موقع خريستو المرّ
Arabic | English
  • كتب
  • محاضرات
  • مقالات في «الأخبار»
  • المقالة الأسبوعيّة
  • الإيمان والحياة اليوميّة
  • فلسطين
  • التزام شؤون الإنسان
  • الإيمان والثقافة
  • كلمات
  • خريستو المرّ
  • مواقع صديقة

المقالة الأسبوعيّة

ماذا تقول الأجساد المكسورة للكنائس

10/29/2019

 

ماذا تقول الأجساد المكسورة للكنائس
٢٩ تشرين أوّل/أكتوبر ٢٠١٩​

في السنوات القريبة الماضية، طفت إلى السطح قضايا متعدّدة.
أولها قضيّة تحرّش جنسي في الكنيسة الأرثوذكسيّة (والمارونيّة). ما النتيجة؟ الصمت والتجاهل. غياب روح الشهادة للحقّ. غياب روح القيادة والرعاية. خفّة وقلّة دراية وعلم. بعدٌ عن أيّة مقاربة علميّة معاصرة. لا لجنة للتفكير بمواجهة الاعتداءات والتحرّشات الجنسيّة في مؤسّسات الكنيسة. لا عمل على وضع سياسات لتلافي التحرّش أو الاعتداء. لا خطّ ساخن للشكاوى. لا مكان للعناية بالمشتكين. لا لجان خاصّة متخصّصة للتحقيق ولمحاكمة المعتدين. لا شيء حول هذا الواقع الحيّ. إنّ الحياة والتحدّيات الحقيقيّة لشابات وشباب ونساء ورجال الكنيسة في مكان والكنيسة الرسميّة في مكان آخر.
 
الاتّهام الأكبر لغياب الكنيسة عن الناس جاء على يد جورج زريق، شهيد التهميش، الذي أحرق نفسه رمزيّا العام الماضي أمام مدرسة أرثوذكسيّة مشعلاً احتجاجه الأخير. لم ينبسّ أحد بشفة إلاّ للدفاع عن "الكنيسة" و"المدرسة"، لا الكنيسة الرسميّة قالت شيئا، ولا أعلنت عن قيامها بتحقيق، ولا نعرف إن قامت بتحقيق داخليّ وإلى ماذا وصل؛ ولا حركات الشباب أعلنت عن موقف ولا طالبت بتحقيق داخليّ. لم يكن من كنيسة ذلك اليوم الحزين إلاّ جسد جورج زريق المتّحد بجسد يسوع على صليب هذا العالم الذي يطعن الأبرياء.
 
مؤخّرًا، خطت الكنيسة الأرثوذكسيّة خطوة في سبيل مقاربة تحدٍّ معاصر: وضع العائلة. ماذا فعلت؟ عقدت مؤخّرا جلسة خلال انعقاد المجمع حضر فيها للنقاش ٦٤ رجلا وامرأتين فقط! هذا التصرّف يشكّل فضيحة كاملة تُظهر أنّ الكنيسة الأرثوذكسيّة الرسميّة تعيش في عصر آخر، وتغيب فيها الرؤية الواقعيّة للأحداث.
 
جاءت الحرب السوريّة لم تشهد الكنائس بكلمة واضحة ضدّ الطغيان، جاءت ثورة ١٧ تشرين أول ٢٠١٩ في لبنان فسمعنا عن صلوات من أجل الحكّام ولم نسمع بصلاة من أجل الشعب المهمّش، أو من أجل نجاح مطالبهم، أو ليعضدهم الله كي ينتصروا للحقّ والعدالة الاجتماعيّة والتوزيع العادل للثروة.
 
من ناحية الخدمات الاجتماعيّة، تعترف الكنائس بأنّها مقصّرة، والواقع أنّ كلّ كنيسة لا بدّ لها أن تكون مقصّرة في تقديم الخدمات الاجتماعيّة لأنّه لا يمكن لمؤسّسة أن تحلّ محلّ دولة. أليس من واجب الكنائس، والحالة هذه، أن تقوم بنقد جذريّ للنظام لأنّه يولّد هذا الظلم، وأن تحثّ نساءها ورجالها على العمل الجدّي لتغيير النظام الجائر، وأن توظّف جامعاتها ومعاهدها وباحثاتها وباحثيها لدراسة أفضل الطرق لتغييره؟ لو فعلت ألم تكن لتساهم في تحويل العالم إلى "كنيسة"، إلى مكان مشاركة وحياة؟ ألم تخن الكنيسة واجباتها بصمتها أمام الاستغلال والظلم، وباشتراكها في حفل عربدة تقاسم المغانم؟
 
هذه الرغبة بتقاسم المغانم، أطلّت واضحة عام ٢٠١٢ عندما همّ البطريرك الراحل هزيم مع ثلّة من رجال العلم والسياسة بوضع مشروع لإنشاء «الهيئة المدنيّة العامّة للروم الأرثوذكس في لبنان». للدفاع عن حصّة الأرثوذكس في مناصب الدولة المتهالكة، وبالطبع مصادرة صوت الأرثوذكس عنوةً. فشل المشروع بسبب تصدّي المؤمنات والمؤمنين بقيادة حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة للمشروع. لكن هل تغيّرت الذهنيّة؟ أبدًا. ففي البيان الصادر عن البطريركيّة الأرثوذكسيّة في ١٠ تشرين أوّل ٢٠١٩ (أي قبل ٧ أيّام من الثورة الحاليّة) طالب المطارنة بـ"احترام التام للتوزيع الطائفي وعدم تفضيل طائفة على أخرى"؛ أي بقي المجمع الأرثوذكسيّ يلعب ضمن اللعبة الطائفيّة القاتلة، مغذّين إياها. مشتركين بحفل العربدة نفسه، ضاربين بعرض الحائط مهمّتَهُم بأن يشهدوا للمسيح في قلب البُنى الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة، على الأقل برفع الصوت إدانة لها ودعوة إلى حلول جذريّة. لم يغرّد عندها أيّ مطران خارج سربه وقتها؛ ولهذا لا يسع المرء إلاّ أن يتساءل عن مدى عمق انقلابٍ حصل عند البعض بعد أسبوع واحد دفع بهم من المطالبة بحصّة طائفيّة في البلاد إلى الحماس للثورة، خاصّة أنّهم معروفون بقربهم من السياسيّين على مدى عهود، وباشتراكهم الفاعل في نظام المحاصصة الطائفيّة، بضلوعهم في التعيينات الوزاريّة ومفاصل الدولة.
 
وبعد الثورة كان موقف واضعي بيان بكركي المشترك بين الكنائس، خدعة لقتل الثورة (أنظر مقالتنا "بيان بكركي: محاولة فاضحة لخنق صوت الشعب" في جريدة الأخبار)، خدعة لم تتراجع عنها إلاّ البطريركيّة المارونيّة مضطرّة بعدما رمى البابا بثقله إلى جانب صراخ الشعب.
 
لا يمكننا ألاّ أن نلاحظ بأنّ الكنيسة الأرثوذكسيّة الرسميّة بوجه آبائها الأجلاّء كانت ولم تزل شريكة في بطش الأنظمة القائمة، بالسكوت عنها، ومسايرتها، والإفادة منها، مقابل السكوت عن الظلم الـمُنَظَّم. إنّ المسؤولين الرسميّين للكنيسة إمّا صمتوا، أو عملوا ويعملون بالتكافل والتعاضد مع "أباطرة" هذا الزمن، الذي سحقوا الشعب، دون أن يرفّ لهم جفنًا، وباتت أوجاع الناس عندهم مجالَ شعورٍ عاطفيٍّ سطحيّ وكلام منمّق، لا يتحوّل إلى عملّ فعليّ من أجل رفع هذه الأوجاع عن طريق معالجة جذورها البنيويّة، واكتفوا بالمسكّنات عن طريق خدمات نعرف ويعرفون مسبقا أنّها لن تكفي أبدًا. هذا في الوقت الذي يشكّل بذخ بعض المطارنة بصقة في وجه رعايا يأكلها الفقر.  وأمّا من ناحية مخاطبة الناس ومقاربة مشاكلهم بلغة العصر، فالكنيسة الأرثوذكسيّة الرسميّة ما تزال في شبه غيبوبة وتتعامل مع الواقع باجترار أسلوب حياة مضى ولم يعد صالحا لمخاطبة المسيحيّات والمسيحيّين اليوم.
 
إنّ الأجساد والنفوس المكسورة تصرخ وتحتجّ أمام وجوهنا ووجه الله، لا بدّ لثورة روحيّة وفكريّة ونقديّة أن تبلغ داخل الكنيسة لتنفض عنها غبار الإهمال، فالمسيح نفسه ثورة على إهمال الإنسان لأخيه الإنسان، ودعوة لكلّ إنسان كي يقول "أنا حارس لأختي ولأخي"، على عكس قول قايين.
 
خريستو المرّ

روح الثورة

10/20/2019

 

روح الثورة
الأحد ٢٠ تشرين أوّل/أكتوبر ٢٠١٩​

Picture
أن نثور هو أن نفضّل أن نموت قتلا من أن نموت جُبنًا.

أن نثور هو أن نقول لا لاغتيالنا، وأن نطيح بنعاسٍ يقول أنّ الشمس تشرق من كفّ جلاّدنا وأنّ الهواء محبوس في خزائنه.

أن نثور هو أن نؤمن بالفعل بما لم يأتِ بعد، وأن نؤمن بأنّه علينا أن نقف بشاهق كرامتنا الإنسانيّة ونقول ما نرفض وما نريد، دون أن يهمّنا إن وصلنا اليوم أو غدا أو بعد غد، لأنّ أن نثور هو أن نكون قد وصلنا إلى أنفسنا ولاقيناها بعدما تغرّبنا عنها طويلاً طويلاً.

أن نثور هو أن نحيا أخيرًا، أن نغلب الخوف والاستكانة. ذاك السجن الرهيب الذي يريدنا فيه الظالم أحياء-ميتين.

أن نثور هو أن نكونَ، بعدما بتنا في نظرنا أشباحًا تركض الحياة أمامها وحولها دون أن نعيشها، وهو أن نعيد اكتشاف الشمس التي نسيناها خلف عيوننا.

أن نثور هو أن نطأ الموتَ بعزّة الكرامة الإنسانيّة الواقفة أمام الظلم رغم الخوف، وان نحيا من قشعريرة الحياة خلف جلدنا: ذاك النسغ الإلهيّ الذي يغنّي في داخلنا ولا يتركنا حتّى نصير أنفسنا: أحياء وأحرار، وعندها لا هو يتركنا ولا نحن نتركه.

وأحيانا، أن نثور هو أن نكون كيسوع. أن نقبل أن نطأ الموت بموتنا، لتتفجّر الحياة الأكبر فينا وفي مَن حولنا. ولتهتف قلوبنا المضرّجة: حرّية، حرّية، لنا وللجميع.

وعندما نثور نعرف أنّ الظالم هو الخائف الأكبر، لأنّه يعرف نفسه ضعيفا ويخاف أن تعي أنّه خائف. يتكابر الظالم ويكذب ويراوغ وينافق ويكيد ويبطش ويعذر نفسه بأنّه يعمل كلّ ذلك لأجلنا، ويدّعي أنّه يعرف مصلحتنا أكثر منّا، وأنّه يحمي البلد من المؤامرات. ولكن عندما نثور، ينكشف أمره فتراه خوفًا عاريًا ومجرمًا. عندها يرفس الوحش رفساته الأخيرة ويتهاوى مخرّباً للمرّة الأخيرة، ولكنّه يفنى، فيتبيّن لك أنّه لا شيء، لا حياة، لا حبّ، لا حرّية، وأنّه في النهاية وفي عمق العمق، عبدٌ لكلّ ما يشتهيه.

وفي سقوطه يرى الظالم كم أنّه كان بلا نواة، يرى أنّ حياته بصلةً بلا نواة: طبقات خلف طبقات خلف طبقات من الكذب والنفاق، وهروب خلف هروب خلف هروب من وجوه الناس، ومن وجهه هو بالذات. وحين تسقط تلك الطبقات عندما نثور يلاقي رعبه الكامل: هو أمام خوائه الداخليّ.

روح الثورة هو أن نعمل كلّ يوم مع رفيقاتنا ورفاقنا، من أجل عيون ليس لها إلاّ نحن، هو أن نخطّط للآتي لنكون جاهزين حين يأتي، وألاّ يهمّنا متى يأتي. هو أن تقول نحن نعمل لأنّ هذا هو الحقّ والحقّ يحرّر، يحرّر الآن، ويحرّر يوم التحرير الكامل.

وأن نثور هو أن نرفع عن الأشياء ظلال الظالم، فنكونَ الشمسَ ونستردَّ الشوارع لنا، والساحات لنا، والرصيف لنا، والصوت لنا، والشاشات لنا، والراديوهات لنا، والكلام لنا، ونستلّ كلمتنا لنقولها صرخة، وندفع الصمتَ القابع على أحصنة صرخاتنا، لنصعد نحن وتقتحم العتم الذي طال، فيشرق الضوء عن يميننا وعن يسارنا وينتهي الليل.

أن نثور هو أن نتحرّر مِنْ، ثمّ لا نكتفي، فنصوّب ثورتنا لنتحرّر نحوَ، نحو الرؤية التي بدت لنا في الساحات، عندما رأينا أنّ الواحد في الكثيرين، وأنّ الكثيرين في الواحد، وأنّ الجميع يقتسمون الحبّ المتجسّد خبزًا ومِلحًا وأغنيات ودبكة وحلويات وشموعًا... ووردةَ آمالٍ تدعى ثورةًـ نزفتْ من حجر اليأس، ليولد وطنٌ حقٌّ لأنّنا نثور.

خريستو المرّ

أن تحبّ محبوبك

10/15/2019

 

أن تحبّ محبوبك
الثلاثاء ١٥ تشرين أوّل/أكتوبر ٢٠١٩​

​أن تحبّ محبوبك هو أن تقفز من رغبتك الصغرى بعناقه إلى رغبتك الكبرى بالسفر فيكما إليكما
أن تحبّ محبوبك هو أن يشتدّ حضوره باشتداد الغياب
أن تحبّ محبوبك هو أن تلمح غيابه في كلام حضوره بالذات
أن تحبّ محبوبك هو تغييرٌ يمحو الفرق بين الحضور والغياب
أن تحبّ محبوبك هو ان تصغي لما يخبّئه الصمت في عناقيد كلامه
أن تحبّ محبوبك هو أن تعرف متى تصمت كي تتواصل
أن تحبّ محبوبك هو أمر استثنائيّ لدرجةِ توهُّجِ الجمال في العاديّ اليوميّ
أن تحبّ محبوبك هو ان تهتمّ حتّى المسؤوليّة وتنسحب حتّى الحرّية
أن تحبّ محبوبك هو أن توسّع معرفتك له ليكون الحميم الحميم
أن تحبّ محبوبك هو أن تعانق جهلك له ليتمكّن أن يكون جديدا في عينيك... وعينيه
أن تحبّ محبوبك هو أن تقفز فوق خوفك من التركِ الأكثر ارتجافًا من ولدٍ أمام الهاوية، بإيمانك بشيء يرفّ بينكما
أن تحبّ محبوبك هو أن تهرب به في العاصفة إلى مغارة الله في جرح الخاصرة
أن تحبّ محبوبك هو أن تدلّه إلى جذوره فوق الغيم ولو أنّه لا يراها
أن تحبّ محبوبك هو أن ترى في ألمه منك ظلّ الجحيم فيك، حتّى تسلخ الظلام عنك
أن تحبّ محبوبك هو أن ترى في صرخته نداء جوع جريح يلجأ للّغة الأولى
أن تحبّ محبوبك هو أن تريد للحياة أن تتفتّح فيه ولادةً إثر دمعة، إثر ضياع، إثر سؤال، إثر كآبة، إثر جرح
أن تحبّ محبوبك هو أن تفتّش عن الضوء لتشرباه خمرة جديدة
أن تحبّ محبوبك هو أن تفرح أنّه ينمو من نفسه إلى حبّه الأوسع
أن تحبّ محبوبك هو أن تطويا الشراع أحيانًا لتتأمّلا حولكما مفاتن الرحلة السابعة
أن تحبّ محبوبك هو أن تؤمن بالصباح حين يغيب، وأن تشكّ به حين يأتي، وأن تحبّه في الشكّ والإيمان، وأن ترى وجه محبوبك في كليهما
أن تحبّ محبوبك هو أن تناديك فيه، وتناديه فيك، وتتّفقان أنّكما لستما واحدًا ولذلك واحدٌ
أن تحبّ محبوبك هو أن تعرف أنّ كلّ الكلام يجد معناه في الصمت الكامل الذي يحيط بكما
أن تحبّ محبوبك هو أن تكون الشاهد الوحيد لحكاية الحقيقة فيه
أن تحبّ محبوبك هو أن تقول لوجهه أنت الكلّ
أن تحبّ محبوبك هو أن تقول للحشد الذي فيك توحّد تحت عينيه
أن تحبّ محبوبك هو أن تأمَنَ حبال الضوء في عينيه، لتتسلّق عتمتك بئرًا إثر بئر، فتتجلّى
أن تحبّ محبوبك هو أن تريد أن تُجبلا بأغنية قديمةٍ كانت ترفّ على المياه، لكي تصيرا أنتما الأحلى
أن تحبّ محبوبك هو أن تحبّ حتّى لا تريد شيئًا إلاّ الشيء الذي يمدّ الحبّ إلى أبعد وأعلى
أن تحبّ محبوبك هو أن تطمئنّ يومًا في مشوار مسائيّ أنّك قد رأيت، ثمّ تطمئنّ أنّك لم تر
أن تحبّ محبوبك هو أن يمتدّ الطريق، ويتوهّج الوجه برؤيةٍ لا تُرى
أن تحبّ محبوبك هو أن ترى قلبك حمامًا، يوم تولد ويوم تموت ويوم تبعث حبًّا حيًّا...في محبوبك
أن تحبّ محبوبك هو أن تحبّ الله عرفت أم لم تعرف
 
خريستو المرّ

محبّة الذات

10/8/2019

 

محبّة الذات
الثلاثاء ٨ تشرين أوّل/أكتوبر ٢٠١٩​

هناك جوّ سيّء وتكرار مملّ في بعض من التربية المسيحيّة يوحي بأنّ الأنا هي أمرٌ سيّء ومثير للحذر ويستدعي ليس فقط الحيطة وإنّما أيضا الشكّ المستمرّ بها. بالطبع الكبرياء هي المشجب الذي تعلّق عليه كلّ تلك التربية تبريرها لنفسها: علينا تجنّب الكبرياء. في ما يلي أريد أن أبيّن أنّه على العكس: الأنا هي حليف في تجاوز الكبرياء، وهذه الجملة هي بالطبع مليئة بالفوضى لأنّ الحقيقة البسيطة هو أنّه بدون الـ"أنا" الإنسان ليس موجودا لا ليقع في الكبرياء ولا ليحبّ ولا لأيّ أمر آخر.
يمكننا البدء بكلمة ليسوع "أحبب قريبك حبّك لنفسك". عادة ما نشدّد على عبارة "أحبب قريبك" وننسى الجزء الآخر "حبّك لنفسك". يسوع هنا، لم ينفِ، ولم يطلبْ من أحدٍ أن ينفي، محبّة الذات والاهتمام بها، وإنّما يبدو أنّه أراد أن نبني على هذه الخبرة الأساس الغريزيّة فينا، لكي نطلّ منها إلى وجود الآخر، إلى أنّ الآخر أيضًا عنده نفس المحبّة لذاته، وأنّنا بالتالي يمكننا ان نفهم الآخر من الداخل إذا أحببناه كما نحبّ أنفسنا، يسوع يدعوني أن أشعر بعمق بأنّ قيمة الآخر لي هي بنفس قيمتي. عندها، لا نصبح ذاتين متقابلتين، منغلقتين عن خبرة الآخر وحاجاته، في عدائيّة تتصارعان على الأخذ، وإنّما نصبح في وُجود مشارِكٍ، متساوٍ في القيمة الإنسانيّة.
كلمة يسوع دعوة كي لا يعود أنا الآخر أمرًا خارجيًّا، وإنّما يصبح ذاتًا تُخَبَر داخليّاً، داخل خبرتي الشخصيّة للوجود، فيصبح الآخر لي مهمّا بحدّ ذاته كما أنا مهمّ بحدّ ذاتي بالنسبة لي. هكذا، نظرة تفتح السبيل إلى التعامل بإيجابيّة مع الأنا، فليس المهمّ إلغاء الأنا - وهو ما ليس ممكن أصلاً – وإنّما المهمّ هو أن تكون الأنا في النحن، والنحن في الأنا، بحيث تكون الأنا في مشاركة. هكذا نظرة تسمح منذ الطفولة بمحبّة الذات، محبّة حقيقيّة لا تمتّ بصلة للأنانيّة، فالأنانيّة تحكم على الذات بالانقباض والعزلة، ونتيجتها ألم العزلة والعيش في الأوهام؛ أمّا محبّة الذات فهي محبّة مشارِكَة تسمح بأن نقفز منها إلى الوصال العميق مع آخرين في حقيقتهم، وفي الآن عينه تسمح للذات بالتواصل مع أعماقها مع ينابيعها.

من لا يحبّ نفسه فعلاً لا يمكنه أن يحبّ غيره فعلاً، فمحبّة الذات تعني العناية بها والتحسّس لآلامها والانتباه إلى مسبّبات تلك الآلام وتجنّب ما أمكن منها؛ من عاش هذا بينه وبين نفسه استطاع أن يتعاطف مع أنا غيره ووجوده الخاص، وأنّ يخرج إليه للّقاء به. هذا لا يعني وضع العقل جانبا، بالطبع هناك في هذه الحياة أناس مؤذين جدّا، يقال لهم «مُسِمِّين» بالإنكليزية، ومن الضروريّ تجنّبهم من أجل المحافظة على الصحّة النفسيّة والجسديّة. من هنا لم يدعو يسوع للبله، فقد أردف قوله "كونوا ودعاء كالحمام" بقوله "وحكماء كالحيّات"؛ من هنا للعقل أهميّة كبرى في اختبار المحبّة لأنّ به (وبنعمة الروح) يتمّ التمييز بين الأوضاع.  

الأنا مدعوّة منذ الطفولة أن تتهذّب في مجتمع عائليّ أولاّ ثمّ أوسع، بحيث تأخذ بعين الاعتبار الآخر وحاجاته، وحقيقة وجوده؛ بحيث تنطلق من قاعدة الرغبة بالحياة، المرسومة في كيانها، للتعرّف على أنّ الحياة تكمن باختبار المشاركة مع الآخرين. هكذا رؤية تسمح لنا أن نحبّ أنفسنا حقّا، محبّة تتطلّب جهدَ حياةٍ بأكملها، لأنّها تعرف أنّ محبّة الذات قاعدة نقفز منها بثقة إلى مغامرة المشاركة. دون محبّة عائليّة أصيلة تعتني بالأنا ورغبتها بالحياة، يكون من البطولة أن يصل إنسان إلى عيش أصيل للمحبّة، ولكنّنا نعرف بالخبرة اليوميّة أنّ هذا ممكن. فصورة الله في الإنسان وإن تكبّلت بفعل الظروف فهي لا تتحطّم، بل تصرّ على الحياة الحقّة بالمشاركة.
​
كلّ تبخيس للأنا وتشكيك دائم بها، مرشّح أن ينتج أناسا خائفين لا يشعرون بالأمان، غير واثقين، يخشون قفزة المحبّة، بل ويخشون قفزة الإيمان، فما من محبّة وحبّ يبدآن دون إيمان: على الأقلّ إيمان بأنّ المحبّة ممكنة، أي بانّنا قادرين أن نحبّ أو بأنّ أحدًا أحبّنا أولاً. إنّه لمن الأفضل والأكثر فرحا أن يكون عنوان التربية، وعنوان نظرة الإنسان إلى نفسه وحياته (وهنا لبّ الموضوع)، أن يسعى الإنسان إلى تحقيق أمرٍ جميلٍ كمحبّة الأنا والآخر، عوض أن يسعى إلى تجنّب أمر سيّء كالكبرياء. قضيّة الرؤية ليست هامشيّة.
 
خريستو المرّ

الوحشيّة

10/1/2019

 

الوحشيّة 
 الثلاثاء ١ تشرين اوّل/أكتوبر ٢٠١٩​

Picture
عام ١٩٢٠ فرضت الحكومة الكنديّة المؤلّفة من مسيحيّين ورعين، أن يذهب كلّ طفل بين السابعة والسادسة عشر من السكّان الأصليّين إلى مدارس داخليّة خاصّة بهم وُضِعَت تحت إدارة الدولة والكنيسة الكاثوليكيّة. أرسلت الدولة قسرا إلى تلك المدارس ١٥٠ ألفا من الأطفال منذ ذلك الحين وحتّى ... منتصف التسعينات!!! المعروف أنّ ٢٨٠٠ طفلا منهم "ماتوا"، والرقم تقريبي لأنّ الحكومة أوقفت تسجيل عدد القتلى بسبب ارتفاع نسبتها. آلاف الأطفال أُخِذوا قسرا من والديهم ذهبوا للمدرسة ولم يعوداـ أمّا الذين نجوا من هذه المحرقة فقد خضعوا لمعاملة وحشيّة (ضرب، تعذيب، تبخيس، تحرّش، اغتصاب). إنّها الوحشيّة التي تلبس ثياب التمدّن الناعمة، وقلنسوة العفّة والفقر، إنّها التي تفقه لغة الموسيقى والسياسة والاقتصاد وحتّى الفلسفة. إنّها الوحشيّة، أي الإنسان الذي نسي قلبه وأرسى هوّة بينه وبين وجهه؛ الوحشيّة التي تربض في قلوبنا جميعا ونَلْحَظُها عندما يستفزّنا لون جلد الخادمة الأجنبيّة إن جلست معنا على الطاولة أو سوّلتها نفسها أن تنزل بركة السباحة، أو مجموعة من الأهالي من أصول هنديّة، أو عمّال سوريّون ساكتون، أو لكنة إنسان من فلسطين، أو مسلمٌ لأنّه مسلم، ومسيحيّ لأنّه مسيحيّ، ويهوديّ لأنّه يهوديّ، وهندوسي لأنّه هندوسيّ، وملحد لأنّه ملحد، أو امرأة في موقع سلطة لأنّها امرأة، أو مثليّ ومثليّة لأنّهما مثليّان... أو أيّ آخر لأنّه مجرّد آخر.
​
الحكومات الكنديّة بحكمتها أرادت أن "تدمج" السكّان الأصليّين بالـ"مجتمع"، ترجمة ذلك أنّها. سعت كي ينسى الإنسان الأصليّ لغته وثقافته وديانته وطريقة لباسه وأغانيه، لكي يكون "لا هو" و"لا هي" وإنّما ما تريد لهما الحكومة البيضاء جدًّا أن تكونا (فليحذر كلّ من يسمع بكلمة "دمج" في أوروبا وفي بلاد العالم أجمع). من بقي حيّا من تلك المدارس، أي الذين ذهبوا وعادوا، عادوا مكسورين، ضاعوا، واليوم يتساءل المهاجرون الجدد الذين "ابيضّوا" منذ سنوات قليلة وصاروا ليسوا، لم لدى السكّان الأصليّين كلّ المشاكل الحاليّة (حالات انتحار واسعة، إدمان)؟ لا يتساءل "البيض الجدد" لم لا تهتمّ الحكومات المتعاقبة الحاليّة بتأمين مدارس لمناطق السكّان الأصليّين؟ لم لا تهتمّ بنظيف مياههم من الزئبق لعشرات السنوات؟ لم يعاملون في المستشفيات بقلّة احترام وعدم اهتمام؟ لم عقّمت مستشفى سيّدة من السكان الأصليّين دون إرادتها عام ٢٠١٩!؟ لِمَ لَمْ يترك المؤمنين اللهَ يعبر من الكتاب إلى القلب؟ ولِمَ غدا الصليب شيئًا مُعلّقًا فوق الصدر عوض أن يُبرِزَ المسيح في وجه الموجوع؟ هذه أسئلة هامشيّة لا بدّ، فالمهمّ أنّنا نحبّ الله، وأنّه "ليس إله عظيم مثل إلهنا"، والله معنا"، والحمد لله (ليس عندي أدنى شكّ بأنّ مسلمين أيضا يفكّرون بنفس الطريقة هذه، ويهود أيضًا، إلخ. إلخ. إلخ.). حتّى هذا البابا الفذّ يمتنع عن الاعتذار من السكّان الأصليّين عن دور الكنيسة التي أدارت مسرح الوحشيّة، وغطّتها، واشتركت فيها بشخص بعض إكليروسها. أمّا الحكومة، فهي سريعة في الاعتذار، بطيئة في الأفعال.

لا يستقيم هنا القول بأنّه يجب علينا ألاّ نحكم على أفعال الماضي بعقليّة اليوم، فيسوع أتى منذ ٢٠٠٠ عام وقال قولا بسيطا جدّا: أحبّوا بعضكم بعضا، واعضدوا الضعفاء والمهمّشين. لم يكن العبيد الذين آمنوا في بداية المسيحيّة أناسا مثقّفين، ولا جهابذة عدالة وفلسفة وعلوم، كانوا مجرّد أناس فهموا أنّ الله أحبّهم لدرجة أنّه أصبح واحدا منهم ليصيروا مثله ومعه، وأنّه هو الحياة الحقّة ولذلك اقتسموا طعامهم مع غيرهم، لم يحاولوا أن يموتوا بل هربوا من الاضطهاد، ولكنّهم قبلوا الموت دون أن يتراجعوا عن حبّهم، ولذلك أيضا كان الرهبان في مصر يعملون ويوزّعون نتاج تعبهم على الفقراء، ولهذا بنى باسيليوس مستشفى، وغير ذلك الكثير.

ولكن ماذا ينفع كلّ هذا، لا شيء، هذا فقط تاريخ. لا ينفع شيئا في حياتي أنا إلاّ إذا أنا عشت بلحمي ودمي هذا التاريخ المسيحيّ المضيء، وتعلّمت أن أكون منتبها كي لا تستغرق نفسي في النوم، فأكرّر التاريخ "المسيحيّ" المظلم. الحرب الأهليّة بظلامها المسيحيّ (والاسلاميّ) ما تزال ماثلة، وما تزال تهليلات المسيحيّين (والمسلمين) للجرائم في سوريّا ماثلة.

لسنوات طويلة مضت، كنتُ أتساءل ألَمْ نتعلّم بعد ٢٠٠٠ عام ما هي رسالة يسوع وكيف ينبغي أن نكون؟ منذ سنوات لم أعد أتساءل: ليس المهمّ أن يعرف الإنسان تعليم يسوع بالفكر، الصعوبة هي في عيش هذا التعليم، وليس من سبيل إلاّ أن يمرّ كلّ إنسان شخصيّا بالصراع بين تعليم يسوع وحضوره في القلب والجماعة والدنيا بأنّ الحياة والوجود تكمن فيه هو الذي يفجّر بروحه ينابيعَ الحبّ والفرح فينا، وبين أوهامه عن ماهيّة الحياة الحقّة. إنّ المأساة ليست فقط الإنسان هي أيضًا مأساة الله التي عبّر عنها بقولٍ ورد عن لسانه في الكتاب "ظهَرتُ لمَنْ لا يسألونَ عَنِّي، ووُجِدتُ لمـَنْ لا يطلُبونَني، وقُلتُ ها أنا، ها أنا هُنا، لأُمَّةٍ لا تدعو با‏سمي. مدَدْتُ يدي نهاراً وليلاً نحوَ شعبٍ مُتمرِّدٍ عليَّ يسيرونَ وراءَ أهوائِهِم في طريقٍ لا خيرَ فيهِ ويُعاكِسونَني في كُلِّ حينٍ. يُقدِّمونَ ذبائِحَهُم في الجنائِنِ ويُبخِّرونَ على مذابِـحِ الأصنام" (إشعياء 65: 1-3)، "تركوني انا ينبوع المياه الحية ليحفروا لأنفسهم آبارا مشققة لا تضبط ماء" (إرمياء 2: 13). "قد وَضَعْتُ أمامكم اليوم الحياةَ والخير، والموت وَالشرّ... أوصَيْتُكم اليوم أنْ تحبّوا الرّبّ إلهَكُم، وأنْ تَسلكوا في طرقه.. لتحيوا وتنموا... ولكِنْ إنْ تحوَّلَتْ قلوبُكم ... فـ...إنّكم لا محالة هالِكُون" (تثنية 3: 15-18)، لأنّكم تهلكون أنفسكم بأنفسكم، لأنّكم تسلكون طريق الوحشيّة، والوحشيّة تأكل القلب بالوَحْشَة، بالعزلة والضمور. يبدو أنّه على كلّ إنسان، في كلّ جيل، وحتّى منتهى الدهر، وربّما بعده، أن يقرّر مصيره بنفسه، أن يصارعَ، في حلبةِ هذا العالم، الوحشَ "الصاعد من الهاوية" في قلبه، ليغلبه بالحبّ، بالمسيحِ الذي فيه، من أجل حياته شخصيًّا، ومن أجل حياة هذا العالم.

خريستو المرّ

    الكاتب

    خريستو المر

    الأرشيف

    December 2023
    November 2023
    October 2023
    September 2023
    August 2023
    July 2023
    June 2023
    May 2023
    April 2023
    March 2023
    February 2023
    January 2023
    December 2022
    November 2022
    October 2022
    September 2022
    August 2022
    July 2022
    June 2022
    May 2022
    April 2022
    March 2022
    February 2022
    January 2022
    December 2021
    November 2021
    October 2021
    September 2021
    August 2021
    July 2021
    June 2021
    May 2021
    April 2021
    March 2021
    February 2021
    January 2021
    December 2020
    November 2020
    October 2020
    September 2020
    August 2020
    July 2020
    June 2020
    May 2020
    April 2020
    March 2020
    February 2020
    January 2020
    December 2019
    November 2019
    October 2019
    September 2019
    August 2019
    July 2019
    June 2019

    Categories

    All

    RSS Feed

 ليس من حبّ أعظم من هذا : أن يبذل الإنسان نفسه عن أحبّائه: يسوع المسيح
  • كتب
  • محاضرات
  • مقالات في «الأخبار»
  • المقالة الأسبوعيّة
  • الإيمان والحياة اليوميّة
  • فلسطين
  • التزام شؤون الإنسان
  • الإيمان والثقافة
  • كلمات
  • خريستو المرّ
  • مواقع صديقة