خريستو المرّ، الثلاثاء 30 تشرين ثاني / نوفمبر ٢٠٢١
في ربيع 2013، برزتْ في الكنيسة الأرثوذكسيّة الأنطاكيّة قضيّة اعتداء الراهب الأرشمندريت بندلايمون فرح على عدد كبير من مُرتادي أحد الأديرة في أبرشيّة جبل لبنان. وبعد التحقيقات والقرارات التي صدرت عن المجلس التأديبي الابتدائي في الأبرشيّة وتناولتها وسائل الإعلام، أصدر المجلس التأديبي الاستئنافي الكنسيّ قرارًا بقي سريًا، إلّا أنّه سُرِّبَ لاحقًا على الفايسبوك واقتضى إبعاد الأرشمندريت إلى خارج البلاد[1]. توفّي الأرشمندريت المذكور في تشرين ثاني 2021 في مركز إبعاده في اليونان. وإثر التذكير بالقضيّة وبحقوق الناجين تعالت بعض الأصوات المنتقدة للتذكير بتلك القضيّة بداعي حرمة الموت الذي لا ينبغي أمامه سوى الدعاء بالرحمة، وخلطت بين التذكير بوجود الناجين وحقوقهم والشماتة بميّت، وردّد الكثيرون آيات إنجيليّة في غير موضعها، مثل: “كلّنا خطأة”، و”مَن منكم بلا خطيئة فليرجمه بحجر” و”لا تدينوا كي لا تُدانوا”، هذا عدا الغضب والتهديدات. فما هو الموقف الواجب اتّخاذه بالفعل في هذا الإطار؟ جان فانييه[2]، لاهوتيّ كنديّ، كان معبودًا للكاثوليك حول العالم. إنسانٌ فذّ، أسّس منظّمة Arche التي تعتني بالمعوّقين عقليّا والتي انتشرت في 80 بلدا حول العالم[3]. إنسانٌ كان يُنظر إليه حول العالم، من مؤمنين وملحدين، على أنّه يمثّل أفضل ما في الإنسانيّة. سُمّيت المدارس باسمه، وتسابقت المنظّمات والجامعات لمنحه الجوائز. توفّي جان في أيّار 2019، وفي أيّار2020 صدر تقرير[4] عن منظّمة Arche يعلنُ بأنّ فانييه قد اعتدى لعشرات السنوات (1970 – 2005) على عدّة نساء، ومنهنّ راهبات، في أحد فروع المنظّمة في فرنسا حيث سكن. وصفه التقرير بأنّه كان متلاعبًا ومسيئًا عاطفيّا وجنسيًّا، وأنّ الاعتداءات حدثت في ظلّ “سيطرة نفسيّة” و”اختلال لتوازن القوى” بينه وبين أولئك النساء (ص. 5). يقول التقرير "تضمنت العلاقات أنواعًا مختلفة من السلوك الجنسي، مقترنةً في كثيرٍ من الأحيان بما يُسمّى بالتبريرات “الصوفية والروحية” لهذا السلوك… إنّ النشاط الجنسي كان بالإكراه أو حدث في ظل ظروف قسريّة"، وكان يخاطب النساء قائلًا عن ممارساته معهنّ: "هذا ليس نحن [من نقوم بذلك]، هذه مريم ويسوع. لقد تمّ اختياركِ، أنت مميّزة، وهذا سرّ" بيننا. وأيضًا "يسوع وأنا، لسنا اثنيْن، وإنّما واحدٌ… يسوع هو الذي يحبّك من خلالي' (ص. 6). لقد استخدم فانييه اللاهوت، وألفاظًا روحانيّة مزوّرة، للسيطرة النفسيّة والجنسيّة على ضحاياه. وتقول إحدى الناجيات "كنت مثل المجمّدة.. جان فانييه كان محبوبًا من قبل مئات الأشخاص، مثل القدّيس الحيّ". هكذا بعد وفاة فانييه صدر التقرير، وأدانت منظّمة Arche مؤسِّسِها، وغيّرت المدارسُ التي سُمِّيَت باسمه أسماءَها، وسحبت منه جامعات أهدته الألقاب ألقابَها، وأدانه لاهوتيّون مُحلّلين جوانبَ مختلفة من انحرافه. لم يقل أحدٌ أنّ للموت حُرمة. لم يَشْكُ أحدٌ من حرج. لم يتّهم أحدٌ القيمّين عن منظّمة Arche بأنّهم يتشفّون من ميّت. لم يَشْكُ أحدٌ أنّ التقرير فاسد لأنّ فانييه مات ولا يستطيع أن يدافع عن نفسه. لم يطرح أحدٌ أنّنا كلّنا تحت سلطة الموت ولا يجوز الآن سوى الرحمة (التي سنحتاجها كلّنا بكلّ تأكيد). اعتبر الذين قاموا بالتحقيق، وكتبوا التقرير، ونشروه على العلن، أنّ إعلان الحقيقة هو من موجبات العدالة ومن حقّ الناجيات الأحياء حتّى ولو صَدم مُحبّو فانييه وعُبّاده. اعتبروا بأنّ الوجه الـمُظلم لفانييه لا يجوز تجاوزه والسكوت عنه، فهو وجهٌ يتجاوز وضع الخطيئة وطلب الرحمة، وجهٌ لا يتساوى فيه جميع الخطأة لأنّ ليست جميع الخطايا متشابهة، فبعض الخطايا جرائم لا تقع بحقّ الذات فقط وإنّما بحقّ الآخرين. إنّ الذين حقّقوا ونشروا الحقائق أرادوا أن يذكّروا الجميع، بأنّ حرمة الموت لا تنقض حقّ الأحياء، أنّ الوقوف عند طلب الرحمة قد يكون عند الكثيرين ملتبسًا بالرغبةِ “بكنس الأوساخ تحت السجّادة” (إذا أخذنا بتعبير البابا فرنسيس) وبإغلاق الملفّ ومتابعة الحياة كأنّ شيئا لم يكنْ، أي هو ملتبسٌ بالرغبة بنسيان الضحايا. الذين نشروا الحقيقة أرادوا أن يقولوا أنّ حقّ فانييه بالرحمة لا يلغي حقّ الناجيات بالعدالة، وأنّ هذه لا تحدث إلّا بتحقيق أمرين: الاعتراف العلنيّ بما ارتكبه فانييه، وإعادة الاعتبار في المجتمع والكنيسة للناجيات الذين يجب شكرهنّ لأنّ “أولئك الذين يخاطرون [ويُخاطِرْنَ] بـرفع الصوت للتبليغ عن الاعتداء عليهم في الكنيسة، يستحقون إعجابَنا وامتنانَنا. من خلال شجبهم للأعمال التي تُرتكب في الكنيسة ومن قبل خُدّام الكنيسة، يقدّمون للكنيسة خدمة هائلة: ألا وهي تسليط الضوء على الظلمات التي تسكنها، والتي نَقَلَتْها دون أن تعلم، أو دون أن تكون لديها الرغبة في معرفتها ومواجهتها.” كما أعلن مؤتمر الأساقفة الكاثوليك في فرنسا مؤخّرًا. الحقيقة وإعلانها ينقذان الكنيسة نفسها من الظلمات، ويحرّرانها من ارتكاباتها التي دامت عصورًا، فهي التي تعلم بتلك الارتكابات وتخفيها وتسمح باستمرارها، وهذا أمر يدلّ على انعدام الإحساس بآلام الناجيات والناجين. ولو أنّ الكنيسة اتّخذت في الماضي الإجراءات القانونيّة اللازمة – وهي إجراءات إنسانيّة ولاهوتيّة في الوقت نفسه – لكانت ساهمت بنجاة ضحايا لاحقين من مُعتدين عَلِمَ بهم المسؤولون في الكنيسة و”ستّروا” عنهم، وبذلك ساعدوهم على الاستمرار في جرائمهم. اليوم أيضا، أنطاكية الأرثوذكسيّة في مواجهة هذا الخيار بالذات. بِيَدها أن تكون مانعةً لجرائم الـمُستَقبل أو مساهمةً فيها، بحسب الموقف الذي يتّخذه مسؤولو الكنيسة… اليوم… من المعتدين فيها الذين ما زالوا على قيد الحياة. يمكنها أن تكون مُجحفةً متابعةً لمنحى القسوة ولا-رحمة الأحياء، أو تائبةً عن خطاياها المؤسّساتيّة البنيويّة مُنصفة ومُعتنيةً بالناجين إن رحّبت بهم وشكرتهم على إعلاء صوتهم عوض أن تصرخ في وجوههم في المحاكم. طلب الرحمة للأموات لا يُلغي حقّ الحياة والعدالة للأحياء. وقد قال إنسانٌ يومًا “الحقّ يحرّركم”، وهو يحرّر نفوس الأموات، وحياة الأحياء، ويجدّد الكنيسة ويقيمها من اهترائها ويغسلها بمعموديّة الدموع التي يمكنها أن تسكبها عند أقدام الناجين والناجيات الأبرياء، أسيادها الحقيقيّين، إيقونات المصلوب، سيّد البراءة. ------------------------ مراجع [1] أسعد قطّان وخريستو المرّ “ملاحظات حول قضية بيدوفيليا في الكنيسة الأرثوذكسيّة“، 14 كانون أوّل 2017 [2] أقرأُ عن جان فانييه بمناسبة طلب إحدى الطالبات في جامعتي أن أُشرف على ورقة بحثيّة تريد كتابتها عن فانييه والمؤسّسة التي أنشأها. تستخدم الورقة تحليلًا قائمًا على النظريّات النقديّة النسويّة والعرقيّة، والفلسفة الشخصانيّة واللاهوت [3] https://larche.org [4] L’Arche International, “Summary Report”, February 22, 2020 التقرير بالإنكليزية: https://www.larche.ca/documents/20143/1210551/HIS-Summary_Report-Final-2020_02_25-EN.pdf/85ef0063-c1c5-3dc2-60de-871086805abc?download=true التقرير بالفرنسيّة: https://www.larche.ca/documents/20143/1210551/HIS-Rapport+de+synth%C3%A8se-2020-FR.pdf/968d41b1-857b-c671-2c54-28f362c42151?download=true خريستو المرّ
الثلاثاء 23 تشرين ثاني / نوفمبر ٢٠٢١ التحرّش والاعتداء يتركان أثرا بالغًا على حياة الإنسان لا يبدو أنّ السلطة الكنسيّة تعيه. إن كنتُ خلال حياتي عرفت بعدّة حالات تحرّش واعتداء في الكنيسة الأرثوذكسيّة، فهذا يعني أنّها على قدمٍ وساقٍ دون أن يواجه من هم في السلطة الكنسيّة هذا الواقع بروح المسؤوليّة، فردّة الفعل التقليديّة تتراوح بين الوعظ بضرورة ألّا نكون "ديّانين" أو "جلّادين"، وأنّ كلّ الناس "تُخطئ" (يساوون بين الخطيئة والخطأ وبين الجريمة!)، لننتهي باستمرار الأمور على ما هي عليه. ولماذا يفعل المسؤولون أيّ شيء إن كان لا يقلقهم أحدٌ؟ الاتّكال على الروح القدس وحده لم يكن كافيًا يومًا لتغيير أوضاع الإنسان، فالروح يتطلّب ألّا نقسّي قلوبنا كي نسمع صوته. هناك ضرورة لمواجهة جدّية من المؤمنين لتقاعس المسؤولون عن مسؤوليّاتهم، فالمعتدين والمتحرّشين لا يعملون في فراغ، بل يتشجّعون عندما تكون البيئة حاضنة وحامية لهم. من ملامح هذه البيئة: الاكليركيانيّة، تقديس رجال الدين، واعتبار الناس لهم (واعتبارهم لأنفسهم) أنّهم مثالٌ أعلى. هالة القداسة التي تُسبغها التربية الكنسيّة السائدة (ولا أقول لاهوت الكنيسة) على الكهنوت والرهبنة ترفعهما إلى مرتبة أعلى من المسيحيّين «العاديّين»، بحيث أنّ عموم الناس يتعاملون مع الرهبان والكهنة والمطارنة بخليط من التبجيل، والوقار، والرهبة من السلطة التي يستلّونها من تلك الأدوار الكنسيّة، ولكن أساسًا هي رهبة أمام قداسة متخيّلةٍ تسبغُ عليهم. هذا بحد ذاته يعكس تعاملًا غيرَ ندّيٍ ولا متوازنٍ بين بالغين، فكيف إن كان الإنسان طفلًا أو مراهقًا؟ يُضاف إلى ذلك تربية تركّز على أنّ المثال الأعلى في المسيحيّة هي الحياة الرهبانيّة في ازدراء مُبطّن للحياة العلمانيّة التي يحياها مليارات من المسيحيّات والمسيحيّين (أبلغني صديق مرّة بأنّه سمع أحد المطارنة يقول في محاضرة له بأنّ قمّة المسيحيّة تكون حين يتحوّل الجميع إلى رهبان وراهبات). ولا يخفى على أحد الموقف الـمُلتبس، بل السلبيّ، الذي تحمله هذه الأفكار من الجنس الإنسانيّ. هذا تعليم موجود في كتابات ومحاضرات رغم أنّه غير سليم لأسباب عديدة منها أنّ الرهبنة تاريخيًّا كانت "طارئة" في المسيحيّة، وهي ليست طريقة حياة المسيحيّين الأساس (هل كان المسيحيّون قبل الرهبنة أقلّ مسيحيّة وقداسةً؟). من هذا التقديس الذي في غير محلّه للكهنة والرهبان، وإعلاء شأن الرهبة على شأن الحياة في المجتمع، ينبع تعامل لا بدّ أن يلاحظه مَن يدقّق في محيطه، ألا وهو التصرّف شبه الطفوليّ الذي يتعامل فيه الكثير من الناس مع الكهنة والرهبان، حيث يتحوّل إنسان بالغ إلى «طفل» أمام «القداسة» التي يظنّها حاضرة أمامه في شخص الإكليريكيّ (الرهبان خاصّة). وإن كانت الحال كذلك، فكيف يمكن لمن رمى بنفسه في علاقة غير متوازنة مع آخر أن يكون في موقعٍ يخوّله من رفع الصوت إذا ما اعتدى عليه إنسان؟ بالطبع المراهقين والأطفال هم فعليّا وواقعيّا في علاقة غير متوازنة البتّة مع البالغين، ولكن ما أشير إليه هو أنّه حتّى البالغين هم في علاقة غير متوازنة مع الإكليروس بسبب التربية التقليديّة التي تقدّس الثوب الكهنوتيّ والرهبانيّ (طبعا متعصّبي الأرثوذكسيّة سيرفعون الصوت بأنّني أهاجم الرهبان والكهنوت رغم أنّ ذاك ليس ما أقوله). إنّ الاستماع إلى شهادات ضحايا منصور لبكي وبندلايمون فرح في لبنان، وجان فانييه في فرنسا، وغيرهم، يكشف مدى السيطرة التي كانت لهؤلاء على أتباعهم الذين كانوا يرون فيهم قدّيسين أحياء ويعاملونهم كأنّهم كائنات من غير هذا العالم. أخيرًا، فإنّ الاكليريكانيّة الحاليّة القائمة على تركّز السلطة الكنسية في يد نفرٍ من الرجال دون الشعب المؤمن، ودون النساء، عاملٌ آخر يُضاف إلى البيئة الحامية للمعتدين، حيث ينحو الإنسان طبيعيّا إلى حماية الذين يشبهونه (أولاد المهنة نفسها)، هذا إذا لم نذكر تبادل الخدمات في السكوت المتبادل عن الارتكابات (أسكت عنك لتسكت عنّي). واستبعاد النساء عن مواقع السلطة في الكنيسة يترك المجال واسعًا للتقليل من خطورة تلك الجرائم التي يقوم بها الرجال. إنّ إشراك النساء في مواقع السلطة الكنسيّة أساس في هذا المجال، فقد لعبت النساء دورا حيويًّا في رفع الصوت في الوسط الكنسيّ ضد المرتكبين. في السعي الضروريّ لتغيير البيئة التربويّة، يمكن الارتكاز إلى كلمة يسوع "لا تدعو لكم أبا على الأرض لأنّ أباكم واحدٌ وهو الذي في السماوات". كلّ أبوّة أرضيّة عليها أن تشير إلى الله الآب وترشد إليه كالأب الواحد والوحيد للجميع، أي أنّ "الأب" لابس الجبّة هو أساسًا مجرّد أخ، ويجب ألّا تكون "أبوّته" تعويضا عن، أو حاجزًا أمام، أبوّة الله. كما للتربية المسيحيّة أن تؤكّد أنّ المسيح هو المثال الأعلى الوحيد للإنسان، ولا يشاركه في ذلك أحد. كلّ عاقل مُحِبّ للناس لا يضع نفسه مثالًا أعلى لأنّه إن سقط فقد تبعد سقطته، أولئك الذين اتّخدوه مثالًا أعلى، قد تبعدهم عن الكنيسة وحتّى عن الآب الذي في السماوات. إن لم تتحوّل التربية الكنسيّة لتربّي على أنّ يسوع المسيح هو المثال الأعلى الوحيد، وأنّ المسيحيين كلّهم هم مسيحيّون "عاديّون" متساوون أمام يسوع، وتتحوّل الأنظمة الكنسيّة لتتأسّس شراكة حقيقيّة تمزج بين العلمانيّين والإكليروس، وتحقّق مشاركة وازنة من النساء، وتتنوّر بأصحاب الاختصاص، ثمّ تؤسّس وسائل للاعداد النفسيّ للكهنوت والرهبنة، ووسائل للشكاوى والتحقيق الشفّاف والمحاكم المتخصّصة، وتشجيع الناس على اللجوء إلى المحاكم المدنيّة، فستبقى الاكليريكانيّة، وتقديس الرهبنة والكهنوت، ثقافة حامية للمعتدين في الكنيسة ومثبّتة لديكتاتوريّة الصمت فيها. هناك ضرورة كي نتوقف عن الاعتماد على عدد قليل من "قادة" جلّهم من الرجال الملتبسة مواقفهم من الجنس والذين يوحون للناس بأنّهم قدّيسون، وعن تبنّي دور قطيعٍ مـُـقادٍ من الأغنام، لكي نتصرّف فعلًا ككنيسة، أي كجماعة متساوية ومتعاونة تتحلّق حول يسوع. خريستو المرّ
الثلاثاء 16 تشرين ثاني / نوفمبر ٢٠٢١ إنّ عبور المسيحيّين في شرقنا إلى ضياء الملكوت لا بدّ أن يمرّ بمحبّة الفلسطينيّين، وما تستعديه تلك المحبّة من نضالٍ معهم في مسيرة تحّررهم. لماذا؟ المسيحيّة ليست دينًا ولو ألبسها الناس لباسًا دينيًّا لأنّ الإنسان مفطور على الطقوس، فالمسيحيّة كما علّم المطران جورج خضر هي إيمان بشخص يسوع وعلاقة مع هذا الشخص. يصف الكتاب هذا الشخص بأنّه "المرذول" الذي صار حجرا للزاوية في «بناء» الجماعة البشريّة المولودة من الروح القدس، وهي جماعةٌ تتبنّى طوال عمرها - عبر دموع والآلام - المحبّةَ نهجَ حياةٍ؛ وهي أيضًا جماعة تفهم أنّ المحبّة ليست شعورًا ورديًّا يحمله إنسان تجاه آخر، وإنّما موقف داخليّ منه، يدفع حامله للتحرّك من أجل حياة هذا الآخر، في مسؤوليّة تحترم حرّيته. الفلسطينيّون "مرذولون" بشكل خاصّ، وبهذا يشبهون المسيح المرذول الذي قال عن نفسه أنّه والمرذولين واحدٌ وأنّنا بوحدتنا معهم نصير واحدًا معه هو. إنّ الوحدة الإيمانيّة التي يعيشها المسيحيّون والمسيحيّات مع يسوع في الكنيسة، إن كانت أصيلة، لا تُعاش على مستوى المشاعر ومع يسوع حصرًا، وإنّما تُعاش أيضا وأساسًا على مستوى العمل الجاد من أجل المرذولين أحبّاءِ يسوع. البكاء على الذات يعرفه الأفراد وتعرفه الجماعات، لا شكّ أنّ البعض غير الفلسطينيّ من قرّائي يفكّر في ذاته: وأنا أيضا مرذول في بلادي، مُتعَب، ومُفَقَّر. وربّ قائلٍ: فلنلتفت لأنفسنا قبل أن نلتفت لغيرنا، أو فلنلتفت لبلدنا قبل فلسطين، وما شابه من تبريرات، وعلى هذا الجواب بسيط "اهتمّ لهذا ولا تهمل ذاك"، المهمّ أن يسهر الإنسان على طراوة قلبه لئلّا يدخل جحيم القساوة. في العالم الفلسطينيّون مطرودون من أرضهم، وهم في فلسطين تحت احتلال أقلّ ما يُقال عنه أنّه وحشيّ. مهما حصل بالسوريّين واللبنانيّين والعراقيّين يبقى لهم وطنٌ مُعتَرَفٌ به، ويبقون أحرارًا على الأقلّ في العيش البحت في أرضهم، ولو في ظلّ الظلم، سافرًا كان الظلم أم مقنّعًا. الفلسطينيّون لا يملكون هذه "الحرّية" حتّى في مستواها الأدنى. لكنّ لبنان - وهو بلد نحن جميعًا مسؤولون عن قوانينه طالما نحن مواطنيه - يتعامل مع الفلسطينيّين الذين لجأوا إلى أراضيه معاملةً يندى لها الجبين. لا يقتصر الأمر على العنصريّة الكلاميّة والقلبيّة، وإنّما يمتدّ إلى القوانين، فَهُم محرومون من التملك العقاري بينما هو مسموح للأجانب، ومحرومون من ممارسة أكثر من سبعين مهنة (٧٢ على ما أعلم)، ويعيش أكثر من ٩٠٪ منهم تحت خطّ الفقر ، وإن عملوا في السرّ (أي إذا استغلّهم ربّ عمل) فهم محرومون من التعويضات والإجازات، ويُمنعون من البناء داخل المخيّمات، ومن الخروج من البلاد إلّا لمدة محدّدة وإلاّ فلا عودة، وإضافة إلى ذلك يعيشون في ظلّ تناقص فادح في تقديمات الأونروا التي يتحكّم بتمويلها حكومات معادية لحقوقهم... هل يمكن للبنانيّ أن يقبل أن تعامله دولةٌ أجنبيّة بهذه الطريقة إن لجأ إليها؟ هل يمكن لأحد ان يتصوّر الحياة في ظلّ هكذا ظروف؟ لا شكّ أنّ بعض القرّاء يُلقون الآن باللائمة على القيادات الفلسطينيّة، وأخطائهم في الحرب اللبنانيّة، إلى آخر المعزوفة. ولكن خطايا قادة، أو مجموعات من شعب، لا يمكن تحميلها لشعبٍ بأكمله. لو كان يمكن تحميلها لشعبٍ بأكمله لكان على الشعب اللبناني أن يحمل بأكمله مسؤوليّة المجازر التي ارتكبتها جماعات فيه! هل يُعقَل ذلك؟ إنّ النضال من أجل حقوق آخرين لا ينبع من كون الآخرون «مستحقّون» للنضال وللعدالة، فبهذا المنطق لا يستحقّ الشعب اللبنانيّ الذي أعاد انتخاب جزّاريه مرّاتٍ النضالَ من أجله ولا العدالة. لا، إنّ النضال من أجل حقوق الآخرين ينبع من كون المناضل نفسه يشعر ويعرف أنّه لا يمكنه أن يحيا كإنسان إذا ما أغلق وجدانه أمام المظلومين، أمام «المرذولين»، أمام المسيح، أمام الله في وجوه المظلومين. هناك ضرورة ملحّة للوقوف داخل لبنان إلى جانب الفلسطينيّين اللاجئين إليه (وهي الدعوة نفسها للوقوف إلى جانب السوريّين اللاجئين إلى أرضه، وللسوريّين مقالة أخرى). لقد لجأ اللبنانيّون واللبنانيّات إلى أصقاع العالم هربًا من ظلم حكّامهم، وصاروا «غرباء» فيها، فلا يُغلقوا قلوبهم أمام إخوتهم الفلسطينيّين تحت حجّة أنّهم «غرباء» - وهم ليسوا كذلك - فمحبّة الآخر تصيّره قريبًا، بحسب رؤية يسوع الذي وحده يجعل الإنسان مسيحيًّا، وليس بحسب فذلكات هذا العالم. القرب والبعد علاقة، مع يسوع ومع مَن هُم بشكل خاصّ على شبهه. خريستو المرّ
الثلاثاء ٩ تشرين ثاني / نوفمبر ٢٠٢١ الكنيسة كلمة ملتبسة الاستعمال، شأنها شأن كلمات أخرى كثيرة تشوّه معناها من كثرة استعمال المنافقين لها. ألكنيسة - ولا نقصد المؤسّسة الكنسيّة وإنّما الكنيسة الحقّة بالمفهوم الإيمانيّ لها - هي «جسد المسيح»، أي هي الناس الذين يؤمنون بها لدرجة أنّهم وإيّاه صاروا واحدًا بحيث أنّ حضورهم بات يجسّد حضوره في الزمن والتاريخ، لأنّهم باتوا لا يتوانون أن يحيوا وأن يموتوا، ويُصلبوا أحياء، من أجل حياة الآخرين. الوحدة مع المسيح هي الأساس في النظر إلى جماعة ما على أنّها كنيسة. ولأنّنا مخلوقات تحتاج أن تفكّر وتفعل وتعبّر من خلال مواد هذا العالم، فقد اختار يسوع، بشكل أساس، المناولةَ تعبيرًا مادّيًا ليضمّ إليه الذين أحبّوه فيصيروا واحدًا، ويصيرون «جسده» وحضوره عبر التاريخ. بالمناولة يعطي يسوع نفسه للناس الذين قبلوه هو البريء المعلّق على الصليب والذي قال أنّه واحد مع المهمّشين. ولهذا فالكنيسة لا تكون كنيسة دون البريء والمهمّش، ولا نعرفها إلّا في وجهين: وجه البريء المهمّش، ووجه الذي قبل أن يدافعَ عنه فانحنى على كتفه محتضنًا، أو اضطرّ أن ينام على كتف الصليب شهادةً للحقيقة ودفاعًا عن البريء المهمّش. لهذا فإنّ دفاع المؤسّسة الرسميّة عن المعتدين على الناس والأطفال والمراهقين فيها، كما ودفاعهم عن الظالمين الذي يأكلون أجساد الناس ويحرقون نفوسهم بالاستغلال والنهب والجريمة، لا يمثّل الكنيسة. هكذا كنيسة رسميّة تخرج عن كونها جسدا للمسيح لتصبح جسدًا لما هو ضدّ المسيح. لهذا فإنّ حكمًا على مُرتكِبين مُنتمين إلى الكنيسة الرسميّة ليس عملًا ضدّ المسيح، وإنّما عملٌ يجسّد المسيحَ في هذا العالم لأنّه يجسّد العدالة والحقّ الذي يحرّر، يحرّر المظلوم ويفتح الطريق أمام الظالم ليتحرّر من ظلمه. تخاف الكنيسة الرسمية من «الفضيحة» والفضيحة الحقيقيّة رابضة في الكثير من أعمالها: قمع، تسلّط، صرف نفوذ، حماية ودعم السياسيّين والمصرفيّين، تأجيج طائفيّ، عنصريّة... الحكم على المرتكبين ليس فضيحة وإنّما مسحٌ للفضيحة، توبةٌ عنها، ونصرٌ لسيّد الأبرياء، ولهذا هو "نصر للكنيسة، كنيسة المسكين والفقير" كما عبّرت الصديقة د. مارينا رزق تعليقًا على حكم لمحكمة فرنسيّة صدر بحقّ "الأب" منصور لبكي. الكنيسة المارونيّة في لبنان اضطرّت مجبرةً أن تقبل حكمًا من الفاتيكان بحقّ لبكي، وها نحن نشهد حكمَ محكمةٍ فرنسيّة بحقّه أيضًا، ولكنّ الكنيسة المارونيّة الرسميّة مستمرّة في تهريبه وحمايته، ومستمرّة في حماية المسؤولين الماليّين والاقتصاديّين والسياسيّين عن النهب الماليّ. المؤمنون الموارنة محظوظون لأنّ الفاتيكان خارج لبنان وسوريّة ووصل اليوم لقناعة (متأخّرة كثيرًا) بضرورة مواجهة جرائم رجال الدين. المؤمنون الأرثوذكس ليسوا بهذا الحظّ، عليهم أن ينتظروا من يتحلّون بالشجاعة لكي يدفعوا رجال الدين، الواعظين بالتواضع والمحبّة ليل نهار، إلى أن يعملوا بحسب إيمانهم بيسوع فيحموا البريء بتحقيق العدالة. عبر التاريخ، انتظرت الكنيسة أن تتحرّر من خطاياها بواسطة يسوع الذي أغلقت عليه خارجًا، فقرع أبوابها بأتباعه من ملحدين ومؤمنين غير مسيحيّين، لتفتح أبوابها للحقّ، فيحرّر هو الكرامةَ البشريّةَ الأسيرةَ بين جدرانها. لكن هل يوجد المسيح خارج الكنيسة؟ بالطبع يوجد فهو الكلمة الحاضر في كلّ الخليقة والذي يجذب إليه المخلوقات جميعًا. كلّ شاهدٍ للحقيقة، كلّ مدفع عن الحقّ، كلّ ساعٍ لعدالة، يجسّد الكلمة الحاضر فيه لأنّه ينحني على كتف البريء. خريستو المرّ
الثلاثاء ٢ تشرين ثاني / نوفمبر ٢٠٢١ (يرتكز هذا التحليل على الجزء الثاني الذي لم يصدر بعد من كتابي: الإيمان بين المحبّة وعبادة الأصنام) يندر أن تتحاور وتختلف بهدوء مع آخر في وضع لبنان وأوضاع المنطقة المترابطة. الفكرُ الثنائيّ القطعيّ سيّدٌ: أنت لست معي بشكل متطابق إذا أنت عدوّ أو خائن. الخلاف الدائر حاليًّا هو حول الطرف الخارجيّ الذي يجب أن ننحني له، كما قال صديقٌ مؤخّرًا. منذ الاستقلال وحتّى يومنا، الحكّام غارقون في بهلوانيّات تبعيّة للخارج من أجل الاستقواء على مواطنيهم من الطرف «الآخر». بلغت البلاد الحضيض والحكّام يدورون في حلقة - مدروسة ربّما - من التقاتل الإعلاميّ معظم الأحيان، والحربيّ أحيانًا. البلاد تغرق، أيّ السكّان يغرقون في الفقر، يمرضون من الفقر، يُقتلون وسيُقتلون بشكل متصاعد في المستقبل عندما تظهر تبعات الفقر وقلّة التغذية والتلوّث: أمراض مزمنة، قلق، إحباط، قلّة تركيز في الدراسة، تسرّب مدرسيّ، أمراض سرطانيّة أوسع، مخدّرات أكثر... لكنّ للحكّام ومن يعبدونهم أولويّات أخرى. أولويّات الحكّام قصيرة الأمد: الآن، أن أبقى الآن، أن أحصل على مكاسب أوسع أو أحافظ على مكاسبي الآن. وأولويّات عبّاد الحكّام: أن أخدّر شعوري بعبوديّتي، بالانغماس أكثر فأكثر في فريقي، بالذوبان أكثر فأكثر بمجموعة متشابهة، وأن أعلّي شأنَ زعيمي وأضعَه في مصاف الآلهة، ثمّ أخضع له بحماس لأعوّض عن شعوري بالخزي لخيانة ضميري، وأهدّئ من روعي أمام انعدام الأمان. إنّ اختلال الشعور بالأمان يدفع الناس نحو الخضوع والتبعيّة طلبا للأمان بالالتصاق بآخر. بالطبع، الجميع مقتنعون بأنّ تبعيّتهم المخدّرة هي تعبير "حرّ" عن "رأيهم" و"قناعاتهم"، ولا ينتبهون أنّ "رأيهم" هو يتطابق دائما مع الإعلام الذي يشاهدونه. ما يكشف الذوبان في المجموعة والعبوديّة للزعيم هو عدم احتمال أيّ نوع من أنواع النقد. تتضافر العلاقات الاندماجيّة بالمجموعة الشبيهة (رمز الأمّ الحاضنة) وعلاقات الخضوع للزعيم (رمز الأب) لتكتمل الأرضيّة لكلّ أنواع الفاشيّات الدينيّة واللادينيّة؛ فطالما لم يستقلّ الإنسان نفسيًّا عن الأم والأب، لا يتمكّن من أن يصبح حرًّا بشكل حقيقيّ، بحيث يصبح قادرًا أن يحبّ آخر مختلفًا عنه. الذائب في الجماعة-الأمّ يعيش في نرجسيّة جماعيّة، فجماعته-أمّه هي أشرف الناس، وأنظفها، وأكثرها قربًا من الله، وأكثرها صدقًا، وأكثرها كرمًا، وذكاءً، وذات ماضِ ذهبيّ عريق، إلى ما هنالك. لكن طالما الجماعة-الأمّ هي موضوع نرجسيّ فكلّ ما يتعارض معها يصبح عدوًّا. وهو ما يُفَسِّر قوّة ولاعقلانيّة كلّ التعصّب الدينيّ والوطنيّ (اللبنانيّون يظنّون أنفسهم أذكى شعب!) والقوميّ والحزبيّ. وهو ما يفسّر شيئًا كثيرًا من انعدام الموضوعيّة في التعامل مع الأحداث وعدم القدرة على الاختلاف. فإنّ كلّ ما يخالف "الأمّ"-الجماعة، ويتعارض معها هو مرفوض لأنّه يثير الجزع من اختلال صيغة الحماية بالجماعة المتطابقة (حضن الأمّ). فكيف يمكن للإنسان الذائب في الجماعة، أن يحكم على شيء في خلاف مع "الأم" بشكل موضوعيّ؟ لكنّ الإنسان لا يرى هذا الخلل في ذاته لأنّه يشترك في الخلل مع جماعته، لو قال أحدٌ أنّه أشرف الناس، وأنظفهم، وأكثرهم ذكاءً، لضحك عليه الناس؛ ولكن عندما تصبح هذه الأفكار اعتقادات جماعيّة فنحن لا نراها مضحكة، بل تغدو شبه حقائق، لأنّ النرجسيّة تغدو مشتركة، والذوبان بالأمّ مشترك. والخضوع لزعيم مؤلَّه يضاعف من الخضوع والنرجسيّة. النتائج لا شكّ مرعبة. عدم القدرة على الحوار هو أوّلها، ولكن أكثرها كارثيّة هو فقدان القدرة على التعاطف مع الآخر المختلف، ودفع ذاك المختلف أكثر فأكثر خارج دائرة "العائلة"، خارج دائرة الإنسانيّة، وبالتالي فتح الطريق أمام استباحته، ورأينا هذا قيد التنفيذ في عدّة أحداث. هذا كلّه ليس قضاءً، ولا قدرًا لا يحول ولا يزول، كلّ شيء متعلّق بطبيعة البنى الناظمة للعلاقات في المجتمع، وعندما تتغيّر طبيعة العلاقات بحيث تؤمّن الدولة شبكة أمان جماعيّة وفرديّة على شكل حقوق للمواطنة والمواطن الفرد تتضاءل الحاجة إلى الجماعة كرمز للأمّ الحامية، وعندما تكون الدولة ذات نظام غير متعسّف، تنعدم فيه عبادة الزعيم رمز الأب، نفتح الطريق أمام إمكانيّة الحرّية وإمكانيّة المحبّة مع الآخر المختلف. المحبّة ليست شيئا مستقلًا عن طريقة الحياة، هي نفسها طريقة حياة، ولكي تنتعش وتنمو تحتاج لبيئة مناسبة، والبيئة بدورها تحتاج لبُنى. من هذه الزاوية الالتزام بالحياة العامّة والعدالة والحرّية ليست من النوافل وإنّما هي من صلب الاهتمام الإيمانيّ. |
الكاتبخريستو المر الأرشيف
December 2023
Categories |