خريستو المرّ
الثلاثاء 29 آذار / مارس ٢٠٢٢ "في شهر آذار، في سنة الانتفاضة، قالت لنا الأرض أسرارها الدمويّة... أنا الأرض/ والارض أنت/ خديجة! لا تغلقي الباب/ لا تدخلي في الغياب" (محمود درويش) في 30 آذار 1976 اندلعت احتجاجات في فلسطين المحتلّة من الجليل إلى النقب بعد مصادرة نظام الاستعمار والفصل العنصريّ المعروف بـ"اسرائيل" لآلاف الدونمات من الأراضي الفلسطينيّة. خديجة (23 عامًا)، أرداها الاحتلال قرب منزلها برصاصة في ظهرها وهي تبحث عن اخيها الأصغر. خضر (27 عامًا) قُتِلَ برصاصة في الرأس وهو يحاول انقاذ معلّمة مُصابةٍ في بطنها. خير (23 عامًا) قُتِلَ بإطلاق النار عليه في تظاهرة. رجا (23 عامًا) أصيب في وجنته وتُرِكَ ينزف لساعات حتّى مات قبيل دخوله المستشفى. محسن (15 عامًا) قُتِلَ برصاصة في الرأس في تظاهرة. رأفت (19 عامًا) قُتِلَ برصاصة في الرأس أثناء التظاهر. جميع هؤلاء كانوا عُزَّل. هذه هي مناسبة يوم الأرض التي يحييها الفلسطينيّون ومناصري قضيّتهم الإنسانيّة العادلة في الثلاثين من أذار في كلّ عام. منذ حوالي 4 أعوام (2018) تظاهر الفلسطينيّون في غزّة في مسيرات سلميّة ضدّ نقل السفارة الأميركيّة إلى القدس غير مسلّحة وساروا باتّجاه الحدود المفروضة على ذاك المعتقل الأكبر في العالم الذي يُدعى غزّة. ماذا حصل؟ خلال أشهر، قام جنود جيش الاحتلال بقتل عمدٍ لعشرات الفلسطينيّين العُزّل، وبإعاقة المئات إذ كان القنّاصةُ يصوّبون قصدًا على أرجل المتظاهرين بقصد إحداث إعاقات جسديّة دائمة. وقنّص جيش الاحتلال أطبّاء (منهم الطبيب الفلسطيني الكنديّ د. طارق لُباني، أصابه قنّاص في رجليه ونجا بأعجوبة من البتر) والمسعفين والمسعفات (قتلوا رزان النجّار) والإعلاميّات والاعلاميّين (قتلوا موسى أبو حسنين). ماذا فعل العالم؟ لا شيء. بالكاد كانت الأحدث تًذكر بشكل طفيف في وسائل الإعلام الغربيّة، لا إدانات واسعة، لا ضغوط، ولا عقوبات. لم تحقّق الشجاعة الفلسطينية اللاعنفيّة أمام آلة القتل الاسرائيليّة أيّ هدف، ليس فقط لضعف في الاستراتيجيّة والأهداف الواضحة، ولكن أساسًا لأنّ الحكومات الداعمة للكيان الإجراميّ لا تأبه للحياة الإنسانيّة لإنسان غير أوروبيّ أو شمال أميركيّ، إلّا إذا كان الدفاع عنها تخدم مصالحها، ولا تمانع في قتلها إذا كان قتلها يخدم تلك المصالح: وهي أساسًا أرباح شركاتها. في المقابل، فإن المقاطعة الأكاديميّة والاقتصاديّة والثقافيّة لكيان الفصل العنصريّ فعّالة خارج فلسطين لأنّها تؤذي شرعيّة الاحتلال وتكشف عن وجهه اللاأخلاقيّ، ولذلك فهي تلاقي مقاومة كبيرة وترصد حكومات الاحتلال لمحاربتها الأموال، وتبذل الجهود. الأمثلة أكثر من أن تُذكر في كندا حول محاولة إدارات الجامعات تطويق أيّة حركة طلّابيّة تناهض سياسات الاحتلال والفصل العنصريّ الاسرائيليّة ضاربة في عرض الحائط أكثر من قاعدة أكاديميّة في النقد والحرّية وحقوق الإنسان. وفي لبنان، في مقابل فشل تطبيق قرارات الأمم المتّحدة المختصّة باحتلال جنوب لبنان (قرار 425 للذين يذكرونه)، وفي مقابل تكرار السياسيّين وبعض رجال الدين حتّى الغثيان دعوة الأمم المتّحدة لتطبيقها، دون أن يأبه العالم لها ولهم، ولا لأفعال نظام الاحتلال والفصل العنصريّ الاسرائيليّ ومنها الاعتقالات والتعذيب والتجويع في المعتقلات التي أشرف عليها في جنوب لبنان. في مقابل ذلك -أحبَّ القارئ أم لم يحِبّ - استطاعت حركات مقاومة إسرائيل منذ الثمانينات وحتّى عام 2000، طرد الاحتلال بإذلال من جنوب لبنان؛ ثمّ استطاعت سحق محاولته غزو الجنوب مرّة أخرى عام 2006 وسط هلع حكومات الغرب، ومتخاذليّ الداخل، ومطبّعي الخارج من ديكتاتوريّ الغرب في العالم العربيّ. يومُ الأرض الفلسطينيّة، هو يوم الأرض اللبنانيّة، ويوم كلّ أرض يريد شعبها أن يخلص لأخلاقه الفطريّة، ولإيمانه بأنّ وحدها العدالة تلد السلام الذي للحياة، وليس «سلام» السجون الذي يريده نظام الفصل العنصريّ للفلسطينيّين وتريده الأنظمة العربيّة لشعوبها. الحرّية الأخيرة على هذه الأرض هي تلك التي تحرّرنا من كلّ سجنٍ لكي نتمكّن من الانطلاق بكرامتنا الإنسانيّة إلى الفِعل والمشاركة. الوسائل إلى تلك الحرّية تختلف، وتتكامل، وهي لا تُرتَجل وإنّما تحتاج إلى علمٍ كبيرٍ، وإيمانٍ أكبر بالحقّ وبالتمسّك بفكرة تقديس حياة الإنسان، حتّى ولو دفع إنسانٌ حياته بحرّيةٍ ثمنًا لحياةِ وكرامةِ وحرّيةِ آخرين. هكذا حرّية هي ترجمة للحرّية الأخيرة التي تكمن في المحبّة، والتي كم يتمنّى الإنسان أن يعيشها بسلام دون عنف، ولكنّ العالم، كما هو، قد يدفع المسالمين إلى استخدام العنف تمسّكًا بالدفاع عن المظلومين، ودرءًا لشرّ القمع والاستغلال الأعظم من شرّ ردّة فعل عنفيّة ينبغي ضبطها وتوجيهها. الفلسطينيون هم أصحاب الحقّ في فلسطين. هذه الأرض لنا، لنا جميعًا، ولكن لن يعطينا حقّنا فيها الظالمون، علينا أن نكتسب هذا الحقّ اكتسابًا، "فما نيل المطالب بالتمني، ولكن تؤخذ الدنيا غِلابا"، كما يقول أحمد شوقي. أيا خديجة! افتحي الباب. خريستو المرّ
الثلاثاء ٢٢ آذار / مارس ٢٠٢٢ لا شكّ، أنّه كان فرحَ والديه عندما وُلِد. أدمعت أمّه، لا شكّ. فرحتْ بعد ألمٍ، لا شكّ. لم نتكلّم كثيرًا، كان كلينا قليل الكلام، فهو كان كثير الصمت وأنا كنت ولدًا يحدّث الأشجار عن كلمات السماءِ وبكاءِ الأرض. لكنّه قال الكثير في رذاذ كلماته: الغنيّ يأكل الفقير. الدولة لا تأبه. العمل قليل. ونحن العمّال من يأبه لنا؟ دولة حراميّة. لم يحتج لكلمات كثيرة كي يقول الحقيقة، فقد كانت الحقيقة ساكنة لحمه. مهنته بلّاط يحوّل التعرّجات سَهلًا مُمتنعًا؛ ولأسبابٍ لا يعلمها إلّا من غرس عصر لبنان "الذهبي" أنيابُه في لحم عائلته، كان يتكلّم الحقيقة. لا يحتاج الحقّ للذكاء الكبير لكي يُنطَقَ به. الأذكياء يعرفون كيف يبرّرون الظلم وكيف يُجَمِّلون الفقراءَ في القصص لكي ينسونهم في بواطن الكتب. كان يحتاج إلى البحر. أمام البحر، يُلقي الفقراء عن أكتافهم جبالًا من الظلمِ ليرتموا في ما يشبه الله ويصبحوا خفيفين كالروح؛ وكأنّهم يعودون إلى أحشاء الحياة – حوّاء الأولى – ليخرجوا بعدها مولودين من جديد. وفي البحر، يسبح الفقراءُ في الغيمِ مجانًا، يحلّقون قليلًا فوق، ويتحرّرون من الموت البطيء. ومَن اصطاد السمك يعرف كيف يتأرجح النسيان مع فَلّين القصب، وكيف يتبادل الصيّادون كلمات الهروب من الأوجاع فوق صفحات الأمواج، يضعونها في زجاجات الأحاديث الصغيرة والدعابات ويرمونها مرتجفة بنعيق النورس. البحر الوسيع كان رفيق مغامراته بحثا عن مكان ارتياحٍ يناجي فيه آلهة الليل والنهار. هل عرف الله؟ سؤال يسأله الذين لا يجوعون، أمّا الآتون من الجوعِ إلى استرداد كرامتهم البشريّة، واسترداد دمائهم من مساحات ربطات العنق، فيسألون الله لماذا؟ ويعرفون السكاكين التي تكلّمت باسمه كثيرًا ولهذا قد يتوقّفون عن السؤال. لم تكن شيوعيَّةُ الفقراء في لبنان إلّا صرخة المسحوقين أمام الوحش، صرخوها قبل أن يبتلع الوحش المجتمع بأكمله، إلى حين. أمّا فؤاد، فالبحرُ كان يمسحُ عن وجهه كلّ حزنٍ لتقفز الطفولةُ في عينيه ويتألّق قمر. كان شبيه اسمه، كان قلبًا كلّه. كان يرمي كلماته القليلة في الدقائق المعدودة، يسأل عن الأحوال، ويرمي بدلوه في بئر فكر الله الذي كشفه للمساكين ويقول الحقيقة. كان هذا يحدث في العيد، في كلّ عيد حيث البشرُ عصافيرٌ تشكرُ من أجل الحياة التي تجري في أرواحها، وتتكلّم غناء الحبّ للحبّ. كان يعبّ من محدوديّات هذا الزمن، وهذه الأرض، والمحيط الذي ترمي الحياةُ واحدَنا فيه كالنرد: هذه عائلتك، وهؤلاء إخوتك، وهؤلاء أقرباؤك، وهذا بلدك، وهذه طبقتك الاجتماعيّة، وهذه مدينتك... وهذا البحر بحرك. كان يعبّ من المحدوديّات ليتمكّن من الحياة ومن القول. لست أدري كيف كان ينظر إلى نفسه، أعلم أنّ الناس الـمُحِبّة كان تحبّه، وأنّ مساكين الميناء، مساكين شواطئ الهواء المشبع بالملح، رأوه أخًا. ربّما حزن عليه جاره لأنّه رأى فيه وجهَه. ربّما حزنت عليه جارته لأنّها رأت فيه مصير ابنها. ربّما حزنت عليه ابنة الجيران لأنّها رأت فيه روحها التي تهيم في المشوار الصيفيّ على الكورنيش بحثًا عن قارب نجاةٍ لا يأتي. ربّما حزن عليه "الأوادم" لأنّهم لا يحبّون موت البريء. مات فؤاد، توجّع، دخل المستشفى، ومات. مات ببساطة كلّية، لكنّ الأسباب لم تكن طبيعيّة، مات فؤاد لأنّ سياسيّو لبنان قتلوه كغيره بمنعهم عن الناس الطبابةَ المجانيّة. مات فؤاد أوّل من أمس وحزنت عليه اخته الوردة، وربّما أيضًا حزنت أمواجُ المدينة غيرُ الآبهة عادةً لأحد. خريستو المرّ
الأربعاء ١٦ آذار ٢٠٢٢ (عيد تأسيس حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة) لم يكن الضوء الذي بدا لي من شبّاك الحرب جليّا بعد. كلّ ما أعرفه أنّ الحرب عتمةٌ لها شكل الكثرة التي لا تتركك كي تغترب عمّا تشتاق إليه نفسك، ويتصحّر فيك الشوق إلى الضوء. الجدران كانت تتكثّف على صفحات الزجاج والكآبة تتثاءب على صفحات وجوه النساء في حاراتٍ قديمة. النساء يختبئن في الأمّهات الزوجات، والرجال يتضاءلون فيتّكئون على ظلالهم كي تمرّ زمجرة الحديد وهم واقفون، يـُخَبّئون تضاؤلهم في مارد من ظلٍ وحكايات عن كرامة قديمة. كان الأطفال وحدهم يركضون بين شظايا الموت، يضحكون ثمّ يبكون، وفي وجمٍ يصمتون إذا سَرَقَت سطوةُ النارِ روحًا من تلك الأرواح التي لا يعرفها إلّا الأطفال عندما يندهشون أمام فراشة. لكنّ الشوق حديقةٌ يلعب فيها القلب كي تشربه الطفولة ويشربها. مَن يعرف الشوق الذي بلا غروب يصبح كمن من نار. وأنا عندما غادرت الطفولة التي تشتاق إلى ابتسامة ولعبٍ، ووصلتُ البلاد التي يشتاق فيها الإنسان إلى مكان تحت الشمس يقول فيه أنا ونحن، فتّشتُ في الكتب فأخبرتني عن جمالٍ في حكايات. لكنّ حكايةً أخرى كان لها طريق إليّ، طريقٌ مستقيم بخطوط متعرّجة، أو ربّما طريق متعرّج هو بخطوط مستقيمة. هي حكايةُ ذاك الرجل الذي خرج يـُحبّ ويقول أحِبّوا، فجعلوه ملكًا واستوى على عرشٍ من مسامير وخشبتين. كان هو الذي خاطبني. حكى لي وربّما حكاني، وهو الذي يحكيني بقدر ما يسمحَ لهُ خوفي من الموت الذي يخطّ فيّ السلاسل. حكايةُ يسوع تلك قالها لي فمُ حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة. رأيتُ في الحكاية مَن يفتّش عنّي خارج الأسوار فخرجت، ومن وقتها لم أجد باب المدينة. المدينة حلوة، ولكنَّ المرارة كان طعما لا مفرّ منه خارج الأسوار، وحسبي أنّي أردت وأريد أن أكونَ نحنُ ونفسي دون اختلاط، ولا تحوّل، ولا انقسام، ولا انفصال. لم أجد ذهبًا إلّا في وجه الشمس التي لفحتني بأجنحة ريحٍ تُفَتِّتُ القلبَ فيغدو نبعًا. قيل أنّه كان يجب أن يجدني البخور الذي جاء به المجوس ليسوع الطفل في مزوده ولهذا جهدت أن أبكي كطفلٍ إذا عضّت صحراءُ الهامش أحدًا. كان زاديَ في الرحلة خارج الأسوار بضعُ أرغفةٍ وسمكةٌ أو سمكتان، سلّمتني إيّاهم مدينةٌ بحريّةٌ تجلس ملكةً مكلّلةً بالفقرِ والنسيان. وكانت الحركة سلّمتني سرًّا قديمًا يقول للخبز كُنْ فيكون، وللسمكِ تكاثرْ فيتكاثر، وللماء صِرْ خمرَةَ عُشّاقٍ فيصير. قيل أنّه سرّ سلّمه مجنونٌ تعشّى مع قاتله، قبل موته بقليل. وكنتُ قرأتُ في مكانٍ ما أنّ الله مجنونٌ حبًّا وأنّ الإنسان قادرٌ على الارتفاع إلى الجنون الإلهيّ. الأسرار بعدها تفتّحت كوردة: إمرأة علّمتني أنّ الإنسان يمكنه أن يكون نبعًا وشمسًا دون أن يعلم، حياتها تحكي النبعَ الذي يرى ماءَه عاديًّا، ووجهها يقول الشمس البسيطة الشارقة دون جهد دون أن تعلم. أصدقاء علّموني أنّ الحقول تزهر بلا سبب، أساتذة علّموني أنّ الفكر خادم الحبّ، بسطاء علّموني أنّ القلب للفكر عمقٌ لا قرار له. وأنا حاولت أن أكتب الحكايات، لم أفعل شيئا من عندي وإنّما كما أسمع الصوت في الحكايات أحكي، وحكاياتي تحتمل الصواب والخطأ منّي وليس من الحكاية، وأنا جلّ ما أطلب أن أشفّ حتّى لا أخفي الجمال، جمال الحكاية. خريستو المرّ
الثلاثاء ٨ آذار / مارس ٢٠٢١ عندما يكتب رجل عن المرأة هو أمام معضلة. كيف يمكنه أن يفهم من الداخل التهميش الأتوماتيكي الخفيّ الذي يقع على النساء حول العالم، بدءا من العائلة؟ لكن يمكنه على الأقلّ أن يلاحظ ظواهر اجتماعيّة، وأن يراجع نفسه ليرى إلى أيّ حدّ قد تعاطى تهميش المرأة أو استفاد منه. هناك استغلال اجتماعيّ-اقتصاديّ للمرأة أكثره شيوعًا وخفاء يكمن في ظاهرة تسليع المرأة (اعتبارها سلعة) وتشييئها (اعتبارها شيئًا) وهو ما يمكننا أن نراه في الإعلانات والأفلام. وهناك عنف ضدّ المرأة يمكن تصنيفه في خانة (١) عنف الشريك (الضرب، الإساءة النفسية، الاغتصاب الزوجي، قتل النساء)؛ (٢) العنف والمضايقات الجنسية (الاغتصاب، الأفعال الجنسية القسرية، التحرش الجنسي غير المرغوب فيه، الاعتداء الجنسي على الأطفال، الزواج القسري، التحرش في الشوارع، الملاحقة، المضايقة الإلكترونية)، (٣) الاتّجار بالبشر (العبودية والاستغلال الجنسي)؛ (٤) تشويه الأعضاء التناسلية للإناث؛ (٥) زواج الأطفال. ولا تذكر الأمم المتّحدة أنّه حين يقتل الرجال بعضهم بعضًا أضحيات مجانيّة أمام إله المال والسلطة، تحتمل نساء المتحاربين النتائج الكارثيّة للحرب (تشريد، تمزّق، قلق، أقرباء مخطوفون...). إلّا أنّ العنف اليوميّ الذي يدخل في تفاصيل الحياة اليوميّة بحيث يصير جزءا عاديّا من الوجود هو عنف التهميش، وهو عنفٌ شائعٌ في مجتمعاتنا المفاخِرَةِ بأديانها والمتوهّمة أنّ ظواهر التديّن هي صنو الإيمان، ولكن شتّان مما بين الإيمان وما بين التديّن. القيادات السياسيّة تكاد تكون مكوّنة من الرجال بشكل كامل، القيادات الدينيّة وقيادات المؤسّسات الدينيّة محكومة من رجال، المرأة فيها في أفضل الأحيان تخدم الرجال، ليس المقصود أنّ الخدمة عيب أو لا قيمة لها، وإنّما أنّ تضييق أفق جنسٍ بشريّ كامل بنوعٍ محدّد من الأعمال يدلّ على حالة تهميش. يدخل الإنسان معهدًا لاهوتيًّا لبعض الكنائس في بلادنا فيكاد لا يرى فيه لاهوتيّة واحدة لا في مركز قياديّ ولا حتّى في مركز تعليميّ. نحن هنا حتّى لا نتكلّم عن كهنوت المرأة، بل عن أمرٍ من المفترض انّه لا خلاف حوله. حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة التي إليها أنتمي، لم تعرف عبر أكثر من سبعين سنة من تأسيسها امرأة واحد في رئاستها (هناك نساء في مراكز قياديّة، ولكن ليس في المركز التمثيليّ الأوّل للمؤسّسة، ما يشير إلى أنّ الذهنيّة البطريركيّة ما تزال فيها معشّشة). عندما يشيدُ مجتمعٌ ما -وخاصّة الرجال فيه- بالمرأة كأمّ ومربّية ومعلّمة، وغير ذلك، فهو بالفعل لا يريد أنها أن تنتعش وإنّما يريد أن يهمّشها. فهو يحدّد لها ما هو الأدوار التي يوافق الرجال أن تلعبها، هو يضع إطارًا لتقييد المرأة في صورة ما. لا نقول ذلك للتقليل من شأن دور الأم أو المربّية أو المعلّمة، وإنّما نقول أنّ اختصار هويّة المرأة بدورٍ أو أدوارٍ محدّدة هو محاولة تقييد لكيانها، وما تضخيمُ تلك الأدوار وتبجيلها المبالَغ فيه، إلّا لإخفاء حقيقةَ كونِ اختصارِ هويّة المرأة بتلك الأدوار فِعلُ تقييد لها. تضخيم أدوار محدّدة للمرأة هو وسيلةُ المجتمع الذكوريّ لإخفاء محاولته تقيّدها. إلى المرأتين اللتين ولدتاني في هذا العالم، أمّي التي ولدتني بجسدها وطيبتها، وزوجتي التي ولدتني بوجهها وكلماتها، أشكركما. أحبكما. أطلب منكما المغفرة. لا شكّ أنّي استفدت من ذكوريّة هذه المجتمعات التي انتميت إليها حول العالم، ولا شكّ أنّي أحيانا شاركتُ في الانتفاع من واقع مجتمعات تهمّشُ النساء، علمتُ أم لم أعلم. في اليوم العالميّ للنساء لربّما نهنّئ النساء في حياتنا كتعبير جميل عن المحبّة، ولكن الأهمّ أن نراجع أنفسنا نحن الرجال عن كلّ مشاركة في تهميشهنّ أو الاستفادة من تهميشهنّ، ونتوب عن التهميش بحقّهن أشاركنا به بالقول أو بالفعل، بمعرفة أم بدون معرفة. هي فترة بداية الصوم الكبير في الأرثوذكسيّة، ألا جعل الله هذه الفترة، لمن أراد، تمرينًا على العودة الكبيرة من شرذمة تهميش النساء إلى طريق حبّهنّ. وللنساء أقول، اتّحدن، لا تؤخذُ الحقوق ولا المواقع في الحياة إلّا عنوةً. خريستو المرّ
الثلاثاء ١ أذار / مارس ٢٠٢٢ كلّ دم بريءٍ يُسفك واحدٌ مع دم المسيح، وكلُّ طفلٍ يُهَجَّر هربًا من سيفٍ هو واحدٌ مع المسيح الذي هرب طفلًا من سيف هيرودس. ما كشفته المسيحيّة لأتباعها في المسيح المصلوب أنّ الله حبّ وأنّه يتعارض بشكل مطلق مع فكرة إله الحرب، أو الإله المبارك لحرب. الله ليس جنرالًا عند أحد، ولو صادر اسمه الناس في حروبهم، وما من صكّ قداسة يمكن أن يُعطى لأيّة حرب، وليس عبثًا أنّ اللاهوت الأرثوذكسيّ رفض أن يسمّيَ المحاربين شهداء، وحصر التسمية بالذين سُفِكَت دماؤهم بسبب من إيمانهم. أمّا الشعوب فتسمّي شهدائها كما تشاء، وتخترع رموزها لتقوية العصبيّة، والعصبيّة قد تظل وتلامس العنصريّة أو تمهّد لها. يبقى أنّ لاهوتيّا لا يمكننا أن نرى الله في وجه القاتل حتّى ولو قَتَل باسمه، أو رُشَّت أسلحته بصنوف الصلوات. قد يبرّر الإنسان قتالًا يخوضه ليحمي نفسه وغيره ويحافظ على حرّية شعبه. وبرأيي، يمكن تبرير النضال التحريريّ العنفيّ دفعًا لتعاظم الشرّ أو دحرًا له وخدمةً لوجه الإنسان. لكنّ لا شيء في المسيحيّة يمكن أن يجعل من ذلك عقيدة أو أن يسهّل اللجوء إلى العنف، ويبقى التوتّر بين المحبّة المطلوبة والعنف المفروض بواقع العالم حولك، ضروريّا حتّى لا يصبح الله صنمًا لقبيلة ولمصالحها كما أصبح لطوائف لبنان المتصارعُ أسيادُها على المغانم والسلطة. لا يمكن الدخول إلى الملكوت إلّا بقلبٍ مجروح بخدمة الآخرين وحبّهم ولو أنّ اليدين قد تتلطّخا بوحول الأرض وضغوط الواقع. الحبّ هو أفق الملكوتيّين. الحكومة الروسيّة في حربها على أوكرانيا تقتل وتهجّر وتحتلّ وتخرق القوانين الدوليّة فكيف لا تُدان؟ ومَن أدان احتلال العراق وأفغانستان سابقا كيف يمكنه ألّا يبالي لحرب اليوم. كذلك منافقٌ وعنصريٌّ مَن كان يصفّق للاحتلالين المذكورين وهو يدين الحكم الروسيّ اليوم. إنّ الإعلام الـمُبرمج والخاضعُ بشكل شبه كلّي للأجندات الحكوميّة في الغرب في حالة الحرب، يسعى ليحيّد العقل عن النقد. تبسيط ما بعده تبسيط للواقع: رئيس روسيا يكره ديموقراطيّة أوكرانيا هو اختصار الوضع على التلفزيون سي بي سي الكندي. إن كانت الحرب هذه تُدان كون القويّ الروسيّ يريد فرض إرادته على الضعيف، فإنّ مسار الأحداث يدلّ أيضًا على أنّ إرادة القويّ الأميركيّ يريد حصار روسيا وفي سبيل ذلك خرق كلّ المعاهدات الموقّعة معها (يمكن قراءة هذا المسار في جريدة لوموند ديبلوماتيك المحترمة، مثلًا). الروحيّة المسيطرة عند الحكومات الأميركيّة والأوروبيّة والتي تنامت بعد سقوط الاتّحاد السوفياتيّ هي روحيّة الإلغاء. هذا ليس كلام في قداسة الروس الذين تتنامى لديهم شوفينيّة قوميّة عنصريّة بغيضة، وإنّما تذكير بالوجه الآخر للواقع: روحيّة الإلغاء الأميركيّة-الأوروبيّة التي دمّرت حتّى الآن بلادا بأكملها في منطقتنا. هذا يضع الحرب اليوم في سياق التاريخ. مَن أراد إدانة الحرب الروسيّة عليه أن يكمل الرؤية الصائبة هذه بإدانة روح الإلغاء الأميركيّة التي تستعدي، والتي تستدعي كلّ ردود الفعل لدى شعوب كثيرة أكانت ضعيفة، كما هي حالنا، أم كانت قويّة خائفة من الضعف والاستفراد، كما هي حال الصينيّين والروس والإيرانيّين. جشع القويّ هو الذي يؤسّس لعالمٍ يسوده الفقر والتدمير، ورغبته بالسيطرة تنبع من هذا الجشع بالذات، وفي الحالة الأميركيّة هي تنبع أساسا من حاجة شركاتها إلى المزيد من الأرباح ولو بواسطة التدمير. إن خاف القويّ من الضعيف أو من قويّ آخر، فذاك كون القويّ لا يريد مشاركة الحياة الكريمة بين الشعوب، وهو لا يريد مشاركة الديموقراطيّة إلّا إذا كانت شكليّة خاضعة له، فهو مستعدٌّ أيضًا لمشاركةِ ودعمِ كلّ أنواع الديكتاتوريّات والفساد، من أميركا اللاتينيّة مرورا بأوروبّا الشرقيّة وحتّى منطقتنا، على أن تكون خاضعة لجشعه بشكل مطلق. للضعيف أن يخاف من القويّ، هذا ليس فقط حقّه وإنّما يفرضه العقل والحسّ السليمين. أمّا نحن المستضعفون في منطقتنا، فلن يغيّر الله ما بنا حتّى نغيّر ما بأنفسنا. العنصريّة المقيتة التي تفوّه بها صحفيّون وساسة بحقّ شعوبنا وغيرنا من الشعوب، خلال الأزمة الأوكرانيّة، تدلّ أنّه لن يحترمنا أحد إن لم نكن مِنَ الذين يستطيعون أن يدافعوا عن أنفسهم، وهذا لا يكون بالجبن، ولا بالحياد المنافق الذي يتدخّل في كلّ شيء إلّا في الدفاع عن شعبه، ولا يكون بالتغنّي بالديموقراطية والحرّية كأنّهما حلمٌ جميلٌ مسروق، وإنّما بقدرتنا على الدفاع عن أنفسنا أوّلًا؛ فالاحتلال لا يترك لا حرّية ولا عدالة ولا ديموقراطيّة. سياسة الذلّ والزحف أمام أميركا وإسرائيل في منطقتنا لن تعطينا أيّ احترام، بل ستُخضِعُ شعبنا لمزيد من الاستغلال والتقييدِ للحرّية، تُضافان إلى ما يعانيه أصلا بشأنهما من حكّامه. لكنّ هناك أمرٌ آخر غير قدرتنا الدفاعيّة أمام الخارج؛ في الداخل، هناك مسؤوليّتنا في احترام أنفسنا، واحترام حرّية بعضنا البعض، واحترام حياة وحقوق بعضنا البعض، فلن يحترم أحدٌ لا حقوقنا، ولا دماءَ أطفالنا، ولا حرّيتنا، ولا كرامتنا، إن لم نحترمها نحن في أفراد شعوبنا. هناك ورشُ تغييرٍ كبيرة نحتاجها، لها أن تتكامل دون أن تنتظر الواحدة اكتمال الأخرى وانتصارها؛ وتبقى القدرة أساسُ بقاء أيّ بلد. ما من درسٍ مشرّف تتلقّاه الشعوب المقهورة من صلفِ وعنصريّةِ وجشعِ قوى القهر الكبرى. تبًّا لها جميعًا، تَسفُك دماءَ الفقراء حول هذا الكوكب الصغير، كلّما اشتهى قاهرٌ مزيدًا من السلطة، والرأسماليّةُ قاهرة ولو كره أن يتذكّر ذلك أولئك الذين يتناسون ضحاياها، فقط لأنّهم ليسوا منها. |
الكاتبخريستو المر الأرشيف
December 2023
Categories |