خريستو المرّ
الثلاثاء ٢٠ كانون أوّل / ديسمبر ٢٠٢٢ يا رفيق الغرباء، يأتي عيدك فنحاول أن نتمسّك بالفرح، في لقاء، في عطاءٍ، في إشراقة شمس، أو في نجمٍ بعيد في ليل البلاد. نخاف سارقي الفرح يا أيّها الآتي الذي أتيت، والكائن الذي كان والذي يأتي. أنت الغريب الذي طفولته أراد القاتل أن يقتله كي يسطو اللصوص على فرح الأرض بملامستها السماء، وفرح القلب بملامسته الضياء. طاردوك وأنت بعدُ طفلٌ، ولاحقتك أوامر القاتل، فهرب بك أهلك. والقاتل يتناسخ في كلّ جيل، ولطف الطفولة يتكاثر في كلّ حبّ، وإخوتك المُحبّين ما زالوا يُضطهدون من أبرياء بيت لحم إلى كلّ بريءٍ اضطُهد في بلاده، أو طُردَ خارجها كما طُرِدت عائلتك في طفولتك. في طفولتك الهشّة البريئة تخفّت ملوكيّتك، فأشار إليها زوّارك بأنْ أهدوك ذهبًا كما تُخبِرُ حكايتك الغريبة. إنْ دعاك محبّوك ملكًا فَهُم لا يخلطون بين مُلكِكَ ومُلك قيصر؛ أمّا الذين اتّخذوك وثنًا لسطوة القبيلة فيحلمون بمُلكٍ مغمّس بالبطش والدماء. رآك يهوذا ذاهبا إلى الموت فخانك لأنّه تمسّك بصورته عنك كملك مُحاربٍ، ولم يرك ملكًا عندما غسلْت أرجل تلاميذك لتقول إنّك ملكٌ خادمٌ للحياة. اليوم أيضًا، يهوذا بيننا كثرةٌ لا تفهم أنّك كسرْت سيف التسلّط بين أتباعك الحقيقيّين ليغدوا خارج صراع المالك والمملوك، ويصبحوا حلقة من الخدّام حولك يغسلون قدميّ الأرض بالصداقة والأخوّة والحبّ ليضيء التراب. حين كبُرتَ وهمّوا باختطافك كي ينصّبوك ملكًا تواريتَ، ولم يعلنْك أحد ملكًا إلّا قاتلوك عندما كتبوا تلك العلامة فوق رأسك يوم صعدتَ سلّم الآلام، وأسلمت الروح عاريًا من كلّ بطش ومكلّلا بالشهادة. عندها بدت الأرض البسيطة سماءً بعدما نامت السماءُ البسيطة في ذاك المزود يوم ولدت وحملتك مريم، وكنت قد كبرت بين يديها لتنام أخيرًا فوق شجرة الحياة بعد تلك الجلجلة. والجلجلة في فلسطين باتت مسيرة شعب كامل بات وجهك المتألّم والمنتصر. كما احتملتْ مريم سيف الفجيعة فوق تلك الجلجلة لنولد نحن في مزود الحبّ الإلهيّ، سكّن أنتَ أوجاع مريم الكامنة في كلّ أمّ يجتاز أحشاءَها سيف الاحتلال والاضطهاد العنصريّ. يُقال إنّك أُهديت في ولادتك مرٌّ، وأنت تذوّقت المرّ قبل أن تدوس الموت بموتك لتعطي لمرارة فَمِنا أفق نصرٍ قريب. ويُقال إنّ هديّتك الثالثة كانت طيبًا، وفي شبابك سكبت امرأة طيبًا على رجليك لتشير إلى موتك القريب. أنت طيّبنا بالطيب الزكيّ الذي تسكبُه السماءُ كلّ يوم فوق أرجل المحبّين، كلّما ساروا عميقًا في الحبّ فوق جلجلاتهم الكثيرة، وكلّما واجهوا بالحبّ ظلم الظالمين، وكلّما أضاؤوا فأرادت المجتمعات المرتاحة إلى كهوفها أن تدفنهم في الخارج على عجلٍ. أنت تطيّب المحبّين الشاهدين للحقّ والحياة إذا ما عرّاهم الحبُّ البسيط من كلّ ظُلمةٍ ليتلألأوا معك. أيّها الطفل الغريب، الضعيف المرتجفُ، الفاتحُ عينيه على الهشاشةِ، وعلى دهشة الخليقة، ستبقى أمامنا جنونًا وفضيحةً للجشع ونداءً للمشاركة. لم يحتمل المدفونون في تسلّطهم وممتلكاتهم حرّيتك وجمالك، فحاولوا قتْلك طفلاً، ثمّ شابًا، حاولوا أن يجعلوك على صورتهم لا صورة لك ولا جمال، ولم يتخيّلوا أنّ بذهابك في الغربة إلى أقصاها، إلى الموت، سطعتَ حقيقةً إلهيّةً-إنسانيّة، وانتصرتَ بالحبّ المكسورِ رفيقًا أبديًّا للكلّ، وخرج من جرحك نهرُ تجديدِ الخليقةِ وفرح المشاركة. أيّها الطفل، الملك في مملكة الحبّ، بولادتك تعانق السماء الأرض، وتقول إنّ الأرض يمكنها أن تكون السماء أو تهجّئتها. بك صار المـُحِبُّ الأزليّ محبوبَه، وميلادك يحوّل محبّيك أولادًا على أبواب الأبديّة في قلب الله، ليضيؤوا بالألق الإلهيّ، ساكنين في الأرض متجذّرين في السماء، محبّون ومُضطهدون، فقراء ويغنون كثيرين، يفتقرون الى كل شيء ويفيض عنهم كل شيء، مبغوضون بلا سبب وفرحون. يا طفل الحبّ المرتعش المنتصر، يا قدرة الحبّ المجنون، اجعلنا رفاقَك، ليصبح كلّ شيء فينا وبين أيدينا في خدمة الحبّ. لا نطلب مَلِكًا غيرك لأنّك حرّية ولا نريد أن نكون عبيدا لأحد. أنت تريد رفاقَك ملوكَ حبٍّ مثلك، ولهذا يتبعك المحبّون من كلّ الأرض، في كلّ جيل، ويجرون خلفك في كلّ رحلةٍ غريبةٍ، لأنّك ما تأخذهم إلّا إلى أنفسهم الساطعةِ وحياتهم العميقةِ. يا طفل القدرة الكلّية، في المزودِ البسيط أعلن ميلادُك لقاءَ الحبّ بين الله والبشر وغدت إنسانيّتنا عيدًا. خريستو المرّ
الاثنين ١٩ كانون أوّل / ديسمبر ٢٠٢٢ إلى فالنتينا وهو العامل في صقل الحجارة كان يتلمّس جبال لبنان النائم وجهُها في حائط البيت القرويّ مساء ذاك الجمعة في المنصوريّة. اتّكأ على الحائط، أشعل لفّافة التبغ، ووقف يتأمّل الناس وسيّارات نادرة تمرّ في الطريق المقابل. ماذا كان يفكّر تماما مساء ١٩ كانون أوّل ١٩٧٥؟ لا أحد يعلم تمامًا. لربّما كان يتفكّر في هموم العائلة، أو في واجبٍ، أو ألم؟ لربّما كان يفكّر بعودة ابنته الصغرى من المدرسة سعيدةً ببداية عطلة الميلاد ثمّ ركضها من بين يديه إلى بيت عمّها متأبّطة لوح أردواز صغير وطبشورتين. ربّما، لكن على الأرجح كان يتفكّر في تلك "النصائح" التي جاءته بطرد عمّاله الفلسطينيّين من سكّان تلّ الزعتر؟ "لا نريد غرباء في مناطقنا". لكنّه قرّر أنّه لا يستطيع أن يكون إلّا ذاته. لا بدّ أنّه سمع أنّ الناصريّ كان نجّارًا، ولا بدّ أنّ القلب إذا لم يتحوّل حجرًا يرى ملامح الناصريّ خلف وجه سكّان الهامش في كلّ جيل. لم ينصَعْ للتهديد... "ويسمّون أنفسهم مسيحيّين! لو كان المسيح هنا لطردهم من الكنائس". هل ندم أنّ أهله عادوا به من تشيلي إلى المنصوريّة بعد هجرة طويلة؟ عندما عادوا كانت طرقات المنصوريّة الترابيّة غير متناسبة مع أحذية أختيه النسائيّة. "عدنا في التاريخ إلى الوراء مع عودتنا إلى لبنان". لكن لا يبدو عليه الندم، فصديقه لبيب كان يعدّ العدّة للهجرة إلى كندا ونصحه مراراً بالهجرة وهو رفض. وها أنيس واقف يتأمّل نتف التبغ تشتعل ولكأنّه يتمنّى أن تحترق معها همومه. وبين نفخة وأخرى، مزّقت طلقات رصاصٍ جلباب سكينة المكان. وقع أنيس وهو يقبض على الدفء السائل من أحشائه بينما يقبض الخوف البارد على جسمه. ركضٌ وصراخ ملآ المكان. الناس يتفرّقون كالعصافير. الرصاص استمرّ في أنحاء المنصوريّة ذلك اليوم. بعد دقائق وصل أخوه واستطاع سحبه إلى سيّارة قريبة ليتلوّى أنيس مع الطريق الصاعدة إلى المستشفى. قال أخوه لاحقًا أنّ المستشفى الحكوميّ في بحنّس، رفضت استقباله "لا نستطيع". خوفهم كان يقول أنّهم تحت تهديد فأنيس كان شيوعيًّا. . "الأولاد"، قال أنيس لأخيه. والأولاد سمعوا بسقوط أبيهم ولم يروه. كان الرصاص ما يزال ينهمر على منزل آخر. أولئك كانوا قوميّين؛ في ذلك الزمن لم يعد البشر بشرًا في عيون بعض، باتوا عناوين خرافيّة في أذهان غارقة في مستنقعات حقد. كان ذلك في زمن يشبه زمننا كثيرًا. قتل المُغتالون شابًّا وخطفوا أخيه، لا تزال آثار قدمي الأخ تودي إلى لا مكان، لا يعرف أحد إلى اليوم أين تنام عظامه، ولكنّ ناس ذاك الزمن المنصوريّ يذهبون إلى الكنائس براحة ضمير مذهلة. تقلّصت المسيحيّة ذلك اليوم في المنصوريّة؛ بعضهم يقول أنّه لمحها تعود إلى جرن المعموديّة وتختبئ عارًا، ويٌحكى عن تمثالٍ من ذهب وبارود قرّر بعض مَن تسمّوا باسم يسوع أن يقيموه في وسط أيّامهم ويشربوا كأسه، وقرّروا أنّ الآخر «غريب» وأنّ مَن مشى مع الغرباء يجب أن يُقتَل، تناسوا أنّ المسيح هو الغريب الأكبر وقرّروا أن يصلبوا باسم مَن صُلِبَ ولم يَصلب. ما تزال ملامح التمثال ماثلة للعيون الرائية. كان دم أنيس يسيل ويختلط في السماء بدم كلّ غريب عُلِّقَ على حقد، من يسوع إلى نهاية العالم. رفضوا استقبال أنيس، فعادت السيّارة من المستشفى إلى اللامكان. هناك خارج المكان، في الصمت المطبق على المساحة بين الأخوين، في الزمن المعلّق بين اللاتصديق والموت المتسرّب في البرودة، توقّف قلب أنيس وعلى شفتيه كلمة تتدلّى. توقّفت الطفلةُ عن لعب دور المعلّمة مع رفيقاتها، وقَفَت، وقع لوح الأردواز من يدها، عندما سمعت الرصاص ينهمر ذاك المساء. وقع اللوح ووقعت عن الحروف نقاطها. تلعثمت الحياة وصمتت الطفولة في حزن وخوف. لعلّها صارت معلّمة لاحقًا لكي تضع النقاط على حروف المعنى في بلادٍ طَعَنتِ المعاني باسم الله. لعلّ الله اختار أن يكتب بها سطور معنى بحبر اللامعنى الذي يصنعه البشر عندما يقتلون الأبرياء. ركضت إلى المنزل. الجميع صامتون متجهّمون قلقون. قضوا الليلة والرصاص ينهمر حول المكان. في اليوم التالي خرج وليم الأخ الأكبر وبعد وقت استطال عاد، جلس، وأجهش بالبكاء. فهمتْ هي، وتوقّف كلّ شيء. دوارٌ. لا شيء آخر. أُتي بالمطران خضر على عجل. لم يُسمح لعائلة بوداع الزوج والأب، تمّت مراسم الدفن على عجل. ذلك اليوم، قتل الرعاع أنيسًا، "صديقًا حسن الألفة" كما يعني اسمه؛ قتلوا إنسانًا مُحبًّا ودفنوه في المساء على عجل، تمامًا كما دُفِنَ المسيح يومًا. فالناس يقتلون على عجل، ويدفنون على عجل، لئلّا تفوتهم مواعيد الصلاة. عاد أخُ أنيس وعينيه بحرٌ، قال أنّه رأى كلمة تتدلّى من فم أخيه وبقيت معلّقة على شفتيه، قال أنّه لم يستطع فكّ حروفها. الرصاص تتابع حول المنزل ليومين. الرحيل أفضل من الموت، ربّما. وكما هجّر الشرّ يسوع وعائلته تهجّرت عائلة أنيس. عبرت صحارى عديدة في رحيل بدا بلا نهاية. تقول رؤيةٌ في أحشاء كلّ إنسان أنّ مَن عاش من القتلة عاش حيّا ميتًا، لا هو يموت تمامًا ولا هو يعيش تمامًا، عاش جحيمًا متواصلًا من تفسّخ الذات. لا يفهم كلّ الناس أنّ المحبّة هي الحياة وأنّ قاتل الأبرياء يقتل نفسه أوّلًا. كانت كلمة أنيس المتدلّية لغزًا لم يفهمه أحد. ابنته الصغرى تقول أنّها رأت والدها في الحلم، أعطاها اللوح وعليه كلمة: كتاب. قالت أيضا أنّها رأته يوما آخر وقبّلها وعلى فمه رسمُ فراشة. أو هي ربّما لم تقل، ولكنّ ربّما رآها الحلمُ في حلمِه تحلمُ وتقول، وأمّا الشاهد فيقول أنّه رأى معلّمة تضع النقاط على حروف هائمةٍ فصارت معنى، ووزّعت خبزَ الحياة صباحًا دافِئًا متدفّقًا ممّن هو ألف الحبّ وياؤه، ليصير يوم الضائعين أنيسًا. خريستو المرّ
الأربعاء ١٤ كانون الأول 2022 الانتماء اللفظيّ والرسميّ إلى دين لا يعني شيئاً في مقياس الإيمان، فقد يكون الإنسان على دين شكليّاً ولا يؤمن «قالت الأعراب آمنّا، قل لم تؤمنوا، ولكن قولوا أسلمنا ولمّا يدخل الإيمان في قلوبكم» (الحجرات ١٤). الإيمان علاقة مع الله مترجمة حُكماً في علاقة مع الآخرين ومع الطبيعة المخلوقة، إذ لا بدّ أن ينعكس الإيمان في التعامل اليوميّ، ولهذا كان حُسن المعاملة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمحبّة، من الإيمان الأصيل، ولا بدّ أن تُعاش في الذات أوّلاً، وإلّا أُفرغت تلك العبارات من معناها، وباتت مجرّد أُطر فارغة. ليست وصايا الله بالتآخي البشري أوامر صمّاء لا منطق فيها، وإنّما نصائح لكي يحيا الإنسان بحسب طبيعته، أي كي يعمل بحسب توقه الطبيعيّ إلى الخير كإنسان، وإنّما الدين النصيحة على ما ورد في حديث شريف. فوصيّة المحبّة مثلاً، وهي قمّة الوصايا في المسيحيّة، تلبّي توق الإنسان الفطريّ الذي تبيّنه الاختبارات الحديثة. ما الإنسان ذئب الإنسان وإنّما هو أخو الإنسان بالفطرة، والطفل يتعاطف مع غيره عفويّاً كما تبيّن معطيات علوم اليوم. وإن كانت العداوة البشريّة ممكنة لأنّ الخطأ أو الخطيئة هما جزء من خبرتنا في هذا العالم، فعندها تصحيح المسار ضرورة. أمّا عندما يتحوّل الخطأ أو الخطيئة إلى طريقة حياة فعندها ينفصل التديّن عن الإيمان، وندخل في الإلحاد العمليّ: البعد العمليّ عن الله ووصاياه رغم الانضمام الرسميّ إلى ديانة من الديانات التي تدعو إلى عبادة الله. الملحد عمليّاً هو مَن تصرّف في انعزال عن الأخوّة البشريّة، عن وصيّة الله بالتآخي. إذاً من التديّن ما يمكن أن يكون إلحاديّاً إن كان قائماً على التزام شكليّ طقوسيّ بالدين مع اعتماد تصرّف فعليّ في التعامل الملموس اليوميّ مضادّ لمشيئة الله بالتآخي، من استغلالٍ للآخر إلى التسلّط عليه. عندما يعتمد المنتمون إلى الطوائف لغة التقاتل الطائفيّ والنبذ والتباغض والسطو على حصص من المال العام، مثلاً، فَهُم بعيدون فعليّاً عن الله وبذلك هم ملحدون عمليّاً. وعندما نتمسّك بـ«مصالح» الطائفة كجماعة بشريّة متراصّة متنافرة مع كتلة أخرى، ونسعى عمليّاً إلى بناء مملكة قهرٍ أرضيّة بغطاءٍ سماويّ، فتديّننا إلحادٌ عمليّ. في المقابل، هناك الإلحاد الفكريّ وهو يبقى سرَّ العلاقة الشخصيّة التي بين كلّ إنسان وبين الله الذي يخاطب الإنسان بألف طريقة وطريقة. يبقى الإلحاد الفكريّ موقفاً إنسانيّاً مقبولاً ليس فقط قانونيّاً، ولكن إيمانيّاً أيضاً، فالدين لا إكراه فيه، لأنّ الإكراه في الدين لا يُفسِدُ الدين فقط وإنّما يخالف أيضاً إرادة الله في تنوّع الخليقة وحرّية البشر. وقد يُلحِدُ الإنسان فكريّاً نتيجة ما رآه من نفاق بين المتديّنين، ولا يكون قد ميّز بين المتديّنين والمؤمنين. إنّه من العجب، في لبنان، ألّا يُلحد مَن رأى كمّ الحقد والقتل والتباغض والتكاذب بين الطوائف، وكمّ الاستغلال للدين للنهب والسلب والتسلّط وتخدير الضمير. من إيجابيّات الإلحاد حين ينتقد الممارسات الدينيّة أنّه يفسح مجالاً للمؤمنين لمراجعة مواقفهم، إذ يمكن للمؤمنين أن يستنيروا من الحقّ القائم في بعض الإلحاد، وإن كان من حقّ فهو حتماً من الله. الإلحاد الفكريّ النقديّ مرآة يمكن للمؤمنين أن يلاحظوا فيها الجرائم والفظائع التي ارتكبت باسم الله، ويلتفتوا عندها لتقصيرهم في مواجهة الانحرافات الدينيّة في أوساطهم، ويتحمّلوا مسؤوليّتهم. أحياناً كثيرة، لا يرفض الفكر الإلحاديّ اللهَ في الحقيقة، وإنّما يرفض صنماً يسجد له المتديّنون بتصرّفاتهم العمليّة: صنم الإله حليف السلطة، صنم الإله الـمُذلّ للإنسان، صنم الإله الـمُعادي للحرّية... بطريقة ما، يشير بعض الإلحاد إلى التشوّهات في الدين فيسمح بذلك للمؤمنين أن يسعوا إلى توبة حقّة عن انحراف ممارساتهم. وهل يمكن أن يخرج شيء صالح من الإلحاد؟ بالطبع، بالنسبة إلى المؤمنة والمؤمن، الله رغم تعاليه حاضر في الكون وهو يخاطب قلب الإنسان بألف طريقة منذ ما قبل وجود الديانات الإبراهيميّة، لم ينتفِ الخير في عالم لم يكن فيه الناس يؤمنون بالله بعد، ولا ينتفي حضور الله وتنفيذ إرادته من خلال من يشاء ساعة يشاء، عندما يكون الملحدون على حقّ فهذا الحقّ ينبع من الله، إذ لا حقّ خارج الله، الملحدون السبّاقون في خدمة الناس والدفاع عن كرامتهم البشريّة هم في الحقّ وهُم بالتالي أقرب إلى الله من أناسٍ متديّنين مستغلّين أو حاقدين. هكذا فبينما يمكن لمتديّنٍ أن يكون ملحداً عمليّاً وبعيداً عن الله، يمكن لملحد فكريّاً أن يكون مؤمناً عمليّاً وقريباً من الله. إذا استوعب المؤمنون ذلك بتواضع، يمكن عندها للإيمان العمليّ، أي للممارسة العمليّة في ما يختصّ بالإنسان وشؤونه، أن تجمع الناس من المشارب المختلفة لمواجهة الإلحاد العمليّ، أي استغلال الإنسان للإنسان والتسلّط عليه. يمكن مثلاً أن يتعاونوا في مواجهة نظام قهر واستغلال كنظام الاحتلال العنصريّ في فلسطين؛ ويمكنهم مناهضة نظام قهر واستغلال كالنظام الرأسماليّ، وهذا الأخير هو نظام إلحاد عمليّ، إذ لا يرى الأشياء والبشر سوى وسائل للاستخدام من أجل تراكمِ الأموال، ولا يرى الحياة سوى تراكم استهلاك، وبينما يتشدّق بالحرّية والمبادرة الفرديّة، وحتّى بالله، يسحق إنسانيّة الإنسان بالممارسة، ضارباً عرضَ الحائط بوصايا الله بالتآخي الإنسانيّ. خدمة الإنسان هي إيمان عمليّ يمكن أن يجمع بنات الله وأبناءه المتفرّقين في الأديان والفلسفات، فيكونوا واحداً رغم بقائهم على تمايزهم في المعتقدات، عندها تتجلّى محبّة الله كما في السماء كذلك على الأرض بواسطتنا جميعاً. خريستو المرّ
الثلاثاء ١٣ كانون أوّل / ديسمبر ٢٠٢٢ لم يكن الله بعدُ شيئًا كثيرًا سوى إسقاط أبويّ زاجر وعين مراقبة، وكان الشابُ فيّ يفتح له نفقًا من ظلمة الهامش، المعروفة للغرباء، إلى حدائق شمسٍ يحملها الهواء. لم يكن الله متنفّسه الأوّل، فكيف لله أن يعبر مباشرة دون وجهٍ إنسانيّ وما من أحد جزيرة. متنفّسه الأوّل كان شلّة غامرت في الأسئلة دون تردّد، رافقها أكثر من وجهٍ فتح باب الأسئلة وحاول أن يرشد قلق الشباب إلى آفاق. الشلّة كانت صداقات، أكثر وأقلّ عمقًا، لكنّها كانت حياةً لأنّها لم تعرف الغشّ، إذ كان الواحد يقول ما يمكن أن يبني ويُخفي في قلبه ظلال العتمة التي تلاحظها عيناه حول وجه الآخر، وما من وجه يخلو منها. هكذا، كانت تربة الصداقة مجالًا كي يتفتّح فيها شبيبة ممتدّة خارج النفق نحو حدائق الشمس. والشمس كانت تداعب قلوبهم الطريّة بالصدق، والمتلوّنة بالمحبّة وظلالها. كانت روح النكتة غالبة لآثار الحرب، ربّما كانت روح النكتة التفاتةً من ذاك الغالبِ تجلّت، فلولاها لم يكن لقارب اليوميّات في بحر الدماء تحت اختناق السماء أن يُبحر أبعد تحت نجمِ الأمل. لم يكن كوستي بندلي بعدُ وجهًا خارج الكتب، كنّا نتناقل كتبه في القارب، فتخرج منها شموسٌ وعصافير وريحٌ من عالم آخر. كانت كلماته شموسًا تشير إلى وجهٍ خبيء في باطن كتاب عتيق، وفي فكرٍ تحرّر من الجمود. كان كوستي يقدّم لقارئه ويدعوه إلى احتفال الحرّية، الباقي كان شأن كلّ إنسان مزروع وسط تربة الجماعة-الصداقة. حين رأيته مرّة أولى خارج الكتاب تجاوزت الرهبة بلطفه المنسحب حتّى لا يفرض نفسه. كان الشيء المهمّ هو ما نقوله في اجتماع أو آخر، كيف يصل «الكلمة» الذي دوّن شهودٌ وجهه في كتاب: هل يمكن للكتب أن تحمل الوجوه؟ حياتي تقول «نعم». في أحاديثنا الكثيرة وأسئلتي التي لم تنته، وأجوبته التي كانت تدلّ ولا تفرض، قرأت الإنجيل تحت ضوء شهادة كوستي فوجدت الإله ليس مجرّد ألوهةٍ، قوّة، شيءٍ، وإنّما وجهٌ. كانت تلك خطوة أولى لي خارج وثنيّتي. ما أزال أذكر الخطوة إلى اليوم. الله شخص وليس قوّة. عندما تابعتُ أثار كلمات الله مع كوستي وجدته شخصًا مجنون حبًّا: في بدء الزمان خلق الله العالم، لكنّه ما جلس عاليًا في عليائه ولا تحكّم في الخليقة، بل منحها نواميسها كي تكون متمايزة عنه وحرّة بكلّ القدر الذي يمكن لخليقة أن تكون حرّة من خالقها؛ وفي جنائن الكون رعى نشوء هذا الكائن الذي وعى ونما حتّى صار ذا إرادة حرّة بقدر ما يمكن لمخلوق أن يكون حرّا من مخلوقيّته، ولهذا صار قادرًا أن يقول "لا" لحبّ الله أو أن يقول "نعم"، ولا قيمة لـ"نعم" ما لم يكن قائلها قادرًا أن يقول "لا". لأنّه حبّ كلّه، دخل الله مغامرةَ حبٍّ بالخلق، فجعل نفسه بحاجة للإنسان، ولكأنّه تحت رحمة الإنسان الذي يمكن أن يبادل حبّ الله البادئ بحبّ، أن يرفض أن يحبّ. أراد الله أن يكون الكون مكانًا للمحبّة والمشاركة، وربط الله مصير مغامرته بإرادة الإنسان. وإذ أراد أن يوضح الله حبّه للإنسان مرّة وإلى الأبد، وأن يسكن قلب الإنسان ويؤازره من الداخل، وأن يشاركه كلّ أوضاعه، وأن يصبح قادرا على أن يشاركه حتّى الموت، تجاوز اللهُ علياءه، تجاوز تجاوزَه للخليقة وصار منها بتجسّد كلمته يسوع. وأوضح يسوع بكلماته وتصرّفاته أنّ الله حبّ وأنّ حبّ الله يقاوم كلّ موت وكلّ تهميش وكلّ جبروت وكلّ سلطة تستخدم الإنسان عوض أن تخدمه. ثمّ أوضح مرّة وإلى الأبد على ذاك الصليب المرميّ خارج أسوار القوّة، مع الغرباء والمهمّشين، أنّ وجهه هو وجه الحبّ، وأنّ ذاك لا يكون إلّا مصلوبا وليس صالبا، وأنّ مصير الحبّ المصلوب قيامة منتصرة وهزيمة لأشكال الموت. أوضح أنّ الله بيسوع يريد أن يشارك الإنسان موته لكي يشاركه الإنسانُ ألوهته. لهذا كان الملكوت ملكوت حبّ، وكانت الجحيم أمرًا يفرضه الإنسان على نفسه إن قطع نفسه عن شركة الحبّ، عن احتفال الحبّ الذي لا يقدّم الله شيئًا سواه لكلّ إنسان. ولهذا كان الملكوت يبدأ هنا والجحيم يبدأ هنا، مهما كان بريق خداع الذات وخداع الآخرين مبهرًا. ولهذا كان حبّ الله يعمل بطريقتين مختلفتين: سعادة لمن يحبّ وجحيما لمن يغلق نفسه عن الحبّ، الحبّ المشارِك للقلب، وللوقت، وللجهد، وللخيرات. نزل الإله من عليائه وصار إنسانًا لأنّ جنون حبّه فاق كلّ خيال ومنطق. لأجلي بات الله جنونًا لفكرة الإله المتعالي. حين قرأتُ كلماتَه رأيتُ وجهَه، وحين رأيت وجهَه رأيتُ وجهي في أفضل ما هو عليه، ووجدت قلبي مدعوّا ليمشي فوق مياه الموت المتلاطمة حولي، ورأيت فكري ونفسي وجسمي مدعوّين لمسيرة عبر بستان خوفي للصعود على خشبة الحبّ، لأراني كلّي منذ الآن قائمًا من الموت. هكذا قال كوستي بندلي لي في جميع حياته وكتبه وكلماته وصمته ومراجعته الدؤوبة لذاته لكي يقدّم ما يمكن أن يكون حياةً آتيةً من عمق الله، قال حتّى نقول عن ذاك الذي كان منذ البدء بأنّنا سمعناه، رأيناه بعيوننا، شاهدناه، ولمسته أيدينا، وعرفناه كلمة الحياة، فسعينا أن نكون أحياء الآن وهنا. خريستو المرّ
الثلاثاء ٥ كانون أوّل / ديسمبر ٢٠٢٢ يكاد كلّ ما يسمّى بـ «مسيحيّ» في الحقل العام أن يكون مناهضًا للمسيح وضدَّه. فبينما الله هو الآب السماويّ، والصلاة المسيحيّة اليوميّة، وهي الوحيدة التي أوصى بها يسوع، تدعو الله "أبانا الذي في السماوات"، أي "أبانا" جميعًا نحن البشر، يغيب عن الذهن أنّ طَلَبَ حصّة من سلطة ومال للطائفة هو طلب أنانيّ وحصرٌ للمشاركة في خيرات العالم التي وهبها الله لأبنائه وبناته أجمعين بمجموعةٍ منهم فقط، وبذلك هو مخالف لهذه الصلاة وللإيمان بأنّ الجميع "عيال الله" على "صورته". إنّ الـمُطالبة السياسيّة الطائفيّة قائمةٌ على فكرة أنّ القُربى بين الناس هي في الطائفة والدين، وهذا خيانة لتأكيد يسوع أنّ القُربى بين الناس لا تولد من الدين، بل من خدمة الإنسان لبعضهم البعض، وللمهمّشين بشكل خاص، وهو ما قاله المسيح في مثلٍ صريحٍ وواضح ("مثل السامري الشفوق") حيث لم يعتنِ بالإنسان المضروب إنسان من نفس الإيمان، بل إنسان من خارج إيمانه، وبهذا قال يسوع أنّه غدا قريبًا. ينجرّ الكثير من الناس، ومنهم مسيحيّون، إلى التهرّب من مسؤوليّتهم عن مصيرهم ورمي المسؤوليّة عمّن يسمّونه بالـ«غريب» (المهجّرون السوريّون حاليًّا، والفلسطينيّون سابقًا). كلّ جرائم السلطة السياسيّة والمالية التي أودت بالبلاد إلى هذه الحالة من الفقر وشبه انعدام الخدمات العامّة المجانيّة، يرميها السياسيّون بأبواقهم الإعلاميّة على «الغريب» فيندفع الكثير من المسيحيّين إلى كراهية «الغريب» بينما جعل يسوع في تعليمه من إيواء الغريب (وإطعام الجائع وسقي العطشان وزيارة الأسير وإكساء الفقير) مقياسًا لدخول الملكوت؛ وقد كان مشدّدا على أن ينفّذ الإنسان إيمانه لا أن يُعلَنه بالكلام فقط، إذ قال "ليس كلّ من يقول لي «يا ربّ يا ربّ» يدخل ملكوت السماوات، بل الذي يفعل إرادة أبي الذي في السماوات". تدّعي تمثيل "المسيحيّين" في لبنان قيادات عنصريّةٌ، بالقول وبالفعل، ارتكبت في الحرب الأهليّة جرائمَ موصوفة (قتل عُزَّل، مجازر، قصف مناطق سكنيّة)، ولكن ما يزال كثير من المسيحيّين يتبّعون خطى تلك القيادات بإخلاص ما بعده إخلاص، وبذلك هم يتركون خلفهم يسوع المسيح «مصلوبًا» مع أولئك الذين قتلتهم تلك القيادات، أو شرّدتهم، أو يتّمتهم، أو رمّلتهم. قد يعذر القارئ نفسه فورًا بفكرة أنّ "الآخرين فعلوا شيئا شبيهًا"، لذلك لا بدّ من التذكير بقول المسيح "لماذا تنظر إلى القذى الذي في عين أخيك، والخشبة التي في عينك لا تفطن لها؟"، وأشدّد هنا على قوله "أخيك". ليس الموضوع "مَن فعل ماذا ومتى؟"، الموضوع هو أنّ الأقوال والأفعال التي عدّدناها هي خيانة ليسوع ارتُكبت وتُرتَكَب باسمه! هذا هو لبّ الفكر الطائفيّ الذي يشترك جميع المتديّنين: أن يخون الناس إيمانهم باسم إيمانهم، أن يخونوا الله باسم الله، أن يمسحوا الأرض بتعاليم كتبهم المقدّسة باسم تلك الكتب نفسها، أن تنتفخ الجماعات لتصبح هي ومصالحها المرجع عوض أن يكون الله، وذلك باسم الله نفسه. أمّا في الموقف من الاحتلال الاسرائيليّ ونظام الفصل العنصريّ الذي أنشأه في فلسطين، فالتراث الكنسيّ الذي يسمّي يسوع بـ"الغريب"، وتعاليم يسوع التي ذكرنا بعضها فوق، تجعل من الإنسان الفلسطينيّ الذي قُتِلَ وهُجِّرَ وهُمِّشَ وغُرِّبَ بكلّ الأشكال، وجهَ يسوع بشكل مميّز. الفلسطينيّ هو يسوع بيننا بشكل مميّز لأنّه اليوم هو المظلوم بشكل مميّز، هو الأخ والأخت بشكل مميّز لأنّه اليوم هو المطروح على قارعة التاريخ بشكل مميّز إذ هو إمّا خارج أرضه أو خاضع في أرضه لاحتلالٍ ولنظامِ تمييزٍ عنصريّ إجراميّ. لا يمكن للمسيحيّ إلّا أن يناهض أيّة إيديولوجيّة عنصريّة إجراميّة استغلاليّة، وأن يواجه كلّ إيديولوجيّة متصالحة مع التمييز العنصريّ. وصايا المسيح تعني أن نحرّض أنفسنا دائما لمناهضة نظام الاحتلال والتمييز العنصريّ الصهيونيّ القائم في فلسطين والذي هدّد ويهدّد بلدانًا أخرى. من وجهة نظر إيمانيّة، لا تطبيع مع الخطيئة، الإنسان يحارب الخطيئة في نفسه، ومُطالبٌ بأن يكون مسؤولًا عن الحياة بأن يناهض انعكاسات خطيئته وخطيئة غيره الاجتماعيّة: المستغِلّ يُفَقِّرُ غيره، المطلوب، إذًا، مواجهة أنظمة الاستغلال؛ المتسلّط يأسر غيره، المطلوب، إذًا، مواجهة أنظمة التسلّط؛ نظام الاحتلال والتمييز العنصريّ يسحق الفلسطينيّين، المطلوب، إذًا، مواجهة هذا النظام لا التطبيع معه. من وجهة نظر الإيمان المسيحيّ، الالتزام الذي يُدعى "مسيحيًّا" في الشأن العام هو التزام غير مسيحيّ، هو التزام في الباطل وعبادةٌ لصنم الطائفة وصنم القائد. هناك ضرورة لالتزام مسيحيّ حقّ، التزام غير منعزل، وإنّما مُتعاون مع كلّ البشر المخلصين لقضايا العدالة والأخوّة الإنسانيّة. إن غربة المسيحيّين عن المظلومين تبقيهم مغتربين عن يسوع، المصلوب مع المصلوبين، والمناضل مع المناضلين ضدّ أنظمة الاستغلال والتعسّف، والباني مع البانين لأنظمة الأخوّة والمشاركة الإنسانيّة. طالما حاول منتمون إلى المسيحيّة، عبر التاريخ، أن يبنوا لهم صنمَ إلهٍ يكون على مثال أهوائهم عوض أن يسيروا هم نحو «مثال» الله، وأن يصنعوا ملكوتًا لله على صورة ملكوت قيصر القائم على التعسّف والاستغلال وعبادة الذات الجماعيّة، عوض أن يعملوا على تحويل ملكوت قيصر ليصبح على شبه ملكوت الله، مكان لقاء إنسانيّ ومشاركة لخيرات الأرض. ألم يحن الوقت في لبنان للخروج من مدينة الكراهية والانعزال للانضمام إلى مسيرة خدمة الكرامة البشريّة؟ ألم يحن وقت غسل وحل الطائفيّة عن نجمةِ العقل والقلب لكي تدلّ على المسيح المولود في طفولةِ الحبِّ والحرّية؟ |
الكاتبخريستو المر الأرشيف
December 2023
Categories |