الثلاثاء 25 آب،أغسطس 2020
خريستو المرّ الأخبار تتواتر عن عطش ضارب في أجساد أهل الحسكة في سوريا. وكما جرت العادة، يتحارب الأعداء بالناس، وباسم ألف شعار يقتلون. في سوريا اليوم، العطشُ غدا سلاحًا، كما كان التجويع سلاحًا. وكالعادة، النكرانُ هو السيّدُ، والكذب الإعلاميّ هو الوسيلة. وقد لا يعرف أحدٌ من الأحياء ما هي حقيقة مشاعره، وما هي حقيقة رأيه، إلاّ إن غدا يومًا ما حُرًّا. ففي ظلّ القمع والخوف من الموت، كلّنا قد يكذب على نفسه. ما يثير الحزن أيضًا هو الصرخة التي نسمعها حين يكون الضحايا أناسًا سقطوا نتيجة جريمة ارتكبها فريق الأعداء، والصمت أو التبرير الذي نسمعه أيضا عندما يكون الضحايا سقطوا نتيجة جريمة ارتكبها فريق الذات. التبرير يتّبعه الجميع، ويتعلّمه الجميع من الجميع؛ الولايات المتّحدة اخترعت عبارة "الدروع البشريّة" في حرب العراق، فإذا بالذين انتقدوها البارحة يستخدمون العبارة نفسها في الحرب السوريّة لتبرير جرائم فريقهم. تبلُّدُ الإحساس بأوجاع الآخر يُغرِّبُ كلَّ إنسان عن إيمانه لأنّه يغرّبه عن إنسانيّته. إهتمامي اليوم بموقف المسيحيّين. أعلم أنّ استخدام المسيحيّين للدين، من أجل الحرب والقتل وارتكاب المجازر، فضيحة موجودة، ولكن ليس اهتمامي الآن بالمجرمين وبالمنافقين وبالعابدين ذواتهم الجماعيّة. أهتمّ الآن بالإنسان المخلص ليسوع وبموقفه من الحياة العامّة. تتأثّر رؤية المسيحيّين المخلصين لدور إيمانهم في السياسة بمدى قمعيّة النظام السياسيّ الذي نشأوا في ظلّه؛ فمن نشأ في ظلّ نظامٍ قمعيٍّ يرَ عادة أنَّ إيمانَه يدفعه إلى أن يكتفي بالمساعدات الاجتماعيّة، ومن نشأ في ظلّ نظامٍ أكثر احتمالًا للحرّية له حظّ أوفر بأن يرى أنّه من الضروريِّ أن ينطلق الإنسان من إيمانه ليكون صوتًا وطنيًّا لا طائفيًّا في الأوضاع السياسيّة. قد نختلف في هذا الموضوع، وقد نفهم الاختلاف كما أفهمه من زاوية أثر النظام السياسيّ، ولكن ما ليس مقبولًا، وما يجب ألّا يختلف عليه المسيحيّون المخلصون هو موقفهم من الضحايا، كلّ الضحايا. لا يوجد في اللاهوت المسيحيّ ضحايا يمكن البكاء عليهم والشعور معهم، وضحايا لا يعنوننا ولا نحسّ بآلامهم وبأوجاعهم، فلطالما ردّد التعليم الدينيّ بأنّ الخطيئة هي عدم الإحساس كما قال القدّيس اسحق السريانيّ يومًا. إن كان من موقف إن خانه الإنسان خان مسيحيّته فهو الموقف المتعاضد مع الإنسان البريء المعلّق على الصليب، على كلّ صليب: أكان صليب العطش، أو صليب التجويع، أو صليب الأسلحة العاديّة أو الكيماويّة، أو صليب البراميل، أو صليب القمع، أو صليب الاغتصاب، أو صليب التهجير، أو صليب التعنيف. مهما كانت نوعيّة النظام السياسيّ القائم، يمكن للمسيحيّين أن يبقوا صوت الضمير في وطنهم بالتذكير بأنّ الأبرياء هم أبرياء، بأنّ الأطفال هم أطفال، وبأنّ لا شيء، لا شيء أبدًا، يبرّر قتل الأبرياء، وبنفس الأهمّية لا شيء، لا شيء أبدًا، يبرّر انعدام الإحساس بالأبرياء. حتّى الآن لا القيادات الكنسيّة ولا المسيحيّون كجماعة إيمانيّة تمكّنوا من أن يكونوا هذا الصوت. ماذا سنقول ليسوع؟ **** بعد مئات الضحايا في بيروت، ثلاث ضحايا في الكورة. أبغضوهم بلا سبب وقتلوهم بلا سبب. وهم لكونهم ضحايا بريئة تشبّهوا بيسوع دون أن ينتبه أحد. القتل فاجعة للأحياء، مهما كان عمر القتيل، فكيف إن كان ما يزال شابًّا أو طفلًا. المجرمون المباشرون قد يُقبض عليهم. أمّا المجرمون الرابضون خلف المجرمين المباشرين فهم في النهاية الذين دمّروا الدولة عندما كانوا اشتركوا في الحكومات، ومجالس النوّاب ورئاسة الجمهوريّة منذ ما بعد الطائف وحتّى اليوم. كلّ جريمة تحدث في لبنان اليوم، نتيجة انعدام الأمن والأمان الاقتصاديّ والسياسيّ والاجتماعيّ، هي مسؤوليّة من أوصلوا البلاد إلى هذه الحالة من التشرذم والضعف والتفكّك. كلّ واحد من المسؤولين اليوم هو بيلاطس يظهر على التلفاز ويغسل يديه بماء الكلام والشعارات، ويقول إنّه بريء من دم هذا الشعب. هم منافقون باعوا أرواحهم، وغدوا أدوات إمّا لشهوتهم للمال وللسلطة، وإمّا لقوى خارجيّة، أو لهذه كلّها معًا. هذا ما يفسّر انعدام إحساسهم بالفقر والجوع الناجمين عن نهب البلاد، وما يبرّر سكوتهم عن سطو المصارف على أموال الناس، وعدم اهتمامهم باستعداد البلاد لمواجهة جائحة كورونا، واستهتارهم بحياة الناس وبلامبالاتهم بوجود موادّ متفجّرة موضوعة في قلب مدينة، واستهتارهم بالتحقيقات، ودفعهم الناس للهجرة إن لم يعجبهم الحال (رئيس البلاد قالها بشكل واضح والباقون يسيرون في الخطّ نفسه ولو لا يقولوه). إنّهم مجبولون بالنفاق، واختاروا أساسا انعدام الإحساس. **** أين الله من ضحايا العطش؟ من ضحايا الجوع؟ من ضحايا الجرائم؟ أين الله من الأبرياء؟ أين الله من أوجاع الأبرياء ومن أوجاع الأحياء؟ من تأمّل في وجه يسوع حياةً بأكملها لا بدّ أن يرفض أن ينصاع لصنم وحشيّ يعظون به على المنابر ويدعونه "الله"، صنم يدع الوعّاظُ المسيحيّون الناسَ إلى قبوله لأنّهم [الوعّاظ] نسوا يسوع المسيح ولجأوا إلى كليشّيهات جاهزة. إن قال يسوع المسيح شيئًا واحدًا وبوضوح كلّي، فقد قاله بجسده الموجوع الخائف المرتجف المعلّق على الصليب شاعرًا بأنّه متروك ومرذول خارج مدن الناس وأكاذيبهم ومكائدهم وعباداتهم لأصنام السلطة والأديان. يسوع، كلمة الله، قد صار كلمته الأكثر وضوحًا على الصليب. يسوع قال بذاته المعلّقة على الصليب (ومن خلاله الله قال): أنا والضحايا الأبرياء واحد، وفي كلّ مرّة ترون ضحيّة بريئة اعرفوا أنّي إيّاها وأنّها أنا. أنا الذي يقف إلى جانب الضحيّة، بل أنا المصلوب في داخل أوجاعها. الضحيّة هي في قلبي أنا، عيونها الموجوعة طعنة لقلبي أنا، الضحيّة أختي وأخي أنا، أبي الذي قالني كلمةً قبل الدهور يراها أنا. أنا الضحيّة البريئة والضحيّة البريئة أنا. من خلال وجه يسوع المصلوب نقرأ أنّ الله لا يريد للضحايا البريئة أن تُقتَل، ولا للضحايا البريئة أن تعطش، ولا للضحايا البريئة أن تجوع، ولا أن تُهجّر ولا أن تُنتَهَكَ كرامتها، ولا أن تُعَذَّب. الله لا يريد لكلّ هذا أن يحصل، لكنّ هناك أناس مجرمون والله منذ الخلق أخذ على عاتقه احترام حرّيتنا. فليكفَّ المسيحيّون ورجال الدين عن أن يجعلوا من الله شمّاعة يعلّقون عليها إمّا جرائمهم وجرائم غيرهم، وإمّا إخفاقهم في الدفاع عن الأحياء وعن الحياة. متى نكفُّ عن كسل الإحساس والفكر. متى نكفُّ عن تشويه إله يسوع المسيح، بإلباسه لبوس صنم جامدٍ بعيدٍ صاحب حكمة بلا إحساسٍ؟ متى نكفّ عن وصف الله بأنّه يريد للناس أن يُصلبوا، فندفع بهم إمّا إلى كراهيته أو إلى الخضوع الذليل لصنم يعتقدونه هو. كما تُصلب الأمّ مع آلام أبناءها كلّهم، مصلوبٌ هو على آلامنا. واقف هو إلى جانبنا ولكن دون قهر، ويفعل المستحيل من أجلنا ولكن دون قهر. نلعن أحيانا هذه الحرّية، بلى نلعنها من الوجع، ولكن بدونها نحن لسنا بشرًا. الله محبّة حرّة مصلوبة على الحرّية الإنسانيّة. الله صُلِبَ مع يسوع ولم يصْلِبه، الله مصلوبٌ مع الإنسان وليس صالبًا. خريستو المرّ
الثلاثاء ١٨ آب ٢٠٢٠ انهار الاقتصاد اللبنانيّ، وانفجر مرفأ بيروت، وما تزال الآثار السلبيّة لفيروس كورونا مستمرّة. أصعب ما يواجه الإنسان في ظلّ هكذا ظروف هو شعوره بالعجز ومن ثمّ الغضب. كيف يتعامل الإنسان أمام هذه المشاعر. برأيي ينبغي أن نميّز بين غضب وغضب وبين عدوانيّة وعدوانيّة. الغضب شعور بشري طبيعيّ وضروريّ للدفاع عن الحياة، الإنسان يغضب من الظلم مثلاً، وكيف له أن يشعر بأنّ الظلم يجب انهاءه وأن يسعى لإنهائه إن لم يشعر بالغضب وتتحرّك فيه نزعة لإزالة عدوان الظلم المدمّر. الغضب يعطينا الاندفاع الداخليّ لرفض الواقع الظالم. ليس المطلوب برأيي أن ننفي الغضب نفيا نهائيّا من الذات، وإنّما أن نوجّه غضبنا نحو أهداف حياة. مشكلة الغضب أنّه يؤثّر في القدرة على الحكم. إنّ غضبا يقصد التجريح بإنسان هو سيّء، لأنّ التجريح سيّء وليس لأنّ الغضب سيّء. بمكن للإنسان لأن يجرّح ويهين إنسان آخر بكلّ هدوء، أو بدعابة، وبدون إظهار إمارات الغضب (يبقى الغضب خفيًّا). التجريح محاولة قتل معنويّ والمطلوب في العلاقات الشخصيّة ألاّ نقتل آخر معنويّا أو مادّيا. هناك علاقات سامّة (العلاقة مع إنسان نرجسيّ، أو متحكّم، أو مؤذٍ، أو معتدٍ) يجب الابتعاد عنها وذلك يكفي. أن تترك امرأة رجلا يضربها أو يذلّها، مثلاً، هو ضرورة حياة. المهمّ في العلاقات السّامة أن يتركها الإنسان. الغضب ينفع هنا، ينفع بأن يدرك الإنسان أنّ هكذا علاقة سامّة بالفعل ويجب إنهاؤها. هذا ليس ضدّ المحبّة بشيء. عدا العلاقات الشخصيّة، هناك الواقع الاجتماعيّ حيث العلاقات لا شخصيّة. هناك الغضب من واقع معيّن. فلنأخذ نظام ديكتاتوريّ يكمّ الأفواه ويقتل ويعذّب، أو نظام مافياويّ يؤدّي إلى انهيار اقتصاديّ وإلى قتل الناس (انفجار بيروت الأخير). الإنسان يغضب من هذا الواقع. هذا الغضب جيّد، هو نقطة انطلاق، قوّة يجب ألاّ نبعثرها. الغضب هو أفضل من الانهزام النهائيّ والتبلّد واعتياد الظلم. ليس المطلوب ألاّ يغضب الإنسان بل أن يوجّه غضبه نحو الواقع الحقيقيّ، وذلك يبدأ بوصف صحيح للأمور واستخدام عبارات دقيقة. الانهيار الاقتصادي وانفجار مرفأ بيروت ليسا كارثتين، هما جريمتنا ناتجتان عن طبيعة النظام السياسيّ في لبنان، وهناك مجرمون مشتركون في الجريمة، وهم أساسا كلّ مجموعة المصرفيّين، ورجال سياسة، والدين، والإعلاميّين، وغيرهم ممّن يحمون هذا النظام. ويُسأل عن هذه الجريمة، وإن بشكل أقلّ بكثير، الناس التي تسير إثر هذه الزعامات المجرمة. هذا الوعي يمكن أن يؤسّس لردّة فعل غاضبة صحيحة عوض ردّات الفعل الهوجاء التي تنتهي بعاصفة لغويّة لا يلاحظها التاريخ. عوض توجيه الغضب بنفاق نحو مجموعة واحدة من رجال السياسة والاقتصاد والدين، دون مجموعة أخرى ("الكلّ إلاّ زعيمي")، وعوض توجيهه نحو مجرم وهميّ (جماعة ضعيفة). يمكن للإنسان أن يوجّه غضبه نحو المجرمين الحقيقيّين: الزعماء والمصرفيّين وحماتهم من رجال الدين؛ وخلف المجرمين إلى طبيعة النظام الذي لن يولّد في الحكم إلاّ مجرمين ومستغلّين. عندها يكون الغضب ساطعًا وله حظّ بأن يلد مجتمعا تشرق فيه شمس العدل، عوض أن يكون الغضب ظلاميّا مدمّرا للمجتمع ومُنتِجا لخسارة جماعيّة لما تبقّى من حرّية ولما تبقّى من إمكانيّة لبناء غد أفضل. عندها تتحوّل النزعة العدوانيّة إلى نزعة نضاليّة وتتوجّه من التدمير العشوائيّ إلى التغيير الهادف. جميعنا ضحايا بطريقة أو بأخرى، وجميعنا مسؤولون بطريقة أو بأخرى عن استمرار هذا النظام الذي يقتلنا، ولطالما خلق الإنسان أنظمة، واستعبد نفسه لها، وتغرّب عن نفسه وقدراته. المجرمون الحقيقيّون هم الذين ذكرناهم جميعًا، ولكن جذر الأسباب هو النظام الطائفيّ القائم. دون تغيير هذا النظام، سنبقى في نظام الجريمة. المطلوب إسقاط هذا النظام-الجريمة وبناء نظام مدني عادل للناس جميعا. فلنغضب الغضب الحقّ، غضب مناهضة جماعيّة للظلم، لا تفرّق بين الطوائف والمناطق. فلنغضب هذا الغضب الحلال. فلنغضب من المجرمين الحقيقيّين الذين يريدوننا أن نغضب ضدّ بعضنا البعض غضبًا حرامًا يسمح لهم بمتابعة استغلالنا. "إنّ الغضب أيضًا له نصيب في الخير بقدر ما هو دافع لإصلاح الشرور الظاهرة من خلال إعادتها إلى ما يبدو جميلًا"، كما يقول ديونيسيوس الأريوباغي (اللاهوتيّ المجهول من القرن الخامس-السادس). إن جمعنا غضبنا مع رغبتنا بالحقّ والعدالة للجميع دون أيّ استثناء، نكون في المحبّة. فلنغضب هذا الغضب. خريستو المرّ
إحرِقوا كلَّ شيءٍ ولا تتركوا أثرًا للظلام المعشّشِ داخل هذا الرخامْ طهّروا دم أطفالنا من مناداة أسمائهم من كثيف السمومِ التي زُرعت في نشيد السلامْ ومن زهرة الشرِّ: دهليز إعلامهم فما من سلامٍ بين جلدِ الرضيعِ وبين مخالبِ مُفترسٍ يختبي بين موج الكلامْ لا توفِّرْ سواعدُكم مصرفًا تختفي فيه أفعى لتأكلنا، لا توفّرْ سواعدُكم متجرًا تتواعد فيه الطوائف تقسِمُنا، لا توفّرْ سواعدُكم لا قلاعًا لا قناعًا لا رجالاً بثوب الصلاةِ خدّروا وجعَ الروحِ كي ينادوا بحمايةِ دافِننا تحت هذا الركامْ لا توفّرْ جنائزُكم مَعْلِفًا، أو مؤسّسةً عصرت لحمنا، لا توفّر جنائزكم عُنُقًا جمّلت نفسها بقماشٍ من ديونِ منازلنا، سلسلوها وحوشَ الطوائف والطبقاتِ الطفيليّة واطردوا منّا شياطينَ هذا الحطامْ ربّ ماتت مدينتنا ربّ عاشت حبيبتنا ربّ نحن الذين قُتلنا ونحن الذين حيينا وربّ بدايتنا أملٌ يائسٌ يشتهي قتل هذا الظلامْ فاحرقوا كلّ شيء ولا تتركوا أثرًا لسياسة هذا الحرامْ واحرقوا كلّ شيء بلى كلّ شيءٍ بليدٍ ومستسلمٍ لعلّ يغنّي صغيرُ الحمامْ إحرِقوا كلّ شيء ولا تتركوا أثرًا للظلام المعشّشِ داخل هذا الرخامْ الأحد ٢ أب/أغسطس ٢٠٢٠
خريستو المرّ لسنوات نلاحظ في الحياة الكنسيّة: إهمال قضايا الناس، مصادقة المسؤولين الكنسيّين للسياسيّين الفاسدين، تعيينات أسقفيّة على قاعدة الخضوع المطلق؛ تسلّط متنامٍ لمطارنة وأساقفة على الكهنة (مساكين الكهنة)؛ إرشادٌ "روحيّ" قائم على الخضوع المطلق والخلط بين الإيمان والتصديق بالخوارق؛ حروبٌ وخراب اقتصاديّ يقابله "قياديات" تتوسّل في مواجهتها للواقع الكلامَ المنمَّق؛ مناوراتٌ دعائيّة كنسيّة للبس لباس العصريّة بقيت فارغة من المضمون؛ تفشّي تربية تبخّس من قيمة العقل وتضعه في مواجهة مع "الروح"؛ أساتذة تمّ توقيفهم عن العمل في الجامعة الأرثوذكسيّة الوحيدة بألف تسويف وكذبة؛ أساتذة استقالوا من نفس الجامعة لأنّ النظام المتحّكم بها لم يترك لهم مكانا للعمل باستقلاليّة وحرّية وكرامة (هل أخبركم عن عميد أبلغتني أستاذة أنّه حاول تحطيم أعصاب ثمّ سرق بحثها، وعن آخر ضغط على أستاذ مادّيًا لكي يقدّم الأستاذ فروض الطاعة؟ الاثنان استقالا ويعملان خارج لبنان الآن). إنّ انفصال المسؤولين الكنسيّين عن واقع رعاياهم يتجلّى بمظاهر كثيرة منها ضربهم بمشاعر الناس عرض الحائط، والمثل الأخير أتى منذ أيّام من دمشق: إنسانٌ رحل بعدما التقط عدوى كورونا فلم يُصلِّ عليه كاهنٌ يومَ دفنه، وتنصّل الأسقف المسؤول من مسؤوليّته. وفوق كلّ ذلك يريد اللامسؤولون الكنسيّون ألاّ يتكلّم أحد بالموضوع. أن يحدث كلّ ما يحدث فوق أمرٌ لا يشكّل فضائح للكنيسة بشيء، ولكن أن تنتقد هذا الخراب العميم فهو يفضح الكنيسة. أن يُسحَقَ الناس دون أن يعلم أحد فهذا ليس بالفضيحة، أمّا أن تقف إلى جانب المسحوقين فهذا فضيحة. عند كلّ محاولة علنيّة، لنقد الواقع الذي وصفناه فوق، تخرج الأصوات من هنا وهناك لإسكات الجهة الناقدة، أصوات تريد للجميع أن يصمتوا، وبعضها الكهنوتيّ لا يريد للناس أن يتفوّهوا سوى بآيات الشكر والطاعة، و"الإخلاص" للكنيسة (كأنّ النقد هو ضدّ الكنيسة وليس نقدًا لتصرّفات محدّدة فيها). هذه الأصوات الكهنوتيّة لا تحترم مشاعر الناس ولا أمانهم الاجتماعيّ، بل لا مانع لديها من الضغط المعنويّ والمادّي على الأضعف: تبدأ بالابتزاز العاطفيّ بالإشادة بأخلاق الناقد وأنّ ما كتبه لا يليق به؛ لتنتقل بالضغط "اللاهوتيّ" حول ضرورة الأخوّة والمحبّة والاحترام؛ ثمّ تنتقل في اللاهوت إلى مستوى آخر من النفاق بكلام حول "الطاعة" والتي تعني في أذهانهم الخضوع المطلق الأعمى؛ وقد يقدّمون نصيحة "لوجه الله"؛ ليصلوا إلى التهديد الصريح عندما يكون الكاتب كاهنا تحت رحمة مطران، أو يعمل في مركز عمل أرثوذكسيّ. لا أعرف تصرّفا شبيها بذلك إلاّ تصرّف المافيات. في الماضي، هذا الذهن المافياويّ في الكنيسة حاول طرد كاهن نقديّ يعمل في جامعة أرثوذكسيّة بحجّة أنّه كان يعمل بدوام كامل ككاهن! هذا الفكر المتسلّط المسلّح بالتصرّف المافياوي لا يسعى لأقلّ من الخضوع المطلق، مافيويّون بلباس رجال دين يريدون ألاّ يوجّه لهم أيّ نقد، ويعتبرون أنفسهم حصرًا الكنيسة (بأل التعريف). ما يميّزهم عن المافيا أنّهم أسوأ منها، فالمافيا صريحة بكونها تعمل للسلطة والمال أمّا هؤلاء فيغطّون مسعى السلطة باللباس الكهنوتيّ والكلام اللاهوتيّ، ويحاولون أن يُتَفّهوا كلّ نقد على أنّه كلام ولغو. من وسائل الضغط المعتمدة لإسكات النقد، أنّه علينا ألاّ ننشر الغسيل الوسخ، وأن نحلّ الموضوع في المجالس الخاصة مع المعنيّين، وألاّ يتفرّد الكاتب في رأيه لأنّ في ذلك كبرياء. لن أناقش كلّ نقطة اليوم، ولكن لو كنّا موجودين أيّام يسوع عندما وقف وقال علانيةً: "ويل لكم أيّها الكتبة والفرّيسيّون المراؤون! لأنّكم تُغلقون ملكوت السماوات قدّام الناس، فلا تدخلون أنتم ولا تدعون الدّاخلين يدخلون"؛ "يا أولاد الأفاعي" إنّكم "تأكلون بيوت الأرامل، وتطيلون الصلوات"؛ "أيّها القادة العميان الذين يصفّون عن البعوضة ويبلعون الجمل"؛ "ويلٌ لكم لأنّكم تركتم الحقّ والرحمة والإيمان"، فماذا كنّا سنفعل؟ هل كنّا سنواجه يسوع بتعابير مثل: "لا تنشر غسيلنا الوسخ"، "دع المعنيّين يحلّون الموضوع في المجالس الخاصة" و"ما هذا الكبرياء"؟ على الأرجح نعم، كنّا لنفعل ذلك. لأنّ الحقيقة دائما محرجة وصعبة، والإنسان يفضّل ألف مرّة أن يبقى في الوهم الذي لا يتطلّب تغييرا ولا جهدا ولا انقطاعات عن دفء القطيع، والوحدة أحيانًا. من يعتقد أنّ حلَّ الأمور يجب أن يتمّ من قبل "المعنيين"، لا يعتبر نفسه معنيّا بأمور الكنيسة، وهذا غير مقبول؛ كما أنّ إخفاء الحقائق عن الناس يساهم في بقائهم في الجهل والاستكانة، عوض معرفتهم لنور الحقيقة التي تسمح بالوقوف إلى جانب الحقّ الذي يحرّر، يحرّر على الأقلّ الواقف إلى جانبه من العبوديّة لإنسان. "لقد اشتريتم بثمن فلا تصيروا عبيدا للناس"، قال بولس. وفي هذا الزمن، زمننا، العلنيّة أمر ضروريّ لدفع التفكير والتنوير والتحرّر بضوء الحقيقة، عوض الجهل والصمت والتربية على الغنميّة. وجه الشبه بين نظام المافيا السياسيّة وبين العمل الكنسيّ سيزول، والعلنيّة ستساهم في إزالته. لن يُظلم إنسان دون أن نقف إلى جانبه، فهناك يسوع وهناك تكون الكنيسة جسد يسوع، هناك في وجه المظلوم وليس في مكان آخر. |
الكاتبخريستو المر الأرشيف
December 2023
Categories |