الثلاثاء ٢٧ نيسان ٢٠٢١
خريستو المرّ لا ضوء إلّا الآخَرَ، ولا حياة إلّا في السهر لأجله. هذا ما يكتشفه الساهرون على المقهورين وأحلامِهم بالحياة، وعلى أنفسهم كي لا يموتوا في الاكتفاء. يسكن المقهورون عتمةَ هامش المدينة، بعيدًا عن الوجوه، عن سماواتها. لربّما لم يرَهم أحدٌ قبل أن يعلّق الناصريّ اسمَه على جباههم، ويرسم وجوهَهم في وجهه. حاضنًا العالم ومتروكًا، وقف يسوع - هو الإله المتجسّد - إنسانًا خاليًا من الأشياء ممتلئًا من إنسانيّته، وقال أنّ الإنسان «اللاشيء»، هو كلّ شيء، والقيمة العليا. وفي ارتفاعه بين أرضٍ خاليةً وبين سماءٍ عارية، خارج المدينة وجرائمها، أدان يسوع كلّ تسلّطٍ وجريمة. وفي وقوفه العاري من بهرجةِ المدينة وألقابِها التي تخدّر جزع الموت، أوضح يسوع أنّ مواجهة خوف الموت بالثقة بواهبها هو الخطوة الأخيرة إلى حفل العرس الأبديّ. وفي إسلامه الروحَ خارج الأسوار التي يحصّن فيها الناسُ أنفسَهم خوفًا من الموت، أسلم يسوع الروح القدس ليحيا به الناس في الحرّية من خوفِ الموت، ويكونوا شهودًا للحقيقة في كلّ جيلٍ، ويدينوا بتقاسُمِ حُبّهم وخُبزهم حضارةَ القَتَلَةِ الذين لا يجوعون. في لحظة التركِ، حين هرب رفاقُه، خاطبَ يسوع المتروكُ قلوبَنا ليقول لها بجسمِه المعلّقِ ألّا تستغرق في نومِ الغفلةِ عن المتروكين، لينبّهها كي لا ترى إنسانًا مُعَلَّقًا فتسكت وتتركه، ليقول لها أنّها في كلّ مرّة تفعل ذلك تُبعِدُ نفسها عنه، هو المتروكُ في المتروكين، فتُسلِمُ نفسها للموت. إنّ الحبَّ الدامي الذي قاله يسوع، رغم مأساويّته، كان عرسَ لقاءٍ بمن أحبّ. فموته توّج مسيرة حياةِ مواجهةٍ ونضالٍ كي يبقى حرًّا في العالمِ ويصبح العالمُ حرًّا فيه، كي يبقى هو حبًّا ويشعّ العالمُ حبًّا به، كي يكون أمينًا لحبّه للآب وللخليقة إلى المنتهى وتلتهب الخليقة فيه. كان حبّه الدامي عُرسًا لأنّه جاءَ تتويج مسيرة حبٍّ لم يتراجعْ، وشهادةُ لقاءٍ لم ينطوِ، وقناديلُ جراحٍ تراءَت فجرًا. في العمق، الصليبُ أظهر معنى القداسةِ: أن تموت لأجل من تحبّ. ولهذا كان النساءُ والرجال المحبّون قدّيسين. ولهذا تعيّد الكنيسة لأحد جميع القدّيسين إذ لا يسعنا أن نُحصيَ وأن نعرف كلّ مَن التمعت فيهم قداسةُ الله. الصحيح أنّه لا قدّوس إلّا الله الذي قداستُه حبٌّ وحياته حبٌّ، لكنّ القدّيسين بحبّهم يلتمعون بالحياة الإلهيّة، بالحبّ الإلهيّ. لهذا يصرخ الذين دعاهم يسوع إلى الانتباه إلى عرس المحبّين في وجوه المتروكين، ذاك العرس الأخير الذي هو نفسه الأوّل: "قدّوس، قدّوس، قدّوس أنت يا الله" ولهذا تهتف قلوبهم "حبّ، حبّ، حبّ، أنت يا ألله"، ولهذا نحن فقراء الحبّ والضوء، ندنو منه برهبةِ الذين يدنون من وجه الشمس. خريستو المرّ
الثلاثاء ٢٠ نيسان/أبريل ٢٠٢١ إلى روح كلّ إنسان مات في سبيل كرامته البشريّة في سوريا ولبنان وكلّ مكان يعيش العالم العربيّ في ظلّ أنظمة استبدادٍ قائمةٍ على عبادة الشخص وفرض عبادته بالقوّة والخوف، أي بإرهاب الدولة لمواطنيها. في ظلّ هذا الوضع، كلمات مثل الجمهوريّة والملكيّة لا معنى لهما، فالأنظمة واحدة في الاستبداد المتحالف دائمًا مع الخارج. يبدأ الاستبداد في محو الآخر، شخص أو مجموعة تقمع الآخرين داخليّا وتبني لها شبكة مصالح مع طبقة اقتصاديّة، مستقويةً بذلك على المجتمع الأوسع. والاستبداد لبّه تأليه الذات، فكلّ الاستبدادات تصبّ في ديانة عبادة الشخص. تنتشر صور الزعيم الأوحد «المفدّى»، وتَزرع المدارسُ ووسائل الإعلام «محبّته» في برامج غسل أدمغة تُسبغ على الزعيم صفات غريبة عنه في الواقع. لكنّ عبادة الشخص هذه قهريّة، على عكس عبادة الله التي ترتكز في صفائها على الحرّية (من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر). ويبلغ سعي المستبدّ إلى سرقة صفات الله أقصاه، بشكل مشوّه، حين تصبح كلمة المستبدّ مصدر موت للمعارضين، بحيث يتوهّم المستبدّ بقدرته على تدمير الحياة أنّ له قدرة مطلقة على شكل قدرة الله، لكنّ قدرة الله تخلق الحياة ولا يفهم ذلك القاتلون. وبينما قدّم «الراعي الصالح» نفسه مصلوبًا من أجل أحبّائه، يصلب المستبدّون مستعبَديهم ويذيقوهم ألون الذلّ والخوف؛ وما «المحبّة» الظاهرة للـ«قائد» المستبدّ سوى الوجه الآخر للخوف، والخوفُ يُبقي الإنسانَ تحت العبوديّة. وفي البلاد التي ينتشر فيها استبدادٌ واحدٌ برؤوس كثيرة، كلبنان، يجتمع المستبدّون على تغميس خُبزَ السلطة والمال بدماء القتلى، وإذا بالمستبدّين جَسَد أمير الموت لا جَسد ملك الحياة ذاك الجسد الذي يصيره المحبّون الذي يُحيُون الموتى من الفقر والعزلة والوحشيّة. وتتجلّى سيادةُ المستبدّين في جرائم متعدّدة في البيئة والاقتصاد وغيرها ولكن جريمتهم الكبرى هي تبرير الجريمة؛ فتُصوَّرُ الفاشيّة التي تفرض انصياعًا كاملًا للفرد أمام الجماعة وتنتقم من الاختلاف بالقتل وتلفظ التنوّع، أمرًا ضروريًّا من أجل ألف قضيّة وطنيّة؛ ويغدو القتل -المستسهلُ دائمًا- «أهون الشرّين» لأجل حياة «القضيّة» و«تطهير» البلاد من «الخونة». وبذلك تضمحلّ فكرة احترام الإنسان، واحترام الاختلاف الإنسانيّ الذي وحده يحفظ السلام الداخليّ في المجتمع ويفتح الباب أمام ابتكار الحلول، أي على كشف الأخطاء وتصحيحها. إيمانيّا اليوم، القضيّة الأخلاقيّة الكبرى هي أن يُبقي الإنسان في قلبه على سلامة الرؤية بحيث ينتفي من ذهنه تبرير الموبقات باسم الشعارات، فيعود إلى شفافيّة لبّ الرؤى الإنسانيّة المشتركة التي تجسّدها شرائع حقوق الناس، وأساسها احترام حقّ الحياة بكرامة. القضيّة الإيمانيّة الكبرى هي رفض عبادات أصنام قادة الموت، من أجل عبادة لله حقّة تتجسّد أكثر ما تتجسّد في حبّ وجه الإنسان الآخر وخدمة الحياة فيه. هذا كلّه مسيرةٌ إلى أمام للخروج من أسر أصنام المستبدّين، وهذه المسيرة هي خوف المستبّدين الكبير، فكمّهم للأفواه وحكمهم البوليسيّ يتصاعد كلّما تصاعد خوفهم من ترك السلطة والمال، من سقوطِ وهمِ تألّههم في عيون الناس. وفي مسيرة الناس نحو لفظ طبائع الاستبداد لا بدّ مِن التمسّك بالحرّية والعدل، فمَنْ خَرَقَ أحد هذين عاد لتوليد الاستبداد ورشّح نفسه صنمًا للعبادة. ولكن كيف يلحق الناسُ بالمستبدّين؟ طبائع الاستبداد لا تقول عن نفسها أنّها كذلك، هي تقول عن نفسها أنّها مصدر الحماية والرعاية والحكمة والأبوّة والنصر والقضايا، ولكنّك تُعرفُ من ثمرتها الأولى: الظلم. والقمع ظلم، والاعتقال ظلم، وإطلاق الرصاص على التظاهرات ظلم، والتهم الجاهزة بالخيانة ظلم، ونهب الناس ظُلم، ولا ترفع الظلم المساعدات العينيّة. إنّ طبائع الظلم هي الوجه الآخر لطبائع الاستبداد. والاستبداد كالعدوى ينشر نفسه في المجتمع ليدخل العائلة والمدرسة والجامعة والثقافة حيث تنتشر الصنميّة ويستقرّ الخضوع للصنم الأعلى، وتُدفَنُ الأفكار والممارسات ليس بقوّة الحوار والحجّة وإنّما بقوّة القمع الفاشيّ. ولهذا كان الحبّ بطبيعته المحترمة للتمايز والتعاطف والحرّية شهادة إيمانيّة كبرى، ولهذا يكره المستبدّون الحبّ أو يسخّفونه ويحاولون تهميشه كعاطفةٍ لا معنى لها أو رغبةٍ عابرة، ولا يرون فيه تجلٍّ لله ذاته كما تقول الخبرات الدينيّة والإنسانيّة في بهائها. ولهذا لا بدّ من إعادة اعتبار الحبّ كقيمة كبرى في وسطنا ليكون منارتنا في مسيرة التحرّر من الاستبداد. كلّ نضال لا يستند إلى المحبّة الإنسانيّة يتوه، كما دلّنا نحرُ الشعوب والقضايا الـمُحقّة على مذابح الأصنام. خريستو المرّ
الثلاثاء ١٣ نيسان ٢٠٢١ الحياة معنى. لا يمكن أن نحتمل الحياة دون معنى، والمعنى الأكثر مركزيّة في حياتنا هو التواصل المُحِبّ مع آخرين، لا يمكن احتمال الحياة دون محبّة. أن نُحِبّ وأن نُحّبّ هذا هو المعنى، وفي قناعتي «أن نحبّ أو لا نحبّ هذا هو الجواب» عن سؤال شكسبير الشهير «أن نكون أو لا نكون». لكنّ المحبّة ليست شعورا ورديًّا نحمله في لحظة ما، بحيث أنّها تنتفي إن ذهب ذاك الشعور، فرغم كون المحبّة تتضمّن الشعور إلاّ أنّها خبرةً أعمق من الشعور، فالشعور ليس ثابتًا بل قد يتبدّل ويتأثّر بأمور كثيرة منها أمور بسيطة مثل أحوال الطقس، بينما المحبّة تثبت لسنوات، وتمتدّ على مدى عمر كامل. المحبّة موقف من الآخر ومن الأشياء والعالم، طريقةٌ حياة نتمرّن عليها طوال العمر، ولا نبلغ أقصاها أبدًا، لأنّ المحبّة مفتوحة دائما على محبّة أعمق وهذا عند المؤمنين إشارة إلى كون الله نبع المحبّة ومصبّها، أو كون الله محبّة كما عبّر الإنجيليّ يوحنّا. المحبّة طريقة حياة، أي بمعنى آخر هي فنّ، والفنّ يحتاج إلى التمرين والصبر، من يكتب الشعر أو يرسم أو ينحت أو يصنع أمرا يدويًّا كالنجّار والحدّاد يحتاج أن يتمرّن لسنوات ليصقل موهبته ويصبح «معلّمًا». كما كلّ فنّ، فنّ المحبّة يحتاج إلى التمرين والصبر، ولكن كونه علاقة فهو يحتاج إلى التركيز على الآخر وأيضا على العالم، فنجاح العلاقة يكون بتجاوز النرجسيّة بحيث يصبح الآخر هدفا بحد ذاته وليس وسيلة (كما عبّر الفيلسوف كانط). ولكنّ الأنا والآخر لا يمكنهما أن يبقيا في تركيزٍ على بعضيهما البعض دون أن يختنقا، دون أن تتحوّل علاقتهما إلى نرجسيّةٍ مزدوجة يتأمّل فيها الاثنين وحدتهما كما يتأمّل الإنسان ذاته في مرآة؛ ولهذا فالانفتاح على الآخرين والالتزام بالمجتمع وشؤونه وشجونه أساسٌ لكي تنتعش محبّتهما لبعض، فكما الآخر هو تنفّس الأنا، فالآخرون هم تنفّس الأنا والأنت. من هذه الزاوية أريد أن أطلّ على الصوم. العلاقة مع الله في عمقها لا شأن لها بالفروض والواجبات، هي علاقة محبّة، ولهذا هي تحتاج إلى الممارسة والصبر لكي تنمو وتشفّ وتصبح أكثر بلّوريّة، وتحتاج إلى اعتبار الله مهمّا بحدّ ذاته، وإلى التوجّه في العلاقة مع الله للاهتمام بالآخرين أي بشؤون وشجون الناس والمجتمع. هكذا يصبح الصوم أحد التمارين التي يتّبعها الإنسان لكي يكثّف الممارسة، لكي يكثّف تركيزه في علاقته بالله على كون الله آخرٌ، فيهتمّ به كآخر متمايز لا كآخر مصدر لتلبية حاجاتي ورغباتي (رغم أنّه يلبّيها دون طلب). الصوم تنقية للمحبّة من شوائب نرجسيّتي. لكنّ الصوم لا يكتمل في هذا التركيز على الأنت-الإله، في هذا الثنائيّ «أنا والله»، ولا ذاك الثنائيّ «نحن والله» (و«نحن» تعني دائما «جماعتنا») بل في تجاوز تجربة الانغلاق على النرجسيّة الذاتيّة والنرجسيّة الجماعيّة وذلك بالانفتاح على الآخرين كآخرين بغضّ النظر عن كونهم من «جماعتنا» أو لا. يكتمل تكثيف العناية بمحبّتنا لله أثناء الصوم بالتزام شؤون وشجون الآخرين. أثناء الصوم، يتنقّى التركيز على محبّة الله من شوائب النرجسيّة الذاتيّة والجماعيّة بتكثيف المشاركة، خاصّة مشاركة ذاك الذي نعتبره «غريبًا». إنّ محبّة الله طريقة حياة تحتاج لممارسةٍ ولصبرٍ يتكثّفان في الصوم، وكما تتنقّى محبّتنا لإنسان آخر بالمشاركة مع الآخرين طوال الحياة، كذلك تتنقّى محبّتنا لله طوال حياتنا، وتتنقّى أثناء الصوم بتكثيف المشاركة وما يعنيه ذلك من عطاء مادّي، واهتمامٍ بتغيير البنى والسياسات الجائرة كي تصبح بُنى تعبّر عن المحبّة بين الناس وتعضد تلك المحبّة. المحبّة فنّ، ولكي نتّقن فنًّا ما هناك نقطة انطلاق أساس يجب أن تتوفّر ومنها تنبع التمارين كلّها ألا وهي الرغبة التي تجعل هذا الفنّ بالنسبة لنا أمرًا غاية في الأهمّية. فهل المحبّة هي غاية في الأهمّية بالنسبة لنا؟ هذا هو السؤال الذي ينبغي أن يحفّزنا أثناء الصوم وقد هلّ رمضان. |
الكاتبخريستو المر الأرشيف
December 2023
Categories |