هي -مهما قلنا وبرّرنا- عدم اعتراف بالوجود الذاتيّ الشخصيّ الفريد لكلّ إنسان، ومحاولة سحق لها. وإن كان القسر آتيا من الدولة، أم من مجموعة من الناس، فإنّ الأمر سيّان فالنتيجة واحدة: إجبار الإنسان أن يتصرّف في موضوع الإيمان بحسب ما يراه غيره، أي بحسب النفاق لا بحسب الصدق. وأيّ منطق هذا الذي يرضى باستتباب النفاق وسط جماعة تريد أن تكون مخلصة لإيمان، ومحامية عنه؟ الدولة - وهي قاهرة حُكمًا – كما والجماعات القاهرة، حين تتدخّل بعلاقة الإنسان بربّه، يمكنها أن تضمن انصياع الجميع للعلاقات الظاهريّة، ولكنّها بالتأكيد تخلق البيئة الحاضنة للنفاق الإيمانيّ وتزوير الوجود، وهذا من شأنه أن يُفسِد العلاقة الإيمانيّة بين الإنسان وخالقه التي لا يمكن أن تكون حقيقيّة إلّا إذا كانت حرّة. الإكراه في الدين يُنتج النفاق الدينيّ، وهذا بلا شكّ يُبعِد الإنسان عن الله. قد تُسعَدُ الجماعات القاهرة بسطح المظاهر، ويغيب عنها أنّها خلقت كلّ الظروف لتبقى القلوب بعيدة عن الله، وماذا ينفع الإنسان لو عاش المظاهر كلّها وخسر نفسه أو فقدها في التزوير الذي يُنتِجُهُ القهر في العلاقات. وحدها الحرّية تسمح بالصدق والقناعة في العلاقات، وتحترم فرادة كلّ إنسان. خريستو المر
الثلاثاء 20 أيلول 2022 (المقالة في الصحف) أطلّت فرقة ميّاس الراقصة في برنامج تلفزيونيّ وتابعها من يتابع فنّ الرقص عادة ومَن لا يتابعه؛ ولعلّ الإحباط العام الذي تعيشه البلاد دافع قويّ لتلمّس أمرٍ جميلٍ يضيء في العتمة النفسيّة الحالكة. وقد توسّل مصمّمو الرقص في الفرقة الثقافات الشرقيّة في تصاميمهم الجميلة. مَن شاهد العروض، لا بدّ أنّه لاحظ استخدام الفرقة رموز الأساطير الدينيّة (الحيّة مثلاً). الأغلبيّة الساحقة من الناس فرحت بعروضِ هذه الفرقة الجدّية ونجاحها. فما الذي يدفع بأصوات دينيّة مسيحيّة (لم أقرأ لأصوات دينيّة مسلمة وهذا لا يستبعدها) إلى التهجّم على الفرقة من باب عبادة الشيطان؟ تجنح قيادات دينيّة على جميع المستويات إلى فرض رؤيتها الخاصّة لما هو مسموح وممنوع في الفنّ، فترفع شعار المسّ بالمشاعر الدينيّة كلّما تناول عمل فنّي شيئاً من الدين بطريقة لا تعجبهم أو يشعرون بأنّ فيها مسّاً بشعائر أو عقائد؛ والمركز الكاثوليكيّ للإعلام في لبنان له اليد الطولى في طلبات منع الفرق الفنّية التي تجرح الشعور الديني المرهف للأب أبو كسم وصحبه. لكن التحامل على فرقة ميّاس بلغ مبلغاً كبيراً بتهمة التعامل مع الشيطان، واعتقادي أنّ السبب يكمن في كونهنّ نساءً. عبر العصور، تحاملت الكنيسة على النساء؛ حتّى اليوم، هناك جبل كامل مليء بالأديرة في اليونان ممنوع أن تدخله امرأة، ونجد بين القصص الرهبانيّة التي يتناقلها بعض الرهبان قصّة تصف المرأة بالشيطان (المقصود أنّ وجودها نفسه تجربة للرهبان «المساكين»). لكنّي أفضّل قصّة رهبانيّة أخرى ذات دلالة في موضوعنا: يُحكى أنّه أثناء الصوم جاع راهب في أحد الأديرة، فدخل المطبخ سرّاً ومعه بيضة، وبات يضعها فوق الشمعة الموجودة في المطبخ لطهيها (لا تسألوني كيف)، وعندما فاجأه رئيس الدير في المطبخ ندم، وقال له بسرعة «الشيطان جرّبني»، فإذا بالشيطان يظهر ويقول لرئيس الدير «لا تصدّقه، أنا كنت أتعلّم منه». هناك خوف قديم لدى الرجال من النساء يشير إليه التحليل النفسيّ، شيء من الرهبة والحسد كامن في نفس الرجل من هذا الكائن القادر على أن يلد إنساناً جديداً في العالم. يُضاف إليه أمر أهمّ، هو خوف الرجل الذي لم يعرف كيف يتصرّف مع طاقته الجنسيّة فكبتها (وشتّان بين الكبت والضبط) وتعامل معها كطاقة هوجاء مخيفة فحاول التهرّب منها بطردها من مجال الوعي ووضعها في زاوية مظلمة من النفس. فإذا بالطاقة الجنسيّة مستبعدة ومنفصلة عن مجمل الشخصيّة، فتبقى طاقة هوجاء عوض أن تتهذّب بالحنان وبالعلاقة الإنسانيّة مع آخر مُعتَرَف بكيانه المتمايز والحرّ. وإذا بالجنس المكبوت يطفو إلى الوعي، ويقفز إلى سطح النفس بوضعه الفجّ، كلّما كان الرجل أمام إنسان آخر (امرأة في حديثنا) يثير فيه الرغبة فيراه مجرّد جسد، وجسدٍ مغوٍ بالضرورة إذ إنّ الرغبة الجنسيّة تتصاعد من الأعماق المكبوتة بحالتها الفجّة، العشوائيّة، الاستهلاكيّة. عندها، تجتاح ذاك الإنسان مشاعر الاضطراب والخوف، وتتحوّل إلى غضب ورغبة بتبرير الذات والعقلنة، فيُسقِط على الآخر نوازعه الخفيّة، ويتصوّره ويصوّره على أنّه هو الذي يتقصّد الإثارة والإغراء، وأنّه شيطان يحاول أن يوقعه هو «البريء» بالخطيئة، بل وينسب إلى موضوع شهوته اقتداراً مرعباً ويعتبرها أصل الشرور (تذكّروا قصّة آدم وحوّاء مثلاً). وكلّما زادت حدّة الرغبة زادت حدّة ردود الفعل، وكلّما تهرّب الإنسان من مشاعره بإسقاطها على الآخر زادت حدّة التهجّم على ذاك الآخر. هذه الأواليّات التي شرحها لنا علم التحليل النفسيّ لا تزال قائمة، وهي في السابق دفعت كنيسة يقودها رجال إلى التحامل على النساء وارتكاب الفظائع بحقهنّ، أثناء الحملة على مَن تخيّلتهم أنّهم «سحَرة». إنّ الذين نكّلت بهم الكنيسة بشكل وحشيّ بيد رهبان ساديّين كانوا خاصّة من النساء، إذ كانت الكنيسة تنكّل وتقتل خمسين امرأة، مقابل كلّ رجل واحد. وقد كان التنكيل وحشيّاً وبالغ القسوة، إذ كان حكم الإعدام يتمّ خنقاً أو حرقاً. وقد تعرّض الألوف من الأبرياء للإبادة الكنسيّة المنظّمة، وكان التنظيم رسميّاً إذ وضع راهبان، بطلب من البابا، عام 1486، دليلاً كنسيّاً يبيّن وسائل الكشف عن «السحَرة» المزعومين، وكيفيّة إجراءات المحاكمة وماهيّة الأحكام الضروريّة. هكذا قتلت الكنيسة ما يقدَّر بـ 40 ألفاً إلى 60 ألف امرأة بتهمة التعامل مع الشيطان. إنّ التهجّم على فرقة ميّاس هي الظاهرة نفسها تعود في حقبة ليس باستطاعة رجال دينٍ رعاعٍ مكبوتين من حرق النساء، وإلّا لرأت نساء فرقة ميّاس المصير نفسه الذي لاقته أخواتهنّ في الجنس اللواتي أحرقهنّ رجال مكبوتون يسقطون حدّة رغباتهم الذاتيّة على نساء لا حول لهنّ ولا قوّة. الحمد لله الذين منحنا العقل لنتقصّى به أسباب الظواهر، وأمدّنا كبشر بما هو ممكن من الحكمة لنستطيع التمييز في أيّامنا بين اللبوس الدينيّ والإيمان الأصيل، بين الكبت حين يهذي والعلم حين يفحص، بين استخدام الدين للتسلّط وبين استخدامه لخدمة الإنسان. من ناحيتنا، نتمسّك بحرّية الإنسان التي شاء الله - بحسب المسيحيّة - أن يخلقها ويحترم حتّى رفضها له. إنّ فرقة ميّاس بقدرات الراقصات والمصمّمين، حملت إلينا جمالات في لوحات ساحرة مستوحاة من آلاف السنين من الرهبة والتلمّس لسرّ الخلق والحياة، وأفرحت معظمنا بذلك. خريستو المرّ
الأحد ١٨ أيلول / سبتمبر ٢٠٢٢ إلى صديقي ومعلّمي الذي سبقنا إلى هناك، كوستي بندلي كما هو متوقّع، فإنّ إتّهامات امرأة لمطران أميركا الشماليّة في الكنيسة الأرثوذكسيّة بأنّه أقام معها علاقة لمدّة ١٧ عامًا دمّرت زواجها، عدا عن علاقاته مع نساء أخريات، انتهت (حاليًّا) باستقالة المطران؛ وهي استقالة يُفهم منها إشارة إلى صحّة تلك الاتّهامات ومسعى البطريرك إلى إيجاد مخرج صامت دون «شوشرة». يخرج المطران من الخدمة، ويعيّن مطران جديد (مِنَ المحسوبين على مَنْ؟)، و«يا دار ما دخلك شرّ». لكن هناك أسئلة لم يطرحها الحكماء على أنفسهم: هل ما فعله المطران خلال ولايته -التي لم تنته رسميّا بعد- هو من قبيل إساءة استخدام موقع السلطة؟ هل استغلّ المطران سلطته الدينيّة للاستغلال العاطفيّ والجنسيّ لتلك المرأة ولغيرها من النساء؟ والمطران متّهم بشراء منزلين مع امرأتين مختلفتين، فهل من سوء استخدام ماليّ للسلطة؟ ماذا يمكن أن تقوم به الكنيسة لأجل تفادي أوضاع مشابهة قائمة اليوم أو يمكن أن تقوم في المستقبل؟ إنّ القادة الدينيون في جميع الأديان يتمتّعون بسلطة كبيرة جدّا؛ وغالبًا ما يتم تعليم الأطفال والكبار إظهار الاحترام للشخصيّات الدينية، وأن يعتبروهم، بشكل تلقائيّ، جديرين بالثقة، ويمثّلون دورهم بالفعل كقادة روحيين وأخلاقيين. طبعا، الواقع يدلّنا أنّ هكذا تربية كارثيّة وكلّ ما تُعَلِّمه هو هراء؛ فالواقع مختلف تماما ويناقض هذه الصورة الجميلة لأصحاب السلطة الدينيّة. لكنّ هذا الهراء هو تربية وواقع مستمرّين؛ معظم الناس يثقون برجال ادلين وينظرون إليهم، كما ينظرون إلى كلّ صاحب سلطة، بمزيج من الاحترام والرهبة. ولهذا من مسؤوليّة المجمع أن ينظر في الأسئلة التي سقناها، كما وفي غيرها. ما هو موقع الجنس من الحياة الرهبانيّة وحياة رجال الدين غير المتزوّجين؟ سمعنا أكثر من مرّة عن مطران يُفسِد حياة طالب لاهوت بإغرائه بأن يترك حبيبته ويترهّب لكي يتمّ ترقيته في الهرم الكنسيّ ليصبح مطرانًا (من المحسوبين) لاحقًا. لهذا، كان يوما مفرحًا، ليس فقط عندي ولكن للملائكة في السماء أيضًا، أن نسمع عن مطران يترك خدمته ويلتحق بحبيبته ويتزوّجها. هذا كان ضالًا فوُجِدَ وكان ميتًا فعاش، وهذا سبب لفرح الملائكة في السماء بحسب يسوع، لأنّه تاب عن خطيئة ترك الحبّ لأجل السلطة. أمّا مَن تبتّل طمعًا في سلطة، فما يزال في الموت إن هو بقي في هذه الذهنيّة. التبتّل لا يمكن أن يكون أصيلًا إلّا إذا كان المتبتّل ينظر إلى الجنس نظرة إيجابيّة، وكان متصالحا مع طاقته الجنسيّة. الجنس رغبة داخليّة لا مهرب منها. هي لا تختفي لمجرّد أن قرّر الإنسان التبتّل. وبما أنّه لا مهرب من أمر موجود في الجسد والنفس، فإنّ الإنسان الذي يبقى عاجزًا عن اتّخاذ موقف من طاقته الجنسيّة، فيتعامى عنها عوض أن يعيشها أو أن يضبطها بشكل واعٍ، يتسبّب لنفسه بما يُدعى بالكبت. بالكبت تبقى الطاقة الجنسيّة قائمةً بكلّ عنفوانها بعيدة عن متناول وعي الإنسان. هذا الإنسان قد يتبتّل، ولكنّه لا يكون عفيفًا أبدا. فطاقته الجنسيّة تبقى طاقةً هوجاء، بعيدة عن مركز الشخصيّة، غير مهذّبة ولا مصقولة؛ تُضحي كأنّها جسمٌ غريبٌ عن الشخصيّة له استقلاله. ولكنّ المكبوت لا يغيب، بل يعود، ولعودته أشكال، نذكّر بها في ما يلي. إنّ الجنس طاقة تدفعنا للّقاء بآخر، ولهذا فإنّ رفض دمج الجنس بالشخصيّة، يعطّل طاقتنا على اللقاء، على الحبّ بالمعنى الواسع للعبارة؛ فتكون النتيجة ما نلاحظه أحيانا كثيرة من انطوائيّة وكآبة، وجفاف عاطفيّ، بل وقسوة، عند بعض المتبتّلين. وقد تنصبّ النزعة الجنسيّة المكبوتة إلى الذات، فيعشق المتبتّل ذاته ولو هو وعظ بالتواضع والمحبّة طيلة النهار. وينكشف هذا العشق لذاته في كبريائه، وروح تسلّط خانقة على من هم حوله. إنّ روح التسلّط المتفشّية في الكنيسة يجب أن تُحَلَّل من زاوية الكبت الجنسيّ، أي من زاوية تربويّة-نفسيّة، وبالتالي فإنّ مواجهتها يجب برأينا أن ترتكز على معطيات علوم النفس. عدا التسلّط، فإنّ الجنس المكبوت قد يعود من خلال الطمع، والرغبة الشديدة بالمال وتكديسه، أو في البخل الشديد. وكذلك تتجلّى عودة المكبوت في الاهتمام المفرط في الجنس. هذا يفسّر مثلًا، ما نقله لي شابات وشباب بغرابة عن آبائهم الروحيّين سؤال هؤلاء لهنّ ولهم فجأةً عن حياتهم الجنسيّة، وإذا ما كان لديهم علاقات جنسيّة أو إذا ما كانوا يشاهدون أفلامًا خلاعيّة. إنّ الاهتمام بالموضوع (دون أن تذكره الشابات والشباب) يشي باهتمام مفرط خرج عن حدّه وبلغ حدود التحرّش اللفظيّ (وهو أودى إلى التحرّش الجسديّ في بعض الحالات). وقد يتجلّى الجنس المكبوت أيضًا بالعكس بالجزع من أيّ ذكر للجنس كتابة أو كلامًا، وقد يظنّ الإنسان أنّ في ذلك عفّة مرهفة، ولكنّها في الحقيقة عفّة زائفة لأنّها تعبير معكوس عن اهتمام بالجنس مفرط يطفو على سطح الوعي عند أقلّ إشارة للموضوع، ممّا يسبّب الجزع. وأخيرًا، قد ينفجر المكبوت بصورة مباغتة ويعود بشكل جامح ومدمّر، فتنطلق الغريزة الجنسيّة بشكل بدائيّ غير عابئ بالآخر ومشاعره، فيتمّ الاعتداء عليه. على ضوء كشف علوم النفس لأثر الكبت الجنسيّ والتي حاولنا تلخيص ما نعرفه عنها، يعود مفهومًا ما نراه من انحرافات على صعيد الرهبان والراهبات، وعلى صعيد الأساقفة، ومن انحرافات في طريقة جذبِ شبابٍ للبتوليّة، طريقةٍ تمثّل تخريبا نفسيًّا فادحًا. وإن كان الكبت يفسّر فهو لا يبرّر إساءة استخدام السلطة، الرهبانيّة أو الأسقفيّة، للاعتداء على الشابات والشباب، أو لاستغلالهنّ واستغلالهم، أو لسيادة روح التسلّط، وعبادة المال. فهذه انحرافات لها آثار فادحة، وتمثّل سوء استخدام للسلطة يوجب الشكوى وتجب مواجهته. ولكن ألا تقتضي الحكمة - العزيزة على قلب البطريرك - أن يقوم المجمع بمراجعة جدّية للتربية الكنسيّة ولطرق قبول الناس في الرهبنة والأسقفيّة؟ ولكن لا نعوّل على ذلك، نعوّل على شابات وشباب الكنيسة أن يقوموا بتلك المراجعة ويدفعوا إليها. خريستو المرّ
الأحد 11 أيلول آب / سبتمبر ٢٠٢٢ عدا الثروات، يسعى المستعمِر إلى سلب عقلِ المستَعْمَر من فكرة مساواته في الكرامة والقيمة مع الـمُستَعمِر؛ ليصبح قبول قيمة الذات الدونيّة أمرًا عاديًّا وصحيحًا في ذهن المستَعْمَر. كلّ كلامنا المنتشر عن أنفسنا كشعب بأنّنا نحتاج لمئات من السنوات "لنصبح بشرا"، أو بأنّنا كعرب أو مسلمين لا تنفع معنا الحرّية، أو بأنّ عقلنا قاصر وبأنّ الانفعال طبعنا، وبأنّه لا يمكن أن نعيش دون قمع، هو بالضبط كلام المستعمِر عنّا حين استعمَرَنا. بالقمع والإرهاب أرسى المستعمِر أدوات استغلاله لأجدادنا، ولم يترك لهم إرهابه إلّا الطاعة والاستزلام والتزلّف والخضوع للاستمرار في الحياة وضمان شيء من الأمن على الحاضر والمستقبل؛ ثمّ عاد ووصفهم بالمتزلّفين والمستزلمين وقليلي الكرامة! المشكلة أنّ هذه النظرة الدونيّة التي ليست هي من «الطبيعة» وإنّما ناتجة عن حكم إرهاب الـمُستَعمِر ولصالحه، تتسرّب إلى نفوس الـمُستَعمَرين؛ ونحن كما غيرنا من الشعوب لم نتحرّر تمامًا من هذا الاستلاب الداخلي، إخوتنا الجزائريّون تحرّروا بشكل أفضل لأنّهم قاتلوا ودفعوا دمًا غزيرًا ليطردوا المستعمر، ولأنّ أجساد نسائهم وأطفالهم ورجالهم تعرف مذاق رصاص الاستعمار الفرنسيّ وتعذيب سجّانيه. يساعد على استمرار التبعيّة النفسيّة أنّ القيادات السياسيّة ما تزال تتصرّف بانبطاح أمام المستعمِر الذي لا يزال على إجرامه ولكن بطريقة خفيّة: منذ فترة وجيزة كانت القيادات اللبنانيّة صاغرة تجلس صاغرةً حول الرئيس الفرنسيّ ماكرون، والبارحة قام رئيس وزراء يقوم بعمل ذليل بإعلانه الحداد على ملكة بريطانيا ثلاثة أيّام! بريطانيا وفرنسا اللتان نهبتا وشرّدتا وقتلتا ومعا ما تزالا تدعمان استعمار فلسطين وتشريد الشعب الفلسطينيّ، وما تزالا تدعما نظام الفصل العنصريّ الصهيونيّ الذي يهدّدنا كلّ يوم ويخترق أجواء في لبنان، ويقصف في سوريا ويعدّ العدّة لمزيد من العسكرة لأنظمة المنطقة للتعاون على قمع شعوبها. نحن لا نزال نرى (بحكم الدعاية والنظم التربويّة المتغرّبة عن واقعها) نرى فقط أوروبا الجميلة في فلاسفتها وعمارتها وأميركا البحبوحة الخياليّة، ولا نبذل جهدا لنعرف عن وقوف أميركا وأوروبا ضدّنا، عن استغلالها لنا، عن نهبها اليوم لأفريقيا مثلا (المصرف المركزيّ الفرنسيّ وحده يدخله نصف ترليون دولار سنويًّا من أفريقيا)، لنرى وننتقد ونعارض ونقاوم أوروبا التي تحكم بالجريمة (وكلّ نهب هو جريمة) خلف ستار كثيف من دعايات حقوق الإنسان التي هي حصرا حقوق إنسانها، والحال ذاتها في أميركا الشماليّة. إن كان لدينا مَن ينهبنا داخل الوطن وتجب مقاومته فهذا لا يعني أن يبقى عقلنا غائبًا عن رؤية ناهبينا الكبار ومدمّري بلادنا وهذا الكوكب الذين يعيثون فيه فسادًا حول العالم ويجلسون على أرائك كمّ هائل من النفاق حول حقوق الإنسان. هذا الاستبطان لنظرة دونيّة للذات، أي النظر إلى الآخر الذي استعمرنا مباشرة يومًا، ويستعمرنا بشكل غير مباشر اليوم، على أنّه ذا قيمة أعلى، نلاحظه في التفاعل السهل العفويّ مع مآسي تلك الدول (وهو أمر جيّد) المتلازم مع نسيان مآسينا، ليست تلك المباشرة المتعلّقة بطعام أو كهرباء أو عمل، وإنّما مآسينا الجامعة، العامّة، التي تجمعنا كشعب: مآسي احتلالنا، ونهبنا، ودور أوروبا وأميركا في حماية ناهبينا، وتشريد شعبنا، وشنّ الحرب تلو الحرب علينا، وإنّي أحصر كلامي هنا قصدا بهذه الدول لأنّ نقدها بالذات غائبٌ. هذه ليست دعوة كراهية لشعب أو مجموعة، هذه دعوة للتنبّه إلى أنّ هناك ضرورة قصوى لنحبّ أنفسنا، لنتضامن مع ذاتنا، فالتضامن مع الآخرين إن ترافق مع احتقار أو تهميش للذات أمرٌ خطيرٌ ومرفوض. لنتضامن مع الإنسان في كلّ مكان، ونقاوم الجريمة في كلّ مكان. هناك ضرورة أن ندين الشرّ ونقاومه وذلك يبدأ بأن نراه حيث هو، ليس فقط حيث هو بادٍ وواضح، بل أيضًا حيث هو خفيّ ومختبئ تحت سلسلة هائلة من الكذب والخداع. لقد قيل في الإنجيل أنّ الشيطان نفسه قد يأتي بشكل ملاك نورانيّ، اليوم هذا الشيطان المخادع يكمن في حكومات أميركا وأوروبا، يجب أن نصنّفها في ذهننا مع الشياطين المخادعة التي بيننا، من عتاة النهب والسلب، ومن عتاة القمع الذي يعذر نفسه بأعذار القَتَلَة المستعمرين من نوع «نحتاج لمئات السنوات لنصبح بشرا»، و«شعوب لا ينفع معها إلّا القمع». خريستو المرّ
الأحد ٤ أيلول آب / سبتمبر ٢٠٢٢ هناك أمران يجب أن يتنازعانا ونحن في مواجهة الفقر. الأوّل هو ملحاحيّة الحاجة، فمن هو لحاجة أن يأكل اليوم أو يتطبّب لا يمكنه انتظار تغيير الأنظمة واستتباب العدالة، من هنا ملحاحيّة المشاركة الماليّة في سدّ الحاجات الملحّة. ولكنّ الأمر الثاني الذي ينبغي ألّا ننساه هو أنّ الفقر ليس نتيجة مصادفة، أو حادث من حوادث الطبيعة التي لا يمكن ردّه، بل هو نتيجة سياسات اقتصاديّة ورؤية لكيفيّة حكم بلاد وشعب، وهذا أمر يعرفه الذين تمرّ بلادهم بأزمات اقتصاديّة حادّة ناتجة مباشرة عن سياسات نحرت الاقتصاد والسياسة وحوّلت البلاد إلى ملك شخصيّ لمجموعة قليلة تتقاسم المال والنفوذ على حساب الأغلبيّة، دون إغفال أنّ أعداء البلاد لا يودّون مساعدتها، وهو أمر يجب أن يكون متوقّعًا وعاديّا جدًّا. من هنا، يجب عدم إغفال ضرورة العمل على تغيير طرق الحكم، وللإنسان أن يقدّر ما هو الممكن فعله في ظروفه المحدّدة، قد لا يحبّ كلّ إنسان العمل العام، ولكن لا يمكن للإنسان يلبس عزفه عن العمل العام لإيمانه، لا يمكن تحويل الإيمان شمّاعة يعلّق عليها الإنسان عدم رغبته أو قدرته على ممارسة العمل العام (من المعروف مثلًا أنّ القدرة على ممارسة التأثير في الحقل العام في السياسة غير ممكنة في سوريّا كما هي في لبنان). من الضروريّ أن يقول الإنسان أنّ المسيحيّة التي تقول بضرورة رفع الظلم عن المظلومين تضطرّه إلى التفكير والتأثير في الشأن العام، في ما يُسمّى أحيانًا بـ"التزام شؤون الأرض"، دون أن يدين مَن يستطيع العمل في الشأن العام أولئك الذين لا يستطيعون ذلك وأن يُلبسوا المسيحيّة لباس مشروع سياسيّ محدّد، ودون أن يحاول مَن لا يستطيعون ذلك حشر المسيحيّة في خانة ديانة «روحيّة» لا علاقة لها بحياتنا على هذه الأرض، وبالطبع هذا هراء لأنّ كلّ عمل نأتي به هو هنا في هذه الأرض وعليها. هذا يُبقي على علاقات متوازنة ومُسالمة بين الناس دون استعمال للدين كوسيلة صراع من هذا الجانب أو ذاك. لا يوجد فقراء بالصدفة يوجد سياسات إفقار. بالطبع أتمنّى أن يعمل كلّ إنسان مؤمن مع غيره دون كلل لتغيير الأنظمة المولّدة للفقر، أنظمة الإفقار، لأنّ هذا هو الحلّ الجذريّ. ولكن حتّى ذلك الحين الدليل الملموس على أنّ الإنسان جدّي في محبّته للفقراء، وأنّه لا يستعمل تشديده على ضرورة الحلّ الجذريّ بتغيير الأنظمة عذرًا كي يتهرّب من مشاركة غيره بأمواله، فإنّ المشاركة جدّ ضروريّة وهي المحكّ الذي تُقاس به صدق محبّة الفقراء. المسألة هي في أين هو قلبنا؛ هل يتحرّك بالفعل أم بالمشاعر؟ حتّى المجرمون لديهم مشاعر بشريّة، كم مرّة رأينا سياسيًّا لصًّا مجرمًا يُدمِعُ على التلفاز؟ المحبّة ليست مجرّد مشاعر، هي ميل قلب، اتّجاه حياة، والمسألة هي في الفعل الذي يترجم ميل القلب، فميل هذا القلب يجب أن يُتَرجَم بشكل ملموس في هذا العالم ليتأكّد الإنسان من ميل قلبه. |
الكاتبخريستو المر الأرشيف
December 2023
Categories |