خريستو المر - الثلاثاء ٢٦ أيلول ٢٠٢٣ (الأخبار)
كان الانفصال بين الأنظمة القمعيّة والناس في المنطقة العربيّة جليّاً منذ عشرات السنين، ولا يختلف هذا الوضع بين الأنظمة المطبّعة وتلك الممانعة، إذ لا يمكنك أن تشير إلى رضى الناس عن نظام وحاكم إلّا إن كانوا أحراراً بتغييرهما ولم يفعلوا. وجود كيان استعماريّ معاصر يتوسّع وحيّ كإسرائيل في أيّ منطقة في العالم هو تهديد لسلام وحياة سكّان تلك المنطقة وثرواتهم، ولا يشكّ في ذلك إلّا مَن كان قابعاً في جهلٍ أو فاقداً للعقل، أو مستسلماً في دونيّة تجاه المستعمِر، أو مؤجّراً نفسه لمن يستأجر. فلسطين ليست قضيّة الفلسطينيّين وحدهم، بل هي قضيّة شعوبنا المهدّدة من الاستعمار الصهيونيّ المزروع والمحميّ من المستعمر الأميركيّ والأوروبيّ، ومن لم يعرف ذلك يهدّد بنفسه مستقبل شعبه؛ ومَن يظنّ أنّ البحبوحة ستفيض في ساحات التطبيع، عليه أن يتأمّل مليّاً في زواريب الفقر وكوابيس الأزمات الاقتصاديّة في مصر والفقر في الأردن وغيرهما، فالمنطقة العربيّة هي المنطقة الوحيدة في العالم، حيث الفقر ازداد منذ عام 2010 (إحصائيّات برنامج الأمم المتّحدة الإنمائيّ، أيلول 2023)؛ أمّا حصريّة بحبوحة الدول الخليجيّة المطبّعة فتأتي من بواطن الأرض وليس من التطبيع. الشعوب العربيّة، كما تدلّ الإحصائيّات الرصينة، بغالبيّتها العظمى تكره التطبيع وتلفظ الكيان الاستعماريّ الصهيونيّ لأنّ حسّها الإنسانيّ حيّ، مهما بطش البطّاشون، ورشا الراشون، وسجن السجّانون. كما لم يتسرّب التطبيع إلى المدى الشعبيّ في مصر، لم تدعه الشعوب العربيّة يتسرّب إلى ضميرها؛ فقد يغصب الحاكم الناس للتهليل له، ولا يستطيع أن يغصب الضمير الشعبيّ للقبول بالتطبيع. لهذا فإنّ المجموعات الصغيرة التي تقود حركات المقاطعة في البلاد العربيّة لا تعتمد على نفسها وذكائها فقط، بل تعتمد أساساً على هذا الضمير الشعبيّ، تعتمد على الرفض الفطريّ للظلم الذي يشعر به كلُّ إنسان لم يتخدّر حسّه؛ فهناك شيء في الإنسان يلفظ الظلم ولا يمكنه أن يتآلف معه. يعتمد الملتزمون بحركات المقاطعة على أنّ الحسّ الإنسانيّ للغالبيّة العظمى من البشر يميّز بين الحقّ والظلم ويلفظ الأخير؛ لذلك يعرفون أنّهم لا يحتاجون كالأنظمة إلى مليارات لأنّ كلّ ما يفعلونه هو إيقاظ الناس إلى قلوبهم، لا إقناعهم بعكس ما يشعرون به. قوة المقاومين بالمقاطعة تكمن في الحقّ الصاعد من أعماق النفس منذ الولادة، وفي أنّ معظم الناس مهما كانت تعرّجات حياتهم ومستوى أخطائهم وخطاياهم يرفضون الظلم ويحتجّون عليه، إن لم يكن بالفم وبالكتابة فبقرارة النفس والضمير. لهذا يفضّل المستعمرون أنظمةَ القمع لأنّ الإقناع ليس همّهم وإنما يهتمّون بقيادة البلاد نحو حتفها واستغلال ثرواتها، وهذا ممكن فقط في ظلّ أنظمة قمعيّة يمكن للمستعمرّ أن يحكّم بثلّة من حكّامها الخاضعين. الأنظمة تتبدّل، والحكّام الخونة يموتون وعادة ما تذكرهم شعوبهم بالبصاق واللعنات، ولا يموت حسّ رفض الظلم، ينبغي فقط ألّا تموت مجموعات المقاطعة مهما مرّت بصعاب، فسطح الإعلام المطبّع لا يعكس عمق طموح الشعوب ولا آمالها، والإحصاءات التي تلفظ التطبيع تشهد. حين يطبّل المطبّلون للتطبيع القادم سنكون مجتمعين لإفشال مخطّطاتهم، نحن الذين نحمي شعورنا الإنسانيّ من الوحشيّتين، تلك السافرة وتلك المقنّعة، للحكّام والمستعمرين. سنكون مجتمعين نحن الذين نحمي أنفسنا من حزننا على فلسطين، ونوقد من الحزن حطب الغضب لكي نعمل بلا كلل من أجل كرامة الفلسطينيّين وكرامتنا على هذه الأرض. لذلك يعمل معنا كلّ مَن يؤمن أنّ كرامة كلّ إنسان لا يمكنها أن تعني يوماً سحق كرامة آخر. سنكون مجتمعين مع رغبة قلوبنا بالحرّية والحقّ، نحن الذين تُهاجم كرامتُنا كلّ يوم ويريد لنا المستعمر أن نكون خارج التاريخ، نحن الذين نخطّ لتاريخنا الطويل مساراً في هذا التاريخ، عبر فلسطين، كلّ فلسطين. فطريق كلّ بلد عربيّ تمرّ من فلسطين، وطريق كلّ إنسان عربيّ إلى ذاته تمرّ من فلسطين. هذا التاريخ تاريخنا، وهو لنا. خريستو المرّ – الثلاثاء ١٩ أيلول/سبتمبر ٢٠٢٣
«الحبّ هو الملكوت الذي حدّثنا عنه السيّد رمزيّاً عندما وعد تلاميذه أنّهم سيأكلون في الملكوت: "لتأكلوا وتشربوا على مائدتي في ملكوتي". فما الذي سيأكلون إن لم يكن الحبّ؟ ... عندما نبلغ الحبّ نبلغ الله، وينتهي طريقنا: نكون قد وصلنا إلى الجزيرة التي خلف العالم، حيث الآب مع الابن والروح القدس: لهم المجد والقوّة»، بهذه الكلمات اختصر القدّيس اسحق السرياني لبّ رسالة يسوع المسيح؛ ومَن لم يفهم هذا اللبّ، أو تناساه غابت عنه الرؤية، ومَن قاومها وحاول تكبيلها كان عابد ذاته وجماعته. حين قال يسوع أنّ «الروح يهبّ حيث يشاء» وفتح بذلك في الفكر والقلب باب حضور الله في مَن يتبعه وهو يعلم ومَن يتبعه وهو لا يعلم، حاول أن يحرِّر الله من قبضة المتزمّتين من أتباعه في كلّ زمن، أولئك الذين يريدون أن يقبضوا على الله ويحتكروا حضوره بين الناس. قمّة المحاولات في الوسط المسيحيّ سمعتها يومًا في فذلكة تقول «صحيح أنّ الروح يهبّ حيث يشاء.... ولكن الروح تضبطه الأسرار [طقوس كنسيّة]"، أي برأي هؤلاء، الكنيسة الملموسة المنظورة تمسك بالروح، لأنّه لا يمكن للروح أن يكون خارج الأسرار الكنسيّة. لعمري لم أجد قلوبًا أكثر ضيقًا من تلك التي تتفوّه بهكذا كلمات. المسيح يقول الله حرّ أن يهبّ حيث يشاء، وهناك مسيحيّون يقولون له «لا، الكنيسة يمكنها تحاصر إرادة الله». بالطبع يمكن للفذلكة أن تكمل مشوارها وتقول أنّ الأسرار أسّسها الروح نفسه، وأنّ الروح هو الذي أَسَرَ نفسه بالكنيسة ومؤسّساتها وطقوسها؛ وهو قول لو قيل لكان يشيح الوجه عن قطعة طقسيّة تقول عن الروح أنّه «الحاضر في كلّ مكان وصقع والمالئ... الكلّ». الروح يهبّ حيث يشاء، لا يضبطه شيء، لا مسيحيّين، ولا بلد، ولا لون، ولا جنس، ولا جندر، ولا لغة (لا يونانيّة ولا روسيّة ولا لاتينيّة)، ولا قوميّة، ولا أيّ أمر آخر. ولا أيّ مشروع بشريّ مهما كان شريفا (وهذا نادر) أكان سياسيّا، أو حزبيّا، أو ثقافيّا، أو فكريّا. الله محبّة كاملة كما بيّن يسوع، وهو مُعطى لمن يشاء، والروح القدس يهبّ في الجميع وحاضر في الجميع بطريقته، ويدلّ الجميع إلى الحبّ الإلهيّ. كلّ إنسان يتجاوب مع الحبّ الإلهيّ آمن بوجود الله أم لم يؤمن، آمن بالمسيح أم لم يؤمن، هو في قلب الله، أعجبنا ذلك أم لم يعجبنا. أمّا الذين يتجاوبون فيُعرفون بثمارهم، وثمار الحبّ تدلّ على نفسها بنفسها. هؤلاء يأكلون الحبّ ويُطعمونه لغيرهم، لهم أجسادهم وحياتهم وأموالهم ووقتهم وعنايتهم، يملكون كأنّهم لا يملكون، يهبّون كالروح حيث يشاؤون وحيث تدفعهم أقدراهم أن يكونوا، يسعون لوجه الإنسان لأنّهم يسعون لوجه الله، يرفضون الظلم ويسعون لرفعه، يريدون الحرّية والكرامة البشريّة حقّا، يحبّون الحياة حقّا ويريدون لها أن تنتعش وتنمو؛ هم «رائحة المسيح الذكية لله، في الذين يخلصون وفي الذين يهلكون. ولكنّهم لهؤلاء [الذين يهلكون] هم رائحة موت، ولأولئك [الذين يخلصون] رائحة حياة لحياة»، فعطر حبّهم الزكيّ يُفرح المحبّين ويثير حنق الكارهين؛ ولذلك يُضطهدون فعبّاد أنفسهم يكرهون الحياة. كلٌّ في حياته يتذكّر وجه إنسانٍ أطلّ عليه كملاكٍ مُرسَل. الله يدعم الإنسان ويحبّه بطرق لا نعرفها؛ بل الله مستعدّ أن «يموت» من أجل الإنسان، كلّ إنسان، هذا ما قال وجود يسوع بيننا، وقد كتب القدّيسون قديمًا أنّ كلمة الله تجسّد لكي يستطيع أن يتذوّق الموت مع محبوبه الإنسان، فيشاركه كلّ شيء، حتّى الموت الذي لم يكن يتذوّقه وهو إله. في اليوم الأخير لا ينزل الله بأحد عقابًا، لا يقدّم شرّا، لا يؤذي الناس يومها كما هو لا يؤذيهم اليوم، فهو محبّة صرفة، كأس مُسكرٌ للجميع، ولكن في ذلك اليوم هناك مَن يريدون أن يشربوه ومن لا يريدون، ولهذا قال القدّيس السريانيّ العظيم عن الله-الحبّ أنّ «الحبّ يعمل بطريقتين مختلفتين، فإنّه يصبح عذاباً في الهالكين وفرحاً في المطَوَّبين. الله الذي هو نبع كلّ ما يمكن تصوّره من حياة وفرح يقدّم نفسه حياة وفرحًا لكنّ مَن اعتادوا على إغلاق القلب لا يأخذون، هذه هي جهنّم، احتفال حبّ يرفض البعض المشاركة فيه لأنّهم اعتادوا رفض الحبّ. أمّا المحبّون اليوم، فهم يعبّون من الحقيقة والحرّية والفرح عن أيّ طريق أتت، ومن أيّ جهة هبّت، لأنّ قلوبهم تشتاق الروح كما تشتاق الأيائل إلى الماء الحيّ، ويشتاقون أن يكونوا في هذا العالم هبوبًا للروح. خريستو المرّ – الخميس ١٤ أيلول/سبتمبر ٢٠٢٣
ليس من أوسع من جنونك وأنت معلّق على الصليب، ليس من حدثٍ أكثر غرابة، أكثر دهشة، ليس من أفقٍ أكثر تشتيتًا للفكر، ولا أكثر تحطيمًا لفكرة السيادة، ليس من أكثر جاذبيّة لذلك النصر الذي اختبأ في ألمك، ثمّ هادئًا تسرّب في لحم العالم ليصبح التراب جبلة حبّ تضيء بالأبديّة، فيبلغ غايته. جنونك أنّك الإله الذي أتيت لنا مثلنا وكُنتنا، أنّك مشيت بيننا وقلتَ وفعلتَ بلا شيء، وباللاشيء الذي أحطت به نفسك، باللاشيء الذي اختبأ خلفه نبعُ كلّ شيء أخذتَ الأشياء إلى حبّك العالي وأضأتَها، وأيقظتَ في القلوب وعودَ النهار فتجلّى العالمُ كما يتجلّى المحبّون في هبوب الشوق. قلتَ أنّ مجدك هو أن نحيا وتتأجّج فينا الحياة، وأنّك لا تغار من مجد الإنسان، بل تريده. وكشفت عن نفسك مجدًا، فقلتَ أنّك الأوّل والآخر، والطريق والحقّ والحياة، فكان كُفرُك الجليّ في عين مجتمعك الضوءَ الذي جذبَ المساكين إلى عينيك. رآك المساكين أخاهم الذي بدا إلهًا حين لم يأنف أن يحبّهم وأن يُنَقِّبَ القتلةُ في جنبه كي ينفجر منها نهرٌ من الضوء يُسكر المحبّين أعلى وأعلى. ليس أنّك اشتهيت الألم، ولكنّك، كإنسان، اشتهيتَ الحبّ، وصِرتَه بإصغائك حتّى النهاية للحبّ الإلهيّ الذي، كإله، كُنْتَه. سرُّك الحبّ ونحن نتعلّم على يديك، من عينيك، من كلماتك، من حنانك على المهمّشين، من كفّيك الممدودتين لتضمّ العشّاق والصعاليك، ومن نافذتي يديك، نافذتينا إلى عالم الضوء الذي يمكن أن يصيره جسمنا ويصيره فكرنا ويصيره جرحنا. هل يصير الجرح عالما من الضوء؟ يصير، تقول حكايتك. كلّ شيء حبّ، ولا شيء إلّا الحبّ، هكذا قالت بلاغةُ جسمِك الممتدّ بين وقع أقدام الإله الماشي في الفردوس وانفجار النهار الأخير. قلتَ أنّ الألم يحدث لأنّ الحياة حدثت، حين أردتها حدثت، ثمّ قلت لعيوننا المعلّقة على مشهد جسدك المعلّق على الصليب، أنّ حطام الجسد على صخرة الألم ليس الحكاية الأخيرة، قلتَ أنّ الألم يتحطّم على صلابة الحبّ الذي ينبت من الحنان ومن رغبة الإنسان أن يكون إلهًا؛ ومعلّقًا جعلتَ نفسَك للرغبة القنديلَ والطريق. جنون حبّك الذي غنّاه مجيئُك وصليبك وقيامتك، يقول أنّك لا تتفرّج على أوجاعنا، يقول أنّك أنت المتوجّع لأوجاعنا بامتياز لأنّك الإحساس بامتياز، لأنّك الحسّاس لنا أكثر منّا لأنفسنا. جنون حبّك يقول أنّك أنت المصارعُ معنا في حلبات العيش، لكي تكون لنا الحياة وتكون أوفر. ولهذا أيّها الإله المجنون حبًّا قدّمتَ إلينا كلّ الحياة، قدّمت إلينا نفسَكَ فجعلتَ الحياةَ الأبديّة طعامَنا، جعلت نفسك طعامًا وشرابًا للذين أحبّوك، وللذين أحبّوا، فأحبّوك دون أن يعلموا؛ فإذا بكلّ ما حلمته الإنسانيّة من بلوغٍ للألوهة، كلّ ما خطر وما لم يخطر على بال إنسان منذ البدء حين وضع قُربانًا لإله أو قدّم له ذبيحة مرتجفًا، إذا بك تجعَلَه بمجانيّة بمتناول الجميع حين تصعد ذاك الصليب وتصرع الموت وتترجّل بعد ثلاثة أيّام لتفتح الطريقَ أمامنا كي نكون أنفسنا العميقة، ونبلغ بِخَيْلِ الرغبة تخوم الأبديّة التي تتراجع كلّما لامسناها لكي لا تفتر فينا النار. أنت أيّها الإله الإنسان الذي أجّجت نار الحبّ حتّى لا نبقى في البرد، وجمعت المهمّشين والمضطهدين والملفوظين من عائلاتهم ومجتمعاتهم، أنت سيّدنا إن ساد فينا الحبّ فكنّا رُعاة الحياة، ليغمرنا وجهك حين نُبحرُ، ويغمُزنا الأبدُ. خريستو المرّ – الثلاثاء ١٢ أيلول/سبتمبر ٢٠٢٣
يرتاح الإنسان إلى التفاني والإخلاص، الأرجح أنّهما حاجة إنسانيّة لأنّهما يشكّلان لحمة في الجماعة. لذلك نرى الناس في كلّ العصور ينبذون الخيانة ويكرهون الأنانيّة ويتفانون في العبادة ويخلصون لآلهتهم، ويتفانون في تربية الأطفال، وفي أعمالهم، ويخلصون لأحبّائهم وأصدقائهم، وأوطانهم، ويتفانون ويخلصون لأفكار مختلفة حتّى ولو كانت فكرة رفض التفاني والإخلاص. لكنّ التزام الإنسان بمبدأ أو فكرة أو إيمان يخلص له، ويتفانى من أجله، ليس هو بيت القصيد؛ وإنّما بيت القصيد يكمن في موضوع التفاني والإخلاص. فقد يكرّس الإنسان نفسه لمثال أعلى يدفعه كي يحمي الأولاد، أو يكرّس نفسه بمبدأ أو إيمان يوجب عليه قتل أولاده، ألم يحدث ذلك في ديانات بائدة قدّمت أضاحٍ بشريّة إلى آلهة؟ ألا يحدث ذلك اليوم حين يقدّم الناس أولادهم أضاحٍ إلى إله الحرب تحت ألف مسمّى ومسمّى (نشر الديموقراطيّة والحرّية، والدفاع عن قومنا «هناك»، مثلاً)؟ كما يمكن للإنسان أن يكرّس نفسه لتدمير الحياة أو لحماية الحياة ونموّها؛ وأن يكرس نفسه لهدف جمع الثروة واقتناء سلطة أو بالعكس لهدف عيش المحبّة والإنتاج والمشاركة. لكن طالما أنّ بعض هذه الأهداف قد يكون غير مرغوب اجتماعيّا (تدمير الحياة، قتل الأولاد) يغلّفها الإنسان بدعاية تصوّرها على أنّها أهداف دفاعٍ عن الحياة، أو الدين الحنيف، أو العقيدة المستقيمة، أو الجماعة، أو الوطن، أو الديموقراطيّة، لكي يتمّ القبول بها اجتماعيّا ويندفع الناس لالتزامها. لهذا وجب تفكيك الخطاب حول الأهداف، أكان ذلك لدى الأحزاب أو طلّاب السلطة، أو جارك المتفاني في البناية، أو لدى أنفسنا ذاتها. حتّى الحبّ والمحبّة قد يكونان غطاء لأهداف تعاكسها. فتحت مسمّى التفاني في المحبّة والحبّ قد يخنق الإنسان حياته وحياة غيره، فيتفانى في التربية، مثلًا، ولكن يطلب في المقابل طاعة مطلقة من أولاده، ويبالغ في التفاني في العمل مدمّرا حياته وحياة عائلته من أجل بناء ثروة لا يحتاجها. بل تحت مسمّى التفاني في الحبّ والمحبّة قد تقضي زوجة حياتها مسحوقة من رجل معنِّف أو مُذِلّ، وتحت مسمّى الإخلاص والتفاني في الإيمان قد يقبل إنسان أن يسحق نفسه ويذلّها ويمسخ حرّيته أمام رجل دين؛ هكذا شخص، لا هدف له سوى التخلّص من عبء حرّيته، إذ «ليس لديه حاجة أكثر ملحاحيّة من أن يجد شخصًا يمكن أن يسلمه، بأسرع وقت ممكن، عطيّةَ الحرّية التي وُلِدَ عليها» كما كتب دوستويفسكي في «الإخوة كرامازوف». لهذا، فإنّ النقد، والحوار، وطرح الآراء المخالِفَة لما هو مُتعارَف عليه، ضرورة قصوى لتفكيك الخطابات حول التفاني والإخلاص وأساسًا حول الأهداف المُعلَنَة. من هنا فإنّ حرّية الفكر ضرورة لا يمكن اختزالها إن أردنا أن نسير كجماعة نحو حقيقة إنسانيّة، وأن نحيا على أساسها. ولكنّ الإنسان يفضّل الوهم على الحقيقة إن كان الوهم يخفّف عنه عبء الحرّية، عبء التفكير الذي يغيّر نظرته للعالم، عبء الوقوف مستقلّا، عبء تحمّل مسؤوليّة أفكاره، عبء وحدته إذا اختلف مع الجماعة التي يرتاح إليها، عبء مسؤوليّته عن حياته، عبء مسؤوليّته عن رفع الظلم، عبء مسؤوليّته أن يكون حرّا وأن يكون نفسه. الشجاعة ضرورة لكلّ تكريس للذات لمطلق أيّ مبدأ أو إيمان. ولكي يخرج القارئ من العموميّات الجميلة التي يوافق عليها الناس عادة، فلنعطِ مثلًا، هل يمكن مقاربة موضوع المثليّة والمثليّين دون اللجوء إلى حسم الموضوع مسبقًا بناء على ما يظنّه الإنسان تفانيًا في خدمة الإيمان القويم والمبادئ الإنسانيّة العليا (العائلة مثلًا)؟ الغضب والضيق الذي يشعر به بعض القرّاء الآن لمجرّد طرح الموضوع، يقول: صعب بالتأكيد. الحقّ الذي يحرّر جميل، والحرّية التي تسمح للحقّ بالبروز إلى حيّز الحياة جميلة، ولكنّهما مُكلفين؛ ولهذا ينحى الإنسان إلى تفضيل العبوديّة للقطيع على الحرّية، وتفضيل العيش المحض على الحياة المتدفّقة من ينابيع الحقيقة، وإدمان أمان الجماعة على كلفة الحقيقة، وقد يفضّل ألّا يعلم على أن يعلم. لكنّنا نعيش هذه الحياة مرّة، فيا لها من فرصة مهدورة أن يعيشها الإنسان بالتزوير، وما أجملها أن يكون ذاته بإخلاصه لخطّ الانفتاح على الحقيقة الراكضة أمامنا أبدًا، وما أجمل أن نركض خلفها معًا. خريستو المرّ - الأربعاء 6 أيلول 2023 (الأخبار)
تحمل رواية رُلى الجردي «مئة رعشة» (دار الآداب)، أوجهاً وحالات عديدة لشخصيّات تطلّ على تعقيدات الحياة البشريّة والخبرات الإنسانية، ولا تشكّل هذه المقالة سوى مقاربة واحدة من مقاربات عديدة ممكنة. ما يميّز الرواية أنّها تفتح الباب أساساً لصوت المرأة بشخص بطلة القصّة لمى، وحولها ستدور هذه المقالة من خلال مقاربة قلق لمى، وما ندعوه رحلة بحث عن الذات والمعنى. لمى المستقيلة من مشاعرها عالقة في دائرة من الوقت الممطوط إلى الأبد أو بالأحرى الذي يدور حول نفسه. تحاول إنهاء دراستها الأكاديميّة، أطروحة الدكتوراه، من دون طائل. عقلها مشتّت، طاقتها تدور في حلقة مفرغة من اللامعنى، تكذب على الناس وعلى نفسها بأنّها ستنهي الكتابة قريباً. تعمل في التدريس في جامعة بمرتّب زهيد، تحاول الحصول على وظيفة أستاذ دائم بدون نتيجة ففي مقابلاتها مع اللجنة الجامعيّة المعنيّة بالتوظيف لا هي حاضرة الذهن، لا مقتنعة بكلامها، ولا هم مقتنعون. نقابلها للمرّة الأولى جالسة في مقهى مع أستاذين من اللجنة التي قابلتها للوظيفة للتوّ. كما جرت العادة بعد المقابلة مع طالب وظيفة أستاذ، نجدها هائمة في عزف بيانو أخّاذ يُبَثّ على التلفزيون؛ تائهة في البيانو، في العزف، غير قادرة على متابعة أسئلة محدّثيها. المقابلة تفشل بالطبع. يشرق في الفراغ الذي تدور حوله أفكار لمى الهائمة بالبيانو. نعرف أنّها لعبت البيانو في طفولتها قبل أن ترميه أمّها خارجاً ضاربة برغبة لمى عرض الحائط. وجه قاسٍ لأمّها نراه خلف الرغبة برمي البيانو. أمّها التي لم تتوانَ عن الكلام الذي لا ينتهي في المنزل. طوفان من الكلام تدفن الأمّ فيه قلقها، أمّها التي تريد أن تحقّق لها مكانة في مجتمعها الضيّق بواسطة نجاح ابنتها في العلم، أمّها التي كان الجميع يتلافى فتح «جبهة قتال» معها، تلك «المرأة التي التصقت بي والتصقت بها حتّى الاختناق» كما تقول لمى التي لم تَعُد تذكر متى سلّمت لأمّها قيادة حياتها واستقالت هي من القيادة مستسلمةً أمام «حبّها لي»، كما تخدع لمى نفسها وتقول. أمام قسوة الأمّ واستهتارها التام بإرادة لمى، بشخصها ورغبتها في متابعة دروس البيانو، لا يمكننا إلّا أن نشفق على لمى التي لا تتجرّأ ــ مثلنا كلّنا لو كنّا في موقعها ــــ أن ترى أنّ أمّها مهما كانت عاطفتها الطبيعيّة كأمّ لم تستطع أن تحبّها كإنسانة، وإنّما غدت ابنتها بالنسبة إليها أداة تحقّق بواسطتها رغباتها وأحلامها. ألا تعجّ الجامعات بالطلّاب الذين قرّر أهلهم عنهم ماذا عليهم أن يتعلّموا؟ ألا تعجّ العائلات بأزواج تزوّجوا ككلّ الناس بدون أيّ رباط شخصيّ، عاطفيّ فكريّ جنسيّ؟ وجه قاس آخر هو وجه معلّمة البيانو التي لم تشجّع لمى يوماً، ولم تخبرها مطلقاً أنّ عزفها ممتاز وأنّ عليها المتابعة. لاحقاً، توقظ الجُردي وجه معلّمة البيانو البارد القاسي في مواجهةٍ بين المعلّمة وبين لمى. تعذر المعلّمة نفسها بأنّها لم تشجّعها يوماً لأنّها كانت تتمنّى للمى أن تكتشف بنفسها رغبتها وأن تناضل من أجلها. عذر إنسانة قطعت في الحياة شوطاً أمام مراهقة كانت تحتاج إلى التشجيع وبناء الثقة بالنفس. نكاد نرى وجه لمى يعتمره القرف والغضب. ينتهي الكلام أمام السقوط العميم، أمام لمى إنسانة قاسية تقارن قدرة إنسان ناضج حرّ متمكّن، رهافة مراهِقَةٍ تحتاج إلى التشجيع وبناء الثقة بالنفس ويمكنها أن تعاني الرضّ بسهولة. تدير لمى ظهرها لمعلّمة البيانو كما أدارت ظهرها لاحقاً لتاريخ طويل داخل قمقم الأمّ وقمقم التوقّعات الاجتماعيّة. تعلّقت لمى بأخ رفيقتها، كلمة «أحبّت» كبيرة جدّاً على علاقتهما السريعة. لكنّ الشاب يذهب لاحقاً في رحلة ويعود متبدّلاً، في علاقة تبعيّة ذليلة لرجل دين يسعى لسلطة في المدينة بإذكاء الفتن وسحق أيّ معارضة. يتوقّف الشاب عن الحديث إلى لمى ويتجنّبها. تضطرّ أن تدفن صورته في نفسها، مع إحباط وغضب يستشفّهما القارئ من دون أن تذكرهما الجُردي. تدفن لمى عشقها للشاب وتتابع دراستها وحياتها. تتعرّف إلى زوجها، تتزوّج كما يتزوّج الناس. تدفعها أمّها دفعاً للدراسة في أميركا، فتذهب إلى أميركا كما يذهب بعض الناس... لكنّها اليوم في ورطة، ورطة الدوران في حلقة مفرغة. فراغ لا يحول ولا يزول يتأكّل حيويّتها وطاقتها. ثقبٌ في الروح أسود يمتصّ طاقتها، ويكلّل أيّامها بلا معنى تجرّه خلف خطواتها أينما حلّت. تتذكّر علاقتها بأخ رفيقتها، أو يكون هناك المعنى الذي أضاعته؟ تنقذها مفاجأة من الدوران في الحلقة المفرغة. عازف البيانو الذي سمعته في المقهى، قريب المرأة التي تستأجر عندها لمى شقّتها. تتعرّف عليه. يسعى الاثنان للتقارب، بينما زوج لمى، الذي يضعه ضياع لمى على مسافة جليديّة منها، يسافر في رحلة بحثيّة برفقة زميلته. عبر روعة الموسيقى والعزف، عبر جمال الروح التي تطلق أجنحتها فوق رياح النوتات الموسيقيّة، تتواصل لمى من جديد مع نفسها، يتضاءل الثقب الأسود داخل روحها، ويشرئبّ المعنى ضوءاً خافتاً في ليل محنتها المظلم. قُرْبها المتواصل والمريح من العازف، يحتفّ به مجازفة العلاقة الرومانسيّة. وها قبلةٌ واحدة بينهما توقظ لمى إلى الطريق الذي وضعت فيها نفسها. تستقرّ فوراً أنّها لا تريد علاقة حبّ مع العازف، تفضّل معه تقارباً فكريّاً وروحيَّاً وتبلغه بذلك. هو العازف لا الحبيب، بعزفه وكلماته يشير إلى طريقٍ، والطريقُ تشير إلى لمى بمعنى جميل يستحقّ الحياة لأجله، أو هو يجعل الحياة جميلة. البيانو الذي رمته الأمّ يترنّح في ذاكرة لمى. رُمي بلا ندم من الأم التي لم ترَ قلب لمى المكسور وهي تكنس البيت ذاك الصباح. لمى أيضاً لم ترَ، تابعت حياتها كما يتابع الناس حياتهم من دون أن يقيموا وزناً لأحاسيسهم. تابعت حياتها كما تنتظر منها أمّها أن تتابع. زواج، دراسة، ونجاح... لكنّ النجاح هرَب ولم تره الأمّ التي تتوفّى. فشل في الدراسة، وفشل في الحبّ، يسيلان من وصف الجُردي للمى. رائحة الحبّ تعود مع عودة الزوج من رحلته البحثيّة، تعود الحرارة إلى علاقتهما، شيء في زوجها تغيّر بعد عودته، وربّما شيء في لمى تغيّر بعد لقائها العازف. بعد مدّة يخبرها زوجها أنّه خانها مع زميلته أثناء السفر. تتصدّع العلاقة من جديد ويعود شبح الفشل، وعويل رياح فراغ المعنى وسط القلب. فَشَل الحبُّ في حياة لمى، فهل من معنى آخر؟ ربّما كان المعنى هو ما أشار إليه جدّها الذي أحبّته وأحبّها، فتبادلا النقاش العميق في صباها. لم يفهم لمى سوى جدّها. كان الجدّ صاحب طريقة صوفيّة، ينشد الحبّ الإلهيّ، مع مجموعة من المتصوّفين في طرابلس. التوتّر بينه وبين رجل الدين الباحث عن سلطة في المنطقة تفاقم، لا يأبه جدّها للأمر. لكنّ لمى تكتشف علاقة خاصّة بين جدّها المتزوّج ومنشد في الطريقة الصوفيّة، مسلم من أصل أرمنيّ خُصي أثناء ملحمة هروب الأرمن من تركيا إلى سوريا ولبنان وصاحب صوت يخلّب الألباب. تأخذنا الجُردي بجمال ورونق عبر رحلة هروبه مع أهله في أرمينيا، مروراً بخدمته كمغنٍّ لدى أحد الولاة الأتراك، وحتّى خصائه الذي يخضع له بعد فشل محاولته هروبه من قصر الوالي وإيجاد مكان أمان. يعود الأرمنيّ إلى أمان القصر مقابل الخصاء. يعطي خصيتيه مقابل أن يُعطى الأمان. لكنّه يهرب من جديد إلى حلب، حيث يسحر الألباب بصوته المدهش في الكنيسة، ويخصّه المايسترو باهتمامه ويضع له خططاً لمستقبل شهير قبل أن يحاول الاعتداء عليه ليلاً. الأرمنيّ اليافع يدافع عن نفسه، لكنّ الكاهن يعاقبه على وقوفه بوجه المايسترو واتّهاماته له، فالكهنة اعتادوا على أن يصمت الناس، وأن يقرّروا هُم وحدهم في الحقّ والباطل. يهرب المنشد الأرمنيّ إلى طرابلس ويلاقي أتباع الطريقة الصوفيّة، فيصبح منشدهم المفضّل ويقابل جدّ لمى. لكنّ الزعيم الدينيّ المتشدّد الذي يوقع حبيب لمى الأوّل في حبائله، يقتل المنشد ويخنق حلقة الطريقة الصوفيّة. تكتشف لمى علاقة خاصّة بين أبي جدّها والمنشد الأرمنيّ بعلم زوجته. يخبرها جدّها أنّه حبّ مختلف وأنّها لن تفهم. لكن ما يسحر لمى ولا تفهمه هو علاقة الصوفيّ بالله. هل يكون العشق الصوفيّ، وتحليق الروح هو المعنى؟ لا شكّ في أنّ الضوء الذي ينعكس على وجه جدّها وفي كلماته يقول شيئاً من هذا. ولكن لمى لا تتّبع الطرق الصوفيّة لتعرف إن كان هو المعنى. تتكثّف الأحداث في نهاية الرواية وتعود لمى للقاء أخ رفيقتها بالمصادفة. مرّت السنون وهو أضحى أصوليّاً مسلّحاً. بلقائها به، ذاك اللقاء المتعرّج المخيف، تموت بقايا ذاك اللقاء الماضي الخفيف المضيء، الأوّل والأخير، الذي جرّبت به لمى نار الرغبة. يموت تحت وقع السلاح والدين. تضمحلّ وعود المعنى في الرغبة الأولى. تنجو لمى وتعود إلى زوجها وابنها، وتقرّر أن تعود أيضاً إلى البيانو. ما المعنى إذاً؟ ماذا حدث للمى؟ ما يهمّ أنّ لمى كانت ضائعة فوجَدت نفسها، وكانت ميتة فعاشت، كما قال يسوع في مثله الشهير عن الابن الضال أو الضائع. ضياع لمى لم يكن في هجرها الحبّ وانغلاقها على حاجاتها كذاك الابن الضائع في ذاك المثل الذي أراد أن يرث أباه في حياته، بل كان في ضياعها عن ذاتها، في أنّها تركت القيادة لآخرين، أنّها كانت ككلّ الناس، وفعلت كلّ ما يتوقّعه الناس منها، بدءاً من أمّها، وصولاً إلى زوجها، مروراً بدراستها وزواجها. ماتت لمى بدفن موهبتها وعاشت بالتواصل مع مشاعرها ونفسها من جديد. لمى إنسانة لم تجد مَن يحبّها، فانطوت على نفسها، لم تلاقِ حبّاً حقّاً من والدتها. لم تجد حبّاً حقّاً من معلّمتها، لم تجد حبّاً حقّاً في نار الرغبة، فتغرّبت عن نفسها وكان هذا جحيمها. غربتها عن نفسها هي ذاك الثقب الأسود الذي كان يبتلع خطواتها وحضورها الكلّي. حتّى المكان الوحيد الذي أنشأت فيه عائلة مع زوجها وأنجبا فيه ولداً، كان عصيّاً على الفرح لأنّها لم تكن حاضرة فيه كفاية. وكيف يمكنها أن تكون حاضرة حين تكون نفسها مُصادَرَةً من المجتمع، من المحيطين بها في الطفولة، من الدور الذي يُنتَظَر أن تؤدّيه كزوجة وكأمّ؟ باتت لمى غريبة عن نفسها تعيش لخدمة حاجات الآخرين ورغباتهم، ولهذا ضاعت. لم تتمكّن لمى من أن تكون إلى أن قرّرت في نهاية الرواية معانقة مشاعرها، التمسّك بالموسيقى من جديد، العودة إلى نفسها لتجدها، فينتهي الضياع ويتحوّل الثقب الأسود إلى ثقب أبيض كتلك الثقوب البيضاء في الفضاء التي تلد الطاقة والحياة. ربّما تقول لنا لمى إن عدنا إلى أنفسنا ووجدنا مفاتيح البيانو خاصّتنا، وجدنا عندها المعنى في الحبّ والحياة اللذَين نُطلقهما على هذه الأرض، ليوحّدا فينا الجسد والفكر والعاطفة والحرّية ويحملا القلوب بأجنحة الرغبة، فيكون «زمن غريب» «الأجساد فيه غير الأجساد، والقلوب أبواب المعرفة» كما تقول رُلى الجردي على لسان لمى في وصفها للطرق الصوفيّة. عندها كلّ شيء هو لغة لقاء، وتُفتح حياة الإنسان على مئة رعشة تلد المعاني وتولد فيها. خريستو المر ، الثلاثاء ٥ أيلول ٢٠٢٣ (الأخبار)
لا يعكس تاريخ المسيحيّة تاريخاً من التسامح كما يتصوّرها الكثير من المسيحيّين، فتاريخها مليء بالاضطهاد والتنكيل، وإن كان يمكن العودة إلى تاريخ الحرب اللبنانيّة القريب لمعرفة ذلك، إلّا أنّ التاريخ الأقدم ليس بأفضل منه. يخبرنا يوحنّا الذهبيّ الفم، أنه شهد في شبابه عن الخوف الذي اعتراه عندما وجد - بينما كان يمشي مع صديق له - كتاباً مُلقى في النهر، إذ حينما أمسكاه ليريا محتوياته ووجداه حول السحر كان أحد الجنود يمرّ بالقرب منهم؛ أصاب يوحنّا الشاب الرهاب خوفاً من اتّهامهما بممارسة السحر إن وجد الكتاب بحوزتهما ونتيجة ذلك القتل. لكنّ الذهبي الفم نفسه اشترك في اضطهاد الوثنيّين بعدما أضحى كاهناً حيث اعتبر أنّه من ضرورات إيمانه، كما يُخبر المؤرّخ تيودوريت، أن يرسل مجموعات متعصّبة من الرهبان ليحطّموا كلّ معبد وثني في فينيقية لأنّها معابد للشياطين كما تقول التهمة وقتها؛ و«هكذا»، بفضل حملة الذهبي الفم «تمّ تدمير كلّ ما تبقّى من معابد الشياطين» (كتاب عصر الظلمة - كاترين نيكسي). وعدا العنف الدينيّ التوجّه، كان الدين وسيلة لدى كبار رجال الدين للإشراف على مجمل تفاصيل الحياة اليوميّة للمسيحيّين والتحكّم بها، من خلال الخوف والإرهاب. فالمرأة فخّ، والضحك غير مرغوب، والدعابة جذر للشرّ، وألعاب النرد مدخل للخطيئة، وارتياد المسرح (وكان للعري دورٌ فيها) كان فسقاً وفجوراً، ومن الفلسفة اليونانيّة ما كان فاسداً. ولهذا أقيمت محارق الكتب في مدن كأنطاكية، ومن شدّة الخوف أحرق بعض المثقّفين مكتباتهم، بل ويُحكى أنّ الخطيب ليبانيوس أحرق كتبه التي ألّفها. وفي مدينة أنطاكية اعتقل مسيحيّون المثقّفين الوثنيّين وعذبوهم، وأحرقوا فلاسفة أحياء، وقطعوا رؤوس البعض الآخر، كما تخبر نيكسي. بالطبع لا يختصر ذلك تاريخ المسيحيّة، وإنّما يقدّم وجهاً ضروريّاً لنا كي نفهم إمكانيّة نشوء العنف الدينيّ في ظلّ الآراء الدينيّة القاطعة التي لا تترك لغيرها مجالاً كي يكون، أي التي تستحوذ على سلطة تشريع وتحريم كامل النشاط البشريّ في تنويعاته. أسباب هذا العنف متنوّعة وتتجاوز قدرتنا على الإحاطة بها؛ ولكن يمكن ملاحظة الرغبة بالسيطرة وتشكيل الدنيا بحسب الرأي الشخصيّ تحت ذريعة أنّه يمثّل رأي الله كسبب أساس. يجب ألّا يُستهان برغبة الإنسان بأن يشبه إلهاً يظنّه كلّي السيطرة، القياصرة الرومان شبّهوا أنفسهم بالآلهة، وإن كان هذا غير ممكن أمام رجال سياسة أو دين حاليّاً فيمكنهم أن يدّعوا معرفة وتمثيل إرادة الله. الأسباب الأخرى التي ترتبط بزمننا أيضاً هي استخدام العنف الدينيّ لتغطية فشل سياسيّ أو اقتصاديّ؛ فإلهاء الناس بقتل بعضها البعض ينفّس عن غضبهم من السياسيّين. وأخيراً، يمكننا ملاحظة الاضطهاد الجماعيّ كلون محدّد من العنف الدينيّ. فأمام الأحداث العاصفة والأزمات يمكن لمجموعة دينيّة (أو غير دينيّة) أن تدفن خوفها أو قلقها من الأزمات باضطهاد الآخرين، إذ ذلك يعطي شيئاً من الشعور الوهمي بالسيطرة على الأحداث والمصير. كما أنّ الاضطهاد يمكنه أن يكون وسيلة تقارب بين المتصارعين المتأزّمين في المجتمع الواحد، فلكي لا يفني المتصارعون بعضهم البعض، ولإيقاف التدمير المتبادل، يتمّ اتّفاق الأطراف المتصارعة على كبش محرقة واحد يتمّ اضطهاده، وباضطهاده يتمّ التقارب (وربّما المصالحة) بين الفريقين (يمكن العودة إلى تحليل رينيه جيرارد في كتابه «كبش المحرقة»). جيرارد يرى أيضاً أنّ مَن يشجّعون المضطهِدين، قد يندمون بعد اضطهاد كبش المحرقة وقتله، فيعلّون من شأن المُضطهَد بعد موته، واضعين إيّاه بمثابة الشهيد؛ فتكون بذلك دماء الشهيد الرابط الذي يجمع الكلّ بعدما كان الضدّ الذي يتحالف عليه المتأزّمون. إنّ الأزمات في منطقتنا شقّان متداخلان: شقّ خارجيّ يتسبّب به الاستعمار، وشقّ داخليّ يتسبّب به المستغِلّون والديكتاتوريّون. وأمام أزمة غياب البحبوحة وغياب الحرّية، نمتهن في منطقتنا خلق كبش بعد كبشٍ لمحرقة التنفيسِ عن الأزمات، فنبقى حيث نحن عوض مواجهة الأسباب الموضوعيّة الخارجيّة والداخليّة لغياب احترام الكرامة البشريّة. الدين في هذا الميدان، أبسط وسيلة لحشد الناس في مجموعات متخاصمة تشابه بعضها البعض، وتأليبها لتضطهد مجموعة مهمّشة وكلّ أنواع «الغرباء» (الفلسطينيّون، السوريّون، المثليّون). بالنسبة إلى المسيحيّين الذين يهلّلون للاضطهاد، ينبغي أن يتذكّروا أنّ الاضطهاد هو دائماً وأبداً في تضادّ كامل مع تعاليم وتصرّف يسوع المسيح. لقد بيّن يسوع بموته على الصليب وبتوحيده بين ذاته وبين كلّ مهمّش، أنّ أتْباعه ينبغي أن يروا وجهه في وجوه الضحايا البريئة، وبهذا المعنى فإنّ المسيح حاضرٌ في جميع الضحايا الأبرياء لأنّه أخذ مكانهم جميعاً، صار كلمتهم، صار وجههم، على الصليب. تصرّف الإنسان تجاه الضحايا و«الغرباء» هو ما يعكس حقيقة موقف الإنسان من يسوع ويجذّرها؛ أي هو ما يعلن اتّباع إنسان ليسوع أو مناهضته له. لكنّ المسيحيّين يمتهنون منذ البدء أساليب الغربة عن مسيحهم، حتّى ليكاد المتأمّل في أحوالهم يجزم بأنّهم إن رأوا يسوع نفسه اليوم سيضطهدونه حتماً، ويهلّلون «اصلبه، اصلبه». الإيمان يتطلّب الكثير من الانتباه واليقظة، في العقل كما في القلب، وليس من قبيل الصدفة أن يشدّد التراث الكنسيّ عليهما. |
الكاتبخريستو المر الأرشيف
December 2023
Categories |