خريستو المرّ
الثلاثاء ٢٩ كانون أوّل/ديسمبر 2020 كيف يكتب الإنسان عن الجمال في قلب عالم يتمزّق؟ العالم جميلٌ، ومَن انتبه وجد - رغم كلّ شيء - خبرات جمال لا تنتهي ولا ثمن لها: وجههُ، وجهُ محبوبٍ، عينيه، جسدٌ فَرِحٌ بجغرافيّة لغته، ندىً فوق زهرة، قمرٌ مكسور يتخفّى خلف شجرة، صوتُ بحرٍ يكتب بأبجديّةِ موجهِ أغنيةً، ولدٌ يلعبُ، ولدٌ يصرخ راكضًا خلف أمٍّ على شكلِ حُلُمٍ بإله، جنسٌ يأخذنا إلى الموت الذي يُحيي، صديقٌ أو حبيبٌ يهديك دموعَ جراحه، إلهٌ يلعب معك الإستغمّاية، أسئلةٌ تتوالد كي تتجدّدَ أنت، أفقٌ يتّسع كلّما لامَسْتَهُ بأجنحتك، فرحُ ثورةٍ تهزّ عروش المتسلّطين، كرامةُ انسان لم ينحنِ لبعل، حرّيةُ إنسانٍ في الحقيقة، انكسارٌ يجمعك مِن تبعثر، ضحكةُ ولد... العالم مليء بالفرح. الألم أيضا كبير. من الألم ما يُرَدّ ومنه ما لا يُردّ، وما يردّ منه يجب تجنّبه ما أمكن: ألم إحراق مخيّم، ألم اعتداء، ألم تهديد، ألم الظلم، ألم المرض... ما من ميّزة جميلة في الألم بحدّ ذاته، لم يأتِ الخلاص من الألم أتى من الحبّ. المُحِبّ متألّم معظم الأحيان لأنّه حسّاس للظلم، يسوع أحبّ العالم فلم يُطِقهُ المتحكّمون ولهذا قتلوه. لم يستلذّ يسوع الألم ولم يسعَ إليه، هو مشى في الحبّ حتّى النهاية، أحبّ العالم حتّى الألم والموت من أجله. هذه شهادة حبّ لا شهادة ألم. السعي إلى الألم اضطراب في النفس، أمّا الألم الذي لا مفرّ منه (ألم مرض، ألم موت صديق، ألم مواجهة الظلم، ألم الاستقلال عن العشيرة) فأمرٌ آخر. يحتمل الإنسان هذا الألم حتّى يتجاوزه بمعونة المُحِبّين الأحبّاء، المناضلين من أجل الحياة. لكنّ الأمر الأكبر أن يشفّ الإنسان بالألم فيصبح أكثر تصميمًا على أن يرفعه عن الآخرين. يغدو عفويًّا فلاّح الفرح في العالم، رسّام الضوء في العتمة. هذا ليس خيالاً. وقائعُ تحويلِ اختبارِ الألم الشخصيّ إلى طاقة اندفاعٍ عفويٍّ من أجل الآخرين أكبر من أن تُحصى. نبكي، فنريد أن نرفع عن الوجوه كلّ دمعة. وفي هذا فرح كبير للوجوه جميعا. التجربة هي أن نبكي فنقف أمام مرآة دموعنا، الخروج من المأزق هو أن نحنو على وجوهنا المتألّمة فنحبّ كلّ الوجوه. هذا، عندها يحصل فرحٌ كبيرٌ في هذا العالم وفرح كبير في "السماء". ما من عامٍ جديدٍ يأتي، الجديدُ هو ما نصنعه في كلّ لحظة، ولكي تكون اللحظة مفرحة لا بدّ أن نعطي لأنفسنا فيها كلّ إمكانيّة أن تكون أفضل ما نكون «الآن». «إن سمعتُم... اليومَ... صوته فلا تقسّو قلوبكم». اليومَ، لا البارحة ولا غدًا... لا الماضي بين أيدينا ولا المستقبل، نحن لسنا موجودين سوى في هي اللحظة الآن. كلّ الأبديّة مكثّفة في هذه اللحظة الآن، في كلّ لحظة، في كلّ "الآنـات" التي تتوالى كالريح دون أن نمسكها. يهبّ الروح في اللحظةِ كلّ لحظةٍ، وكما أنّ يسوع قال أنّ الروح «يهبّ حيث يشاء ولا نعلم من أين يأتِ وإلى أين يذهب»، فقد قال في الجملة نفسها «هكذا كلّ مَن ولد من الروح»: مَنْ وُلِدَ من الروح الآن، يغدو شبيه الروح الآن، يحبّ الآن، فيهبُّ في هذا «الآن» روحَ فرحٍ تلامسُ القلوب، والذين تلامسهم لا يعرفونَ من أين تأتي ريح الفرح ولا إلى أين تذهب، فقط يعرفون أنّها فرحٌ في هذا العالم. هكذا يصبحُ العالمُ جديدًا، والزمن جديدًا، بمسيح الحبّ الذي جدّد العالم. كلّ عام وأنتم الفرح. خريستو المرّ
الثلاثاء 22 كانون أوّل/ديسمبر 2020 بعد أيّام ثلاثةٍ نكون في العيد، ويسأل الـمُخْلِصون أنفسهَم إن كان العيدُ فيهم، لأنّهم يشتهون أن يصيروا عيدًا. يسوع، الكلمةُ الإلهيّة الذي شاركنا إنسانيّتنا، "تغرّب منذ طفولته كغريب" كما نقول في الفصح. غربةُ يسوع تبدو جليّةً في الميلاد، في التهجير الذي عاشه أهله خوفًا من أوامر الموت التي أصدرها هيرودس. وهيرودس تكاثر في التاريخ، وإخوة يسوع في كلّ زمن تهجّروا بسيف هيرودس أو تساقطوا بأوامره، من أطفال بيت لحم إلى كلّ بريء اضطُهد في بلاده وخارجها. فكيف لا يكون الأبرياءُ إخوة يسوع أو يكون هو أخيهم؟ في الميلاد، يلتمع الألق الفصحيّ أيضًا في الذهب الذي قيل أنّ مجوسًا أهدوه لطفلِ المذود، فالذهب يُهدى للملوك. "أين هو المولود ملكُ اليهود" سأل المجوس، وعبارة "ملك اليهود" خطّها بيلاطس فوق صليب يسوع. هذا الذي جاء الدنيا عاريًا، أسلم الروح عاريًا ممتدًّا بين الأرض والسماء. في المذود صارت السماءُ أرضًا، لكي تصير الأرضُ سماءً فوق خشبة بسيطة. مريمُ العظيمةُ ولدت يسوع وسلّمته لشجرة الحياة فوق الجلجلة، واحتملت السيفَ الذي اجتاز احشاءَها لنولد نحن في مزود الحبّ الإلهيّ. ويلتمع الفصح أيضًا في المرّ الذي قدّمه المجوس. لاحقًا، فوق الصليب، سيتذوّق يسوع اسفنجةً ممزوجةً بالمرّ. أمّا اللبان، البخور، الهدية الأخيرة، فهو الطيبُ الزكيّ الذي تسكبُه السماءُ في المحبّين، تسكبُه فوق أرجلهم قبل أن يتوجّهوا نحو جلجلاتهم الكثيرة، قبل أن تدفنهم المجتمعاتُ خارج أسوارها على عجلٍ، إذا ما عرّاها حبُّهُم العاري من كلّ شيء إلاّ من نفسه. غريبٌ، غريبٌ هذا الملك الطفل الضعيف المرتجفُ، الفاتحُ عينيه على الهشاشةِ، وعلى دهشة الخليقة. غريبٌ، جميلٌ، وسيبقى جنونًا وفضيحةً لكلّ سلطة تتسلّط. لم يحتمل المختبئون في تسلّطهم جمال صورته فحاولوا قتله طفلاً، ثمّ شابًا، حاولوا أن يجعلوه على صورتهم "لا صورة له ولا جمال". لم يفهموا أنّ بذهابه في الغربة إلى أقصاها، إلى الموت، سطعَ يسوعُ حقيقةً إلهيّةً، وسطعت الإنسانيّةُ انتصارًا في الحبّ المكسورِ، وسطعَ الله رفيقًا لوحشتنا، فخرج من جنبه نهرُ تجديدِ الخليقةِ وخمرةُ المشاركة. لهذا، ربّما، لمح شاعرٌ في الميلاد "أنّ مملكتك الابديّة تجدّدت أزليّتها"، فكأنّما الميلاد جدّد أزليّة مملكة الحبّ، بالحبّ، حين صار المـُحِبُّ محبوبَه كما اشتهى. يحوّلنا الميلادُ أولادًا على أبواب الأبديّة المفتوحة، ليستقبلنا اللهُ نفسُه فَرِحًا، فنعود جُدُدًا إلى جذورنِا، لتبدأ مواسم الطرب. بالميلاد كُسِرَ حاجز العداوة مع الله نهائيًّا. صار اللهُ رفيق انكسارنا والحاضر اليوم، وكلّ يوم، في طيّات أجسادِنا ونفوسنا. بالميلاد مات الإله الـمُحارِبُ عن القبيلة، والإله الـمَلِك الجبّارُ، ليمْلُكَ الحبُّ الحنون، المطعون. بيسوع المرتجف في مذودٍ، أعلن الله أنّه تحت رحمة الإنسان وأنّه يقدّس الحرّية، وينادي القلوب بالحبّ الذي يخاطبُ الحبَّ. وتكتمل حكاية ميلادك يا طفل القدرة الكلّية، يا طفل الحبّ المرتعش المنتصر، يا قدرة الحبّ المجنون، حين نصبحُ رفاقَك، فيصبح كلّ شيء فينا وبين أيدينا، أكان عملاً أم فنّا أم علمًا أم ثقافةً أم مالاً، في خدمة الحبّ. ويخون الرِفْقَةُ مَنْ يطلبونَ منّا مَلِكًا «من العالم» بغطاءٍ ليس من العالم، فأنتَ تريد رفاقَك ملوكَ حبٍّ. ولهذا يتبعك المخلصون على كلّ بحيرةٍ غريبةٍ لأنّك ما تأخذهم الّا إلى أنفسهم الساطعةِ والعميقةِ الحياة بكلِّ كلمةٍ تخرج من فَمِك. يا حبيبُ، ميلادُك أعلن العيدَ في إنسانيّتنا، بعدما غَدَا اللقاءُ بين الله والبشر في المذودِ عيدًا. خريستو المرّ
الثلاثاء ١٥ كانون أوّل/ديسمبر 2020 هناك كلمات تتردّد في بعض الكتابات وخاصّة العظات، تنظر نظرة سلبيّة إلى هذا العالم "السيّء" والـ"باطل"، وتدعو للابتعاد عن "المادّيات" و"الملذّات" لأنّها تُبعدُ الإنسان عن الله نبع الوجود بل "الأسمى" من الوجود المخلوق، ولذلك علينا أن نرتفع عن الحياة "الأرضيّة" ونتمسّك بتلك "السماويّة". هذه التعابير على "روحانيّتها" الظاهرة، معاكسةٌ لكلّ رسالة يسوع المسيح، وهي صادمة في ديانة قائمة على التجسّد. ويبدو لي أنّها كثيرا ما تُستَخدَم في العظات لكثرة تكرارها دون يبذل الواعظون جهدًا كافيًا لمقارنتها برسالة يسوع وبالعقائد. صحيح أنّ اللقاء المحبّ بالله - أو بتعبير آخر التألّه - هو هدف الحياة الإنسانيّة لأنّه يحقّق فرح الإنسان، ويتجاوب مع توقه العميق لتحقيق إنسانيّته، ولكنّ السؤال الأساس هو أنْ كيف يتمّ هذا اللقاء؟ هذا اللقاء يتمّ في العالم. عندما صلّى يسوع إلى الآب قال أنّه لا يدعو لتلاميذه أن يخرجوا من العالم بل أن يُحفَظوا من الشرّير؛ وعندما تكّلم عن ملكوت السماوات جعل من المشاركة على هذه الأرض (إطعام الجياع، إيواء الغرباء...) معيارًا لدخول الملكوت. هذا يعني أنّ الملكوت يبدأ هنا، من طريقة حياتنا هنا على هذه الأرض؛ ولهذا فحياتنا هنا لها كلّ الأهمّية، ونوعيّة علاقاتنا هنا مع الناس والخليقة لها كلّ الأهمّية، فهي المعيار الذي نقيس به مدى عمق او ضحالة علاقتنا بالله. هذا العالم المادّي له كلّ الأهمّية. بالطبع العالم مليء بالتجارب، ولكن هذا ليس مدعاة للوقوف من العالم موقفا سلبيّا، بحيث نقبله كأنّما على مضض؛ كلام يسوع دعوة كي نقف من العالم موقفا واعيًا مسؤولًا نُمَيِّز فيه ما هو الجيّد وما هو السيّء، موقفًا فاعلاً نعمل فيه، مع الله، على متابعة بناء هذا العالم حتّى يتجلّى (كما تجلّى يسوع على الجبل)، حتّى تتلألأ فيه -قدر الممكن وضمن محدوديّات العالم- أنوارُ الله، أنوارُ الحبّ، في الطبيعةِ وفي العلاقات الإنسانيّة، في البنى السياسيّة والاقتصاديّة كلّما باتت أكثر عدلاً ومُشاركة، في البنى التربويّة كلّما باتت أكثر تنمية لقدرات الحبّ والحرّية في الإنسان، في كلّ أبعاد هذا العالم كلّما حاصَرْنا فيها "عشق الذات" الأنانيّ ووسّعنا مساحات اللقاء والمشاركة. هناك ضرورة للتمييز بين ما هو مناسب لنموّ الفرح في الحياة وما هو غير مناسب لذلك، ولكن هذا أمرٌ بعيد كلّ البعد عن فكرة الابتعاد عن "المادّيات" و"الملذّات"، كأنّ هذه سيّئة بحدّ ذاتها. هذا خطأ كبير، لا يوجد أيّ جانب من جوانب الواقع المخلوق يمكن أن ننظر إليه وكأنّه منفصل عن القوى الإلهيّة غير المخلوقة، عن حضور الله. المادة المخلوقة تدين بوجودها إلى القوى الإلهيّة غير المخلوقة التي منحتها مادّيتها، الإنسان بكلّيته هبة إلهيّة (أمّا الشرّ فهو غير مخلوق، الشرّ هو نتيجة انعدام المحبّة). قال يسوع "جئتُ لتكون لكم الحياة وتكون أوفر"، كلمات يسوع لا تعني أنّه جاء لتكون لنا حياة حقيقيّة غير هذه الوهميّة، بل جاء لتكون لنا طريقة علاقات محبّة ومُشاركة لكي تتلألأ هذه الحياة بالفرح. كانت الأفلاطونيّة تكره الجسد وتراه قبرًا، وكانت المانويّة ترى المادة والجسد شرًّا؛ لا ينتبه المسيحيّون أنّهم يُعرِضون عن المسيح ويتبنّون تلك الفلسفات حين يتحدّثون بعبارات الاحتقار للمادة وللذّات. هذا العالم الماديّ -ونحن منه- هو هبة إلهيّة، والمادة واللذّات ليست أشياء سلبيّة، هي هبات من الله أيضًا. ليس من أمر سيّء في المادّيات واللذّات بحدّ ذاتها، فمقياس الخبرة الجيّدة والسيّئة من المنظور المسيحيّ هو مدى توافق تلك الخبرة أو تعارضها مع المحبّة، لهذا قال القدّيس أغسطينوس: "أحْبِبْ وافعلْ ما تشاء"، إذ عندها تكون المشيئة نورًا. اللذة حين تنبع من الحبّ واللقاء والمشاركة هي تذوّقٌ لفرحٍ سماويٍّ؛ فحتّى في الصلاة نخاطب يسوع ونتكلّم عن "اللذة التي لا نهايةَ لها" في الملكوت، "لذّة المشاهدين جمال وجهك". فلنحيا، ولنحبّ، ولنفرح، ولنتلذّذ، فكلّ لذّة في المحبّة، في هذا العالم المادّي الجميل، هي لذّةٌ روحيّة، تذوّق مُسبَق للذّة التي لا نهايةَ لها، عيدٌ إنسانيّ-إلهيّ، ومشاركةٌ منذ اليوم في رقصة الحبّ الإلهيّ أو هي ولادةٌ في مِذوده. خريستو المرّ
الثلاثاء 8 كانون أوّل/ديسمبر 2020 لولا الفنّ لما كان هذا العالم المأساويّ مُحتملاً. الفنّ محاولة مفرحة ومأساويّة لاختراق العاديّ. كلّ فنّ يسعى في العمق إلى إعادة تشكيل الواقع، إلى خلقه بشكل جديد فاتن ومدهش. حتّى ولو نظرنا إلى فنّ كالطبخ نجده محاولةً لخلق جمال ودهشة ينتظرها معدّ الطعام من عيون ضيوفه. في العمق، الدهشة التي تطلّ بنا إلى عالم آخر هي ما يحرّك الفنّانة والفنّان كما والمتلقّي الذي يعيد خلق القطعة الفنّية بتفاعله معها بشكل فريد خاص به. ولا شكّ أيضًا أنّ الفنّ سبيلٌ إلى القلوب، جسرُ الفنّان إلى نفسه وجسره إلى العالم؛ وقد يكون اللقاءُ هو المسعى الأخير للفنّان حين يجمع الفنُّ الفنّان بنفسه، ويجمع الآخرين والعالمَ بنفس الفنّان، ويجمع الفنّان بهم. فبالفنّ يفتح الفنّان كوّة في العاديّ ليلتقي هو والآخرون من خلالها بأنفسهم في تناقضاتها وتوقها، وبذلك يتحوّل النتاج الفنّيّ إلى مساحة لقاء، وتتحوّل القطعة الفنّية الواحدة إلى قطعٍ عديدة متشابهة ومختلفة، متقاطعة وفريدة، بحسب ما يعيش كلّ شخص من خلالها. بشبه أعجوبة، يجمع الفنُّ جميع المحتفلين بلقاء ذواتهم حول مائدة البهاء، يجمعهم ببعضهم البعض في بحثهم المأساويّ إلى تجاوز الواقع والاتّحاد مجدّدا بما ضاع من أنفسهم خلال تفاصيل الحياة، ليمشوا قُدُمًا. في كلّ هذا، الفنّان خالقٌ على صورة الخالق، وفي مسيرة خلقه يتحوّل إلى والد لعالم جديد من الألق والفرح والمأساة. بالفنّ يجبل الفنّان العالم من جديد كلّما أطلّ إنسان بواسطة الفنّ إلى بئر ذاته وما ينام فيها من ضياء وحنين. يُزَيّن لي أنّ الله هو إلى حدّ كبير الفنّان الأوّل، الذي اخترق العاديّ-الأبديّ ليخلق هذا العالم فيصبح العالمُ جسرَ دهشةٍ أمام الإنسان ليلاقي نفسه في حنينها الأصيل، ويطلّ بذلك إلى عالم أبعد ويتجاوز واقعه المأساويّ كمخلوق محدود يتوق إلى اللامحدود. وكأنّ الله يجمعُ بفعلِ الخلقِ جميعَ المحتفلين بلقاء ذواتهم بهذا العالم، يجمعهم حولَ مائدة البهاء الأبديّ في العاديّ، أثناء رحلة بحثهم عمّا ضاع من أنفسهم في تفاصيل الحياة اليوميّة؛ يجمعهم قُدُمًا وينتظر أن يكون كلّ واحد منهم خالقًا على شبهه، فيجبل معهم هذا العالم من جديد. هذا ليس التوبة، هذا مكمّل للتوبة. هذه الرؤية هي حلقة مفقودة في معنى الحياة الإيمانيّة كما تعكسها التربية الدينيّة التقليديّة. التوبة عن الخطايا (أي تغيير طريقة الحياة لتصبح محبّة) لها مكانة الصدارة في الإيمان المسيحيّ، ولكنْ بقطع التوبة عن مفاعيلها الملموسة الأرضيّة نفرّغ التوبة من مضمونها. فبدون العمل الأرضيّ الملموس تتحوّل التوبة إلى مسعى لخلاص فرديّ أو جماعيّ منفصل عن العالم، ويغدو التألّه (الحياة في وحدة مع الله) مشروعًا لا علاقة له بهذا العالم. لكنّ الخلاص الذي أتي به المسيح الذي نحتفل بميلاده قريبا، لا يهدف فقط إلى فتح باب التوبة للإنسان، بل يتطلّب عملاً خلاّقًا كجواب على عمل الله الخالق. "كلّ إيمان بلا أعمال مائت" وعمل الله الأساس هو فعل الخلق الذي يتابعه كلّ لحظة ("أبي إلى الآن يعمل"). إنّ الخلاص الذي أتى به المسيح يكمن في تحرير الحرّية الإنسانيّة من الضياع، لكن كلّ حرّية لا يمكن أن تصير معنى إلاّ إذا اتّجهت نحو تحقيق مشروع. المسيح حرّرني، حسنا، إذًا ماذا سيكون جوابي؟ ماذا سأفعل أنا بحرّيتي؟ وماذا سنفعل معًا بهذه الحرّية؟ لقد ترك الله مسألة الإجابة عن هذا السؤال لنا، لكلّ واحد منّا ولكلّنا معًا. الجواب هو مسؤوليّة شخصيّة وجماعيّة تقع على عاتقنا. لقد الله خلق هذا العالم قطعة فنّية، ويريد أن يخلق ويشكّل هذا العالم معنا، له ريشته ولنا ريشتنا، وينتظر منّا أن نمدّ ألواننا فوق قماشة هذا الكون لنكمّل اللوحة. يقول الإنجيل أنّه عندما صعد يسوع إلى السماء شَخَصَ التلاميذ بأنظارهم إلى السماء، وعندها رجلان بلباس بيضٍ قالا لهم "ما بالكم واقفين تنظرون إلى السماء؟ إنّ يسوع هذا الذي ارتفع عنكم إلى السماء سيأتي هكذا كما رأيتموه منطلقًا إلى السماء"، أي أنّ يسوع أتمّ مهمّته بينكم، أضاف ألوانه في لوحة هذا العالم، لقد فتح لكم باب تحرير حرّيتكم من الضياع، دلّكم على وجهة تحقيق توقكم العميق كي تكونوا آلهة، والآن أتى دوركم، عيونكم الآن ينبغي أن تعود إلى الأرض كي تضيفوا إلى لوحة الخلق ألوانكم. عملكم الآن ليس في حنين إلى عودة يسوع، بل في العمل معه، مع روحه الذي يرسله إليكم؛ غيّروا طريقة حياتكم، ولكن.... أيضًا..... اعملوا أن تكونوا مثله، أن تصقلوا موهبة الفِعل الحرّ، موهبة الإبداع الخالق التي فيكم والتي تجعلكم على شبهه. التوبة ليست من صورة الله في الإنسان، بينما القدرة على الخلق هي من هذه الصورة. الله أحبّنا فأظهر نفسه في حقيقته لنا؛ الآن، دورنا أن نجيب محبّتَه بأن نصير أنفسنا في بهائها الخالق. هكذا يكون هذا العالم لقاء دائم بيننا وبينه. الله آمن بنا كبشر فتجسّد وصار مثلنا، يبقى أن نؤمن به ونكون مثله: مبدعين في الحياة العاديّة. هذا أيضًا فعل محبّة وجواب على محبّة الله "الذي أحبّنا أولاً". الخلاص الذي أتى به يسوع فتح باب القدرة على الحياة الحقّة، جوابنا لا يمكن فقط في التوبة، وإّنما في أن نحيا هذه الحياة ونصير كلمات إلهيّة حرّة مبدعة. لا شكّ أنّ المحبّة التي نحبّ بها بعضنا بعضا هي أيضًا جواب خلّاق على هبة الحبّ الإلهيّ المجانيّة، جواب حقيقيّ مبدع، فتحقيق المحبّة في العلاقات الشخصيّة كما وفي بُنى المجتمع يتطلّب فعلاً خلاّقا لابتكار بُنى حياة ومشاركة كي لا يقع العالم، ونقع، في فم الموت. الحياة الإيمانيّة لا تختصرها التوبة. فنّ التوبة وفنّ الفِعل الخلّاق الحرّ هُما حبٌّ خلّاق، هما جناحا الحياة الروحيّة؛ وقد يكون هناك أجنحةٌ كثيرة. خريستو المرّ
الثلاثاء ١ كانون أوّل/ديسمبر 2020 بدون البُعد الجماعيّ ما من حياة إنسانيّة ممكنة. كلّ إنسان يحتاج إلى آخرين كي يحيا. بدءًا، الآخرون هم الأم والأب أو من ينوب عنهما، ثمّ الإخوة والأصدقاء. خلال الحياة، نجد دائمًا قواسمَ إنسانيّة مشتركة مع آخرين لنحيا كجماعة، أكانت تلك القواسم وطنًا أو دينًا أو لغةً أو مشروعًا؛ فالإنسان جماعيّ بطبعه، ويتوق إلى الوحدة مع الآخرين. العشاء الأخير كان مناسبة جماعيّة، وكذلك كانت العنصرة. الجامعات في بعض البلاد تقيم نشاطات مختلفة لعدّة أيّام خلال الأسبوع الأوّل من العام الدراسيّ لطلّاب السنة أولى، لكي تخلق بينهم أواصر وحدة تشعرهم بالانتماء إلى كيان جديد له مؤسّساته وعلاماته وشعاراته. نتوق إلى الجماعة ونرتاح إليها، وهذا كلّه جيّد. لكنّ القضيّة - كما أشدّد دائما – ليست في وجود الجماعة بل في نوعيّة علاقة الإنسان مع الآخرين داخل الجماعة وخارجها. هل الجماعة تربّي على وحدة عبيد لسيّد، أم على وحدة أحرار معًا؟ هل هي تربّي على وحدة متعالية عن الآخرين المختلفين، أم على الرسوخ بالوحدة الإنسانيّة بين الناس جميعا؟ ماذا عن الجماعة المسيحيّة؟ لم يدعُ يسوع الناس أن يكوّنوا مجرّد جماعة لها إيمان ما وشعارات ما، بل أوضح نوعيّة هذه الجماعة بقوله "كلّما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي أكون بينهم"، الكلمة الأساس في الجملة هذه هي "باسمي". جماعة المسيحيّين ليست جماعة مسيحيّة إلاّ إذا اجتمعت باسم يسوع، يسوع الذي أحبّ العالم بهذا المقدار حتّى أنّه مات من أجله. جماعة المسيحيّين تكون مسيحيّة إن كانت جسد يسوع، إن طلبت على هذه الأرض ملكوت الله فعمل أعضاؤها مع الناس جميعا في خدمة المهمّشين جميعًا، إلى أيّ جماعات انتموا. جماعات المسيحيّين الطائفيّين، والكارهين للغرباء والملوّنين، والمحتقرين للنساء، والذين لا يريدون المشاركة في خيراتهم مع آخرين، هم جماعات لم تعد مجتمعة باسم المسيح، بل طَرَدَت المسيح من وسطها. الجماعة التي يسوع في وسطها لا تستكين لأرض ولغة وثقافة وطائفة ودين رغم تجذّرها في أرض ولغة وثقافة وطائفة ودين، لأنّها تعرف أنّ هويّتها الوجوديّة تكتسبها من المسيح-المحبّة، كما يكتسب العنب هويّته من الكرمة. قال يسوع مرّة "إن أحببتم من يحبّونكم فأيّ فضل لكم فالوثنيّون يفعلون ذلك أيضاً". هذا الربط الذي جعله يسوع بين الانغلاق على "محبّة" الجماعة الذاتيّة وبين الوثنيّة، يعني أنّ يسوع يرى أنّ ذاك النوع من "المحبّة" المغلقة بعيدٌ عن الله، "عتيقٌ". هو يدعو أتباعه إلى محبّة جديدة تجعلهم "إنسانًا جديدًا"، "خليقة جديدةً"، يدعوهم كي يتجاوزوا الميل الطبيعي للذين يشبهوهم بالهويّات المختلفة ليتمسّكوا بالهويّة الأصليّة: الهويّة الإنسانيّة المشتركة للجميع كبنات وأبناء لله. وعندما يدعو المسيح أتباعه أن "كونوا رحيمين كما أنّ أباكم السماويّ رحيم" (والرحمة تلتقي في جذورها مع الرحم الذي يتوسّع لينمو فيه إنسان ويولد جديدًا) فهو يدعوهم أن يوسّعوا حيواتهم وقلوبهم وعقولهم ليتعاونوا مع، ويخدموا، أولئك الذين لا يُشبهونهم، فيولد الجميع كخليقةٍ جديدة معمّدين بالنور الإلهيّ الذي يخترق كلّ شيء، فيعمّ الفرح. يخون أتباع يسوع هذه الدعوة، إن هم رفضوا "آخر" في الدين والطائفة والوطن، أو اهتمّوا لضحايا تشبههم ولم يأبهوا لضحايا لا تشبههم، فلم يعرفوا وجه يسوع في هذا وذاك. إن كان من مجتمع يمكن أن يسمّى "مسيحيًّا" فهو ليس ذاك الخالي من "الآخرين"، وإنّما ذاك الذي يصبح فيه الآخرون، وخاصّة المهمّشون، بشكل دائم في الوسط. هذا ما عاشه أهل مدينة بشرّي في لبنان الذين حموا العائلات السوريّة البريئة التي اضطُهدت جماعيّا لجريمةِ فردٍ واحد، وهذا ما رفضه الذين اضهدوها وكلّ سياسيّ يحرّض منذ سنوات على السوريّين ليجعل منهم كبش محرقة لنظامه الإجراميّ القائم. الآخر، الغريب، هو هواء إلهيّ-إنسانيّ، بدونه تختنق الجماعة في عبادةٍ لنفسها تُثمر قتلاً وتدميرًا. هذا ينطبق على كلّ جماعة، دينيّة كانت أم لا. |
الكاتبخريستو المر الأرشيف
December 2023
Categories |