خريستو المر. الثلاثاء ٢٥ تموز ٢٠٢٣
احتلّت فرنسا الجزائر وضمّتها إليها واعتبرتها أرضاً فرنسيّة وقمعت لغة السكّان الأصليّين، وكعادة الدول الاستعماريّة صوّرت احتلالها محاولة «تحضير» للسكّان بينما كان الهدف متابعة استغلال ثروات البلاد. عند نشوب الحرب العالميّة الأولى عام 1914 كانت الخدمة العسكريّة الإجباريّة للجزائريّين أطول بمرّتين من خدمة الفرنسيّين، واحتاجت فرنسا في تلك الفترة إلى مزيد من الجنود في الحرب وإلى رجال عمّال في المصانع التي خسرت عمّالها لصالح الحرب، فاستجلبت فرنسا 120 ألف عامل و175 ألف جنديّ جزائريّ أقاموا في فرنسا بين عامي 1914 و1918، دفع خلالها الجزائريّون ٢٥ ألف قتيل دفاعاً عن فرنسا. عاد الجزائريّون عمّالاً وجنوداً إلى بلادهم مع انتهاء الحرب، ولكن بعد النقص الفادح في عدد الرجال بعد الحرب وتحت ضغط حاجة الصناعيّين إلى يد عاملة رخيصة فتحت فرنسا الباب أمام اليد العاملة الجزائريّة للعودة لأنّ اليد العاملة الإيطاليّة والبرتغاليّة والإسبانيّة لم تكن تكفي، وكذلك لأنّ تلك الجزائريّة كانت تُعتَبَر أنّها مطيعة وطالما استخدمها أرباب العمل لكسر إضراب العمّال الفرنسيّين. الحاجة إلى العمّال الجزائريّين زادت أيضاً بعد انتهاء الحرب العالميّة الثانية وخاصّة مع تصاعد عمليّات التصنيع حتّى بداية السبعينيات. وتنبغي الإشارة إلى أنّ هؤلاء العمّال وُضِعوا في مبانٍ خاصّة بهم عادة ما تكون في منطقة نائيّة على أطراف المدن. بالنسبة إلى الجزائريّين، كان العمل في فرنسا مجالاً لتحسين أوضاعهم الماليّة في الوطن وشراء أراض بعد أن كانت قد نهبتها فرنسا منهم بحجزها إلى مشروعها الاستيطانيّ (بييريت وجيلبير مونييه يشيران إلى حجز فرنسا 350 ألف هكتار من أراضي السكّان بعد انتفاضة 1871). في منتصف السبعينيات، ومع تصاعد البطالة، وضعت حكومة جيسكار ديستان حداً لهجرة الجزائريّين، بل حتّى لجمع الشمل بين الجزائريّين المقيمين في فرنسا وعائلاتهم المقيمة في الجزائر، بل إنّ ديستان كان يفكّر في ترحيل الجزائريّين جميعاً من فرنسا، ولكن لم يتسنَّ له تطبيق تلك الفكرة (ويتكلّم البعض عن مشكلة في «اندماج» الجزائريّين في المجتمع!). هذا التذكير التاريخيّ ضروريّ لكي نفهم جانباً مهمّاً من وضع الجزائريّين في فرنسا، فإدانات عنف المتظاهرين من قبل السلطة الفرنسيّة أو العرب تأتي في سياق فوقيّ منفصل عن الواقع ومتناقضٍ في آن: إن لم تعجبهم هذه البلاد (أو بلادنا) فليعودوا من حيث أتوا، عليهم أن يشكروا الله على وجودهم في فرنسا عوض تخريبها فهي تؤمّن لهم ما لا تؤمّنه لهم بلادهم الأصليّة. بالطبع، تفضح هكذا تعليقات أمراً أساسياً: أنّها تعتبر هؤلاء الفرنسيّين غير فرنسيّين وإنّما تعتبرهم أناساً من مكان آخر، وهنا بيت القصيد. المواقف هذه هي مواقف عنصريّة تختصر أناساً بأصولهم الثقافيّة وتراهم «خارجيّين» و«تحت» بسبب تصرّفاتهم العنفيّة، بينما لا تأتي ردّات فعل المنتقدين نفسها لو أنّ «بيير» أو «بياتريس» هُما مَن قاما بأعمال عنفيّة أثناء أيّ تظاهرة، إذ عندها لا بدّ أن تكون المواقف منهما أقلّ حدة وأكثر تفهّماً، فقد يكون بيير مشاغباً مهمَّشاً، وبياتريس غاضبة انجرّت إلى هكذا أعمال، وحتّى يمكن أن يكونا كلاهما فوضويَّيْن، بل ومشاغبَين يستحقّان العقاب، ولكن لا تُطرح أبداً بالنسبة إليهما فكرة أنّهما يجب أن يكونا شَكورَين لله كونهما فرنسيَّين. عدا العنصريّة، لا يسع المرء في بلادنا إلّا أن يتساءل إن لم تكن إدانة العنف في تظاهرات فرنسا لدى المسيحيّين تخفي موقفاً سلبيّاً من الإسلام، برأيي أنها كذلك وأنّ تلك التعليقات تأتي من خلفيّة طائفيّة محضٍ لدى العديدين. إن عدنا إلى واقع الفرنسيّين من أصول جزائريّة وأفريقيّة اليوم، تقول الأرقام إنّ نسبة البطالة في فرنسا في سنة 2022 للفرنسيّين من أصول أفريقيّة كانت 13.7%؛ وهذه النسبة هي 15.4% بالنسبة إلى الفرنسيّين من أصول جزائريّة و14.5% للمهاجرين من أصول تركيّة أو من الشرق الأوسط. هذا في الوقت الذي بلغت فيه نسبة بطالة الفرنسيّين من أصول غير مهاجِرة 6.3%، بحسب المعهد الوطني للإحصاء والدراسات الاقتصادية في فرنسا. أي أنّ نسبة البطالة لدى الفرنسيّين من أصول أفريقيّة هي أكثر من ضعف نظيرتها بين غير المهاجرين. إحصائيّة مثل هذه تكفي ليفهم المرء ليس نسبة البطالة وإنّما مدى التهميش الذي يعيشه الفرنسيّون من أصول مُهاجِرة، وهذا التهميش ليس صدفة وإنّما ينبع من العنصريّة في فرنسا. بالطبع هناك عنصريّة اجتماعيّة بحيث نجد فرنسيّين عنصريّين ينظرون باستعلاء إلى العرب و/أو المسلمين ويحطّون من قدرهم، ولكن ما يكاد يغيب عن النقاش في فرنسا هو أنّ العنصريّة تقبع في عمل المؤسّسات. تلك العنصريّة المؤسّسية هي التي لا تسمح للفرنسيّين من أصول غير مهاجرة بفرص متساوية مع غيرهم. يمكن ملاحظة ذلك في جسم الشرطة الذي يكاد يخلو من الفرنسيّين من أصول مُهاجِرَة، ما يجعل الشرطة أكثر عرضة لتبنّي نزعة تمييزيّة ضدّهم. هذا التهميش المؤسّسي هو عنف مؤسّسي. يُضاف إلى هذا العنف المؤسَّسي مقاربة الدولة الفرنسيّة، تلك المقاربة السطحيّة والعسكريتاريّة لظاهرة عنف الشارع. ففي حالات السلم الأهليّ تأتي مُقاربة الدولة الفرنسيّة لفظيّة، إذ تعلن الدولة بشكل دائم علمانيّتها وجمهوريّتها وأنّها بالتالي لا تميّز بحسب الدين واللون وغير ذلك. ولكن يبقى ذلك الإعلان مجرّد إعلان نظري، فالدولة تعلن «المساواة» لفظيّاً بينما تُبقي مؤسّساتها كما هي دون وضع وتطبيق سياسة تغيّر في سياسة مؤسّسات الدولة. الدولة مثلاً لا تجمع معلومات عن الخلفيّات الثقافيّة و«الأعراق» في ملفّاتها (ملفّات المدارس مثلًا) فتُبقي الأوضاعَ الحقيقيّة في العتمة ولا يتمكّن الباحثون من معرفة ومتابعة الواقع الحقيقيّ للفرنسيّين من أصول مهاجرة. عنف المتظاهرين هذا العام لم يكن الأوّل، فقد وقعت أحداث مشابهة في الضواحي الفرنسيّة -وإن على مستوى أوسع انتشاراً وضرراً- في خريف 2005. لكنّ الدولة والإعلام الفرنسيَّين لا يطرحان في كواليسهما السؤال التالي: لماذا حدث العنف هذا العام في فرنسا ولم يحدث في بريطانيا، أو ألمانيا، أو في بلجيكا التي شهدت أحداثاً مثيلة في التسعينيات ثمّ انتهجت سياسات مختلفة تجاه الأحياء المُهَمّشة؟ القضيّة لا تكمن في توتّر بين الفرنسيّين من أصول مهاجرة والشرطة، أو شعور غضب لدى المهاجرين، بقدر ما تكمن في العنف المؤسّسي، العنصري الهويّة، للدولة وأدواتها، ذاك العنف الذي يُفرز هذا الغضب بسماحه بتفشّي التمييز العنصري في جسم الشرطة وغيرها من مؤسّسات الدولة. خريستو المرّ، الثلاثاء ١٨ تمّوز،يوليو ٢٠٢٣
"لا يجوز أن يموت أصدقاؤنا هناك كالعصافير" المطران جورج خضر تطرّق المطران جورج خضر مراراً إلى القضيّة الفلسطينيّة منذ الستّينيات، وجمعت مقالات له حول الموضوع في كتاب بعنوان «فلسطين المستعادة» (1969)، وكتاب آخر عن القدس (2003) قدّم له محمود درويش؛ ولا تكفي مقالات في تحليل أثر المطران جورج خضر على الفكر المسيحيّ العربيّ، وإن تناولنا لاهوت الحرّية لديه في مقالة سابقة فهنا نتناول بعضاً من رؤيته لفلسطين كما تتّضح في مقالاته في السنوات العشرين الأخيرة. الأُسس اللاهوتيّة والخُلُقيّة --------------------- رفض الظلم هو الأساس الخُلُقي لدى المطران خضر، فـ«الموضوع الفلسطيني عندي موضوع خلقي أساساً... قلتها منذ سنوات في المحافل المسيحية في الغرب. قلت: "إسرائيل حبل بها بالإثم وولدت بالخطيئة". هناك إذاً رفض في العمق روحي لهذا الكيان، رفض للظلم ولا مصالحة والظلم». ولكنّ قلبه دائماً على الإنسان أوّلاً: «من لا يبالي بالمقدّسات لا قدسيّة فيه، والقدسيّة الأولى ليست للأماكن الدينيّة، ولكن لشعب فلسطين»، فشعب فلسطين «هو المَقدِّس الحيّ لله. الهدف الأساسي لموقفنا الفلسطيني لا ينحصر في استعادة الأرض. نحن وراء استعادة الإنسان وشرفه». وتبقى انطلاقات المطران خضر من إيمانه المسيحيّ في الأساس: «لا أستطيع أن أعزل دم فلسطين عن دم يسوع. أنا مع فلسطين الجريحة لأني آتٍ من جنبه»، و«ليس هناك ما يسمى بـ"دار المسيحية"؛ هناك دار المسيح فقط، التي يكوِّنها بعضٌ من جماعته وبعضٌ من غير جماعته. من أجل ذلك يكون العراق وتكون فلسطين داراً للمسيح، وإن كانت الضحايا فيها مسلمة بالدرجة الأولى. كلُّ دم مُراق بسبب من ظلم واحدٌ مع دم المسيح». ولهذا «إذا هدأت غزة قبل صدور هذه الأسطر أو هدأت في الأيام المقبلة يجب أن نفهم أنّها مسيح جماعيّ... ومن لا يبالي بالمقدسات لا قدسيّة فيه، والقدسيّة الأولى ليست للأماكن الدينيّة، ولكن لشعب فلسطين». ولهذا ناهض التسويغ اللاهوتيّ لوجود الكيان الإسرائيليّ، فقبول دولة الاحتلال هو قبول بـ«الطرح الصهيوني الذي يسمّر وعود الله على أرض، بعدما حرّرنا المسيح من الأرض والتراب وكل ما يتعلق بالملك فكان هو المليك والمملكة ومطرح المواعيد وغاية المواعيد». ولهذا «أنا لست مع الدولتين إلى الأبد. لست مع الثنائية. مشتهى قلبي أن أرى فلسطين مستعادة». وإذ يرى خضر أنّ الله حاضرٌ في شهادة الدم في جنين «بسبب التضحيات المذهلة واسمها الشامل الرمزي، جنين، نزل الله كلّه على الأرض الفلسطينية»، فهو يستشرف زوال إسرائيل بسبب كثرة ظلمها نفسه الذي يستدعي مقاومتها: «أنا لا يسرّني أن الإسرائيليين فقدوا عقولهم هناك وسلك عسكرهم مسلك الذين فقدوا كلّ إنسانية فيهم. وهذا - في ميزان الحكمة التاريخية - يؤذن بانهيار هذا الكيان... بسبب من هذا السقوط الأخلاقي الذي لا اسم له في قاموس الخطيئة يتضح لي أن الحقيقة الساطعة الإلهية قد نبذت إسرائيل لأنّك لا تستطيع أن تظلم إلى الأبد وإذا ظلمتَ طويلاً لا بد لك أن تنفجر في هذا العالم قبل أن تحرقك العدالة الإلهية». فلسطين قلب العرب --------------------- ولا يكتفي خضر بالنظر إلى كيان الاحتلال بكونه خطراً على الفلسطينيّين وإنّما يراه أيضاً خطراً على لبنان لأنّه «إذا كانت حتى الآن لم تقبل بنشوء دولة فلسطينية لماذا تريدون أن تقبل باستقلال لبنان وسيادته؟»، وهو يراه خطراً على العرب جميعاً، ففلسطين قلب العرب، لهذا «لا يجوز لأي حكم عربي أن ينطوي على نفسه وأن يفتش عن سلامة قطره. في حضرة الله لا وجود لعربي لا يبالي بالقدس». ضرورة التعاضد العربيّ مع الفلسطينيّين --------------------------------- في سياق هذه الرؤية، تأتي دعوات المطران خضر للتعاضد العربيّ مع فلسطين، فكلّ تديّن ينبغي أن يُتَرجمَ نصرة للعدالة، لهذا يكتب: «أمنيتي أن كل الذين يقيمون أسبوع الآلام بدءاً من غد يجب أن يدمجوا المسيح مع أهل جنين وأن يرجوا ظهور قدس جديدة يسوسها الحق. لا مصالحة بلا حقّ وسقوط العنجهيّة واستئثار شعب واحد بالدنيا...وإذا فهم العرب دخول المسيح القدس رمزاً فلا معنى لأيّ تديّن لهم إن لم يستنفروا قواهم جميعاً لنصرة العدالة فيها... أيّة قيامة للعرب في جو التخاذل العميم؟... أن يتمسك العرب بكل أموالهم وكل منافعهم وكل اتصالاتهم يعني أنهم لا يحبون أن يترجموا أقوالهم فعلاً تغييرياً... ومثلما أتعزّى بصمود أهلنا في فلسطين - وهذا يبدو عندهم قناعة وقراراً - أحزن لتقاعس العرب...»، و«هل يرضى الله عن لحم الأضاحي أم عن القلوب المبذولة استنفاراً وعملاً ومشاركة في سبيل الذين يقدمون وحدهم أجسادهم أضاحيَ للحق؟»، فببساطة وعمق يرى أن «ليس لنا وجود أمام الله والتاريخ إن لم نحافظ على كرامة الفلسطينيين». كرامة الفلسطينيّين في لبنان ----------------------- ولا ينسى خضر وضع الفلسطينيّين في لبنان، ويحثّ المسيحيّين على رفع الصوت لرفع هذا الغبن عنهم، فـ«ماذا يمنع أن يتمتع الفلسطينيون بكل كرامة وكل حرية وحق العمل في الوطن اللبناني؟». «كنت أتمنى أن أسمع من غير جهة أنه يجب رفع الظلم والفقر عن أهل المخيّمات وأن يلحّ المسيحيون على ذلك». ضرورة زوال الصهيونيّة ورفض التطبيع -------------------------------- ويرى المطران خضر أنه «لا تنتهي القضية بترتيب البيت العربي في فلسطين مصغّرة، خجولة، هزيلة. المسألة ليست في إنشاء هذا الكيان، ولكن في اعتراف الفلسطينيين أو عدم اعترافهم بالدولة اليهودية. إذا تضمّن إنشاء الدولتين تبادلاً دبلوماسياً بينهما انتهت القضيّة الفلسطينيّة. لإسرائيل أن تبقى على مستوى الواقع لا على المستوى الحقوقي (de jure) ليس فقط لأننا نتمنى أن تتوحّد كل أرض فلسطين التاريخية، ولكن لأننا ننكر الإيديولوجية الصهيونية». فبالنسبة إلى الصهيونيّ «مضمون التطبيع عنده أن يبقى مسيطراً أي أن رغبته الحقيقية الظاهرة في كل النصوص الصهيونية أن يسخّرنا لمجده، لتفوّقه، لاستغلاله إيانا ويستعمل كلمة حضارية "التطبيع" وهي كلمة حق عنده يراد بها باطل. هناك حالة يمكن التطبيع معها هي حالة سقوط الفلسفة الصهيونية... فإذا تهاوت هذه الفلسفة نكون أمام مشكلة تعايش شعوب تدين بالديموقراطية وترغب صادقة في أن تعيش متساوية في الكرامة». هذا الموقف الاستعلائيّ الاستغلاليّ القاتل هو في قلب أسباب مواجهة خضر للصهيونيّة لأنّه موقف استلاب للإنسان، «فإن لم تسقط الصهيونية تكون الدولة العبرية على موقفها الإقصائيّ الصميميّ للعرب. وتكون العلاقات بيننا وبينها حلولاً ترقيعيّة هي نهايتنا نحن على المستوى الحضاري والإنساني ولو بقيت على الخريطة رقعة تسمى فلسطين. والهزالة التي تكون عليها فلسطين هذه ستنتشر سرطاناً في كل الجسم العربي». لهذا نحن في حالة حرب و«حربنا مع الصهيونية هي حرب على عقدة التفوق للاستيطان والتوسع». النضال والجهاد في مسعى حرّية --------------------------- يقضّ مضجع المطران القتل الذي يمارسه الاستيطان والتوسّع بحقّ العُزّل والصمت حياله: «هناك، في الأراضي المقدّسة، يموت الأطفال ويقتلهم هيرودس جديد ويمعن في التقتيل وليس في الدنيا من يبكي الأطفال كأنهم ليسوا من طراوة هذا الوجود... لا يريد العالم حقاً أن يكون الفلسطيني حراً في هذه البقعة الصغيرة التي تُركت له من بلده. ويعلموننا حقوق الانسان. أي إنسان؟ أيريدون أن يكبّوا أهل فلسطين في الصحراء أو ما وراء البحر؟ كيف أحيا أنا والظلم عميم؟». لهذا كان النضال ضرورة حياة وشهادة للحياة والإيمان: «من يحاسب هذا "الوحش الطالع من الهاوية" الذي انقضّ على أهل نابلس ورام الله وبيت لحم وسواها. أي جاورجيوس ينقذ فلسطين العذراء من التنين؟ ستقوم فلسطين ليس فقط بمقادسها ولكن بمجاهديها الميامين». فترى المطران خضر يقف بخشوع وتصميم أمام الشهداء: «سلامٌ على أجساد أحبائنا المطهّرة في فلسطين كلها. إخواننا هناك مدعوّون إلى المجد. وسنناضل مما أوتينا من وسائل لتحقيق هذا المجد». فتكون شهادة الدم خطاباً إلهياً ودفاعاً عن الكرامة الإنسانيّة، فـ«إذا كانت كرامة العرب يصنعها الشباب الفلسطيني بدمه فكل شيء آخر يأتي شهادة لهذا الدم أو لا قيمة له. ما من ضحية أُهرقت إلّا واقتبلها الله خطاباً بينه وبين أحبّته في الأرض». وما كانت شهادة الفلسطينيّين إلّا مسعى تحرّر، فهم «يشهدون بتمردهم للإنسان العظيم الطالع من الحرية». خلاصة ------ ويبقى المطران جامعاً في قلبه بين يسوع ووجوههم، ناشداً الحرّية للفلسطينيّين بالنضال تأكيداً للحياة الحرّة، موحِّداً بين نضالهم ونضال كلّ معذّبي الأرض من أجل الكرامة والحرّية: فـ«منذ سنوات كثيرة وقبل حرب لبنان كنت قد كتبت: "المسيح اليوم لاجئ فلسطيني"... إن السيّد تماهى ومستضعفي الأرض. اليوم أذهب إلى أبعد من ذلك لأقول: إنّ المسيح هو الولد الذي حمل الحجر في الانتفاضتين وألقاه. كنّا نسمي هذه الحركة ثورة الحجارة. كانت هذه رمزاً للحياة الجديدة الطالعة من طلب الكرامة ليس لفلسطين فقط، ولكن لكل المعذّبين في الأرض...الحجر... كان رفضاً للغطرسة وكان تأكيداً للحياة الجديدة الآتية لأهلنا أكانوا في الأراضي عندك أم في الناصرة أو القدس أو بيت لحم أو بيت جالا وما إليها جميعاً». فضلُ خضر في تأسيس لاهوت مسيحيّ عربيّ حول فلسطين أكبر من أن يُشكر عليه، ونحو هذه الحياة الجديدة الآتية التي نتوق إليها نمتدّ بالإيمان والحبّ والفكر والنضال والحرّية والمساواة. خريستو المر الثلاثاء 11 تموز 2023
لم يَحِد الشيخ، الذي بلغ المئة من السنين منذ أيّام، عن أغنية الحبّ والحرّية التي في قلب الله والتي قالها يسوع بجسده المعلّق على الصليب شهادة منه أنّ الظفر لا يكون إلّا بالحرّية ولو كانت مطعونة. كلّ الكلام الذي يُقال في الكنائس عن الطاعة، والذي يعني عادة الخضوع، كان جورج خضر يحطّمه بكلماته عن الحرّية التي تلد الإنسان في يسوع، بدءاً بجرن المعموديّة الذي يحرّر كلّ شخص من التبعيّة ويطلقه أخاً أو أختاً ليسوع ويعطيه أن يكون فاعلاً مسؤولاً يشهد للحقيقة، ولهذا يكون الحقيقة ويقولها حتّى ولو تحامل عليه القطيع أو قاطعه أو قتله، فما من تلميذ أفضل من معلّمه كما قال يسوع. لم يرَ جورج خضر الطاعة سوى فنّ الإصغاء، كما تعني الكلمة في جذرها اللاتيني، فعرفها فنّ الإصغاء إلى الحبّ، فنّ الإصغاء إلى يسوع الذي جسّد الحبّ والحقّ. لذلك رأى مطران الحرّية أن «في الصليب يغدو أحدنا حبيب الآخر بعدما أحبّنا هو [يسوع] أوّلاً واستجَبنا لحبّه في الطاعة» أي في الإصغاء لحبّه ومبادلته الحبّ بحبّ، لهذا رأى المعلّم خضر أنّ «الطاعة مطلوبة، ولكن في الملتقى السماوي الذي هو قلبك... أنت تختبر هذا إن كنت من العاشقين». لذلك ميّز بوضوح أنّه «إذا أطعت بشراً فلِتَوَفّر الدلالات على أنّهم هم خاضعون لربّهم... خضوعه [الإنسان] لله ينفي كل عسف واعتباطية بمعنى أن لا قدسيّة لإرادتك ما لم تكن متطوّعاً لله دائماً». رأى دائماً خضر الحقيقة ففهم أنّه «لكون الكنيسة تبغي الحقيقة... لا يؤخذ فيها مفهوم الطاعة على مقياس الطاعة في الجيش». وإذا كان الإصغاء ليسوع، أي للحقّ والحبّ، نفهم كيف أنّ «الطاعة لله هي سبب السلام»، إذ لا طاعة لله دون محبّة الحقيقة والعدالة فـ«أنت مفوّض الحقيقة في الكلمة وفي السلوك». «الطاعة فقط لله أي لكلمته ولمن قال هذه الكلمة. أنت تخضع فقط للحق... نحن لسنا عبيداً لأحد... لا طاعة لمخلوق ما لم يكن ناقلاً بفمه أو أفعاله الرأي الإلهي. ليس عندنا نحن المؤمنين طاعة بحسب التراتبية... كلّ علاقة لنا مع الناس يحكمها قول الإسلام: "لا إله إلا الله" وهو قولنا جميعاً». المشغوفون في الكنيسة بخضوع الناس للناس تحت مسمّى «الطاعة» ما هم أحبّوا مطران الحرّية، ولو كرّموه، لأنّهم ما أحبّوا معلّمه يسوع. هؤلاء لم يفهموا أنّ طاعة إنسانٍ أو جماعةٍ على ضلالٍ وغيّ، هي تمرّد على المسيح، ولهذا قد تذهب بك عن معموديّة الروح فـ«المعمودية إشارة إلى أنك اصطبغت بالروح القدس، ولكنّ كثيرين سقطوا منها وذهب عنهم الروح القدس... ومعمودية الروح تعني طاعة المسيح». مَن قرأ يسوع المسيح في كلمات خضر يعرف أنّ الملكوت لا يُعطى إلّا للأحرار لأنّ الحرّية هي شرط المحبّة والمحبّة هي الله نفسه. ومَن قرأ يسوع في كلمات خضر قرأ أيضاً أن لا حرّية في قايين الذي لا يعرف نفسه مسؤولاً عن أخيه، لأنّ المحبّة هي شرط الحرّية من الطغيان والأنا تطغى إن لم ترَ الآخر في حاجاته وآلامه أخاً وأختاً. حرّر المطران خضر بنقله وجه السيّد الحرّ على الصليب كلَّ مَن كان يتوق إلى الحرّية من الأشياء والأشخاص والطوائف والذكاء والأنا والجماعات، ومَن لم يُرِد هكذا حرّية سمع المطران ولم يفهم، يمكنه أن يدبّج الأقوال في خضر ما يشاء لكنّ ذلك لا يعني أنّه أطاعه، أي أطاع المسيح الذي فيه استقرّ. هذا المحرّر الثوريّ عبّر في الخمسينيات من القرن العشرين أن «شاء الانسانُ أن يَرفُضَ الحرّيّةَ... والناس يقلّدون ويؤْثرون التقليد... لأنّهم يخافون أن يتحمّلوا مسؤوليّة اختيارٍ أصيل وهُم في ذلك مجرّدون عن الشجاعة والجرأة، منقادون إلى تيار العرف، رازحونَ تحت الوطأة الاجتماعيّة الخائفة. يأبون أن يكونوا أفراداً يَخلقون حياتَهُم لأنّ اندماجهم بالدهماء والعامّة أضمن لراحة البال وأقلّ انشغالاً من التقرير الفردي الخيّر». رجاؤنا أن يكون للمعلّم المحرّر جورج خضر ما أراده لنفسه حين ناجى يسوع قائلاً: «شيئاً واحداً أطلب، ألّا تصرف وجهك عنّي، ولكنّي اشتقت إلى الذهاب لأستريح. اكتبني في سفر الحياة. تعال أيها الرب يسوع واكشف لي وجه الآب». أمّا الذين سمعوه فِعلاً، وأطاعوا ما فيه من جهة كلمة الحياة، وتلقّفوا الجمر الساقط من فمه ليحترقوا به، فيذكرون كلّ يوم وصيّته لهم في خطاب له في عيد تأسيس حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة في ثمانينيات القرن الماضي: «روحوا حبّوا». خريستو المر، الثلاثاء ٤ تمّوز ٢٠٢٣
في إحدى جلسات النقاش في لقاء أكاديمي، أدلت أستاذة، لا أشكّ بمقدراتها العلميّة، بملاحظة تقول بأنّ العنصريّة هي من طبيعة الإنسان وليست وليدة التربية، وأسندت ملاحظتها إلى فكرة أساس بأنّ الإنسان، أينما كان، يخشى المُختلِف ويرتاح للشبيه. لا شكّ أنّ الملاحظة مهمّة وصحيحة، ولكنّ الخطأ يكمن في الاستنتاج بأنّ ذلك يعني أنّ البشر عنصريّون بالفطرة، أي أنّ العنصريّة هي جزء من طبيعة الإنسان. يمكن فهم الخشية من المُختلِف أو الحذر منه بالعودة إلى الزمن الذي كان الإنسان فيه يحيا دون حماية دولة (رجال شرطة وجيش وغير ذلك) حيث كان لديه أقلّ من جزء من الثانية ليقرّر أمام شخص غريب يراه لأوّل مرّة إن كان ذاك الشخص يشكّل خطراً على حياته أم لا؛ وبناء عليه يمكن فهم تطوّر الإنسان ليرتاح إلى الشبيه، ويرتاب من المُختلف على أنّه تطوّر حدث من زاوية الحاجة الأساس إلى تصنيف سريع للآخر على أساس مجموعة بسيطة من الصفات كالشكل، واللون، ونوع الملابس، التي يمكن تقييمها بجزء من الثانية فقط، والسرعة هنا ضروريّة لأنّ الفرق في نتيجة التقييم (إمكانيّة الصديق أو العدوّ) يعني الفرق بين الاستمرار في الحياة أو الموت. الخشية من المُختلف أو «الغريب» لها إذاً أهمّية في مسارنا التطوّريّ كونها عنصر استمرار في الحياة، وتدلّ العلوم اليوم على أنّه مزروع في اللوزة الدماغية أو اللوزة العصبية (amygdala). الحذر أو الخشية من الغريب، والارتياح إلى الشبيه لا يعدو كونه آليّة نفسيّة يمكنها أن تساعدنا على الاستمرار في الحياة، في حال كان التقييم ينتهي إلى تحديد خطر على الحياة؛ فإنّ التحفيز السريع بواسطة الأدرينالين يدفعنا لنقوم بأحد أمرين معروفين: الهرب من مصدر الخطر أو القتال، حسب الظرف. هذا كلّه، لا علاقة له بالعنصريّة، الخشية من الآخر المُختلف لا يمكن أن نسمّيها عنصريّة، وإنّما يمكن تسميتها بخشية الغريب المختلف (xenophobia)، ليس بالمعنى السياسيّ الاجتماعيّ الذي تتّخذه الكلمة اليوم والذي يعني الدعوة إلى استهداف الأجانب، والتهجّم عليهم، والتنكيل بهم، واتّخاذهم كبش محرقة لكلّ فشل اجتماعيّ وسياسيّ واقتصاديّ. ليس هذا ما نقصده بالخشية من الغريب، وإنّما نقصد الحذر الفطريّ من الآخر المُختلف تيقّظاً وحماية للحياة. ما نقوله إنّ هذا الحذر ليس هو العنصريّة. العنصريّة نظام خلقه الفكر الأوروبيّ منذ بضع مئات من السنين، وقام على تصنيف البشر إلى مجموعات سُمِّيَت عناصر (races). قام هذا النظام على فكرة تعتبر أنّ الأوروبيّين يمتلكون ميّزات خاصّة تجعلهم أعلى ذكاءً وأخلاقاً من غير الأوروبيّين، وردّوا أسباب ذلك إلى كونهم من «عنصر» أبيض. العنصريّة كانت نتيجة فكر قرّر بأنّ الأوروبيّ «الأبيض» أعلى من بقيّة الناس؛ والأبيض هو حصراً الأوروبيّ مهما كان لون جلد الإنسان (بعض العرب يظنّ أنّه أبيض بحسب لون جلده، ولا يخطر له أنّه ليس كذلك في التعريف الأوروبيّ للصفة). على أساس هذا التمييز المُختَلَق في الأخلاق والذكاء، بنى الأوروبّيون نظرتهم المحتقِرة إلى ما هو غير أوروبيّ، وتصرّفاتهم المجحفة بحقّ الآخرين المختلِفين، بنوا نظاماً كاملاً من الاستغلال لكلّ ما هو غير أوروبّي، نظاماً حلّل استعباد الآخرين وسرقة أراضيهم واستغلالهم وقتلهم وإبادتهم إن لزم الأمر، كونهم «أدنى» وكون الأوروبيّين يحاولون أن ينقلوهم إلى مستوى «الحضارة» التي هي حصراً أوروبيّة. العنصريّة هي نظام تصنيف لمجموعة بشريّة على أنّها «أعلى» قيمةً في الإنسانيّة من مجموعات أخرى، هو نظام وليس مجرّد شعور شخصيّ، نظام له جيشه، وأدوات إعلامه، وسفراؤه، وتكنولوجيّته. يكمن أذى العنصريّة أساساً في كونها تؤسّس نظاماً متكاملاً لسيطرة مجموعة على مجموعة أخرى واستغلالها؛ ويمكن التمييز بين عنصريّة فرديّة تقوم على اعتقاد فرديّ بقيمة أدنى للآخر من المجموعات الخارجيّة، وعنصريّة مؤسّساتيّة تقوم على إعطاء المؤسّسات أولويّة لمجموعة على حساب مجموعة أخرى (مثلاً، إصدار المؤسّسة القضائيّة أحكاماً أقسى بحقّ أعضاء مجموعة بشكل مستمرّ)، ويمكنها أن تكون عنصريّة ثقافيّة تقوم على اعتبار أنّ ثقافة مجموعة أخرى هي أدنى من تلك التي للمجموعة الذاتية (فنّها، عاداتها). إذاً، أساس العنصريّة هو فكرة الأعلى والأدنى في الإنسانيّة، بينما لا يقوم الحذر من الغريب وخشيته سوى على غريزة البقاء. الحذر من الغريب هو خطوة أولى بعدها قد يقرّر الإنسان أنّ الآخر لا خطر منه، وبالتالي لا ضرورة للهرب أو القتال، أو أنّه بالفعل يشكّل خطراً، وبالتالي من الضروريّ اتّخاذ القرار بالهرب أو القتال. الحفاظ على الحياة الذاتيّة هو الهدف من خشية المُختلِف، بينما هدم حياة الآخر هو الهدف من العنصريّة. الخشية من الآخر الغريب شعور ذاتيّ أوتوماتيكيّ محفور في الدماغ، بينما العنصريّة هي فكر وقرار إراديّ بأنّ الآخرين لا يساوون الجماعة الذاتيّة في الإنسانيّة. الحذر من المٌختلِف يولد مع الإنسان، أمّا العنصريّة ففكر يستمرّ بالتربية والنظام والمؤسّسات. شتّان بين الأمرين. لا، العنصريّة ليست مسجّلة في طبيعتنا البشريّة، هي وليدة تفكير إنسانيّ يمكن ويجب تغييره ومواجهته. حتّى الحذر من الآخر المُختلف المسجّل في جيناتنا ليس قدراً، وإنّما يمكنه أن يتأثّر بالظروف المحيطة، كما يدلّنا علم الجينات نفسه، أي أنّ الميول الجينيّة تتأثّر بالتربية والدعاية والنظام التربويّ وغير ذلك. صحيح أنّ الحذر الفطريّ من الآخر المختلِف لم يعد له مبرّر حضاريّ لأنّنا الآن نعيش في دول تحمينا فيها آليّات مختلفة، ولكنّه لا يزال مسجّلاً فينا، ويمكن تحفيزه سلباً بواسطة وسائل الدعاية ليتحوّل إلى اعتقاد سلبيّ، وتصرّف سلبيّ تجاه الآخرين المختلفين، أي إلى إجحاف بحقّهم (prejudice)، أو يمكن تجاوزه بالتربية على التعاون والقبول بالتنوّع والاختلاف. |
الكاتبخريستو المر الأرشيف
December 2023
Categories |