خريستو المر الثلاثاء 31 تشرين الأول 2023
بينما تقع منطقتنا تحت هجومات استعماريّة مستمرّة ومتواصلة، تغيّب أكثريّة المدارس وأكثر الإعلام هذا الواقع عن الفكر الاجتماعيّ، عن الطلّاب والأهل، وعن مجالات النقاش الثقافيّ، بل وصل البعض إلى قمع كلّ مجال للنقاش في هذا الواقع تحت مسمّى «اللغة الخشبيّة»، بمعنى أنّ الزمن في رأيهم (المنفصل عن الواقع) تجاوز هذا الخطاب، بينما قتل آلاف المدنيّين الفلسطينيّين من شعبنا الذي يقوم به الاستيطان العنصريّ التدميريّ في فلسطين المحتلّة مع «المتوحّشين» الحقيقيّين الذين يقدّمون له الدعم، يوضح من جديد أنّ حرب الاستعمار علينا قائمة على قدم وساق، وأنّ العدوّ الصهيونيّ يمثّلها اليوم بشكل صاف. أمام هذا الواقع، نجادل في هذه المقالة أنّ الكنائس مقصّرة في الطلب من مؤمنيها الالتزام الإيمانيّ بالمساهمة الفاعلة في رفع الظلم القائم بمشروع الاستعمار. في رأيي، على الكنيسة، بلسان الناطقين باسمها، أن تنأى عن توجيه المؤمنين إلى مشروع سياسيّ أو حزبيّ، فهدف الكنيسة أن تحفظ الإيمان الفاعل وأن تكون مجالاً لكي يبقى المؤمنون مخلصين ليسوع ومحبّين له. لكنّ محبّة المسيحيّين يسوعَ لها أبعاد اجتماعيّة سياسيّة اقتصاديّة، ليس بمعنى المشروع، ولكن بمعنى التوجّهات السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة في هذا العالم. لا يمكن لمؤمن يرى أنّ الله محبّة وبالتالي أنّ المحبّة هي طريقة الحياة الإلهيّة، وأنّه ليحيا بالفعل ينبغي أن يتمرّن على عيش المحبّة في هذه الحياة (وهذا برأيي لبّ الإيمان المسيحيّ متجسّداً ومضغوطاً في جملة)، أن يكون لا مبالياً في هذه الأرض، وما يجري فيها من سياسة واجتماع واقتصاد. إنّ الإيمان المسيحيّ يفرض الالتزام فرضاً في وجوه الحياة كافّة، يفرض طريقة حياة تريد أن تُمسك بهذه الأرض وأن تجبلها مع يدَيّ الخالق لكي تصير تباشير سماء، قدر الممكن، قبل اليوم الأخير، وإلّا كان الإيمان وهماً وهروباً من المسؤوليّة. لهذا السبب من واجب الكنيسة أن تلاحظ مواطن الظلم في المجتمع وأن تدعو مؤمنيها إلى الالتزام الجذريّ برفع الظلم، بالطريقة التي يرتؤونها. هدف الالتزام هو الدفاع عن الحياة بتحويل هذه الأرض إلى مكان مشاركة، كتعبير عن المحبّة، إذ لا محبّة دون مشاركة. فكما أنّ محبّة الآب والكلمة والروح القدس قائمة في وحدانيّةٍ هي المشاركة في كمالها، كذلك يكون مسعى المؤمنين على هذه الأرض. كلّ ما هو بتضاد مع المحبّة المشارِكة هو ظلمٌ مضاد للمسيحيّة، وتنبغي مواجهته بإيمان ملتزم يسعى إلى العدالة على الأقلّ وإرساءِ أسس المحبّة في المجتمع، في النُّظُم الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة. المحبّة المشارِكة هي التي تحدّد عدالة القضية التي يسعى الإنسان من أجلها. فمثلاً، نظام اقتصاديّ ينفع 1% من السكّان ويُفقِر معظمهم هو نظام مضادّ للمسيحيّة وينبغي تغييره لصالح نظام يعكس المشاركة في خيرات الأرض وما عليها، فهي في النهاية للّه، ونحن نتشارك فيها. وعلى ذلك قِس وقيسي. لكن، كلّ ذي عقل يعلم أنّه دون قوّة لا يمكن الوصول إلى عدالة، ولذلك يجب رفض الاستكانة والخنوع للظلم وأن نفهم أنّ النضال هو الوسيلة الوحيدة لممارسة القوّة. أن تكون القوّة قوّةَ نضالٍ عنفيّ أو لا عنفيّ، فهذا أمر يمكن بحثه. وبما أنّ هناك وصيّة بعدم القتل وتأبى الكنيسة في تعليمها الرسميّ أن تدعو إلى العنف (وهذا أمر جيّد)، وحتّى الذين مثلي يقولون بجواز استخدام العنف لرفع الظلم يعلنون أنّ القتل يبقى شرّاً دائماً، وأنّ استعماله هو اضطراريّ لردّ شرّ أعظم على أن يكون مضبوطاً أخلاقيّاً ومرتبطاً بهدف التحرير؛ يكون لزاماً على الكنيسة في الحدّ الأدنى أن تشجّع وتعلّم المؤمنين على رفض الخنوع أمام الظلم، والتمسّكِ بالعمل لردع الظالم وفرضِ العدالة عن طريق قوّة نضال لا عنفيّ منسجم مع المبادئ المسيحيّة. هذا أقلّ الإيمان. غياب التوجيه، كما هي الحال اليوم، أدّى إلى نتيجتين كارثيّتين؛ الأولى في الحرب اللبنانيّة ألا وهي ميليشيات مسلّحة ارتكبت مجازر ولا تزال تشيع الحقد والعنصريّة، والثانية اليوم، ألا وهي غياب أيّ حضور مسيحيّ جماعيّ فاعل في النضال اللاعنفيّ ضدّ الظلم. يمكن للنضال أن يكون عنفيّاً أو لا عنفيّاً في أفق عدالة تجسّد المحبّة المُشاركة، أمّا غياب النضال ضدّ الظلم فهو خيانة لرسالة الإنجيل. في موضوعنا اليوم، ألا وهو الاستعمار الأوروبّي والأميركيّ المتمثّل بمشروعه المدمّر في المنطقة الذي يمثّله نظام الاحتلال العنصريّ، فإنّ الكنائس مدعوّة لغرس وعي الظلم القائم هذا، وللطلب رسميّاً من مؤمنيها بأن يلتزموا النضال لرفع هذا الظلم عن شعبنا وأرضنا في فلسطين. هذا واجب إيمانيّ، وهو أيضاً يمثّل جواباً إيمانيّاً على أمرين: الأوّل هو الدعوة التي وجّهها المجتمع الفلسطينيّ عام 2009 إلى كلّ المجتمعات كي تساهم برفع الظلم والقتل والتنكيل، وبالتحرير عن طريق المقاطعة الاقتصاديّة والثقافيّة والأكاديميّة، والثاني هو الدعوة التي وجّهتها الكنائس رسميّاً من خلال نداء «كايروس فلسطين» لدعم المقاطعة كطريقة نضال لا عنفيّ (دون أن تغلق الباب على النضال العنفيّ) من أجل تحرير الفلسطينيّين عن طريق هزيمة المشروع الاستيطانيّ الاستعماريّ ونظام الفصل العنصريّ القائم في فلسطين المحتلّة. إن كان الواجب الإيمانيّ المسيحيّ هو دائماً تجسيد المحبّة على هذه الأرض، وبالتالي السعي إلى تحقيق العدالة وطرق المشاركة في الخيرات، فإنّ دعوة الكنائس في بلادنا رسميّاً لمؤمنيها للالتزام بالمقاطعة الشاملة لكيان الاحتلال الصهيونيّ ستكون جواباً كنسيّاً طبيعيّاً على نداء إخوتهم وأخواتهم في فلسطين المحتلّة، ويعبّر بشكل مباشر عن الإيمان المسيحيّ بأنّ كلمة الله تجسّد وأحبّ العالم حتّى بذل نفسه لأجله. وبالإضافة إلى الدعوة هذه، من واجب الكنائس الأنطاكيّة الرسميّة أن تلتزم بالعمل الفاعل العلنيّ في الغرب، بواسطة مطارنتها وكهنتها ولاهوتيّيها، وشرح واقع فلسطين والاحتلال العنصريّ الصهيونيّ ودفع الكنائس الغربيّة كي تلتزم بمقاطعة الاحتلال. هذا واجب صعب، صليب، ينبغي للكنيسة أن تحمله كي تدافع عن الحياة في فلسطين. نعم تنأى الكنيسة بنفسها عن تفاصيل المشاريع السياسيّة والحزبيّة والاقتصاديّة، ولكن ينبغي لها ألّا تنأى عن تعليم أنّ الإيمان التزام بتجسيد المحبّة ومواجهة كلّ ما هو ضدّها، ينبغي ألّا تنأى عن الدعوة العلنيّة لمناهضة الاستعمار المدمّر لشعوبنا، خاصّة بعدما صدر نداء «كايروس فلسطين»، وإلّا تكنْ تنأى عن مسيحها المصلوب المرسوم على وجوه المظلومين. الوقت قد حان لإصدار الكنائس المسيحيّة الأنطاكيّة، مجتمعة أو متفرّقة، نداء إلى مؤمنيها كي يلتزموا يوميّاً بمقاطعة الكيان الاستعماريّ المحتلّ وأن يصبحوا مشاركين فاعلين مع الجميع في المقاطعة، لأنّ هذا يكون جواباً حقيقيّاً متجسّداً في لحم هذا العالم لمحبّتهم ليسوع المسيح، وسعيهم إلى تجسيد محبّتهم له بتعميد العالم ليصير مكان مشاركة، ليصبح كنيسة بالمعنى العميق للكلمة، تجمع أبناء وبنات الله جميعاً في وحدة محبّة راسخة في العدالة والمشاركة، فيعمّ السلام. خريستو المرّ – الثلاثاء ٢٤ تشرين أوّل/أكتوبر ٢٠٢٣
إنّ تعمّد قتل أبرياء لا يمكن تبريره. لكنّ العدوّ الصهيونيّ أعلن أمام الملأ رغبته بتعمّد قتل الأبرياء وفعل ذلك بسلسلة من الأكاذيب منها قطع رؤوس الأطفال لكي ينزع عن الفلسطينيّين الأبرياء الصفة الإنسانيّة ويصوّرهم على أنّهم «وحوش بشريّة»، بذلك يشحن الرأي العام الداخلي والعالميّ ضدّ الفلسطينيّين، بحيث يحقد ويبرّر وحشيّة الهجوم العسكريّ الصهيونيّ على المدنيّين العُزّل، ومنع دخول الطعام والشراب والمحروقات، وهما أمران يرقيان إلى كونهما جريمة ضدّ الإنسانيّة، وتطهيراً عرقيّاً، وإبادة جماعيّة، كما تشهد تصريحات مقرّرة الأمم المتّحدة الخاصة حول حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة فرانشيسكا ألبانيز، وتصريحات متعدّدة لحقوقيّين وجمعيّات حقوق الإنسان. أمام هذا كلّه، وآلاف الضحايا من المدنيّين والأطفال وتدمير عشرات آلاف الوحدات السكنيّة التي تحتضن حبّاً وذكريات وعائلات حيّة، صدر في 15 تشرين الأوّل، بيان عن اللبنانيّين من بطاركة وأساقفة وكهنة وعلمانيّين، المشاركين في أعمال سينودس الأساقفة الكاثوليك المنعقد برئاسة البابا فرنسيس ليتكلّم بشكل مفاجئ عن «الحرب بين الفلسطينيّين والإسرائيليّين» معادلاً بين قوّة احتلال هي قلعة عسكريّة استعماريّة مزروعة في منطقتنا وتقمع شعبنا منذ 75 عاماً وتحتلّ أرض الفلسطينيّين وتنكّل بهم، ومجموعة من المقاومين المسلّحين. هذه ربّما أوّل مرّة في التاريخ يُعلن فيها محتلّ الحربَ على الذين احتلّهم! وتبنّي البيان لعبارة «الحرب» يقع في مطبّ الدعاية الصهيونيّة. وعبّر كاتبو البيان عن «قربنا من عائلات الضحايا، ونصلّي من أجلهم ومن أجل جميع الذين يعيشون ساعات من الرعب والألم» دون ذكر الفلسطينيّين بأيّ شكل مخصّص. وإن كان الحزن يصيب القلب عندما يرى موت أيّ إنسان، فإنّ البيان بإغفاله عن واقع الاحتلال يساوي الضحيّة بالجلّاد والعنف المؤسّسي للاحتلال بالعنف الدفاعيّ التحرّريّ للمقاومة. بعد بضعة أيّام، في 19 تشرين الأوّل، بعد قصف المستشفى المعمداني في غزّة، صدر بيان آخر عن لسان جميع البطاركة والأساقفة والكهنة والعلمانيين من بلدان الشرق الأوسط المشاركين في أعمال السينودس، فأدانوا «بشدة العملية الإجرامية» دون ذكر إسرائيل، وعبّروا بشكل عام عن «حق الأبرياء في العالم أن يعيشوا بأمان»، وأغفلوا ذكر الفلسطينيّين أو كلمة فلسطين تماماً، أي إنّهم غيّبوا أصحاب الأرض. بعكس ميوعة هذين البيانين، جاء بيانٌ لمجلس كنائس الشرق الأوسط وآخر للمجمع الأرثوذكسيّ الأنطاكيّ. فقد جاء بيان مجلس كنائس الشرق الأوسط في (18 تشرين الأوّل) ليصف الواقع بأنّه «إبادة جماعية وتطهير عرقي يطاول محتجزي أكبر سجن في التاريخ البشري وعن سابق تصوّر وتصميم» و«جريمة ضد الإنسانية» مطالباً بوقف العدوان ورفع الحصار -وللتذكير هو مستمر منذ ستة عشر عاماً- وفتح المعابر. ولكنّ البيان أيضاً أغفل ذكر الكيان الصهيونيّ بالاسم. ثمّ صدر في (21 تشرين الأوّل) عن المجمع الأرثوذكسي الأنطاكي المنعقد بين 16 و21 تشرين الأوّل بيان ذكر فيه بوضوح «أهمية القدس في ضمير كل مسيحي ومسلمٍ» و«حقّ العودة للشعب الفلسطيني وإقامة دولته المستقلة» وأكّد إدانة «الكنيسة الأنطاكية الحصارَ المفروض اليوم على الشعب الفلسطيني وعلى قطاع غزة تحديداً وتستنكر وتشجب الإبادة الجماعية المرتكبة فيه تحت أنظار العالم»، وأنّ «ما يجري من عنفٍ هو نتيجة عدم احترام القوانين والقرارات الدولية في تطبيق العدالة. وهو استمرارٌ لتزييف هوية الأرض والتاريخ ومحاولةٌ لطمس القضية الفلسطينية». ولكن أغفل البيان ذكر الكيان الصهيونيّ كمرتكِب، ولو أنّه معروف من القاصي والداني. ويستغرب المراقب إغفال ذكر الفلسطينيّين (وقضيّتهم) بشكل مخصّص في البيانات الكاثوليكيّة عندما صدرت من روما، بينما الكنائس الكاثوليكيّة (ومنها المارونيّة) هي عضو في مجلس كنائس الشرق الأوسط وصدر بيان مجلس الكنائس باسمها. ولا يسع المرء إلّا الاستنتاج بأنّ إغفال ذكر الفلسطينيّين في بيانات روما فيه تجنّب واضح لذكر فلسطين واستبدال الكلمة «الأرض التي قدّسها» ربّ السلام، والعبارة وردت بطريقة أخرى في دعوة لاحقة لمجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان يوم 17 تشرين الأوّل الذي دعا إلى يوم صلاة «طلباً لنعمة السلام في منطقة الشرق الأوسط وبنوع خاص في الأراضي المقدّسة». ولا يمكن فهم تجنّب ذكر فلسطين إلّا كموقف سياسيّ (نذكّر بأنّ تغييب واقع هو موقف سياسيّ)، ويتساءل المرء إن لم يكن ذلك مرتبطاً بكون الفاتيكان يعترف بالدولة الصهيونيّة ويقيم علاقات معها. وبذلك، نرى من جهتنا تضارباً بين التبعيّة الدينيّة للفاتيكان كرأس إيمانيّ عقيديّ للكنائس الكاثوليكيّة والموقف السياسيّ لتلك الكنائس. لا يمكن لأحد إقناعنا بأنّه على العكس موقف يتجنّب الخوض في السياسة، لسببين: الأوّل، أنّ عدم التدخّل في السياسة هو موقف سياسيّ، وأنّ الكنائس الكاثوليكيّة تدخّلت في السياسة بواسطة بيان مجلس الكنائس. المشكلة إذاً هي في روما، في البابويّة التي لا تزال على موقف يقبل بوجود «إسرائيل» ولا يتجرّأ على الخوض في مواجهة الجلّاد، ونعتقد أنّ ذلك يعود إلى كون البابويّة لا تزال إلى حدّ بعيد أوروبيّة المركز، وهناك ماضٍ طويل للأوروبيّين في معاداة الساميّة، زد على ذلك ما تكشّف أخيراً عن معرفة البابويّة بمجازر النازيّة بحقّ المواطنين الأوروبيّين اليهود وسكوتها عنها. كلّ البيانات، حتّى التقدّمية، لا تشير إلى حقّ الفلسطينيّين في الدفاع عن أنفسهم وحقّهم في العدالة والتحرّر. هل يمكن أن يكون «ترفّع» جميع البيانات عن حقّ الفلسطينيّين بالدفاع عن أنفسهم بأنّ كلّ الكنائس تنبذ العنف؟ لا نعتقد ذلك، صحيح أنّه ليس من موقف رسميّ للكنائس جميعاً يقول بدعم العنف كوسيلة للتحرّر، ولكنّ جميعها تقبل بوجود جيوش لدول تدافع عن بلادها، وهو موقف الكنيسة الأرثوذكسيّة الأنطاكيّة (الحرب السورية آخر مثال)، وبالتالي موقف الكنائس ليس مطلقاً من ناحية استخدام العنف. كما أنّ التاريخ القريب يذكّرنا بأنّ الكنيسة الكاثوليكية في بلادنا احتضنت سياسيّاً (في خطأ فادح ومخالفة صريحة للإنجيل) ميليشيات لمسيحيّين في لبنان حملوا السلاح وارتكبوا المجازر وبثّوا الكراهية الطائفيّة؛ فكيف تأنف اليوم عن ذكر حقّ الفلسطينيّين باستخدام العنف من أجل التحرّر؟ ما هذا الموقف «المبدئيّ» الذي يقول باستخدام العنف فقط إن كانت هناك دولة معترف بها وجيوش رسميّة، وكأنّ الدول مقدّسة والحكّام والجيوش قدّيسون؟ إنّه موقف منافق في الحقيقة. لكنّ الفلسطينيّين لن ينتظروا موقف أحد، فالناس ولدتهم أمّهاتهم أحراراً. أمّا إغفال جميع البيانات ذكر نظام الاحتلال المدجّج بالسلاح وبنظام الفصل العنصريّ، على أنّه الفاعل المجرم، فلا يمكن فهمه إلّا على أنّه خشية. ولا يمكننا إلّا أن نلاحظ أنّ بيان المجمع الأرثوذكسيّ كان الأكثر تقدّمية وإظهاراً للوعي لذكره أساس الأسباب: تغييب العدالة، وهو ما يتوافق مع وعي جميع العاملين لتحرير فلسطين أنّه لا سلام ممكن إلّا على أساس العدالة، فكلّ ما بُني على الظلم هو عنفٌ مؤسّسيّ، ويولّد العنف الدفاعيّ كفِعل يسعى به الناس إلى تحقيق العدالة. نعم العدالة -والتحرّر عدالة- هي أساس السلام، لكنّ العدالة لا تأتي على طبق من فضّة أو ذهب، عليك أن تنزعها من فم الوحش، عليك أن تنتزعها بالقوّة، أتكون القوّة عنفيّة أم لا عنفيّة؟ هذا شأن الناس وما يناسبهم وما يستطيعون. ولكنّ الكنائس الأنطاكيّة لا تتبنّى رسميّاً حتّى الخطاب الدفاعي اللاعنفيّ عن العدالة، هي في حالة خروج كامل من التاريخ، تعظ بالعدالة ولا تلهب قلوب وخيال مؤمنيها بجمرة إنجيليّة بأن تقول لهم، مثلاً، إنّ المقاطعة لدولة الاحتلال تعبير عن أقلّ الإيمان بضرورة العدالة لبناء السلام. السلام يأتي «من فوق» ولكنّه يحتاج إلى عمل يجعله يتجسّد هنا «تحت»، على هذه الأرض وفي بُناها. خريستو المر الثلاثاء 17 تشرين الأول (الأخبار)
تكالب الغرب بحكوماته ووسائل إعلامه علينا. تبنّت الحكومات والإعلام دعاية وخطاب الاحتلال الصهيونيّ وقدّمت له شيكاً على بياض ليتابع خطّته التي بدأها عام 1948 بطرد الفلسطينيّين من أرضهم وارتكاب المجازر بحقّهم. ولم تكتف الحكومات الغربيّة بذلك، بل، وفي سياق محاولات تجريم أيّ نقد لإسرائيل، حاول بعضها منع رفع العلم الفلسطينيّ، بل ومنع التظاهر، ضاربةً عرضَ الحائط بمجموعة المبادئ العليا حول الديموقراطيّة وحقّ التعبير، فبدا جليّاً أنّها تستخدم تلك المبادئ فقط إن كانت تخدم مصالحها وهي مستعدّة لضربها، لو تسمح القوانين. كندا، بجميع أحزابها الكبرى الثلاثة وجميع وسائل إعلامها، وقفت موقفاً نذلاً مؤيّداً دون تحفّظ لدولة الاستعمار الصهيونيّ، وروّجت جميعها للدعاية الصهيونيّة، مشيرة بمواقفها هذه بما لا يرقى إليه الشكّ إلى تجذّر العنصريّة في النظام السياسيّ والإعلاميّ فيها. عدا التضليل، كان إخفاء الحقائق والتركيز المطوّل على مشاعر سكّان دولة الاحتلال هما المسيطريْن على الإعلام. أمّا استشهاد الصحافيّ اللبنانيّ بقصف إسرائيليّ، فمرّ في الإعلام من دون تحديد لأسباب مقتله، فبعد دقيقة من إعلان المذيع على الـ «سي بي سي» (الجمعة الماضية) بالصوت والصورة استشهاد عصام عبدالله وأنّه لم تُعرف الأسباب، مرّ الخبر نفسه بعد دقيقة بكتابة صغيرة (أثناء كلام المذيع عن أمر آخر) محدّداً القصف الإسرائيليّ كسبب للاستشهاد، ولكنّ «سي بي سي» تعرف أنّ تركيز المشاهِد هو على الصوت والصورة المؤثّرَين، والخبر المكتوب قد لا يُقرأ. أمّا رئيس الوزراء الذي التقى بجماعات الصهاينة في العاصمة أوتاوا (بينما التقت نائبته بها في تورونتو)، فقدّم خطاباً صارماً جازماً أكّد فيه دعم كندا الثابت لـ«إسرائيل»، ثم بعد أيّام عاد وقدّم كلاماً إنشائيّاً ناعماً في تصريح تافه يقول فيه بضرورة احترام القوانين خلال الحرب. بالطبع الخطاب الأوّل هو موقف حكومته الحقيقيّ لأنّ الثاني لم يسمِّ «إسرائيل»، ولم يترافق مع نقد صارم لنظام الاحتلال والفصل العنصريّ الصهيونيّ، السائر إلى زوال بالطبع، ونعرف أنّه سائر إلى زوال لاستنفار الغرب لدعمه. إن كان من غشاوة على عقل أحد فاليوم حكومات الغرب تساعدنا نحن الكتّاب في رفع الغشاوة: هناك حرب غربيّة استعماريّة علينا نحن شعب هذه المنطقة، حربٌ تخوضها حكومات أوروبا وشمال أميركا، حربٌ تنتهج سياسات عنصريّة فوقيّة استعماريّة تجاهنا، حربٌ تريد تحويلنا وتحويل أولادنا إلى عبيد، مستهلكين خانعين خائفين ذليلين، وتريد تحويل بلادنا إلى هوامش ربحيّة للغرب. مَن لديه ذرّة عقل يفهم اليوم أنّ إسرائيل هي قلعة استعماريّة غربيّة مدجّجة بالسلاح هدفها الوحيد هو إخضاعنا لكي يجني المستعمرون المال (بترول، غاز، أسواق تجاريّة). لهذا، فإنّ الدولة الصهيونيّة ليست مشكلة الفلسطينيّين، هي مشكلتنا جميعاً، لأنّها استعلائية استعماريّة عنصريّة، مدعومة من حكومات عنصريّة استعلائية استعماريّة. الفلسطينيّون ليسوا بحاجة إلى تبرير مقاومتهم أمام الغرب. من الجيّد أن يخاطب المثقّفون الغرب، من الجيّد أن نسعى نحن الذين نعيش في الغرب، وأن يسعى المقاومون على الأرض، إلى مخاطبة العقل والضمير لدى شعوب العالم كلّه، ليقف هؤلاء إلى جانب الحقّ الفلسطينيّ، فموقف الشعوب يؤثّر بالضغط على حكومات الغرب. ولكنّ خطاب العقل والضمير ليس موجّهاً إلى حكومات الغرب، فحكومات الغرب ووسائل إعلامها عنصريّة، لا يمكن تغيير سياساتها إلّا بالضغط الشعبي الداخليّ (ومن هنا ضرورة خطاب الشعب). ولكنّ حظوظ التغيير حاليّاً ضئيلة، خصوصاً مع تفكّك العمل العربيّ الواسع المترابط في الخارج، وانعدام العمل الحكوماتيّ العربيّ لدعم الفلسطينيّين، لذا من الغريب أن يتساءل مذيع أو مثقّف على وسائل إعلامنا العربيّة أنها لماذا تكيل حكومات الغرب بمكيالين؟ وسائل الإعلام يمكنها أن تفضح الكيل بمكيالين من دون أن تستغرب، وعوض أن تتساءل أن لِمَ هذا التعامل غير العادل، يمكنها أن تحلّل أسبابه وتفضح عنصريّته، والدوافع الاقتصاديّة وراءه. حكومات الغرب واعية تماماً لكيلها بمكيالين، سياستها قائمة على الكيل بمكيالَين، المهمّ أن نعي أنّها واعية لكيلها بمكيالين وبأنّها عنصريّة ومصلحتها أن تستعبدنا؛ هي أصلاً عصبة رأسماليّة لا تسعى سوى إلى الربح الأقصى وهذا غير ممكن إلّا باستغلالنا وإبادتنا إن اقتضت ضرورة الربح. الأمر بهذه البساطة وبهذا التعقيد. الكرة في ملعبنا: هل نخضع أم نقاوم؟ ما مِن حلٍّ بين بين: إمّا الحياة الحرّة أو الاستعباد. التعامل العادل لا يأتي بالإقناع، هو يأتي بالقوّة، بأن تقف وتقاوم وتتابع وتنتصر. عندها يسمع العالم لك. خطاب القلم، وخطاب الأديان، وخطاب حقوق الإنسان، وخطاب الأخلاق، وخطاب حركة المقاطعة، كلّها خطابات جيّدة وضروريّة ويمكنها أن تدعم الحقوق المشروعة والكاملة للشعب الفلسطينيّ، وحقوقنا جميعاً، نحن شعب هذه المنطقة، ولكنّها غير نافعة إلّا حول حركة مقاومة. خطاب حركة المقاطعة لن يمكنه وحده هزم المشروع الصهيونيّ، وما حدث في جنوب أفريقيا كان مترافقاً مع حركة تحرّر تستخدم السلاح، ومانديلا نفسه الذي استقبله الغرب مضطرّاً كان يصفه بالإرهابيّ. ثمّ إنّ المشروع الصهيونيّ ليس مجرّد مشروع تمييز عنصريّ، وإنّما هو مشروع إحلاليّ يسعى لطرد السكّان الأصليّين (أو إبادتهم لو تسنح له الظروف)، هو مشروع استعلاء عنصريّ ضدّ سكّان المنطقة بأجمعها. عدا تحلّق الخطابات المختلفة حول المقاومة المسلّحة هناك ضرورة لفضح خطاب «الحياد»، فعدا سفالة ولا أخلاقيّة هذا الخطاب وصبّه في خانة دعم الاحتلال بحياديّته المزعومة، فهو خطاب لا عقلانيّ أهبل، لأنّ الحياد غير ممكن أصلاً؛ فالعدوّ نفسه ليس محايداً تجاهك، تجاهك أنت العربيّ من أيّ بلد كنت، وتجاهك أنت الإنسان اللبنانيّ، أو الفينيقيّ إن شئت. المشروع الصهيونيّ مشروع مبني على الاستعلاء العنصريّ، هذا ما نلمسه في فلسطين، ولم يكن وصفه على أنّه فكر عنصريّ في الأمم المتّحدة عبثاً. أمّا مَن يدعو إلى التطبيع مع الكيان الاستعماريّ العنصريّ هذا فهو خائن ويجب أن يُعامل على هذا الأساس؛ إن تجريم التطبيع يجب أن يكون أحد هموم المقاومين بالقلم والقانون في أرجاء عالمنا العربيّ. أمّا جثّة اتّفاق أوسلو التي يجرجرها عبّاس خلفه فلن تودي به إلّا إلى مزبلة التاريخ، بينما المقاومون يراكمون الانتصارات والقوّة. اليوم يدقّ الشهداء باب الحرّية بأيدٍ مضرّجة ليعيدوا إدخال شعبنا من باب التاريخ العريض، ويسكنوا ضمير الأمّة خريستو المرّ – الثلاثاء ١٠ تشرين أوّل/أكتوبر ٢٠٢٣ (الأخبار)
نكتب هذه السطور على وقع روح مقاومة فلسطينيّة تمرّغ عتاد وسلاح ومخابرات وتكنولوجيا وصلف وعنصريّة وخبث المستعمِر الاسرائيليّ ووراءه الأوروبيّ والشمال أميركي في التراب، وتفتّتها ضحكات الأطفال الجالسين فوق مصفّحة عسكريّة غنمها المقاومون. ستبقى صور الجندي الذين كان يضرب ويهدّد ويقتل ويقتحم المنازل في أنصاف الليالي ويقنص الفلسطينيّين العزّل ضاحكا، ستبقى صورته وهو مكبّل ورأسه تحت إبط المقاوم الذي يشدّ به إلى الأسر، ستبقى طويلا في الذاكرة، سيحفظ أولادنا تلك الصورة مع صور المقاومون في الهواء والبرّ والبحر، ويكنزون الشجاعة والأمل ليراكموا القدرة على التحرير الكامل. سيخرج العنصريّون في أصقاع الأرض، أولئك الذين سيتكلّمون عن المدنيّين في كيان الاحتلال وهم لا يأبهون للحمنا الذي يدوسه الاحتلال الاسرائيليّ، سيتكلّمون عن الأطفال ولن يذكروا اغتيال الاحتلال للطفل محمّد الدّرة (٢٠٠٠) أو إحراق المستعمرين الصهاينة للرضيع علي دوابشة (٢٠١٥)، أو قتل الاحتلال العَمْد الصحفيّة شيرين أبو عاقلة (٢٠٢٢) وزملائها من عزيز يوسف التنح (٢٠٠٠) إلى ياسر مرتجى (٢٠١٨) إلى سعيد الطويل ومحمد صبح وهشام النواجحة (صباح اليوم). سيستنكر العنصريّون خوف المدنيّين في كيان الاحتلال ولا يأبهون لقمع وخوف الفلسطينيّين اليوميّين، سيتحدّثون عن «خطف» ولا يأبهون لخطف الفلسطينيّين من بيوتهم ومن طرقاتهم وزجّهم في معتقلات الاحتلال دون «محاكمة»، ونحن لا نعترف بمحاكم الاحتلال أصلًا. سيفضح العنصريّون أنفسهم بأنفسهم حين يبكون الذي يحتلّ ويدينون المقاوم، فقط لأنّ الذي يحتلّ مستعمرٌ يشبههم ويخدم مصالحهم، لأنّ الكيان الصهيونيّ قلعتهم العسكريّة المزروعة في وسطنا، ولأنّهم لا يرون في سلّم قيم الحياة الإنسانيّة الذي تستبطنه عنصريّتهم قيمةً لحياتنا، لأنّ حياتنا غير مربحة لهم وموتنا أربح. سيفضح العنصريّون عنصريّتهم، كما ننتظر، ونحن سنكون غير آبهين لأنّنا نستشرف في شجاعةِ وتخطيطِ المقاومة الفلسطينيّة المستقبلَ الذي يعود فيها «الوحش الصاعد من الهاوية» إلى الهاوية. يخشى البعض أنّ المقاومة دينيّة الطابع، لكنّهم ينسون أنّ شعبًا محاصرًا مُستضعَفًا يُنّكّّل به يوميّا سيحفر -ومن حقّه وواجبه أن يحفر- في مناجمَ تاريخه كي يستخرج منه كلّ مصادر القوّة ومنها الدينيّة. إنّ أوجاع المسحوقين لا تحتمل الانتظار، وكلّ مصدر قوّة غير عنصريّ ولا متعالٍ، ولو كان دينيًّا، كسبٌ للجميع. الاحتلال وحكمه لا يتغيّران لأنّ الوجه العنصريّ الذي لا يتبدّل هو هوّيتهما الجامعة ضدّنا كلّنا. كلّ آتٍ أفضل من الاحتلال، ونحن نتمنّاه محترِمًا للإنسان وحرّيته، ولمساواة البشر بعضهم ببعض. القدسات الأساس هي البشر الذين يتوقون من بطون أمّهاتهم إلى الخروج إلى هواء الحرّية والحياة والفرح، والاحتلال يقتل هذا كلّه؛ لذلك «تقوم فلسطين ليس فقط بمقادسها ولكن بمجاهديها الميامين» (المطران جورج خضر)، ويجاهد كلٌّ في ميدان، ويمكن للمهتمّين بشكل الحكم في فلسطين الحرّة أن يجتهدوا بالتفكير بطريقة الحكم فيها منذ اليوم لأنّ الحرّية ستأتي، كما كنّا مؤمنين دائما، واليوم هي أقرب. أمام دكّ الصواريخ الفتّاكة لأجساد أهلنا في فلسطين، أولادا ونساء ورجالا، أمام جرائم الاحتلال المتواصلة بموافقة عنصريّة غربيّة، يكاد يتمنّى الإنسان أن تأتي الحرّية دون قتال، دون موت أو وجع. لكنّ عقلنا يقول أنّ ذلك غير ممكن، ونسمع أهلنا في فلسطين يقولون بأفواههم وعيونهم ومقاومتهم، أنّهم توّاقون إلى الحرّية، إلى كامل الكرامة البشريّة، وأنّ الإجرام الصهيونيّ لا يتوقّف أكانوا سعوا إلى الحرّية أم لم يسعوا إليها، ولهذا هم ساعون، ويحتملون وحدهم أوجاع الطريق وكلفتها الباهظة. أنتم أهلنا الأبرياء المسحوقون، أنتم أهلنا المقاومون، ولهذا لكم منّا الإجلال، يا مَن تشهدون لأعجوبة انتفاضة الإنسان المستمرّة للتحرّر، يا من تشهدون لاحتجاج الحرّية البشريّة الدائم ضدّ ما يعتقلها مهما طال ومهما عتا، يا من تشهدون للاستعداد بالتضحية بالحياة من أجل الحياة، من أجل الكرامة البشريّة كمعنى للحياة، في قلب الوحشيّة في منطقتنا. خريستو المرّ، ٣ تشرين أوّل/أكتوبر ٢٠٢٣ (الأخبار)
أثناء زيارة الرئيس السابق ميشال عون لمدينة رحبة في عكّار الأحد 24 أيلول الماضي، أوقف مطران عكّار باسيليوس منصور القدّاس ليخرج ويلاقي الرئيس عون ويدخل معه إلى الكنيسة. القدّاس ليس صلاة عاديّة لدى المسيحيّين، فهو يُسمّى بالقدّاس الإلهيّ لأنّه، باختصار شديد، يوحّدهم بيسوع المسيح كلمة الله. يمكن، بل يجب، أن يُقطع القدّاس في حالة خطر داهم يهدّد حياة الناس، ولكن أن يُقطع القدّاس الإلهيّ ويُحرَم الناس من المشاركة في المناولة من أجل تشريف إنسان نافذ سياسيّاً أو ماليّاً، كائناً مَن كان ذاك الإنسان، فهو أمر يجعل المؤسّسة الكنسيّة مُلحَقَة بمصالح ذاك الإنسان. وأن يتّخذ قرار من هذا النوع مطران أمرٌ يجرح ضمير المسيحيّات والمسيحيّين. بالطبع المطران لا يمثّل يسوع، فيسوع لم يترك له ممثّلاً أفضل من المهمّشين، ولكنّ قلوب الناس تتوقّع من المطران أن يسير على خُطى المسيح وتصرّف كهذا هو مُعاكس لخُطى السيّد الذي صادق الملفوظين في مجتمعه وواجه المتنفّذين بالحقّ. ثمّ إنّ المطران مكلّف بأمر واحد فقط، لا غير، ألا وهو أن يتمّم القدّاس (هو مسؤول بالطبع أن يحرص على العقيدة، ولكن هذه مسؤوليّة كلّ الشعب وليست مسؤوليّته وحده ويستطيع الشعب أن يطيح به إن حاد عن الإيمان)، لهذا بإيقافه للقدّاس أخلّ مطران عكّار بوظيفته الوحيدة: إقامة القدّاس الذي يُتوَّج بالمناولة، أي بتقديم الخبز والخمر للمؤمنين. ثمّ إنّ مطران عكّار بتصرّفه هذا صوّر نفسه مُلحقاً بسلطة سياسيّة وخادماً لمآربها، وهذه كارثة أخرى. فالخبر السارّ (وهذا هو المعنى الحرفيّ لكلمة إنجيل) الذي أتى به يسوع للناس هو أنّ الله محبّ، وأنّ سلطته هي سلطة محبّة، أي إنّها سلطة تبذل نفسها للضعيف، وإنّ وجهه حاضرٌ في وجوه الذين لا يراهم المجتمع عادة: الجائعون والعطاشى والمساجين والمرضى، أي أولئك الغرباء عن القوّة، والسلطة، والمال، والنفوذ؛ ويسوع نفسه صار بجلجلته وصلبه ذلك الذي «لا صورة له ولا جمال ننظر إليه ولا منظر نشتهيه» ملفوظاً من مجتمعه ورأساً للأبرياء المضطهدين. هذا اليسوع لا يتصالح مع مشاريع السلطة والنفوذ والدفاع عن مصالح طائفيّة، هو يتصالح، دون أن يتماهى، مع مشاريع مشاركة خيرات الأرض والمساواة الكاملة بين البشر وإعطاء الأولويّة للمهمّشين. لا يتماهى يسوع مع مطلق أيّ مشروع بشريّ مهما كان إنسانيّاً فكيف نحاول أن نجعله مُلحقاً بمشاريع نفوذ وطائفيّة؟ لكنّ علاقة السلطة الكنسيّة بالسلطة علاقة غير مستقيمة منذ تنصّر الإمبراطور قسطنطين الذي أعتق المسيحيّين من الاضطهاد. ليس أنّ الإمبراطور مسؤول شخصيّاً عن مصير الكنيسة اليوم، ولكنّ العلاقة مع كلّ سلطة محفوفة بالمخاطر، والسلطة الكنسيّة بعلاقتها الوطيدة مع الإمبراطوريّة (التي يحلو للأرثوذكس أن يتخيّلوها سيمفونيّة متناغمة جميلة في بيزنطية وحدها، على عكس كلّ إفساد للكنيسة من قِبَل المال والسلطة حول العالم!)، انجرّت مراراً وتكراراً من كونها سلطة خادمة للمهمّشين على صورة يسوع، إلى سلطة للإكليروس تُخدَم لا تخدم؛ من سلطة من أجل حياة العالم وتعميده ليكون عالم محبّة إلى سلطة من هذا العالم بانحرافاته عن المحبّة، من سلطة على صورة «الراعي الصالح» إلى سلطة فوقيّة خادمة لنفسها. السلطة الكنسيّة في لبنان وسوريا، بأكثريّتها الساحقة، غارقة حتّى أذنيها في ممالأة السلطة السياسيّة وغدت شبه فاقدة لكلّ استقلاليّة إنجيليّة عن السلطة السياسيّة، عن الغطرسة، عن الظلم، عن الكذب، عن شهوة التحكّم والمال، وباتت أسيرة سياسة تبادل خدمات، وحماية متبادلة مع أصحاب النفوذ السياسيّ والماليّ. زلّة مطران عكّار الأخيرة -ولا بدّ من زلّة لكلّ إنسان- والتي نتمنّى ألّا يعود إليها مع أيّ كان، تندرج ضمن هذا السياق العام المنفلش في ديار المسيحيّة الأنطاكيّة بدءاً من المسؤول الأوّل بين المتساوين. هذا الكلام ليس حكماً على أخلاق أحد، ولا على خلاص أحد، هذا توصيف للواقع الذي يشهده كلّ ضمير لم يخدّره علم، ولا شهادات لاهوت (صحيحة وملفّقة)، ولا مال، ولا سلطة، ولا تعصّب، ولا انتفاع. هذا مجرّد إضاءة إنجيليّة على الواقع، وتذكير بلآلئ أخبر يسوع أنّها مطويّة في حقلٍ، أو كتابٍ، وجده المحبّون منذ ألفَي عام ومِن شدّة فرحهم مَضوا وباعوا كلّ ما كان لهم ليقتنوه، ونحن بعدهم بعنا كلّ شيء لنغرف ونوزّع؛ هذا مجرّد تذكير بوجهٍ هو وحده ماء الحياة، بوجهٍ قيل إنّه إن شربنا منه لا نعطش أبداً لأنّ لغيره لا يعطش إنسان. مَن يتسلّم سلطة كنسيّة ومَن يتعاملون معه، عليهم أن يتذكّروا معاً أنّ السلطة تعني القوّة التي تخدم المساندة والنموّ، وأنّ النموّ المطلوب هو نحو الفجر الذي لا نهاية له، وأنّ ذلك يمرّ بزهد وتمسّك، زهد الرغبة عن لحم العالم وتمسّكها بالعطش الذي يحرّر... لكي تتمكّن من محبّة هذا العالم حتّى الموت، موت الشهادة. |
الكاتبخريستو المر الأرشيف
December 2023
Categories |