الثلاثاء ٢٩ أيلول ٢٠٢٠
خريستوالمرّ "أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله" جملة طالما أسيء فهمها وفُسِّرَت على أنّها تعني أنّ المسيحية ديانة "روحيّة" لا كلمة لها تقولها في سياسات " الأرض". بالطبع هذا التفسير هراء عندما نتذكّر أنّ الإيمان المسيحيّ قائم على تجسّد كلمة الله في هذا العالم، بحيث أنّ هذا العالم صار في قلب الألوهة بعد القيامة. يستفيد من هذا الفكر الفصامي بين الأمور "الروحيّة" والأمور "الدنيويّة"، المنافقون والمستغلّون والمجرمون والديكتاتوريّون أيّما إفادة: فليتصرّف الإنسان بحسب ضرورات هذا العالم (و"الضرورات" مفهوم مطّاط) بينما يؤدّي في الوقت عينه واجباته "الروحيّة" التي تُختصر على أنّها اتّباع الطقوس. من آمنوا بيسوع يمكنهم أن يميّزوا بين الأرض والسماء ولكنّهم لا يفصلون بينهما، فالحياة هي كلّ واحد، وطريقة الحياة التي دعا إليها يسوع هي طريقة المحبّة، طريقة الحياة الإلهيّة، ونبّهنا أنّنا نمتلك كلّ الطاقات الضروريّة ("صورة الله") لكي نحياها. يتّفق العديد من المتأمّلين في جملة يسوع "أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله"على أنّها تعني أنّ هناك أولويّة لملكوت الله على ملكوت قيصر، وملكوت قيصر هو كلّ سلطة أرضيّة. يسوع بكلماته هذه حرّر الضمير الإنسانيّ من أن يستعبد نفسه لسلطة أرضيّة، ودعا كلّ إنسان أن يتحلّى بالشجاعة الروحيّة كي يحكم على ما تقوله وتفعله كلّ سلطة بناء على متطلّبات الحياة مع يسوع؛ فيرفض، مثلاً، كلّ قول وتفكير وفلسفة وحزب وقياديّ يدعو لتفوّق عنصريّ أو للعنف ضدّ الناس، ويرفض القيام بالتعذيب أو السكوت عنه، ويرفض أن يطلق النار على متظاهرين، ويرفض طاعة سلطة تنهب شعبها أو تقمعه، ويرفض كلّ دعوة من رجل دين للقبول بالظلم. في لبنان اليوم نحن بحاجة للعودة إلى جملة يسوع هذه بالذات ليحرّر الناس أنفسهم من سلطة «قيصر»، وقيصر اليوم هو في جمعيّة المصارف، وفي حاكميّة مصرف لبنان، وفي مجلس النوّاب، وفي مجلس الوزراء، وفي القصر الجمهوريّ، وفي رجال دين، وفي أساتذة جامعات وخبراء مرتزقة "يحاربون" لمن يدفع أكثر. هذا الصراع من أجل أن نتحرّر من سلطة «قيصر» ينبع منه وقوفٌ إلى جانب الحقّ، وهو ما يجعلنا في صدام مع النفاق، ليس لأنّ الإنسان يحبّ الصدام بل لأنّ المنافقين يكرهون الواقفين مع الحقّ، وقد كرهوا في كلّ زمنٍ أنبياءه، واضطهدوهم. ولهذا كان يسوع واضحًا "لا تظنّوا أنّي جِئْتُ لأُلقي سلاما على الأرض... إنّي جئت لأفرّق الإنسان ضدّ أبيه، والابنة ضدّ أمّها، والكنّة ضدّ حماتها. وأعداء الإنسان أهل بيته. من أحبّ أبًا أو أُمّا أكثر منّي فلا يستحقّني، ومن أحبّ ابنًا أَوِ ابنةً أكثر منّي فلا يستحقّني". كلمات مخيفة لكلّ بُنى سلطويّة يقولها السيّد فينسف بها كلّ سيطرةٍ، كما كلّ استكانة. كلام يسوع يعني أنّ يرفض الإنسان اتّباع كلّ خطّ سياسيّ وفكريّ طائفيّ أو عنصريّ أو مُلحق بالزعيم أو لا هدف له سوى دعم من ينهب البلاد، أو دعم من فشل من إيقاف نهبها، أو لأنّ أباه وأمّه وأخاه وأخته وأصدقاءه أو ابنه وابنته يتّبعونه، أو لأنّه سيشعر بالحرج وبالضيق وبالصراع وربّما سيشعر بالخزي وبالنبذ إن عارض الأهل والأصدقاء في مواقفهم. ولهذا بالضبط قال يسوع فورا بعد جملته الأخيرة "مَنْ لا يحمل صليبه ويتبعُني فلا يستحقّني". اتّباع الله صليب بالضرورة، ليس لأنّ الله يحبّ التعذيب بل لأنّ المنافقون وأتباعهم من فاقدي البصيرة يكرهون الحقيقة. إنّه لأسهل على الإنسان أن يبقى عبدا من أن يتحرّر. الحرّية صليبٌ وشيءٌ من فقدان الذات القديمة، الذات التي تلطّخت بالعبوديّة للزعيم والسياسي والمصرفيّ والعائلة والأصدقاء ولهذا أيضا قال يسوع "من وجد حياتها يضيّعها، ومَن أضاع حياته من أجلي يجدها" أي من ظنّ أنّه وجد حياته باستعباد ذاته لقياصرة هذا العالم، قياصرة العائلة والمجتمع والدين والسياسة، يكون قد فقدها ومن شعر بأنّه يخسر كلّ شيء لاتّباعه ضميره (ويسوع في ضميره) في الحقيقة يكون قد وجد ذاته، وهذا من أعظم ما يمكن لإنسان أن يحقّقه. يسوع أتى وقيصر ينازع، أن يكون الإنسان مع يسوع أمرا يتطلّب الشجاعة، شجاعة أن نخلع الإنسان العتيق لنصبح أناسًا جُددًا، ونصبح معًا وطنًا جديدًا. الثلاثاء ٢٢ أيلول/سبتمبر ٢٠٢٠
خريستو المرّ كيف يكون الإنسان محايدًا في ديانة ترى أنّ كلمة الله تجسّد في العالم، وصار العالم فيه، وأنّه دشّن الملكوت هنا والآن، ودعانا أن نكمل البناء معه؟ بيسوع، لم يعد العالم بمادّته منفصلًا عن السماء ولا الملكوت أمرًا بعيدًا نسير إليه لنصل يومًا ما. بيسوع، السماء بدأت تشعّ في الداخل، في داخل الإنسان وفي داخل هذا العالم، وتحوّل الكون إلى مكان لقاء. يسوع، كما نقرأه في الإنجيل، لم يكن محايدًا أمام أوجاع الناس، بل كان مواجهًا للظالمين والمتسلّطين، وهذه المواجهة دفعت الخائفين على سلطتهم إلى محاولة إنهاء رسالة يسوع بقتله. كلّنا نعرف أنّ قتله أدّى إلى اشتعال رسالته عبر الإمبراطوريّة الرومانيّة. بالطبع لم يحوّل يسوع الأفكار والناس والعلاقات بشكل سحريّ، لكنّ رسالته عبرت التاريخ ودخلت في صراع معه، وبشكل أدقّ مع الناس وأفكارهم وأفعالهم، لتحوّلها وتحوّل بهم التاريخ. وهذا الصراع سيستمرّ حتّى اليوم الذي يفتح الله التاريخ على الأبديّة. رسالة يسوع هي تحرير البشر من الخطيئة ومفاعيلها، من إخطاء هدف المحبّة ومن مفاعيله (فالخطيئة تعني حرفيّا: إخطاء الهدف). وما مفاعيل إخطاء هدف المحبّة إلاّ علاقات الشرّ، وبُنى الشرّ التي ننحتها في قلب المجتمعات، ومن يقول بُنًى يقول ليس فقط مظاهر الشرّ (كالفقر) وإنّما أيضًا السياسات المولّدة له (كالسياسات السياسيّة والاقتصاديّة)، ليس الظلم فقط وإنّما السياسات المولّدة له. الحياد ليس واردًا مع يسوع، فهو قال إنّ "من ليس معي فهو عليّ، ومن لا يجمع معي فهو يفرّق" (لو 11: 32)، وحسم بذلك أنّ موقف الحياد أمام الشرّ وبنى الشرّ في المجتمعات غير وارد، هو دشّن الملكوت في «لحم» هذا العالم وينتظر منّا أن نساهم معه في نزع بنى الشرّ وإبدالها ببنى المشاركة (فالمشاركة تعبير المحبّة الأوضح). واللامبالاة غير واردة مع يسوع، فنسمع في الرؤيا "كن حارًّا أو باردًا ولا تكن فاترا، الفاتر يتقيّأه الله"، لا يمكن للإنسان المسيحيّ أن يعزل نفسه عن أوجاع الناس ويتحصّن في «آدميّته»، أي في مجرّد عدم فعل الشرّ، فالساكت عن الحقّ شيطان أخرس كما قيل. ومن لم يعمل بشكل فاعل لكي يتوهّج ضوء الملكوت في تراب هذا العالم، وأحجم عن المساهمة في إطعام يسوع في الجائع، وإعطائه ماء في العطشان، وإيوائه في الغريب، وعمل على تغيير البنى المولّدة للفقر والعطش والغربة والقهر، معرَّضٌ لئلّا يدخل ملكوت السماوات، كما حذّرنا يسوع نفسه. ومَن هو ذاك الذي يعمل مع يسوع؟ قد يكون ذاك الإنسان مسيحيًّا بشكل رسميّ وقد لا يكون. فكلّ المحبّين المناضلين بروح الإنجيل من أجل الحقّ، المقاومين للظلم، قد ضمّوا أنفسهم إلى صدر يسوع، ويسوع قد سبق فأعلن – على عكس رغبات الطائفيّين من الأديان جميعًا وبخاصّة الطائفيّين العنصريّين المسيحيّين – أنّ الكنيسة ليس ناديًا مغلقًا مملوكًا من الذين تعمّدوا باسم يسوع، فعندما قال له تلاميذه إنّهم منعوا إنسانًا عن الاهتمام بأوجاع الناس ومناهضة مفاعيل الشرّ باسم يسوع، فقط لأنّه ليس واحدًا منهم ولا يتبعهم، أجابهم يَسوعُ: "لا تمنَعوهُ... لأنَّ مَنْ ليس علَينا فهو مَعنا" (مرقس 9: 40). ليس بالضرورة أن يكون الإنسان من دائرة الرسميّين كي يكون من أتباع المسيح. كلّ من يصارع ضدّ الشرّ بروحيّة الإنجيل هو في خطّ يسوع. جسد يسوع الممتدّ في التاريخ، أي ملء وكامل الكنيسة الكلّية التي عيّن يسوع ظهورها يوم الدينونة، ليست ناديًا مغلقًا وحكرًا على أحد. نحن نستطيع أن نعرف من هو منتمٍ إلى الكنيسة الرسميّة ولا نعرف من هو فيها منتمٍ بالحقيقة إلى يسوع، ولا مَن ضمّه يسوع إليه مباشرةً خارجها. الإخلاص ليسوع يفرض التعاون مع الناس كلّهم في صراع مماثل للصراع الذي خاضه يسوع، لأجل إرساء سياسات حياة في المجتمعات، مؤمنين وراجين أن نؤلّف معهم منذ اليوم تباشير كنيسة الله الكلّية التي ستتجلّى في اليوم الأخير. ١٥ أيلول/سبتمبر ٢٠٢٠
خريستو المرّ عادة ما ينسى الإنسان الموت ويتناساه. أمّا في حالتنا في هذه البلاد فنكاد نصبح أصدقاء للموت. في معظم سنوات عمرنا، كان رفيق قهوة الصباح ونشرة أخبار المساء، وصفحات ما بقي من جرائد. يتنزّه في بلادنا كيفما يشاء، ويمدّه سياسيّونا ورجال أدياننا بالعون دون تردّد. ولكنّنا نتكلّم عن الموت وكأنّه شيء خارجيّ، والواقع أنّ الموت داخليّ فينا، يبدأ بالنموّ في أجسادنا منذ لحظة ولادتنا؛ ننمو وينمو هو فينا. ولهذا كان نسيانه مشكلةً، ليس لأنّنا يجب أن نهجس بالموت، ولكن لأنّ من لم يعط معنى لموته لم يستطع أن يعطي معنى لحياته، ولم يستطع أن يحيا حرًّا لأنّنا لا نستعبد أنفسنا لآخرٍ إلاّ خوفًا من الموت. الحرّة والحرّ هما اللذان لحياتهما معنى أوسع من مجرّد البقاء على قيد الحياة، هما اللذان يريدان أن تتأجّج فيهما الحياة، ولهذا يرفضا أن يستعبدهما أحد ويتمسّكان بالمعنى وباشتعال الحياة فيهما حتّى ولو أدّى ذلك - في مفارقة ظاهريّة - إلى كلّ أنواع الموت: الوحدة، النبذ، تشويه الصيت، وحتّى القتل. وكلّ موت كهذا هو شهادة. كلّنا سنموت، السؤال المهمّ هو أيّ معنى سيكون لموتنا، أي بعبارة أخرى أيُّ معنى سيكون لحياتنا؟ كثيرون ماتوا في حروب أهليّة وقيل أنّهم ماتوا مجانًا: ماتوا من رصاصة طائشة، أو قذيفة بينما كانوا نياما، أو ذاهبين إلى العمل أو لشراء ربطة خبز. في الظاهر لا يبدو لموت هؤلاء الناس من معنى، فهم لم يحاربوا في جبهة دفاعًا عن أهلهم، ولا ماتوا نتيجة رأيهم السياسيّ. ولكن في العمق، من يعلم؟ ربّما قضى أحدهم حياته ساعيا لحماية حياة عائلته أو دفاعا عن حقّ أو احتجاجًا على الظلم، فإن كان الأمر كذلك فهناك معنى لموته بالنسبة له هو، هو الذي استشهد أثناء ممارسة حبّه اليوميّ. حياة إنسان كهذا مليئةٌ بالمعنى إن كان هو يرى أنّ أفعاله اليوميّة كانت تعبير حبّ، أنّه كان فيها يتواصل مع آخرين، ومع الطبيعة، ومع الله عند من يؤمن. عندها الحبّ هو المعنى. وهل من معنى أعلى، بل آخر، على هذه الأرض؟ المؤمنون بالله يمكنهم أن يروا بالموت عبورًا إلى واقع آخر، فهم يؤمنون أنّ محبّة الله ستمتدّ أمامهم جسرًا فوق فوّهة العدم لئلاّ يعودوا إلى العدم الذي منه خرجوا، يؤمنون بأنّ محبّة الله سترتمي إليهم كما ترمي أمٌّ بنفسها إذا وقع أحد أولادها كي لا يؤذى أو يعود إلى رحم الأرض التي منها الجميع، تريد لرحم الحبّ، رحمها، أن ينتصر على رحم الأرض، تريد أن ينتصر الحبّ على التراب. هكذا الله، كالأمّ، يرتمي إلينا بعد موتنا كي لا نعود إلى العدم، كي تنتصر رحمة حبّه على العدم. في كلّ ولادة تنتصر المحبّة الإلهيّة على العدم الذي منه نخرج، وفي كلّ لحظة تنتصر على العدم كي نبقى موجودين، وبعد الموت تنتصر على العدم لنحيا للأبد. إنّ محبّة الله تُنهي عدمنا يوم نولد. أمّا بالنسبة لمن لا يؤمن بالله، فيمكنه أن يقول: لست أدري عمّا تتحدّث ولكن أعلم أنّ المحبّة فيّ تناديني أن أحياها لأحيا. ظنّي أنّ ذلك يجعل القائل في قلب الله. قد يكون البشر قد اخترعوا الله، وقد يكونوا لم يخترعوه كما يؤمن كاتب هذه السطور، يبقى أنّ الإنسان مدفوعٌ على إعطاء معنى لحياته هو بالذات، ولا معنى أهمّ من أن يحيا الإنسان ذاته دون تزوير، لكي تغدو حياةً متأجّجةً، وشرط هذا أن يحيا في فرادته، ويرفض أن يكون كما شاء آخر له أن يكون. أن يكون الإنسان ذاته هو أن يحقّق كلّ ما يقول فيه أنا، ويحقّق كلّ ما يقول فيه نحن. عندها يكون نفسه ويكون مُحِبًّا، وهذا تحقيق للشخص الإنسانيّ صورة الشخص الإلهيّ: أقنوم محبّة يجمع فرادته التامّة في الوحدة التامّة مع آخرين. هذه المحبّة هي نبع الحياة التي تبتلع كلّ عدم، وتكسر شوكة كلّ موت. الثلاثاء ٨ أيلول ٢٠٢٠
خريستو المرّ لا يعرفها أحد، حتّى المقرّبون. فهي كالشمس، تختبئ في وضح نفسها. تعامل الجميع كما يُعاملُ الماء العصافير والسماء، تعطي وجهها كي يرى الآخرون أنفسهم فيها سماوات جميلةً، وكي يشربوا كالعصافير من ضوءٍ رفّ يومًا في عينيها. لكنّ الناس لم يتمرّنوا على رؤية الوجوه مياهًا، أو ذواتهم سماءً وعصافير. اعتاد معظم الناس القوى وتوازن القوى، أي اعتادوا القامع والمقموع، وأن يشكّلوا الآخرين على صورتهم، لأنّهم يرتاحون لاستنساخ صُوَرِهم ويسمّون ذلك حبًّا وصداقة. قلّة فقط عرفت اللهَ في البريء الذي ينكسر، وانتبهت أنّ هوّة اللهيب الذي لا يعرف انطفاءً لا تردمها إلّا محبّةٌ تَسكر بالوجوهِ مساحاتِ ألوانٍ لا تنتهي. هي حلم زهرةٍ بأن تتجسّدَ، تجسّدَ. تتفتّح أمام النسيم فيعرفها، وتمرّ العواصف ولا تعرف عنها شيئا، فالزهر يحتضن جمالَه ليحميَه من القساوة، ومن اللامبالاة التي تسمّي نفسها ذكاء. من يُرِدْ أن يلاقي الزهرة يصِرْ بسيطًا كنجمة: ينحني أمام تويجاتها، ويصغي طويلا لحكايا الحبِّ الخبيئةِ في الألوان، ثُمَّ يفهم كيف تختبئ المعجزات في جراح المساء. لم يرَها بالفعل إلّا الذين وجدَتْهُم مرارًا يائسين، فعجنت لهم الضوءَ النازل من فوق: ساعات من العمل البطيء كي يدخل الدفء خلف ستارة قلب مُغلق؛ قيادةٌ لساعات لتضيء الصداقة لمريضٍ طاعنٍ في الوحدة؛ شهورٌ وسنواتٌ من الصبر كي يعود إنسان من مجهولٍ توحّد كغابة؛ صبرٌ طويل كي يجد إنسانٌ صوته؛ حبّ كبير كي تولد معجزةُ الحنان من الرضّ الكبير. للمرميّين تفاصيلُ صغيرةٌ لا تهمّ أحدًا، تهتمّ هي لها. فهي ترى، بوضوح السماء في يوم باردٍ، ذاك الشبه بين من تُرِكَ معُلّقًا على خشبة، وبين من علّقتهم حضارة الناس على مسامير العزلة، ورمتهم في زوايا مدينةٍ جميلةٍ نظيفةٍ أضحت أسوارًا. لا يُسمَعُ صوتها في الساحات. وهجًا مرضوضًا لقلبٍ وحيدٍ لا تكسر، وفتيلاً مدخّنًا لصوتٍ ضائعٍ لا تُطفئ. لا، لم تجد عيناي نهرًا كالذي يرقص بين يديها حين تعملان، ولا سماءً كالتي تضيء حولهما حين ترتجفان. إن قالت كانت كلماتها مغمّسة بالحبّ والعناية. حكاية أحد طلاّبها سحرتني: ضائعًا كان، رسب في اختصاصٍ بارد على قلبه، ثمّ فرٍحًا جاء ليشكرها لأنّه لمح فيها عُشقًا للعالم فتح عينيه على حالة من الحبّ. قال أنّه بها فهم كيف يحيا من يحبّ عمله، فغيّر اختصاصه ليدرس في ميدان يميل قلبه إليه. رأى طريق جمالٍ فأراده لنفسه، أراد أن يكون حيث هي، أي حيث كلّ الذين أحبّوا فتوحّدوا مع كلامهم موجودون. لا أعرف عنه شيئًا اليوم، ولكنّي أعلم أنّ ذاك الإنسان كان ميتًا فعاش وكان ضائعًا فوُجِد. لم أجد مسافة بين ما تقول وتعمل، لهذا لا يمرّ يوم لا أرى فيه يسوع ساكنًا وجهها، وألامسها كما ألامس أيقونة، وحين يتعبني السهر لفكِّ سرِّ الشِّعْرِ المكتوب على جفني عينيها المغمضتين، أتمنّى أن أكون العتمة حتّى لا يأخذني النوم عنها. وتضحك لكلامي وكتابتي. تقول إنّي مسكين في عالمٍ فقد قلبه، ثمّ تصمت وتُقَبِّل جنوني. ثمّ أرى روحًا يحتضن العالم حين تقول لي: تعالَ معي خلف يسوعِكَ، وخلف شمسٍ أو آخر، ولنحمل حقيبتين على ظهرينا، ونلحق بالهواء الطلق، ولنكتب شعرًا بالحبّ الصرف. تعال ننسَ الكلام لنصبح الكلام، عندها سنصنع خبزًا فرنسيًّا، وربّما شوكولاتة، في مخيّمٍ ما، مرميّ في الحقيقة خارج زمن المدينة؛ وربّما نذهب عميقًا في الهامش، فيعود قلبانا حافيين ونفهم الله كما لم يفهمه سوى الجسد المعلّق خارج الأسوار. تعال معي. أنت مؤمن أليس كذلك؟ تصمت وتبتسم، وأنا أحنّ إلى وجهي المضيء، وأدمع. هكذا هي، تعلّق الأضواء في الغرفة وتخلع عنها الموت، كلّما شاءت أن يصبح الليلُ لآلئ بين وجهينا. وفي آخر الغياب تقتحم الأبواب المغلقة لتدخل بمجدِ الحبّ إليّ مَلِكَةً، فأخرجُ حرًّا وصارخًا: وَجَدْتُني. هي التي سُمِّيَت فالنتينا، وسمّيتها حبيبتي، والتي ما أزال أفتش عن اسمها في اسمها، وعمّا يختبئ خلف اسمها من أسماء. هي مَنْ هي. هي الواحدة. وهي المستحيل الذي أتى فكان مساءٌ وكان صباحٌ، أو ربّما كان شيءٌ ما خلف الصباح والمساء، لست أعلم، الله يعلم، ولكنّي أعلم أنّها كانت فكان كلُّ شيء جميلا. الثلاثاء 1 أيلول 2020
خريستو المرّ أمام الألم الكبير لا ينفع المنطق وحده. المنطق نستعمله في الحوار الهادئ لنقارب الحقيقة أو الحقّ، أي ما يخدم الحياة. أمام الألم الكبير الذي نشعر بأنّه أدنانا من شيء من الموت لا ينفع سوى الاحتضان، سوى التعاطف، سوى التعاضد الإنسانيّ. حينها يعرف المتألِّم أنّه ليس وحيدًا. فالموت الذي نخشاه بالفعل، ونحن على قيد الحياة، هو الوحدة. وعلى الرغم من كلّ الدعاية التي تقول بأنّ الإنسان ذئبُ الإنسان، والدعاية الرأسماليّة التي تقول بأنّ كلّ شيء يبدأ وينتهي بالأنانيّة وبالمصلحة، فقد أثبتنا كبشر مِرارًا وتكرارًا أنّنا في الأزمات والمصائب نتعاضد ونتعاطف وننظّم أنفسنا بشكل عفويّ لنتساعد. نحن مفطورون على المحبّة وهذا ما هو جليّ في الأزمات. ليست أزمة إنفجار بيروت المثل الوحيد عن ذلك، ففي أزمات مثلها تفاعل الناس بنفس الطريقة: إعصار كاترينا في الولايات المتّحدة، أو حتّى الحروب الأهليّة المليئة بأحداث التعاضد الإنسانيّ التي تبقى مهمّشة عادة في الإعلام الذي يلهو بأخبار الجرائم والمذابح بشكل شبه حصريّ. البشر جيّدون أكثر ممّا توحي به الأحداث المذهلة، هناك طيبة يوميّة خافتة، وطيبة واضحة تتجلّى عند المصائب. الأدلّة تحتاج إلى كتاب كتبه الأخصّائيّ النفسيّ جاك لوكمت "الطيبة الإنسانيّة". أمام الألم الساحق الذي نختبره، تفلت من أيدينا، لفترة قد تطول وقد تقصر، زمام الأمور. نكون، عند ذاك، نفسيًّا في وضع يشبه وضع الطفل أمام الحياة. الطفل لا يملك زمام الأمور، وهو يشعر بذلك، ولذلك يلجأ إلى أهله لمساعدته، لحضنه، لدعمه. فلا عجب عند المصائب، أن نلجأ إلى أقوى، إلى أب سماويّ لنقول له ساعدنا، إلى دولة أقوى نطلب حمايتها...إلخ. ويبدو لي، أنّه بسبب استعادة الوضع الطفوليّ هذا، ونتيجةً للتربية القاسية التي يتلقّاها معظمنا، نتلقّى المصيبة أيضا بوصفها قصاصًا، وكأنّنا أذنبنا، وكأنّ ما يحدث لنا هو قصاص على شيء ارتكبناه. هذا ما يفسّر، برأيي، سؤال: الـ"لماذا" الذي نطلقه في وجه الله أو الحياة. لماذا أنا؟ لماذا نحن؟ ماذا فعلنا؟ وعند اقتناعنا ببراءتنا، وهو الحال دائمًا عندما تكون المصيبة نتيجة إهمال آخرين أو نتيجة اعتباط الطبيعة، نطلق اللوم تجاه المسؤول الأوَّل: الله. بخاصّة أنّه يتّخذ في النفس والذهن، في المسيحيّة والإسلام، صورة الأب. وإن أضفنا إلى ذلك تربية دينيّة تقليديّة تجعل من الله مسبّب الأحداث كلّها، نصل إلى نتيجة كارثيّة: الله مسؤول عمّا يجري، ونحن لم نفعل شيئًا يستوجب هذه المصيبة. والنتيجة تكون إمّا انقلابًا على الله، ورفضًا له، أو كراهيّةً داخليًّةً مترافقةً مع قبول عقليّ واجتماعيّ مرير لصنمِ إلهٍ إرهابيّ كارثتنا معه أنّ لا هروب منه، ولا مواجهة ممكنة له. لا شكّ أنّ الإلحاد هو أكثر صحّة من هذا الوضع الإيمانيّ المنفصم. فالكذب المأزوم على الذات يعني عيشًا داخليًّا (روحيًّا ونفسيًّا) مريرًا. المرارة هي أن "تأكل الضربة" كما نقول شعبيًّا (أي نفسيًّا تجتاف القهر)، وأنت عالم بأنّه لا يمكنك شيء حيالها لا بل عليك أن تشكر من تظنّ أنّه ضربك وتعبده! هذا يعيشه الكثيرون مع زعماء هذه البلاد بشكل أقلّ سفورًا وأقلّ درامتيكيّة. ولا شكّ أنّ أقرب المتزلّفين إلى الزعماء هم أكثر من يكرههم. قضيّتي هنا هي العلاقة مع الله. برأيي، لن يمكننا أن ننقّي علاقتنا كبشر بالله إلّا إذا فهمنا أنّ الله ليس على كلّ شيء قدير، بعكس ما نقوله عادة. فاللهُ مثلًا غيرُ قادر على أن يجبرَنا أن نحبَّه كما قيل مرّة في الأدب الرهبانيّ. لماذا؟ لأنّ الله محبّة ويطلب من الإنسان الحبّ لا العبوديّة، والحبّ يقتضي حرّية الإنسان. لكي ننقّي علاقتنا بالله، علينا أن نعيد اكتشافنا لله، وننقّي علاقتنا به من الصور التقليديّة الفطريّة عنه، الله – بحسب ما كشف لنا يسوع – هو محبّة أي أنّه لا يفعل ما هو معاكس للمحبّة (التي لا نعرفها إلّا بمقاييسنا البشريّة على عطبها). المصائب هي نتيجةٌ طبيعيّة لكون هذا العالم مخلوقًا وبالتالي مضطربًا غير كامل (أعاصير، زلازل... إلخ)، ونتيجة طبيعيّة لكوننا مخلوقين أحرارًا (ولهذا عندنا قدرة على أن نحبّ كما على أن ندمّر ونخلق كوارثًا حتّى الطبيعيّة منها). هذا يفسّر المصائب كما هي من دون إلقاء اللوم على الله، كما بيّن اللاهوتيّ كوستي بندلي. هذا لن ينجّينا من الشعور بالترك، وبالضعف، وبالحزن، ولكنّه على الأقلّ ينجّينا من تشويه علاقتنا بالله؛ ينجّينا من اتّهام الله بما ليس فيه ثمّ القبول بوجوده على مضض في علاقة تحمل بصمات الساديّة-المازوشيّة؛ ينجّينا من لوم الله على مصائبنا ويدفعنا إلى تحمّل مسؤوليّاتنا. لكنّه لن ينجّينا من الحزن والألم. سنحزن ونشعر بالترك. المسيح نفسه، شعر بالترك العظيم على الصليب فصرخ "إلهي، إلهي لماذا تركتني"، مثلنا جميعنا في المصائب. لذا لا لوم على إنسان في ما يشعره. اللوم على الآخرين إن لم يحتضنوه، واللوم على الآخرين إن قدّموا له صورة إلهٍ قابعٍ وراء "إرسال" المصيبة، واللوم على الآخرين إن لاموه على شعوره بانكسار في كيانه وبحزن شديد. إن كان المسيح بجلاله أحسّ بالترك على حافّة الموت، فلا بأس إن أحسسنا بذلك، ولا لوم. فلنبكِ ولنصرخ ونسأل، ولنلم الله حتّى، فاللوم ولو عن خطأ مقبول بين المحبّين. أحيانًا، من كثرة المشاكل والمصائب، نشعر وكأنّ الله لا يريد لنا أن نكون سعداء، هذا شعور مفهوم، ولكن بعقلنا، يمكننا أن نميّز أنّه غير صحيح، كما قلنا سابقًا، ولربّما أمكننا أن نرى الأمور أوضح إن تذكّرنا بأنّ الكثير منّا يقولون بعد الضحك "الله ينجّينا". هذا لا بدّ يعود إلى التربية التي تلقّيناها، أكثر منه إلى الله. فعادة ما يلجأ الأهل بسبب ضيقهم إلى نَهْرِ الطفل أو حتّى ضربه لا لشيء إلّا لأنّه بسبب حاجته إلى اللعب يثير أصواتًا عالية، ويُكثر من الحركة، أو يضحك بصوت عالٍ. صراخ الأهل أو توبيخهم أو ضربهم (للأسف الشديد ما يزال الضرب متّبعا) يأتي بعد الضحك والفرح. يبدو لي أنّ هذا هو جذر الشعور الغامض الذي نشعره بعد الضحك بأنّ شيئًا سيّئًا قد يحدث. خبرة الطفولة مع الأهل هي السبب وليس الله. بالتأكيد الله يريدنا أن نفرح. الله محبّة ولا يصدر عنه إلّا أسباب الفرح. لكنّ الفرح لا يعني انتفاء الألم والحزن نهائيًّا، ولا يعني أنّنا لا نمرّ بمصائب وصعاب أسبابها الطبيعة أو حرّيتنا الإنسانيّة في انحرافاتها. حتّى في العالم الآخر لربّما سنختبر بطريقةٍ ما شيئًا من حزن وألم، من يحبُّ بصفاء يحزن ويتألّم إن أصرّ أحد من الناس على الكراهية فبقي بعد الموت أسير جحيم صنعه بنفسه. هناك آلام هي خبرة إنسانيّة مشتركة لا يمكن تجنّبها (مرض، موت محبوب)، وهناك آلام لا يجوز أن يمرّ فيها إنسان (تعنيف في الطفولة، تعذيب، خطف، عبوديّة جنسيّة، تعنيف نفسيّ وجسديّ للخادمات في المنازل، فقر يغلق باب الأمل) من مسؤوليّتنا -وليس من مسؤوليّة الله وحده- أن ننهيها. هنا والآن، صعاب استثنائيّة هائلة، لا ينفع معها سوى التعاضد الإنسانيّ والاحتضان، والعمل على تغيير الواقع لتزول أسباب المصائب التي يمكن أن تزول، أو تخفيف أثر المصائب التي لا يمكننا بعد السيطرة عليها. في كلّ ذلك هناك مرساة لقلوبنا وعقولنا: يسوع، عيناه، ويداه المثقوبتان اللتان من نافذتيهما نرى ملامح من وجه الله. الطفل يحبّ يسوع لأنّه يثق بأهله وهم يحبّون يسوع. لكن في المراهقة وبعدها لا يمكننا أن نحبّ يسوع بنضج إلّا إذا أحببناه شخصيًّا، من الداخل. عندئذٍ قد نحبّ يسوع لأنّه مثلنا، عاش مثلنا، ومات مثلنا، وفي عيشه وموته أحبّنا، وما قام إلاّ لأنّه كامل الحبّ. نحبّه لأنّه "هو أحبّنا أوّلًا" إلى درجة الجنون، إلى درجة أنّه أخلى ذاته من قدرته، إلى درجة أنّه أراد أن يتذوّق حياتنا وموتنا لنتذوّق حياته، وهذا أقصى ما يتمنّاه محبّ أمام حبيب موجوع، وأقصى ما يتمنّاه محبوب. |
الكاتبخريستو المر الأرشيف
December 2023
Categories |