خريستو المرّ
الثلاثاء ٢٥ كانون الثاني/ يناير ٢٠٢٢ الموت باب سيجتازه كلّنا، لكنّ موتُ إنسانٍ لأسباب يمكن تجنّبها لا يُحتَمّل، ويدين مجتمعه بأكمله. لا أحد بريءٌ من موتٍ كان يمكن تجنّبه، وإن كانت المسؤوليّة تختلف بين الساكت عن المظالم وبين الذي يرتكبها. هكذا موت يعكس ظُلمًا والظُلم لا يُحتمل. الظلم أمرٌ لا يتّفق مع الطبيعة البشريّة في صفائها، أي في وضعها الفطريّ الـمُتعاطف مع الآخرين. أمام الظلم، أمام موت إنسانةٍ من البرد أو من الجوع (كيف تصمت الضمائر أمام مجاعة أهل اليمن!)، لا ينبغي أن نقبل الواقع، لأنّه لا يعكس موتا طبيعيًّا نتيجة صدفةٍ أو مصائب الطبيعة وإنّما نتيجةُ واقعٍ ظالم. السؤال الكبير لدى العديدين: أين الله من ذلك كلّه؟ لكنّ من يقرأ الكُتُب يعرف أنّ السؤال الأكبر لله: أين أنتم من ذلك كلّه؟ بحسب ما يُعرف من الكتب المقدّسة، وما خلا ما ندعوه بالعجائب، فإنّ الله يتمّ مشيئته يتمّها بواسطة الناس، ومشيئته هي ما اعتدنا أن نراه بشكل فطريّ أنّه خيرٌ، ولا تتضمّن مطلقًا أيّ مصيبةٍ أو شرّ. الله ارتضى أن يكون الإنسانُ شريكَه في العمل، في بناء عالم عدل ورحمة. الألم من الظلم شاملٌ، حتّى الظالم يتألّم ولو لم يعِ ذلك لأنّ جرائمه تكاد تحوّله إلى شيء. يبقى أنّ الألم حاضر في المظلومين بشكل أكثر تشعّبا وشدّة لأنّه ألم جسديّ (جوع، برد، قلّة تغذية، مرض) ونفسيّ (انعدام حيلة، أفق مسدود، تضاؤل الفرص). كل هذا الألم لا معنى له بحدّ ذاته، ويجب إزالته. كقاعدة، لا يزيل الله هذا الألم مباشرة وإنّما بواسطتنا. الله إلى الآن يعمل، ويريدنا أن نعمل معه. عملنا على الأرض هو الذي يجسّد محبّة الله ورحمته للبشر، لهذا المؤمنات والمؤمنون «دينونتهم» كبيرة إذا ما أحجموا عن المشاركة. ليس أنّ الله يدينهم، وإنّما هم يدينون أنفسهم، بانغلاقهم على ذواتهم، والبقاء على مستوى مشاعر عاطفيّة غير فاعلة بالأوضاع. أن يكون الإنسان مع الله هو أن يحبّ الإخوة، وأن يحبّ هو أن يشارك، بالمشاعر وبالمال وبالوقت... وبالسعي لرفع الظلمِ، زارعِ الآلام، بالسعي لمجابهة النتائجُ الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة للخطيئة. وعدا الألم الذي يمكن ردّه بالعدل، هناك ألم لا يمكن ردّه كألم مرض لا دواء له، أو ألم فقدان نتيجة موت طبيعيّ، إلخ. هذا الألم أيضا لا معنى بحدّ ذاته، هو جزء من طبيعة هذا الكون الصادر من العدم غير المتمتّع بالكمال. كلّ ألم لا معنى له بحدّ ذاته. المعنى هو ما نصنعه نحن في كلّ وضع. في الحالات الاستثنائيّة قد لا يسمح الظرف بأيّ قدرة على الحركة أو حتّى الوعي، ولكن في الأوضاع العاديّة وهي الأوسع اختبارًا، علينا أن نجد جوابا عن السؤال التالي: ماذا نفعل؟ طالما هناك آلام لا يمكن ردّه، أكان بسبب طبيعة الكون أو بسبب الظلم، فالسؤال هو دائما ماذا يمكننا أن نفعل؟ هل ننغلق على أنفسنا؟ هل نشارك ما أمكن؟ هل نستكين؟ هل نثور؟ هل نتعاون مع غيرنا؟ هل نشارك في الظلم؟ السؤال هو كيف نخلق جوابًا على مستوى آلامنا. في الألم إمكانيّة يأسٍ وفرصةُ إيمانٍ كبير (بالمعنى الواسع للعبارة)، فرصة أن نصيغ فرصة مشاركة، وفرصة قول «لا» للظلم، والـ«لا» تتّخذ أشكالا عديدة. الأطفال، في بداياتهم، هم أفضل من يقول «لا»، وربّما وجهٌ من وجوه كلمات يسوع "إن لم تصيروا كالأطفال لا تدخلون ملكوت السماوات"، هو وجهُ رفضِ الظلم من جهة، ووجه التعاضد الذي يبديه الأطفال تلقائيّا أمام موجوع، من جهة أُخرى. إيمانيًّا، علينا أن نخشى ألّا نكون على مستوى آلامنا، وألّا نكون على مستوى آلام غيرنا. الجواب الأكبر على سؤال الله "أين أنتم من هذا كلّه" هو طريقة حياة تقول "لا" للظلم وتقول "نعم" للتعاضد مع المهمّشين، طريقةُ حياةٍ تشفّ عن حبٍّ متجسّدٍ بألف ومضة وومضة. من المؤلم حقًّا أنّ معظم أصحاب المناصب الكنسيّة مشغولون بشغفِ المال والسلطة، ومنعِ أيّ إمكانيّة شفافيّة في الإدارة الماليّة لكي يبقوا على البذخ، وتبقى بيدهم جرعةُ تخفيفِ الألمِ بتوزيع الفتات، متمثّلين بذلك على أكمل وجه صورة مافيا السياسية. لكن أمام هذا الألم علينا أن نندفع إلى مزيدٍ من التعاطف والحبّ لا إلى أقلّ منه، إلى مزيد من الالتزام لا إلى أقلّ منه. هذا هو جواب إيمانيّ، وهو يوحّدنا مع يسوع الممتدّ بحجم الأبديّة حبًّا، على صليب. خريستو المرّ
الثلاثاء 18 كانون الثاني/ يناير ٢٠٢٢ صدر البارحة عن مطرانيّة بيروت المارونيّة بيانا مهمًا حول الاعتداءات الجنسيّة في الكنيسة المارونيّة في مطرانيّة بيروت[1]. يتكلّم البيان بلسان مطران بيروت والكهنة والرهبان والراهبات ويبدي الأسف والاستنكار والرفض "لكلّ لانتهاك وتحرّش جنسيّ وجسديّ ونفسيّ، ارتكبه أو قد يرتكبه" أحد منهم "بحقّ القاصرين والأشخاص المستضعفين"، ويبدي البيان احترامه للضحايا باعترافه بإدراك "الآلام والآثار النفسيّة" التي عانوا منها. ثمّ يطلب منهم واضعوا البيان في سابقة "الصفح والغفران من جميع الضحايا" وفي هذه الجملة اعتراف صريح وواضح بوقوع ضحايا، واعتراف غير مباشر بتقصير المسؤولين الكنسيّين في القيام بواجباتهم فلا أحد يطلب الصفح إلّا عن خطأ ارتكبه. يتابع البيان بلسان المطران شخصيّا بالعمل جاهدًا "إلّا تتكرّر مثل تلك الأفعال" وهو اعتاف صريح آخر واضح بوقوع تلك الأفعال، وهذا أقرب تصريح يشير إلى أنّ منصور لبكي ارتكب ما أثبتته محكمة الفاتيكان والمحكمة المدنيّة الفرنسيّة. وبكلمات لا لبس فيها يتعهّد مطران بيروت بولس عبد الساتر إلّا يتستّر على مرتكب "لن أتسامح قطعًا مع مرتكبيها، ولن أغطّي جريمتهم" ويتابع ليقول للناجين "حرصي الشديد على متابعة كلّ قضايا المعتدى عليهم حتّى النهاية". وأخيرًا، نأتي إلى بيت القصيد الذي يتجاوز النيّات الحسنة والكلام الممتاز إلى الفعل الملموس فيعلن المطران عبد الساتر نظرًا لالتزامه بتوجيهات البابا بإنشاء ما دعونا إليه مرارًا في مقالاتنا "مكتب خاص يهتمّ بتلقّي الشكاوى" يمكن لمن "تعرّضوا [لانتهاكات] في الماضي أو يتعرّضون اليوم" أن يلجأوا إليه لمتابعة قضاياهم وفقا للقانون مع المحافظة على "سرّية هويّة الشخص المعتدى عليه"؛ ويعلن عن رق لتلقّي الشكاوى (07-943484). لا يمكن التخفيف من أهمّية هكذا بيان يصدر في ايّة كنيسة في بلادنا. هو بيان-فتحٌ يسمّي الأمور بأسمائها ويقطع مع تقليد بغيض في كلّ الكنائس يقتضي حماية الإكليروس للاكليروس والصمت عن ارتكابات رفاق المهنة. كما يقطع البيان مع قلّة علم ودراية عند الإكليروس جرّت قلّة اخلاق وانعدام إحساس بمعاناة الناجين الذين مارس المسؤولين بحقّهم أبشع أنواع الترهيب والتهميش. يبقى أنّ هناك عدّة خطوات ضروريّة ليطمئنّ قلب المؤمنين. أين الوضوح في قضيّة لبكي؟ قضية لبكي هي المحكّ في جدّية مطرانيّة بيروت. من الضروري القول بدون أيّ لبس ولا مداورة من مداورات أبو كسم في المركز الكاثوليكي للإعلام الذي كاد يُغبى عليه على التلفاز في محاولته التهرّب من القول الصريح بأنّ لبكي مرتكب، وتجرّأ على اتّهام إحدى الناجيات بأنّها المجرمة. بالإضافة إلى ذلك فإنّ استقبال مطران بيروت العلنيّ للناجيات من فظائع لبكي، مثلًا، يمكنه أن بعطي إشارة واضحة حول حدّية الاهتمام بالضحايا. ويضع طلب "الصفح والغفران من جميع الضحايا" موضع التنفيذ. ويبقى عدّة نقاط غامضة وتحتاج إلى توضيح لاحق نتمنّاه: ممّن يتشكّل المكتب؟ هل هو مؤلَّف من كهنة وإكليروس فقط، أم هناك متخصّصون في علوم القانون والنفس وغيرهما؟ هل هو مؤلَّف من كهنة وإكليروس فقط، أم أنّه مكوّن أيضًا من أعضاء علمانيّين موثوق بهم ومستقلّين ليتمّ تعطيل ذهنيّة اللفلفة؟ هل هناك رجال فقط أم يوجد أيضا نساء مستقلّات موثوق بهنّ حتّى يستفرد الرجال بحماية الرجال؟ هل المتابعة "وفقا للأصول القانونيّة" التي ذكرها البيان تقتصر على القانون الكنسيّ أم أنّ المكتب سيعمل على رفع الغطاء الكنسيّ عن المتّهمين بالارتكاب لتتمّ بالفعل ملاحقتهم في القانون المدني ّاللبنانيّ؟ (نذكر في قضيّة بندلايمون فرح أنّ "الهيئة الاتهامية في الشمال تخلّفت بعد ذلك عن إنجاز تحقيقاتها مكتفية بإلغاء مذكرة التوقيف الغيابية الصادرة بحقّ فرح من دون أن تصدر قرارها الاتّهامي أو تتّخذ أي قرار للتحقيق في القضية. وقد أسهم في ذلك تعطيل العدالة" كما ذكرت المفكّرة القانونيّة[2]، ولا يخفى عن عاقل أنّ التغطية الكنسيّة التي تلقّاها هي التي سمحت بذلك). ما هي آليّة العمل للمكتب وكيف تضمن استقلاليّته من التدخّلات؟ هل عمل المكتب شفّاف لتعود الثقة بأنّه لا يوجد نيّة بلفلفة القضايا؟ هل يوجد خطّة تربويّة للتوعية حول موضوع التحرّش؟ هل سيعظ دميع الكهنة بمحتوى البيان ويقرؤونه على العموم في الكنائس في عظة الأحد المقبل ليصبح معلوما من المؤمنات والمؤمنين؟ هل ستُقام ندوات تربوية حول الموضوع في الأبرشيّات؟ هل سيدخل موضوع التحرّش على المناهج التربويّة للمدارس المارونيّة على الأقلّ تلك التابعة لأبرشيّة بيروت؟ ما هي السياسات التي ستتّبعها الأبرشيّة حول انفراد الكهنة والرهبان بفتى أو فتاة، برجل أو امرأة، لكي تقلّل من إمكانيّة حصول تحرّش؟ هل ستعمل المطرانيّة على إزالة هالة القداسة عن الثوب الكهنوتي والرهبانيّ لتثبّتها من جديد على وجه الإنسان؟ الأسئلة هذه لا نوردها إلّا للتدليل على أنّ موضوع التحرّش قد يبدأ بفتح مكتب للشكاوى أو خطّ ساخن للدعم ولا ينتهي به، هناك سياسات يجب أن تُرسّم وتحتاج لمتخصّصين، المطرانيّة يمكنها أن تشكّل المحرّك الأوّل لهكذا ورشة، ولا يمكنها أن تعملها وحدها، بل مع المتخصّصين ومع الشعب المسؤول الأوّل والأخير عن ذاته. هكذا يؤخذ طلب الصفح والغفران إلى نهاياته، إلى التوبة، إلى تغيير الذهن الضروريّ حتّى لا تتوه المؤسّسة ولا يتوه المسؤولون عن الهدف من جديد. [1] https://www.facebook.com/maronitebeirut/photos/a.1669578700002737/2781917562102173/ [2] "المفكرة" تنشر القرار الظنّي بحقّ الأرشمندريت بندلايمون فرح، المفكرة القانونية، 3 كانون أوّل 2021 https://legal-agenda.com/%d8%a7%d9%84%d9%85%d9%81%d9%83%d8%b1%d8%a9-%d8%aa%d9%86%d8%b4%d8%b1-%d8%a7%d9%84%d9%82%d8%b1%d8%a7%d8%b1-%d8%a7%d9%84%d8%b8%d9%86%d9%91%d9%8a-%d8%a8%d8%ad%d9%82%d9%91-%d8%a7%d9%84%d8%a3%d8%b1/ خريستو المرّ
الثلاثاء ١١ كانون الثاني/ يناير ٢٠٢٢ الإيمان الأصيل بالله ليس مجرّد تصديقٍ بوجود الله أو بفكرة وجوده. هو علاقة. الإنسان المؤمن يرى ما يعتقد أنّه آثار الله في هذا الكون، لكنّ الله يبقى لديه غير مرئيّ ظاهريًّا. ولهذا فإنّ الإيمان مرتبطٌ بعلاقة بآخرٍ لا نراه. في عالمنا، يرتبط الإيمان ارتباطًا وثيقًا بعدم الرؤية. لهذا الإيمان تمرينٌ على امتداد الرغبةِ إلى آخرٍ حاضر-غائب، إلى هذا – ذاك، إلى الحاضر حضورًا ضبابيًّا في «الآن» والذي نرجو لقاءه "وجها لوجه" في «الآتي»، ونكتفي الآن بملاقاته-مخاطبته في سلسلة من الاتّصال والانفصال، من الوصول والانطلاق، من الـمُحال الذي يتحقّق، والتحقّق الذي لا نبلغه أبدًا. المحبّون يفهمون ذلك تمامًا لأنّهم أبدا يعيشون القمم الخائبة، تلك القمم التي تفسح عن قممٍ أعلى، حتّى يتّسع القلبُ أمام لانهائيّة الرغبة. من زاوية عدم الرؤية، كلّ إنسان ملتزمٍ بمبدأ هو انسان مؤمن. مَن يعمل من أجل تحقيق مبدأ على الأرض، كالحرّية من الاستغلال، مثلًا، هو إنسان مؤمن، لأنّه يسعى إلى ما لم يرَ، يسعى إلى تحقيق مبدأ لا يوجد بشكل ناجزٍ أبدًا، إنّه "يرى" المبدأ قبل أن يراه، يصدّق إمكانيّة تحقيق عالم لا استغلال فيه مع أنّه عالمٌ غير موجود الآن، وربّما لم يوجد أبدًا في التاريخ. لولا الإيمان (بالمعنى العام) لما تمكّن أيّ إنسان من السعي لتحقيق توق. بالطبع هناك أهداف مدمّرة للتوق الإنسانيّ (جمع المال كهدف) وأهداف تَبني (عيش المحبّة كهدف) لكن هذا موضوع آخر. من زاوية الإيمان (وخاصة الإيمان بالله)، يمكن تجاوز الشعور بالإحباط واليأس من الأوضاع في لبنان وفي سوريا وفي فلسطين، حين يتذكّر الإنسان معنى الإيمان: رؤية مَنْ لا يراه أو ما لا يراه بالعين. إنّ العدالة والحرّية المطلوبان في هذه البلاد وغيرها غير موجودة اليوم، ولكنّ المؤمن يسعى إلى تحقيقهما (ولو هاجر) لأنّه يؤمن بأنّ ذلك ممكن، وبأنّه ضروريّ، وبأنّه مسؤوليّة. لماذا يسعى الملتزمُ بمبدأ إلى تحقيقه؟ ليس فقط لأنّ الناس تستحقّ ذلك، وإنّما أيضًا لأنّه يريد أن يكون مخلصًا لذاته، ولإيمانه، أي أن يبقى إنسانًا متّحدًا بذاته، غير منقسم على نفسه، وأن يبقى - إن كان مؤمنا بالله - على إخلاصه لعلاقة المحبّة التي تجمعه بالله والتي لا يمكن فصلها عن محبّة الناس وخدمة إنسانيّتهم. أن يؤمن الإنسان هو أن يتجاسر على الواقع، وأن يطلب المستحيل كلّه، وفي الآن عينه أن يعمل بالمعطيات الـمُتاحة ويوسّعها ليمدّ الواقع إلى الأمام. الإيمان هو هذا الرجاء المتناقض الذي يعرفه الساهرون، هو الرجاء بالضوء الكامن في المحبوب حتّى عندما يغيب الضوء، هو الرجاءُ بمجيءِ المسيح بتحضير هذا العالم لذاك المجيء. هذا الرجاء لا يعرف الرضوخ، إنّه رجاءٌ يفتّش دون كلل عن كلِّ إمكانيّةٍ في كلِّ واقع. العمل على إحلال العدالة والسلام في هذا العالم، هي حكاية إيمانٍ يدفعك دفعًا داخليّا كي تطلب المستحيل وتعمل لأجله، ليس من أجل الآخرين فقط وإنّما من أجلك أنت أيضا، لأنّك تريد أن تكون أنت المتّحد بنفسك. لبّ الإيمان أن يحبّ الإنسان نفسه والآخرين، وهذا يدور في فلك حبّ الله عند المؤمنين به. الالتزام والنضال جذورهما حبّ، وعند كاتب هذه السطور جذورهما حبٌّ جسّده طفلٌ في مغارةٍ، صَعِدَ بالأوجاع جلجلة انتصاره يومًا، ثمّ غفا في مزود القبرِ ليفجّره بالحياة من الداخل. كيف يمكننا أن نكون الحياة البازغة وسط الموت؟ هذا هو السؤال الذي ينبغي أن نبحث عنه، ليس لوحدنا، بل مع غيرنا. خريستو المرّ
الثلاثاء ٤ كانون الثاني/ يناير ٢٠٢٢ ٦ كانون الثاني من كلّ عام هو عيد الظهور الإلهيّ والذي تتّخذه معظم الكنائس الأرثوذكسيّة (بلادنا استثناء) والكنيسة القبطيّة والأرمنيّة مجالًا للاحتفال بميلاد يسوع. العيد يدور حول معموديّة يسوع في نهر الأردن على يد نبيّ اسمه يوحنّا مُلقَّب بالمعمدان. اختصار الرواية الانجيليّة أنّ يوحنّا كان يذكّر الناس بضرورة التوبة لأنّ ملكوت الله قريب، وأنّه كان يعمّدهم في نهر الأردن مُعلِنًا أنّه يعدّ طريق المسيح الآتي عن قريب. يأتي يسوع إلى يوحنّا ليعتمد أيضًا، يتمنّع يوحنّا أوّلا لأنّه يرى في المسيحِ رجلَ الله الـمُنتَظَر، لكنّ يسوع يُصرّ على إتمام مشيئة الله ويعتمد من يوحنّا، وتُخبر الرواية الانجيليّة أنّ "السماوات انفتحت" وأنّ الروح القدس نزل على يسوع بهيئة حمامة، وأنّ صوتًا من السماء سُمِعَ يقول "هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت". بعدها يذهب يسوع إلى الصحراء ويبقى صائمًا مدّة أربعين يومًا، يجرّبه الشيطان خلالها، ولكنّ يسوع ينتصر على التجارب. ماذا يمكن أن نفهم من ذلك؟ وما علاقة له بحياتنا اليوم؟ يمكن للمتأمّل أن يرى أنّ خروج يسوع من المياه بعد العماد وبقائه أربعين يوما في البرّية يذكّر بخروج العبرانيّين من مصر وعبورهم الصحراء أربعين سنة، بحسب رواية العهد القديم. يسوع يلخّص، إذًا، مسيرة الشعب العبرانيّ. إلّا أنّه مقابل وقوع الشعب في فخّ عبادة الأصنام أثناء عبوره الصحراء، ينتصر يسوع على التجارب في البرّية. يسوع يبدو أيضًا على صورة الله الراعي والمفيض روحه في الكنيسة، فالله بحسب ما ذكر إشعياء "أصعد شعبه من البحر، ورعاهم كغنمه، وجعل في وسطهم روحه القدّوس". أمّا تعبير "ابني الحبيب الذي به سُرِرْتُ" فعدا ذكره الحرفيّ في مقطع من كتاب المزامير، فهو يذكّر بإسحق ابن ابراهيم الذي تقول الرواية الكتابية أنّ الله عندما دع ابراهيم لتقديمه أضحية سمّاه "وحيدك الذي تحبّه". المسيح، إذًا، هو الابن، ولكنّه أيضًا الأضحية، القربان، هو الـمُقَرَّب، ولكن هو الـمُقَرِّب نفسه أيضًا، وطالما رأى المسيحيّون في المعموديّة، في نزول الماء والخروج منه، إشارة إلى الموت والقيامة. معموديّة يسوع تشير مسبقا إلى موته وقيامته. لكنّنا نرى أيضًا في معموديّة يسوع في الأردن إشارة إلى الحرّية والفرح، فنزول الروح القدس، يذكّر بمقطع كتابيّ يقول فيه أشعياء أنّ "روح الربّ عليّ لأنّه مسحني لأبشّر المساكين، أرسلني لأجبر منكسري القلوب، لأنادي للمُستَعبَدين بالحرّية، وللمأسورين بالإطلاق... لأعزّي كلّ النائحين". ويسوع نفسه ذكّر بهذه الكلمات في أوّل خطوة علنيّة له قبل بدء عمله البشاريّ على الأرض. أخيرًا تذكّرنا صورة الروح النازل على يسوع على شكل حمامة، بـ"روح الله" الذي "يرفّ على وجه المياه" في رواية التكوين والتي تصوّر بدأ عمليّة الخلق. هكذا، في معموديّة يسوع تبدو لنا إنسانيّته إنسانيّةَ خليقةٍ جديدةٍ تجدّد الكون، أو تؤسّس لكونٍ جديدٍ مبنيٍّ على الحرّية والفرح. رسالة يسوع هي رسالة تجديد العلاقات البشريّة لتصبح علاقات حرّية وفرح، في كون جديد يلفظ الاستعباد والاستغلال، كونٍ مبنيٍّ على التعاطف ولهذا مبنيٌّ على المشاركة. بهذا يسوع هو الراعي الصالح، هو الذي يلخّص في ذاته مسيرة الناس عندما يصبحون بالفعل "شعب الله"، عندما يكونون مستعدّين أن يقدّموا أنفسهم أضاحيَ حبّ، وأن يحتملوا الهزء والألم، والنبذ أحيانًا، وربّما الموت، وأن يحتملوا كونهم "قطيعًا صغيرًا" يُهزأ به من "الجموع"، من أجل أن تنتصر الحياة الجديدة، من أجل أن يحيا الإنسان حقًّا، أن يحيا حُرّا وفرحًا في كرامة. "شعب الله" هم أولئك الذين يسعون إلى الحرّية والكرامة، والمتعاطفون ولذلك مشارِكون للمحتاجين، محرّرين أنفسهم وغيرهم من الأشياء ليحيوا بتجديد العلاقات الإنسانيّة. بهذا هم يتمّمون مشيئة الله، ويصبحون إخوة يسوع، "عظم من عظامه ولحم من لحمه" في إنسانيّته الجديدة التي تجدّد وجه الأرض، وتجعلها أرض حبّ مُشارِك فيُسَرُّ اللهُ بخلاص البشر من وهم الحياة، وبقيامتهم من الموت. |
الكاتبخريستو المر الأرشيف
December 2023
Categories |