خريستو المرّ
الثلاثاء ٢٦ تشرين أوّل / أكتوبر ٢٠٢١ إلى الصديق الحبيب سماح ادريس يسقط الألم علينا سقوطًا أو نحن نسقط فيه، تقضمنا العتمات أو هكذا نعيش المرض إذا أصابنا، وإن هو أصاب أحبّاءنا يقضم الألم قلوبنا، ومن رافق متألّمًا لحبيبٍ يعرف كيف يشفّ الوجهُ حتّى لا يبقَ إلّا الضوء الذي يفتح في العالم طريقًا إلهيًّا يُطلّ إلى حبٍّ أبعد من هذا العالم. عندما قام يسوع من القبر لم تمحُ القيامة عنه آثار الآلام، لكنّ آثار المسامير في يديه غدت نوافذَ إلى عُمقٍ في هذا العالم، إلى أبديّةِ الحبِّ الذي يحتضن الخليقةَ وتراه إذا أحبّت عبر أوجاعها. يمدّ يسوع يديه أمام توما فيرى الأخير آثار الآلام في حضرة المجد: كلّ موجوعٍ شريكُ يسوعَ في الآلام بعدما صار يسوع الإلهيّ شريكنا في الهشاشة الإنسانيّة، وبقدر ما يسير الموجوعُ طريقَ الحبّ والبذل، بقدر ما يصير شريكه في المجد؛ والمجدُ يزيلُ مفاعيل الأوجاع بالحياة الإلهيّة التي تتدفّق فلا يسود الموت فينا، لا اليوم ولا غدًا. ويولد المحبّون الموجوعون من جرن الحبّ في خاصرة يسوع المطعون، فتتحوّل آثار الحِراب في خواصرهم أجرانَ معموديّةٍ ينزل فيها المهمّشون ليموتوا عن العزلة، ويولدوا في الحبّ والحقيقة، ويتنفّسوا المشاركة. في رفاق يسوع، أولئك الذين يمشون معه طريق الحبِّ المواجهِ لعتمات الدنيا والـمُناضلِ ضدّ الظلم والظلام، تتجلّى لنا القداسة أو النبوّة؛ وفي هاتان شذراتٌ من المجدِ الذي يحفّ بهم تتساقطُ بين أيدينا ومن خلفنا ومن أمامنا حبًّا إلهيًّا نتمسّك بأنواره حتّى لا نتوه، ونتدفّأ به في برد العالم حين يفقد سكّانه قلوبهم. وعندما يتشارك الناس شذرات الألوهة بينهم تصبح الحياةُ جديدةً، ويكون الأنبياء قد بلّغوا. لكنّ الحياة الجديدة لا تستتبّ إلّا في القيامة الأخيرة، وتبقى الإنسانيّة في هشاشتها وكذلك تبقى الأرض، والخليقة كلّها تئنّ وتتوجّع وتتوق أن تتحرّر من محدوديّة العالم، وأن تخترقها النار الإلهيّة لكي تحيا بلا عتماتٍ ولو حملت آثارها. ونئنّ نحن لأنّ قلوبنا ترجو الحرّية الكبرى في أعماق الحرّية الصغرى، وترجو أن تتوحّد بيسوع المتألّمِ الغالبِ للموت لنصيرَ أحياء فيه. ويبقى يسوع الظافرُ، الحاملُ آثار الأوجاع، أيقونةَ الإنسانيّة، أيقونةَ كلّ واحد منّا إن تجلّى؛ فكلّ إنسانٍ شهد للحبّ والحقّ تجلّى وتذوّق الحياة الأبدية التي هي الله-الحبّ، وقام من كلّ موت. ومن تمسّك بمسار الحبّ حتّى المنتهى نرى فيه قسمات الله وندعوه قدّيسًا أو نبيًّا للتدليل على أنّه في وحدةِ حبّ مع يسوع، علم أم لم يعلم. وتستمرّ المجتمعات، وتُموَّلُ الحضارات بالعبوديّة والاستغلال، أي بالحروب والقتل، وصوت الحرب أعلى من صوت الحبّ إلى حين. لكنّ عمل الحبّ أعمقُ، هو صامتٌ، مستترٌ، خارقٌ للزمن؛ يتقفّى آثاره المتأمّلون في القلوبِ، وفي الوجوهِ، وفي كلماتِ الحقيقةِ المتكلّمة عبر دمار الحضارات. يصرخ الظالمون حتّى يكتموا الحقيقةَ، والحقيقةُ يُسمعُ صوتها من الداخل ولا يعلم الظالمون. يكتب التاريخ آثار الظالمين ولهذا لا يبدو عمل الله فيه ويبدو فيه الحبّ مهزومًا. لكنّ الحبّ يحتجب في التاريخ ويكتب عن نفسه بأصابع الشاهدين للحقّ، وبعيون المحبّين، أولئك المشاركين للعالم أوجاعه. لأجل كلّ هذا كانت الحياة في المسيح مستترةً، وبدا المسيح مهزومًا وهو الظافر. يُدمع المحبّون، يتوجّعون، يبكون. لكنّهم يحبّون ولهذا يصيرون أولادًا لله وعائلةً للحقيقة، و"يمسح الله من عيونهم كل دمعة" فيصيرون فصحنا في هذا العالم، ومائدةً إلهيّة نجلس عليها لنكفّ عنّا جوعنا الإنسانيّ إلى الحبّ، أو جوعنا إلى أنفسنا الممتدّة بالألوهة إلى "ما لم تره عين، ولم تسمع به أذن، ولم يخطر على بال بشر"، إلى الخليقة المتجلّية بالضوء. وفي مشاركة "المائدة" نعرف ذاك الذي كان منذ البدء، نسمعه هو بعدما سمعناه في وجوه المحبّين، ونراه بأعيننا بعدما رأيناه بقلوبنا، ونلمسه فنعرف أنّه كان معنا كلّما أحببنا فأصبحنا من جهة كلمة الحياة. وعندها نرى الجسر القياميّ الذي يمتدّ من جسد يسوع إلى أجسادنا، فنفرح ولا ينتزع أحد منّا ذاك الفرح. خريستو المرّ
الثلاثاء ١٩ تشرين أوّل / أكتوبر ٢٠٢١ فلنسأل الإنجيل ولنسأل وجه مريم فرحات ودمها إن كان اغتيال قنّاص لها وهي في منزلها هو دفاعٌ عن الوجود "المسيحيّ" وما يسمّى بـ"مناطقنا". أيّ عرف ديموقراطيّ وإنسانيّ يسمح بإطلاق النار على متظاهرين مهما صرخوا من شعارات؟ ولنسأل الذين دفعوا بالتظاهرة قُدُما بأيّ ضمير يفعلون ذلك بعد تصريحاتهم الناريّة الاستعلائيّة وتاريخ طويل -يتشاركونه مع أعدائهم - من الاستقواء على القضاء، وما نشرته الصحف عن معلوماتهم المسبقة عن انتشار مسلّحين في المنطقة؟ أليس في ذلك تهوّر فاضح يستهتر بالناس وحياتهم؟ يكرّر الطائفيّون جميعًا حرصهم الكاذب على السلم الأهليّ، وأكثر ما يهدّد السلم الأهلي هو أحزابهم بالذات. لكن ما هو مريع في قلب الحروب الأهليّة المتتالية في لبنان وسوريّا هو الكيل بمكيالين، والبكاء على الضحايا حين يكونوا من صفّ الفريق الذي نؤيّده، وعدم الإحساس عند سقوط ضحايا من الفريق الخصم. فبينما عبّر مناصرو الحزبين المتظاهِرين الخميس الماضي عن الغضب والحزن لسقوط ضحايا من فريقهم، صمتوا بالأمس القريب عن هجوم أنصار الحزبين على منتفضيّ 17 تشرين ٢٠١٩ بالعصي وضربهم وأحراقهم لخيمهم في بيروت والجنوب، وإرهابهم الناس بإطلاق النار في وجه متظاهرين عُزّل بوضح النهار وفقئ عيونهم. هؤلاء المناصرون أنفسهم احتفلوا باغتيال لقمان سليم ولم يعتبروا ذلك جريمة، والرجل مهما كانت له من تصريحات كريهة هو إنسان لم يحمل سلاحًا. والعكس صحيح، فبينما كان البعض يستنكر أفعال الحزبين المتظاهِرين الخميس الماضي المشينة أثناء انتفاضة 17 تشرين، ويحزن لضحايا انفجار المرفأ ويُفرِدُ لتلك الكارثة-الجريمة مساحات واسعة في الإعلام، لم يأبهوا لسقوط ضحايا الأمس، ولا تعاطفوا مع ضحايا هجوم العدوّ الاسرائيليّ عام 2006، وبينما صرخوا مطالبين بالتحقيق الدوليّ في قضيّة المرفأ لم يصرخوا مطالبين بتحقيق دوليّ بمقتل أكثر من 1000 (ألف) مدنيّ وسقوط 4400 جريح عام 2006. أمر شبيه شاهدناه في الحرب السوريّة، حيث الضحايا لا يستحقّون التعاطف إلّا إن كانوا من «طائفتنا» أو «فريقنا». هذه المشاركة السلبيّة العاطفيّة في القتل هي التي تحمي القاتل الحقيقيّ لأنّها تعطيه البيئة الحاضنة المشجّعة لجرائمه. يتشارك الكثير من المسيحيّين والمسلمين في بلادنا هذه العقليّة الإقصائيّة التي تمهّد للجريمة، وتدافع عنها بعد وقوعها. أساس هذه الطريقة في التفكير هو حصر الإنسانيّة في «جماعتنا» وإقصاء الآخرين عن الإنسانيّة، ومن المعروف في دراسات الإبادات الجماعيّة عبر التاريخ، أنّ نزع الصفة الإنسانيّة عن الآخر خطوة يأخذها القتلة قبل شروعهم بالقتل لتبريره في أذهان القاتلين. الإعلاميّون يصبحون هم أيضًا جزء من ثقافة آلة القتل هذه حين يعملون على شيطنة الآخر ممّا يمهّد ويبرر قتله لاحقًا، ويخفّف شعور القاتلين بالذنب، ويضيف مشروعيّة لمشاريع الإبادة المختلفة التي رأينا نتائجها في الحربين اللبنانيّة والسوريّة. إنّ مشاريع الإبادة - عاجلا أم آجلا - لا يمكن إلّا أن تكون رابضة خلف المشاريع الحزبيّة الطائفيّة، فكيف إن كانت مسلّحة. لكن طريقة التفكير هذه ليست قضاءً وقدرًا ولا تولد من فراغ، بل من البيئة المحيطة، والبيئة لا تأتي من السماء، بل من بنية الدولة. إنّ بنيةً طائفيّةً للدولة لا بدّ تُبقي وتغذّي طائفيّة الناس وتدفعهم دفعًا كي يكونوا أقلّ إنسانيّة. لن نمهّد لإنسانيّتنا السبل كي تزدهر وتصبح أكثر تعاطفًا مع الآخرين المختلفين، دون أن نغيّر بنية الدولة اللبنانيّة لتصبح دولة لا طائفيّة، دولة توحّد المجتمع في تنوّعه بالتعامل مع أفراده كمواطنات ومواطنين متساوين. ما يمنع قيام هذه الدولة اليوم هو الانجراف السريع نحو الاستقطاب الطائفيّ، وتسليح المجتمع، وسياسات الدول الغربيّة التي تضعف قدرة الدولة على حماية البلاد من العدوّ الإسرائيليّ. ولكنّ المنطق يقول أنّه لا بدّ أن يفاجئنا المجتمع كما فاجأنا في انتفاضة 17 تشرين التي لم يحسب لها حسابٌ أحد. خطأ الأحزاب اللاطائفيّة الذي سيكون قاتلا لو استمرّ، أنّها لم تتوحّد حتّى الآن في مظلّة واحدة. الخوف أن تأتي انتفاضة أخرى في ظلّ ظروف ملائمة (لا شيء يبقى للأبد كما هو) ولا تتلقّفها مظلّة لا طائفيّة ذات برنامج بديل. إنّ وجود الأحزاب الطائفيّة في بلادنا هو بحدّ ذاته مشروع موت، مشروع قتل للآخر أو تهديد بقتله، مشروع أسر للآخر، مشروع تفكيك للدولة ومنع نشوء دولة حديثة تحفظ السلم، لا مشروع دولة دينيّة تفرّغ المساواة من معناها ولو قالت بها، وإنّما مشروع دولة يتساوى فيها المواطنون جميعًا بغضّ النظر عن معتقداتهم أمام القانون، بحيث لا يمرّون بالطوائف في علاقتهم مع الدولة، ومع بعضهم البعض. التجربة تقول أنّ الأحزاب الطائفيّة، جميعها دون أيّ استثناء، هي حزب الكذّاب وأبو الكذب، ذاك الذي كان قتّالًا للناس منذ القِدَم، قد تبدو ملائكةً نورانيّةً في ذهن أتباعها، ولكنّها لا تلد في النهاية إلّا الخراب والقتل، الخراب الاقتصاديّ، والتهجير القسريّ بسببه، وقتل الناس بالفقر والمرض، وسفك الدماء على الطرقات يشهد. خريستو المرّ
الثلثاء 12 تشرين أوّل / أكتوبر ٢٠٢١ في 5 تشرين أول 2021 أفاق العالم على زلزال تقرير اللجنة المستقلة المعنية بالاعتداءات الجنسيّة في الكنيسة في فرنسا والمؤلّفة من أخصّائيين في علوم النفس، وأستاذة في علوم الاجتماع والأناسة والحقوق والأخلاق والسياسة، وأطبّاء، وقضاة، ولاهوتي واحد كاثوليكيّ ولاهوتيّة واحدة بروتستانتيّة. 330 (ثلاثمائة وثلاثون) ألف اعتداء على أطفال في الكنيسة قام بها كهنة وعاملون في الحقل الكنسيّ داخل رعايا الكنيسة الكاثوليكيّة في فرنسا على مدى 70 عامًا (حصّة الكهنة 216 ألف ضحيّة من 330 ألف). هذا التقرير "الحادّ والمخيف"، بحسب رئيس لجنة الأساقفة الكاثوليك في فرنسا المطران مولين بوفور، يحسم بأنّ المشكلة ليست من الماضي وبأنّه "يجب أن نتخلص من فكرة أنّ هذا العنف الجنسيّ قد انتهى. المشكلة باقية [اليوم]". ويقدّر التقرير عدد المعتدين ما بين 2900 إلى 3200 (أي أنّ كلّ معتدٍ قام بـالاعتداء على 103 إلى 113 شخص). لعلّ أهمّ كلماته التقرير أنّه "لن يكون هناك إمكانيّة للعيش المشترك دون حقيقة"، فالضحايا بشهادتهم أمام اللجنة باتوا "كتّابا للحقيقة" بتعبير رئيس اللجنة الثاقب جان مارك سوفيه. بشجاعةٍ تقوم الكنيسة الكاثوليكيّة حاليّا بعمل جبّار لكسر حاجز الصمت ومراجعة مواقفها من الاعتداءات الجنسيّة التي مارسها كهنة وعلمانيّون فيها، وغطّاهم نظام كامل قائم على الصمت، وعلى حماية المرتكبين وتهميش الضحايا. لا يمكن لأيّ عاقل إلّا أن يستنتج أنّ الاعتداءات الجنسيّة على الأطفال (والبالغين والنساء خصوصًا) موجودة في الكنيسة الأرثوذكسيّة في كلّ بلد. لكنّ الكنيسة الأرثوذكسيّة الأنطاكيّة التي تتباهى بتاريخها وعراقتها وعقائدها السليمة، تلجأ بجبنٍ بالغ إلى طمر الحالات وإخفائها حيث أمكن. بناء على الوضع في فرنسا نظنّ بأنّ حالات الاعتداءات الجنسيّة في الكنيسة الأرثوذكسيّة في بلادنا عبر السنين تقدّر بعشرات الآلاف، هذا في الوقت الذي يبلغ فيه عدد اللجان العلنيّة العامّة والكنسيّة الداخليّة التي تبحث في هذا الواقع صفرًا، وهذا الصفر هو بالضبط عدد الأوراق المكتوبة المنشورة من الكنيسة في الموضوع. دينونة الكنيسة الأرثوذكسيّة أنّها ترى ذاتها بأنّها الكنيسة التي حافظت على العقيدة القويمة، على "الحقيقة" المسلّمة مرّة واحدة للقدّيسين. بينما ترى الكنيسة الأرثوذكسيّة ذاتها تجلٍّ لقول يسوع "الحقّ يحرّركم"، تقيّد الإنسان الملموس ضحيّة الاعتداءات الجنسيّة، وتهمّشه عوض أن يكون في وسطها، ولا ترفع اصبعًا إلّا لكتم صوت الضحايا وتدعيم غطاء الصمت. لكنّنا ننسى أنّه إن كان الإيمان دون الأعمال ميّت كما كتب بولس، فهذا يعني أنّ العقائد دون أفعال ميّتة. إن لم يتمّ العمل الجاد لتغيير هذا الوضع المخزي في الكنيسة الأرثوذكسيّة سيستمرّ الكذب وتستمرّ الخديعة. هناك حاجة لتهديم كلّ وهمٍ لكي يحيا الإنسان بالحقّ والحرّية. هذا عمل ضروريّ ولن يكون دون أن يقوم كلّ مؤمن ومؤمنة بكسر حاجز الصمت، دون أن يقوموا بالاجتماع لحمل كلّ قضيّة حقّ وطرحها في العلن، ولمساءلة المسؤولين عن واجباتهم، دون أن يعملوا لرفع حاجز الصمت وإعطاء الضحايا مجالًا ليكونوا "كتّاب الحقيقة" وسطَ الكنيسة، حيث يسوع هو الحقيقة في كلّ حقيقة والضحية في كلّ ضحيّة. من الملاحظ أنّه كلّما قرأ الإنسان عن المبادئ العامّة أُعجِب بها، ولكن ما أن ينتقل البعض من الكلام العام إلى الوضع الملموس أحسّوا بالضيق وحاولوا تجنّب الوضع الملموس. مقالتي السابقة كانت تتكلّم بشكل عام عن الوقوف إلى جانب الإنسان الملموس، مقالة اليوم تتكلّم عن واقع ملموس، عن جرائم حقيقيّة واقعيّة بيننا. المتحرّشون بالنساء والأطفال ما يزالون يمارسون وظيفتهم الكنسيّة بكلّ حماية. بدء المواجهة يكون بأن نتحلّى بالشجاعة الإنجيليّة وأن نتعاون في جماعات ضاغطة تصغي لصوت الضحيّة. الكنيسة الأرثوذكسيّة الرسميّة لا تريد أن تسمع، وقد قسّت قلبها مرارًا وتكرارًا أمام صوت الضحايا، أمام صوت الروح في صوتهم! لا يكن أحد منّا نحن غير الرسميّين هكذا، إن سمعنا صوت الضحايا فلا نقسّي قلوبنا لأنّ كلّ منّا مسؤول أن يكون إنسانًا، ومعًا مسؤولون عن حياتنا جميعًا في الكرامة والحرّية. خريستو المرّ
الثلاثاء ٥ تشرين أوّل / أكتوبر ٢٠٢١ دون اهتمام بالإنسان الملموس – بحدود قدراتك – لا أهمّية لشيء. أذهلني مرارا في حياتي أشخاصًا يكتبون ويعلّمون عن العدالة، وحقوق الناس، وعندما كانوا يقفون أمام آلام شخص لم يكونوا يلقون بالًا، ولا يبدون اهتمامًا بحالته، بل يعتبرون أنّه سيتدبّر أمره. لكن الإنسان لا يمكنه أن يتدبّر أمره هكذا، كفرد معزول. لا كاتب هذه السطور ولا قارئها تدبّر أمره في هذه الحياة دون دعمِ وجهدِ غيره معه، بدءا من الأهل وصولًا إلى الذين اختارهم وأحبّهم فصارت وجوههم تنفّسه اليوميّ. من هنا، كلّ الشهادات الجامعيّة لا معنى إنسانيًّا لها مطلقًا إن لم يهتمّ صاحبها بالإنسان الملموس الذي شاءت الظروف أن تتقاطع حياته معهم دون إرادة أحيانًا لا منه ولا منهم. أعلمُ تمام العلم أنّ هذا الميل إلى الاهتمام بالإنسان الملموس لا يتطلّب جهدًا. يشعر الإنسان بوضع الآخر، يفهمه من الداخل، ويندفع تلقائيّا للتصرّف بما يراه ممكنًا من أجل حياة الآخر الملموس، ليس الآخر كفكرة وإنّما هذا الآخر الذي يقف "أمامي" "الآن" في هذا العالم. والجغرافيا هنا لا تقول شيئًا كثيرًا، فقد يكون بالفعل الإنسان واقف أمامك في هذه اللحظة وفي هذا المكان، وقد لا يكون ذلك حاصل جغرافيًّا ومع ذلك فإنّك تراه حاضرا في قلبك وفكرك، واقفًا في كيانك في اللحظة الحاضرة، فتُعمِلُ فكرك لترَ كيف يمكنك أن تساهم في فتح سبل الحياة أمامه، على الأقل بالوقوف إلى جانبه ليشعر بأنّه ليس منسيًّا من القلوب، إلى أن يخرج إلى النور من جديد. لهذا المؤسّسات لا معنى لها إن لم تصبح مكانًا للقاء إنسانيّ بين الذين يحيون فيها، ربحيّة كانت المؤسّسات أم غير ربحيّة. ولكن دينونة المؤسّسات الدينيّة وغير الربحيّة أكبر، فهذه وضعت لنفسها أهدافا كبرى يمكن اختصارها بخدمة الإنسان، فإن غاب عن تلك المؤسّسات وجه الإنسان الآخر تكون تلك المؤسّسات قد أفلست، وعت ذلك أم لم تعِ. دون وجه الإنسان، المؤسّسات ليست سوى بُنى فارغة من المعنى، مثلها مثل الزواج الذي دون حبّ يبقى إطارٍ لا معنى له، والدين الذي دون محبّة يبقى فراغًا قاتلًا، حرفيًّا ومجازيّا. وقد تخدم المؤسّسات البشر، وتقدّم المال، والمساعدات، ولكن إن فعلت ذلك كلّه واحتقرت الإنسان الذي تقدّم له كلّ ذلك فكلّ عملها لا معنى له، ويبقى باطلًا لأنّه يسحق كرامة الإنسان بينما يقدّم له وسائل الاستمرار بالعيش. وما كان سحق كرامة الآخر ليكون لولا سبقه غيابٌ للإنسان الملموس عن القلب، قلب العاملين في المؤسّسة وقلب ناظمي طرق سير العمل فيها، وكم من طريقة في العمل تسحق الكرامة. في مؤسّسة كنديّة تدعى «بنك الطعام» كان الإنسان المضطر لاستخدام خدمات «البنك» ليأخذ المواد الغذائيّة مجانًا أن يأتِ بأوراق تثبت عدد أولاده وعنوانه ويقوم ببعض الإجراءات. قرّر القائمون على «البنك» لاحقا إلغاء كلّ الإجراءات والأوراق وأن يُعطى المواد الغذائيّة مجانًا كلّ مَن يطلب. هذا التغيير أكثر احتراما للكرامة، أُلغيت كلّ آليّة تضطرّ المحتاج على شرح حاجته. لكنّ المؤمن حقّا – ذاك الذي يعتقد أنّ الإيمان ليس مجرّد تصديق لأفكار، بل يجب أن ينسحب على الحياة اليوميّة- لما يمكنه أن يقبل بالرأسماليّة فقط لأنّها تعمل لمصلحته بينما تسحق الملايين غيره، ولهذا يفهم أنّ وجود «بنك طعام» هو بحدّ ذاته دليل على أنّ هذا النظام الاقتصاديّ لا يهدف إلى خدمة الإنسان الملموس وحياته بكرامة، يفهم أنّ النظام يصبح إنسانيّا عندما لا يعود فيه إنسان يحتاج إلى طعام، فيقدّم للناس مجالا ليعيشوا بكرامة من تعبهم دون أن يسلب منهم حرّيتهم؛ يفهم أنّ الحرّية الحقّة تجمع الحرّية من الحاجة والحرّية من القهر، أيّ أنّها تتحقّق بالمحبّة القائمة على الحرّية والمشارَكَة. لا الأفكار، ولا الكلام، ولا الكتابة، ولا البنى الضخمة، ولا الأموال، ولا الجامعات، ولا المدارس، ولا العلوم، ولا الأديان، ولا الآلهة، تحمل أيّ معنى إنسانيٍّ دون الإنسان الملموس. إن غاب الآخر في أفراحه وأحزانه عن قلوبنا ضعنا عن المعنى. |
الكاتبخريستو المر الأرشيف
December 2023
Categories |