خريستو المرّ
الثلاثاء ٣١ كانون الثاني / يناير ٢٠٢٣ لم تكن الرياضيّات بين يديه مادة جدّية فحسب. فبوقاره، وقدرته على الشرح الواضح والمتسلسل، سربل الرياضيّات جمالًا: هندسة جمال الأشياء المبعثرة عندما تنجلي في جمبازٍ من الخطوات المنطقيّة السرّية؛ العلاقات السحريّة بين الأرقام، حيث المعروف منها يخبّئ اللامعروف؛ وتلك السين (x) الشهيرة؛ كلّها تناديك كي تكشف اللغز، وأنت تكون قد قرأت ألغاز «المغامرون الخمسة» في شمس الصيف فشحذت فيك الرغبة بفكّ المجهول. وهو في ردائه الأبيض أمام اللوح، يمدّ أمامنا الجسر بين اللامعرفة والمعرفة فوق هاويةٍ من القلق والغموض، ويمدّ إلينا يده وعقله كي نجتاز معه الهاوية. لم يكن يعرف، وربّما أنا نفسي لم أكن أعرف، أنّه كان كاهنًا للكتاب الوحيد الذي كتبه الله مباشرة: هذا الكون، وحكايات الجمال فيه، وحكايات السِحر الرياضيّ الذي يربط المادّة بالمادّة، ويربطها بالعقل، لتنجذب الروحُ فتجري وراء الحبيب كما تجري الأيلُ إلى جداول المياه بعد أن يكون جذبها العطش. لم يكن يعرف، ربّما، أنّه كان كاهن الكلمات التي خبّأها الله، في صفحات لا حصر لها، صِيَغًا رياضيّة نفكّ ألغازها واحدة بعد الأخرى، فنقرأها كما يقرأ المحبّ رسالة محبوب، رسالةً تأخذ بألبابنا لنلمح وراء الصيغ -إن شئنا- إلهًا فَرِحًا لفرحنا. لم يكن يعرف، ربّما، أنّه، وكهنة الرياضيّات الآخرون، قد سلّمنا مفاتيح الدهشة أمام هذا الكون؛ وأنّه بقي معهم رفيق الخطوة الأولى في قدس الفيزياء؛ وأنّ صوته المبحوح سيبقى في ذلك المعبد أيقونةً فريدةً تشير إلى التناسق الجميل. هو الأيقونة التي تردّك إلى التناغم الذي تفقده إذا ما بلغت قدس الأقداس، حيث النسبيّةُ، وحيث الجاذبيّة تقعّرٌ في قماشة الفضاء، وسرعة الضوء ثابت مستقيم لا ينعطف إلّا ليلاقي ثقبًا أسود، وفوضى الكمّ تعثّر أينشتاين، والتشابك بين الإلكترونات يشير إلى أنّها بالحقيقة يمكنها أن تعرف بحالة بعضها حتّى ولو عن بعد، وحيث، وحيث... ففي الدهشة، وحين تجتازك أسئلة الفوضى، والتبعثر، واللامعنى الذي يجتاز ذاك الجمال المنفجر من اللحظة الأولى والمرشّح للانقباض أو التلاشي، تعود أيقونة البساطة الأولى لرياضيّات المدرسة، تعود أيقونته، أيقونة جورج أرناؤوط في ردائه الأبيض، لتعيدك إلى ما سمعته بقلبك، ورأيته بعقلك، وما شاهدته، ولمسته بيديك، من جهة الكلمة الخبيئة خلف كلمات الرياضيّات. يناديك أساتذة الرياضيّات إلى الدهشة. يفتحون أمامك عالمًا ساحرا داخل هذا العالم. يدخلونك من باب سرّي إلى خلف مشهد المادة لتلامس بعقلك قلب هذا الكون، وتحسّ بقلبك نبضه، وترى ملامح من شاعرٍ سكب كلماته في كلّ شيء، سكبها في الكون وفيك، لتتخاطب كلماته فيما بينها، لكي تنجذب إلى بعضها البعض ولا تهدأ إلّا في اللقاء المحيي. هذا بعض ممّا أشار إليه جورج أرناؤوط، عَلِمَ أم لم يعلم، وسأحدّثه بهذا يومًا، في «لحظة» حرّة من الزمن، حين نلتقي أمام الكاتب الذي يلاعبنا بالدهشة والرغبة. قد يكون هذا النصّ علميّا، وقد يكون لاهوتيّا، وقد يكون أدبيّا، ولكن ماذا تفعل بنفسك بعد أن تكون سمعت كلامًا كثيرًا من الفرح والجمال، وشاهدته في الحبّ المجروح بالشوك، واكتشفت في ارتجاف النجوم قصائد لا تنتهي؟ خريستو المرّ
الثلاثاء ٢٤ كانون الثاني / يناير ٢٠٢٣ تشير عبارة «الانشقاق الكبير» في المسيحيّة إلى أوّل انشقاق حصل في الكنيسة عام 1054 بين شقّ غربيّ (الكنيسة الكاثوليكيّة) وشقّ شرقيّ (الكنيسة الأرثوذكسيّة). لكن هذا الانشقاق، كما الانشقاقات التي تبعته (كاثوليك - بروتستانت) أو سبقته، على أهمّيتها الإيمانيّة، ليست هي الأكثر إثارة للرعدة. فإن عدنا إلى الإيمان المسيحيّ بأنّ المسيحيّين هم «جسد» المسيح، وإلى أنّ المسيح قال إنّ وجه كلّ إنسان جائع، أو عطشان، أو عريان، أو مريض، أو سجين، أو غريب، أي كلّ إنسان مُستضعف هو وجهه، فهذا يدلّنا بشكل لا لُبس فيه على أنّ الانشقاق الكبير الجذريّ الآخر في الكنيسة هو ذاك الانشقاق الوجوديّ القائم بين العقيدة والممارسة. يسمّي المسيحيّون بعض ممارساتهم الطقسيّة بالأسرار، ليس بمعنى الأمور السرّية، وإنّما بمعنى الأمور التي يتمّمها الله دون قدرة لنا على الإحاطة بها. في القرن الرابع للميلاد، نبّه يوحنّا الذهبيّ الفم المسيحيّين من فداحة هذا الانشقاق بالذات، فقال في إحدى عظاته «إنّك تحترم هذا المذبح حينما ينزل عليه جسم المسيح، ولكنّك تهمل وتبقى غير مبالٍ حينما يفنى ذاك الذي هو جسم المسيح»، أي تهمل الفقير المستَضعف. بتلك الكلمات، بيّن يوحنّا فداحة الانشقاق الحاصل عندما يحترم الإنسان المظهر الطقسيّ للإيمان وينسى جوهره شخص يسوع الذي هو عماد الطقوس ومعناها وغايتها. إنّ «سرّ» الآخر هو غاية «سرّ» المذبح في المسيحيّة. قد يجتمع الناس على عقيدة وبذلك يتمايزون عن أناس آخرين اجتمعوا على عقيدة أخرى، لكن يجب ألّا ينسوا أنّ عقيدتهم نفسها تدلّهم أنّ غاية الاجتماع هي الآخر، ليس الآخر «القريب» ولكن بالضبط «الغريب»، فغاية الاجتماع هي المشاركة وليس الانفصال؛ هي مشاركة خيرات الأرض الموهوبة مجاناً من الله للجميع، وليس الاستيلاء عليها؛ هي عدالة اقتصاديّة اجتماعيّة للناس في الدولة الواحدة، لا السطو الطائفيّ على ثروات البلاد. الانشقاق الكبير في الممارسة لا يقلّ أهمّية عن الانشقاق في العقيدة، فبدونه كلّ سلامة عقيديّة تبقى خالية من معناها الملموس، لأنّها غير مترجمة أفعالاً وسياسات «من أجل حياة العالم». الأوائل الذين فهموا كلام يسوع، فهموه ضرورة مشاركة في الخيرات. ولكنّهم استندوا إلى اعتقاد اجتماعيّ، شائع حتّى يومنا هذا، بأنّ كلّ ما يحدث في هذا العالم يسبّبه الله، ومن هذه الأمور الفقر والغنى. لذلك وإن أدانوا بكلام لا يُهادن عدم المشاركة، وشبّهوه بالسطو، فهم بقوا في ميدان ضرورة مشاركة الخيرات طوعاً لا قسراً. لكن في يومنا، نحن نعرف معرفة علميّة دقيقة ليس فقط أنّ الفقر هو نتيجة سياسات مرسومة ومقصودة (مَن كان لا يريد أن يصدّق هذا الكلام في الماضي فلينظر حوله إلى ما أدّت وتؤدّي إليه سياسات الحكّام والمصارف والمصرف المركزي من فقر)، وإنّما أنّ المرض أيضاً هو نتيجة سياسات مقصودة وليس فقط نتيجة وجود فيروسات وبكتيريا، فكمّية المال التي لديك تحدّد أين تسكن (في مكان صحّي أو غير صحّي، قرب معامل تلوّث الهواء دون رادع بسبب سياسات الدولة)، ومتى تتطبّب وتتطبّب أولادك أو أهلك (عندما تشعر بوعكة، أو تنتظر حتّى لا يمكنك الاحتمال ويكون قد تمكّن المرض منك)، وإن كنت تستطيع أن تشتري دواء أو لا. لكن قلّة كمّية المال التي تمتلكها (أو يمكنك الحصول عليها من مصرفك) هي نتيجة وجود سياسات واعية تهدف إلى اغتناء فئة محدّدة، ما يتسبّب بموت فئة أخرى، وبقاء فئة ثالثة على قيد الحياة وقدر من البحبوحة كافية لتستمرّ في خدمة غاية الفئة الأولى: السطو على الثروة. لذلك فإنّ ترجمة «سرّ» الآخر اليوم لا تكون فقط بالوعظ وبالدعوة للمشاركة طوعاً، وإنّما بالدعوة والعمل لفرض المشاركة قسراً، بالضغط الشعبيّ. قد يكون الفرض غير متاح اليوم بسبب تمكّن اللصوص من حيازة أدوات القتل، ولكن لا مجال آخر للتغير إلّا بالاستمرار في الإعداد لليوم الذي يمكن فيه فرض المشاركة فرضاً بسياساتٍ اقتصاديّة - اجتماعيّة. هنا، هذا الميدان وليس في ميدان السطو الطائفيّ الذي يُفني المُستضعف الذي هو جسم المسيح، يمكن لمن آمنوا بالمسيح أن يحقّقوا غاية عقيدتهم في الحياة الجماعيّة، وأن يتجاوزوا تجربة الانشقاق الوجوديّ بين سرّ الأخ وسرّ المذبح، ليتشاركوا خبز الأخوّة البشريّة مع الجميع، فهي أيضاً «خبزٌ نازلٌ من السماء»، وبها يصير الجميع واحداً، جسداً سرّياً للمسيح. خريستو المرّ
الثلاثاء ١٧ كانون الثاني / يناير ٢٠٢٣ الإنسان مفطور على العيش ضمن جماعة. في الماضي كانت الجماعة، المتمثّلة بالقبيلة، الحامية من المخاطر من أجل استمرار الحياة؛ ولهذا كان العقاب الأقصى للإنسان هو النفي عن القبيلة، لأنّ النفي كان يعرّض المنفيّ للموت الجسديّ. مقابل الحماية كان الإنسان مستعدًّا أن يطيع الجماعة في كلّ شيء، وأن يخفّف من نتوء فرادته إلّا في ما يخدم الجماعة وحياتها، أو في ما لا يضرّ بها. في العصر الحديث، ومع نشوء الدول التي تؤمّن الحماية، انتفت الحاجة إلى قبيلة لضمان الحماية وأُتيح للشخصيّة الفريدة بالبروز بشكل أكثر حِدَّةً. لكن لم تنتفِ الحاجة إلى الجماعة البشريّة، إلى الانتماء، إلى أن يكون الإنسان محبوبًا ومقبولًا ومحترمًا في جماعة. هذه حاجات إنسانيّة لا يمكن اختزالها ولا الإطاحة بها لأنّها جزء من البنية النفسيّة للشخصيّة الإنسانيّة عبر الحضارات، واللغات، والأقوام، والتنوّع الذي يكاد لا ينتهي للطبيعة الإنسانيّة. قد تقوم الجماعة أمام اعتداء جسديّ بحماية الفرد في ظلّ غياب ظرفيّ أو دائم للدولة. لكنّ وظيفة الجماعة في العالم المعاصر هي أساسًا أن تمنح الإنسان بيئة تحميه نفسيّا من العزلة وتمنحه شعورًا بأنّه محبوب، ولذلك فهو مقبول ومُحتَرَم في فرادته مقابل أن يحبّ هو فيقبل ويحترم فرادة غيره، كما وتمنحه مجالًا لتحقيق فرادته بالعمل. هذه البيئة تتيح للإنسان منذ الطفولة أن تنمو فرادته دون أن تجنح إلى التسلّط أو الاستغلال المدمّرين للآخرين كما وللأنا. في النهاية وظيفة الجماعة أن ينشأ الحبّ في هذا العالم، فيُحفظ الناس من الموت: الموت النفسيّ من العزلة، والموت المعنويّ من الاستغلال والتسلّط. هذا التوازن بين وجود الجماعة وانتعاش ونموّ الأنا في وسطها، تؤمّنه بيئة الحبّ القائم على القبول والاحترام المتبادل للفرادات، أي القائم على الحرّية، على مسافة الاحترام بين الفرادات المختلفة دون تسلّط أو استغلال. لهذا، من المفترض أن تكون الحرّية مرغوبة ومطلوبة؛ لكنّ الحرّية، القائمة على احترام الفرادات دون تسلّط أو استغلال، أمر صعب جدًّا، وما يجعله صعبًا هو وهم التألّه بالذات. عندما يطلب إنسان مالًا منقطع النظير بسبب جشعه، أو سلطة لا تُرَدّ على أجساد الناس وتصرّفاتهم بسبب تسلّطه، فهو يطلب سلطة مطلقة، أي سلطة تجعله يشعر بأنّه على كلّ شيء قدير، تمامًا كما نقول عادة عن الله. هذا هو وهم التألّه بالذات. هذه القدرة المطلقة هي وهم ينتهي بصفعة الموت. عندما يجتمع أكثر من واحدٍ من الناس على التألّه بالذات، أي على اكتساب سلطة مطلقة مدفوعين بالجشع أو التسلّط، فذلك لا يكون سوى بالقمع أو بالتلاعب بالعقول، لأنّ لا أحد يشتهي طوعًا أن يكون مستَغَلّا أو مسحوقًا. يمكن إجبار الناس على قبول سعي آخرين لسلطة مطلقة إمّا بالقمع، أو بالتلاعب بالعقول (عبر إيهام الناس أنّ واقعهم لا يمكن تغييره، وأنّه أنّه أفضل من واقع آخر، أو أنّ هناك إمكانيّة لتغييره بمزيد من الجهد) أو بالوسيلتين معًا. القمع هو وسيلة الأنظمة الديكتاتوريّة مع شعوبها، والتلاعب بالعقول هو وسيلة الدول الرأسماليّة الديموقراطيّة مع شعوبها (وسائلها مع شعوب الآخرين تبقى قمعيّة بالعسكر والتجويع). إنّ الحرّية، أي احترام الفرادات في الجماعة البشريّة، أمر صعب لأنّ هناك بشر يقعون فريسة وهم التألّه بالذات فيفترسون غيرهم. وهم التألّه بالذات هو وهم الحلول محلّ الله لكن بطريقة مشوّهة، بطريقة معاكسة لألوهيّة الله؛ فبينما ألوهة الله قائمة على قدرته على خلق الحياة وحمايتها، يقوم وهم التألّه بالذات على اكتساب قدرة مطلقة على تدمير الحياة (عدا الحروب والإفقار، نحن على مشارف تدمير الحياة على هذا الكوكب). قدرة المتسلّطين التدميريّة للحياة تفضحها عبارة يقولها المتسلّطون الصغار عند تهديدهم لآخر «سأردّك إلى الرَحم الذي خرجت منه»؛ ترشح من هذه العبارة رغبة المتسلّطين بقتل الحياة، بالقيام بفعل يعاكس عمل الرَحم الوالد للحياة. يرشح من التسلّط انحراف الفرادة والذي يصل بإنسان إلى التدمير، إلى «ولادة» الموت. المتسلّطون والمستغلّون الصغار كما الكبار، يتوهّمون أنّهم كلّيو القدرة لأنّهم قادرون على التدمير؛ أمّا القدرة الكلّية الإلهيّة فهي تلك الخالقة للحياة والحامية لها. المتسلّطون والمستغلّون يريدون أن يصبحوا كآلهة بالتدمير، لكنّهم واهمون لأنّ كلّ متسلّط سيستيقظ أمام صفعة الموت في العالم الآخر ويفتح عينيه على جحيمه، وبينما لدى هؤلاء كلّ وسائل التخدير للهروب من حقيقة شعورهم باحتضار إنسانيّتهم في حياتهم هذه، لن يستطيعوا بعد الموت الهروب من خوائهم من الحبّ أمام الله، سيّد الحبّ والمحبّين، سيكونون أمام نبع الحبّ-الحياة بدون قدرة أن يعبّوا منه؛ وهذا الجحيم بعينه. من أجل ذلك، ومن وجهة نظر إيمانيّة، كلّ نضال لرفع التسلّط والاستغلال هو نضال من أجل الحبّ، من أجل استتباب الحبّ في هذا العالم، هو تعبير عن المحبّة للمظلومين يرفع عنهم يد التدمير، وتعبير عن محبّة للظالم بردعه عن التدمير. المحبّة ليست شعورًا ورديًّا، هي موقف إنسانيّ تجاه الحياة، موقف يحاول أن يكون على صورة إله حقّ: خالق للحياة وحاميها، في كلّ ميدان. خريستو المرّ
الثلاثاء ١٠ كانون الثاني / يناير ٢٠٢٣ العيش غير الحياة. الحياة هي أن نعيش في بهجة معقولة، أي في قدرة على العمل والمحبّة، من دون أن يطاول الإنسان قمع أو استغلال. العمل العادل هو ما يسمح للإنسان بأن يشحذ مواهبه وأن يأكل ويشرب ويتطبّب ويتعلّم، والمحبّة هي ما تسمح له بنموّ إنسانيّته، لأنّ من دونها الإنسان إمّا معزول ميت، أو مسحوق ومتسلّط. الفقراء يحبّون، ولكنّ إنسانيّتهم تنزف، هم إمّا بلا عمل أو أنّ عملهم لا يدرّ عليهم دخلًا عادلًا. كلّ الفقراء واحد: هابيل النازف. الظلّام هم مَن يدفعون الناس إلى الفقر، إلى شبه عبوديّة في العمل؛ هم الذين ينتجون الفقر إنتاجًا لكي يتمتّعوا هم بخيرات الأرض التي في الأصل هي خيرات مشتركة، هم أولئك الذين يمنعون عن الناس الحياة وبهجتها، ولسان حالهم ما شأني بغيري. كلّ الظالمين واحد: قايين القاتل، القائل في رواية العهد القديم "أو أنا حارس لأخي؟". أمام القلّة الظالمة هناك أكثريّة من المظلومين، هم محرومون من الكثير من بهجة الحياة والكثير من الصحّة. لا مجال لسيطرة أقلّية على أكثريّة إلّا بإقناعها بأنّ لا أمل لها بالتغيير، وبإرضاء العسكر أو الميليشيات بفتات الثروات المنهوبة، واستغلالهم في قمع الفقراء إن احتجّوا، وقتلهم إن ثاروا. عندها لا يبقى أمام الفقراء سوى نهب بعضهم بعضا، وظلم بعضهم بعضًا بطريقة أو بأخرى، لكي يستمرّوا في العيش البحت وينفّسوا عن غضبهم من واقعهم. هذا ليس عذرٌ لهم هذا شرح واقع، فـ"الذين في السلطة يقمعون... باستخدام أولئك الذين هم ضحايا الظلم... فأولئك الذين سبق أن أسيء معاملتهم يقومون بنوع من المساعدة... للذين في السلطة عن طريق إلحاق الأذى والظلم بالآخرين"، كما لاحظ القدّيس باسيليوس الكبير، في القرن الرابع ميلادي. عند انسداد الأفق، يصبح الإنسان ضدّ نفسه: هابيل ضدّ هابيل. معظم الناس في رضوخ للمصير؛ ولكن إلى حين، فما من شعب رضخ طوال التاريخ وتأتي الانتفاضات عادة من حيث لم يتوقّع أحد. لم نكن ننتظر من اتّحاد النقابات التي فرّخها السياسيّون منذ التسعينيّات حتّى اليوم شيئًا (الجماعة رفعوا دعوى ضدّ شربل نحّاس عندما كان وزيرًا لأنّه أعطاهم حقوقهم). والأحداث التي عصفت بالبلاد منذ الإعلان غير الرسميّ لإفلاس المصارف في تشرين الأوّل ٢٠١٩ أظهرت مدى سيطرة السلطة على الأستاذة الجامعيّين، لإمساك السلطة بمفتاح التعيينات في الجامعة اللبنانيّة، وبمفتاح الواسطة في الجامعات الخاصّة، تلك الجامعات التي يحارب معظمها نشوء نقابات مستقلّة فاعلة فيها (الزميلة من الجامعة الأميركيّة التي أصبحت عضوًا في مجلس النوّاب صرّحت أنّها ترى في رئيسه "مدرسة"). شيء من الأمل مثّلته «مواطنون ومواطنات في دولة» (ممفد) لكنّ خلفيّة الانسحابات التي رأيناها تقول إنّ «ممفد» دخلت في مسار التشابه مع أحزاب السلطة، وهو مطبّ معروف حول العالم حين تستنسخ معارضات الحكم ذهنيّته ووسائله، في هذه الحالة هناك اتّهام من المنسحبين باستنساخ ذهنيّة «القائد الأب» وهذا مريع لأكثر من سبب. فشل التنظيمات والأحزاب المختلفة في لبنان في تكوين جبهة وطنيّة واحدة لمواجهة السلطة الناهبة القائمة فشلٌ فادح، ما يحدث في «ممفد» هو آخر مظاهر الفشل، ما من تبرير لفتح المجال لاستمرار إنسان برئاسة حزب، مهما كان فذًّا؛ خطر استتباب ذهنيّة «القائد الأب» أكبر من أخطار تغيير القيادة لأنّه فشل مؤكّد لهدف القطع مع الذهنيّة الحاكمة. لم تتشكّل جبهة وطنيّة لمواجهة الوضع القائم، والسبب الأساس (دون التقليل من أهمّية أسباب أخرى) هو أنّ الناس بعد الحرب الأهليّة لم يهتمّوا بالانخراط بالعمل السياسيّ والنقابيّ الحقّ، واختصروا مساهمتهم السياسيّة بتأييد هذا الزعيم وذاك وتبادل السباب عندما يتصارع الزعيمان أثناء نهبهم. الكثيرون ما زالوا على عبادتهم للـ«زعيم»، ذاك الصنم الذي أسّس للشِرك الحقيقيّ الواقعيّ الملموس. المخرج من هذه الأزمة يبدأ بإعادة الاعتبار للأمل. ليس الأمل كشيء لا بدّ آتٍ، ولكن كإمكانيّة حقيقيّة واقعيّة تحتاج لعمل دؤوب متواصل. الإيمان بالله، وهو ما يدّعيه غالبيّة سكّان لبنان، هو إيمان بما لا يُرى حاصلًا اليوم، فالإيمان اليوم لا يرتكز بالأساس على المعاينة الشخصيّة، بل على شهادات الأوّلين حول كلام المؤسّس وشهادته ("طوبى لمن آمنوا ولم يروا"). إن أخذنا على الأقلّ هذا الجانب من الإيمان وطبّقناه في الحياة العامّة ينبغي أن نكون أكثر المرشّحين للأمل، للعمل جماعيًّا من أجل غد أفضل مع أنّه غير حاصل. الظلام عميم ولهذا نتمسّك بما لا يُرى اليوم، نتمسّك بالعدالة، بالحرّية، بالمساواة في الأخوّة البشريّة، نتمسّك بقضيّة هابيل النازف، نتمسّك بمحاكمة قابيل، نتمسّك بكلّ هذا لأنّنا نؤمن أنّه الأفضل للجماعة البشريّة. نتمسّك بالأمل، ولذلك نتمسّك بالعمل الجماعيّ المتواصل لتحقيقه. خريستو المرّ
بعد ألق الأعياد الجميل، كيف يمتدّ معنى العيد إلى الأيّام العاديّة؟ لا معنى يبقى من دون امتداد الأبديّ في لحم اليوميّ، وينطفئ الألق بعد حين. ما من عيد بلا معنى. المهم أن ينتشر بهاء العيد في التفاصيل اليوميّة فيكون المعنى خطّاً مستقيماً عبر تعرّجات الأيّام. وحين يمرّ الناس بتمزّقات العوز والتهميش في مجتمع يتدهور يوميّاً من قعر إلى قعر، من دون أن يتخيّلوا طريقة للوقوف إلى جانب أنفسهم فيدافعوا عن حيواتهم ومستقبلهم، لن يبقى البريق طويلاً إذ يخنق الواقعُ البريقَ سريعاً مع إلحاح الأكل، والشرب، والطبابة، والتعليم، في اليوم التالي للعيد. مرّ عيد ميلاد المسيح، وتخبرُ الأناجيل أنّه حين قرّر يسوع أن يبدأ رحلاته التبشيريّة في محيطه جعل عنواناً لمهمّته الكلمات التالية للنبيّ إشعياء "روح الرب عليَّ، لأنّه مسحني لأُبشر الفقراء، وأرسلني لأنادي للمأسورين بالإطلاق وللعميان بالبصر وأحرّر المسحوقين". مَن آمن بالمسيح جعل من هذه الكلمات عنوان حياته أيضاً، فالإيمان يُترجَم التزاماً. مَن يلتزم هذه الكلمات في حياته اليوميّة الشخصيّة، ومَن يجعل منها عنواناً لمهمّة جماعيّة في العمل الاجتماعيّ والسياسيّ في بلاد الانهيار الكبير، يكون قد تابع احتفاله بالميلاد في الحياة اليوميّة. تلك الكلمات على بساطتها هي ثوريّةٌ لو قرأناها في واقعنا وفكّرنا بكيفيّة عيشها شخصيّاً وجماعيّاً. كيف نبشّر اليوم الفقراء بأنّ الطعام موجود؟ بأنّ المأسورين في السجون ظُلماً، والمأسورين في بيوتهم وأعمالهم بالتعسّف والظلم، والمأسورين بالاستغلال، يمكن أن يتحرّروا من التعسّف والاستغلال؟ كيف يمكننا أن نبشّر المسحوقين بسياسات الإفقار والتهميش بالتحرّر؟ تخبرنا العلوم أنّ الفقر والأجر الضحل وسوء الصحّة والأمراض ليست قدراً ولا تحدث صدفةً ولا هي نتيجة ظروف طبيعيّة وإنّما تنتج من سياسات مقصودة تُفَقِّرُ السكّان، وتسبّب تدهور الصحّة، وتمنع عن الإنسان الدواء، وتقتل على أبواب المستشفيات، وتضعِف المعرفة، وتسجن العقول بالإعلام السامّ، وتسحق معظم السكّان بجشع لقلّة متفلّتة تريد جمع أكبر قدر من المال بالقتل البطيء للأكثريّة الساحقة من الناس. امتداد الاحتفال بالميلاد هو التزام كلمات المسيح تلك عنواناً لحياة شخصيّة وجماعيّة، هو نشوء ثورة روحيّة كبرى تُتَرجَم ضغطاً شعبيّاً حقيقيّاً يودي بسياسات التحكّم والسيطرة والاستغلال ويُرسي بُنى المشاركة في المجتمع. عندها نترك عبادة أصنام الزعماء والطوائف، وعوض أن نختلف على ما هو في سلطان الله ناسين خدمة الإنسان ومُرجئينها إلى ما لا نهاية، نستبق الخيرات فننتقل من ذهنيّة "التبرّع" والشفقة و"الخدمات" إلى ذهنيّة الحقّ والعدالة، إلى هدم بُنى الاستغلال وإرساء بُنى العدالة والمشاركة في خيرات الأرض التي منحها الله هبة مجّانيّة للجميع وهي ليست ملكاً شخصيّاً لأحد. عندها قد يلامسنا روح الله بنعمته، فنبشّر الفقراء والمأسورين والمسحوقين بعالم جديدٍ، لنكون على شبه المسيح، أو لنلد المسيح في عالم اليوم على شبه مريم التي وضعته في العالم وقالت إنّه «شتَّت الْمُستَكبِرين... أنزل الأعزّاء عن الكراسي ورفع المتواضعين، أشبع الجياعَ من الخيرات، وصرف الأغنياء فارغين». عندها تصبح كلماتُ وأفعالُ ومقاصدُ يسوع حاليّةً وممتدّةً ضوءاً في الحياة اليوميّة. خريستو المرّ
الاثنين٢ كانون الثاني/ يناير ٢٠٢٣ الفرح ليس شيئا يُمتَلَك، ولا هو موجود في مكان أو في وقت محدّد، الفرح خبرة، ولهذا لا يتحقّق خارج الإنسان، بل داخله. في العمق لا أحد يمكنه أن يكون معزولا بشكل مطلق، ولهذا نحن مدفوعون أن نكون مع آخرين، أن نكون في معيّة. القصّة كلّها هو في نوع تلك المعيّة: هل هي تحفظ وتحترم فرادة كلّ إنسان أم تحاول إلغاءها؟ العلاقات التي تحاول إلغاءها سمّيناها قمعًا أو تسلّطًا، وتلك التي تحترمها سمّيناها محبّة، وينبع عن هذه الأخيرة، تلقائيّا وبشكل عفويّ، تعاطفٌ مع الآخر يأبه لمصيره، تعاطفٌ يهتمّ ولهذا يشعر بالمسؤوليّة، ولكن يحترم فيترك مساحة لإرادة الآخر حتّى لا يتحوّل الاهتمام سلاسل. وفي المسير يحاول المتعاطفُ أن يفهم لكي يكون التعاطف هادفًا من أجل خدمة حياة الآخر ولا يتوقّف عند العاطفة، وهذه قد تتحوّل إلى مرآة يتأمّل فيها المتعاطف نفسه عوض أن يخدم الحياة في الآخر. خبرة المحبّة هي خبرة لقاء مفرح ومحيي، خبرة نحن لا تلغي أنا، ولا أنت، ولا هو، ولا هي؛ خبرةٌ تتعاطف دون أن تهيمن، ولهذا هي مصلوبة على حرّية الآخر المسؤول أن يحدّد ما يريد، وأن يسير مساره الخاص في الحياة، لكي يحيا حياته التي يغيّرها بقراراته كما تغيّره. أقول أنّ محبّة آخر هي خبرة لقاء مصلوبة لأنّ حرّية الآخر تخطئ ولذا تؤذي أحيانًا. ومن هنا خبرة اللقاء مجبولة دائما بالألم لأنّنا جميعا نتعرّض للأذى في الحياة وكذلك قد نؤذي أنفسنا فيتألّم الذين يحبّونا (بالطبع حين تكون أخطاء الآخر مدمرّة لنا فالمحبّة تقتضي أن نفهم أنّ لا لقاء ممكن وأنّ محبّة الذات تقتضي أن نحميها وأن نترك. وعندها الترك لا البقاء هو تعبير عن المحبّة) المحبّة والفرح لا ينفيان الألم، هما ينفيان الجحيم. الجحيم غير الألم، الجحيم هو نفي المحبّة، أمّا المحبّة فمبلولة بالألم لأوجاع الآخر أقلّه. ظنّي أنّنا في الملكوت سنعرف ذاك الألم، ألم المحبّة: كيف لإنسان في الملكوت ألّا يتألّم أنّ إنسانًا آخر في الجحيم؟ ظنّي أنّ الله أيضًا سيتألّم هذا الألم إن لم ينضمّ الكلّ إلى حفل اللقاء الأبديّ المضيء. الجحيم عكس المحبّة، أي هي قائمة في العزلة. العزلة هي عكس اللقاء وليست عكس الوحدة. الوحدة هي علامة أنّ الإنسان هو ذاته وليس أحدًا آخر، أي ناتج عن المسافة التي لا تُردَم بشكل كامل بين أنا وأنت وأنتم. الوحدة بركة لأنّها علامة وجود الإنسان الفريد. لهذا لحظات التأمّل مهمّة وجميلة ولا يهرب منها إلّا من يهرب من ذاته، وكلّنا يفعل ذلك أحيانًا. في حديثنا لحفل رأس السنة موقعه. لا أميل إلى تتفيه الاحتفالات حتّى الأكثرها «وثنيّة»، ولا أميل إلى البذخ. الاحتفالات معانٍ. حفل رأس السنة رمز، هو رمز شوقنا إلى اللقاء، إلى فرحه الذي يؤجّج فينا الحياة دائمًا. هذا إن رأيناه يصالحنا مع رغبتنا بالاحتفال. الرمز عادة ما يشير ولا يحقّق. ما بعد عيد رأس السنة وحفلها لا أعتقد كالمعتقدين أنّنا علينا الآن أن نعود إلى عاديّات الأيّام، بعد حفل رأس السنة يبقى الرمز قائما كالسؤال، إن رأيناه، إن تأمّلنا في وحدتنا، الرمز يسائلنا: هل نتابع مسيرة حياتنا لنتقدّم في تحقيق المرموز إليه بسعينا إلى تحقيق اللقاء في حياتنا، فنفرح ونتألّم كوننا بشرًا حقيقيّين؟ أم نندفع نحو الجحيم بإدارة ظهرنا للّقاء؟ جواب هذا السؤال هو جواب الحياة، وهو بيننا أيدينا كلّ لحظة إلى أن تحين تلك اللحظة التي نغمض فيها أعيينا لنفتحها على الأبديّة، بعدها لا يبقى سوى الرجاء. أمّا اليوم، فاليوم يمكنه أن يكون عيدًا يحقّق فيه كلّ واحد منّا رمز حفل رأس السنة، وكلّ حفل، في حياته. سأنهض الآن عن حاسوبي، زوجتي تستيقظ والمرموز إليه يشعّ في وجهه |
الكاتبخريستو المر الأرشيف
December 2023
Categories |