الثلاثاء ٢٨ كانون ثاني ٢٠٢٠
طالما سألني أصدقاء أن لماذا تتعب نفسك وتكتب؟ لو توظّف وقتك بأمور أخرى لكنت فعلتَ كذا وكذا، وحقّقتَ كيت وكيت. ولا يكتب الإنسان إلاّ لأنّه يجد نفسه مضطرًا أن يبلّغ، أن يشهد، أن يشارك، علّ هناك من يرى ما يراه، فتصبح الكثرة واحدًا، علّ الذي يتشاركون الرؤية لا يشعرون بالعزلة، لا يختنقون بها فيستسلمون، علّهم لا يضلّون الطريق فيخونون أنفسهم يوم يظنّون أنّهم يربحون العالمَ، والعالمُ لا يُربَح، العالم يمضي ولا يبقى بعد الرحيل إلاّ تأجّج الحياة في عمق الذين ناضلوا ضدّ أنواع الموت الحرام، موت الظلم؛ لا يبقى إلاّ التماع قلوبهم بحياة تفجّرت فيهم قبل أن تلاقي نبعها في وجه الله ربّ الحياة. يكتب الإنسان كما يتنفّس، ويكتب كي يتنفّس. كلّما نظرتُ إلى جملة يسوع "ماذا ينفع الإنسان أن يربح العالم ويخسر نفسه أو يفقدها" أجدها جديدة وثوريّة. هي تماما في تناقض مع هذا الدهر، مع "الدهاء" السياسيّ، «والشطارة»، والمساومات التي تنتهي دائمًا بأن يبيع الإنسان الحقّ ويبيع نفسه، ثمّ يغلّف كلّ ذلك بزبد الكلام، أي بالهروب من نفسِهِ. ينهبون في لبنان وفي سوريا وفي العراق وفي كلّ مكان، يقتلون الملايين ببطء، مرضًا إثر مرض، وتهميشًا إثر تهميش وتعسّفًا إثر تعسّف، وفقأً لعين إثر عين، وسجنا إثر سجن، وتعذيبًا إثر تعذيب. يقتلون إنسانا إثر إنسان. ولا يشعرون، وقيل يوما أنّ الخطيئة هي عدم الإحساس. يتساءل الكثيرون أن لِمَ يسرق الإنسان الجشِع ما لا يحتاجه؟ المال في العمق مطلب سلطة، وليس مطلب مال. المال وسيلة سلطة؛ والسلطة المطلقة التي يتوهّمها إنسان، تجعله يتذوّق شيئا من لانهائيّة، تجعله يشعر بأنّه يتجاوز محدوديّته كإنسان. السلطة المطلقة بالمال أو بأدوات القمع، توهم الظالم بأنّه مُطلق. هذا بالطبع وهمٌ، وهمٌ سيصطدم به الإنسانُ عاجلاً بارتطامه بحائط الموت. وقبل الموت بقليل – أن سنحت للإنسان الهارب من وجهه فرصة - سيعرف أنّ هروبه الكبير من المحدوديّة بوهم السلطة المطلقة (ولو كان يمارسها على جماعة صغيرة) كان هروبا من نفسه. هناك، أمام حتميّة الموت، وفي فراغ يده، سيعرف أنّ حياته كانت طبقات، خلف طبقات، خلف طبقات من الجرائم، في وسطها اللاشيء، الفراغ؛ سيعرف أنّه خسر نفسه أو فقدها، ويقف في الرعب الكامل، رعب العزلة المطلقة. لكنّ المحدوديّة وعدم الرضى بها، إشارة حقيقيّة، رمز قويّ داخلنا. وعوض السلطة الإجراميّة المطلقة التي توهم الإنسان بتجاوز محدوديّته، هناك طريق حقيقيّ يمكّن الإنسان بأن يتجاوزها، هو الحبّ، بالمعنى الخاص والعام للكلمة. بالحبّ لا يعود الإنسان واحدًا مغلقًا، بل يكتشف المشاركة، يكتشف عالمًا آخرَ ممكنًا وموجودًا في قلب هذا العالم، عالمًا يكون فيه الإنسان ذاته دون أن يكون معزولاً، ويكون فيه مع غيره دون أن يخسر نفسه، عالمًا هو فيه حيٌّ ليس لأنّه كلّي السلطة وإنّما لأنّه كلّي القابلية للعطب، لأنّه يقبل كلّ لحظة أن يدخل في تلك المغامرة التي تجعله جميلاً، وتجعل كلّ شيء جميلاً، ولذلك تجعل كلّ شيء بنكهة الخشية من الفقدان، الخشية التي لا يتجاوزها الإنسان إلاّ بإيمانه بأنّه أوسع بما لا يُقاس من كلّ خيبة، وبأنّ الحياة التي تتفجّر فيه هي في نفس الوقت أعمق منه بما لا يقاس، وبأنّه يسير في قافلة المحبّين الذين معه والذين سبقوه. طريقٌ آخرَ هو الحبُّ، وفي العمق هو الطريق. والحبّ لطيفٌ مع الآخرين الضعفاء، ولكنّه غضوب على الظلم وشجاع أمام الظالمين، ولهذا الحبّ متوثّب، حيويّ. الحبّ لا ينام نومة الموت. والحبّ وسط جماعة المظلومين اسمه نضالٌ، نضالٌ من أجل الحياة. بالنضال ينتعش الإنسان لأنّه يشارك غيره دون أن يخسر نفسه، وبالنضال ينتعش حبّ المحبَّين لأنّ حبّهما لا ينغلق على ذاتين وحاجتيهما بل ينفتح على فضاء الجماعة؛ بالنضال يعترفان بأنّ حاجة الآخرين للحياة والفرح هي عندهما بأهمّية حاجتيهما للحياة والفرح. في نضال المُحِبّ من أجل الإخلاص للآخر، ونضال المحبَّين من أجل الإخلاص للجماعة، يربح الإنسان نفسه حيّة، حتّى ولو تجرّحت حتمًا بما يحمله العالم من خيانات وخيبات ونكسات، ومن محدوديّات فيه وفي الآخرين. عندها لا تصبح المحدوديّات عدوّة، عندها ترى العالم كما هو بمحدوديّته وبإمكانيّاته اللامتناهيّة بولادة الفرح والجمال، عندها ترى أنّ اللبّ هو في أن تحيا لا في أن تكون لامحدودًا من ذاتك، وتتذوّق تجاوز المحدوديّة الذاتيّة بامتدادك إلى الآخر، بالحبّ الذي يستولد الحرّية ويولد بها، وبالنضال الذي يشعّ من الحبّ كضوء لا يمكنه أن يخبّئ نفسه. وبعد الموت يقف المحبّين وجها لوجه أمام سيّد الحبّ، هو الذي هو الحبّ نفسه. لم يَعِدْ يسوع أحدًا بانعدام الألم، أو بحياة سهلة، ما قاله هو أنّ الحبّ المناضِل هو سيّد هذا العالم، وأنّه انتصر بعد أن ظنّ الجميع أنّه فشل فوق الصليب. يسوع شهادةٌ بأنّ الكلمة الأخيرة في الكون هي للحياة والحبّ لأنّ الله محبّة. بهذه الثقة، نواجه بالحبّ المناضلِ كلّ جريمةٍ وكلّ ظلمٍ، ونعرف أنّنا عندها نكون في خطّ الله، خطّ الكفاح من أجل الحياة والفرح والحقّ، خطّ تعميد هذا العالم بنار الروح، النار التي قال عنها يسوع أنّه جاء ليلقيها «جئت لألقي نارًا على الأرض وكم أتمنّى أن تكون قد اشتعلت»، لنحرص على الاشتعال بهذه النار لتمتدّ فرحًا للعالم وليسوع. كلّ تطبيع مع الظلم ظلمة، وفي جماعة المحبّين الظلمة «لن تمرّ» والظالمون «لن يمرّوا»، ولن يُمشى في أثرهم، في إثر الوهم، وأمير الوهم. هناك أنواع من العنف. ليست كلّ أنواع العنف منبوذة ومرفوضة وغير أخلاقيّة. يسوع داخلاً إلى الهيكل وقالبًا طاولات الصيارفة مارس شيئا من العنف.
كان الهيكل لا شكّ جميلاً. بعض المناطق في الهيكل كانت مُحَدَّدة بحيث يُمنع الناس من الطبقات «الدنيا» من الوصول قريباً من المعبد. في الوسط كان هناك ساحة مُخَصَّصة للكهنة، ثمّ تلك المخصّصة للرجال، ثمّ للنساء، وأخيراً في الأطراف ساحة للوثنيّين أولئك «الغرباء». في لبنان والدول العربيّة (ولنترك البلاد الأخرى جانبا) الله ليس سوى المعبود اللفظيّ معظم الأحيان، وهو لأهل السلطة والمال المعطفَ الذي يخفون خلفه ضحايا جرائمهم. في الواقع، يحلّ «بَعْل» المال والسلطة مكان الله في المجتمعات. هيكل «بَعْل» في الوسط، وحوله طبقات «عليا» تعبد بَعْل، وهي ككلّ العبادات المصلحيّة تسعى للسطو على «قواه السحريّة». وبعدها تأتي الطبقات «الدنيا». حول الوسط حيث رموز بَعْل، هناك ساحة لكهنة الهيكل، ثمّ حلقات من الرجال (هؤلاء جلّهم اختصاصيّين مرتزقة)، ثمّ النساء، «أكسسوار» هذا المجتمع الذكوريّ، ثمّ الأجانب، «الخدم» الأقلّ قيمة، في الهيكل غير الشريف هذا. كان الباعة الذين يتكلّم عنهم الإنجيل موجودين في الساحات الخارجيّة: باعة حيوانات أو حبوب مخصّصة للأضاحي؛ وكان هناك خاصّة صرّافون لأنّ العملة اليهوديّة وحدها كانت مقبولة في الهيكل، فالعملة الرومانيّة المستعملة في معظم العمليّات التجاريّة اليوميّة في البلاد كانت تُعتَبَر نجسة. هناك عملتان إذن. الناس مجبورة أن تستعمل في الهيكل عملة دينيّة واحدة، يحدّد سعر صرفها «صرّافو الهيكل»: مصارف تلك الأيّام. هم يشبهون «صرّافو بَعلْ» المال والسلطة في لبنان، الذين يحدّدون سعرين لصرف عملة الإمبرطورية (الدولار) وعملة «الهيكل» بالطريقة التي تناسب عباداتهم الحقيقيّة، أي أرباحهم الماليّة والسلطويّة. لم يرضَ يسوع هذا النفاق وهذا الاستغلال. ولم يرضَ أيضا أنّ «الهيكل» غدا مكان غربة بينما كان من المفترض أن يكون مكان حضور إلهيّ يجمع أبناء وبنات الله إلى واحد، يجمع «عيال الله» في عائلة واحدة تهتمّ ببعضها البعض، بحاجات العائلة، ولا فضل فيها لأحد على أحد إلاّ بالتقوى، أي إلاّ بمقدار خدمته للآخرين. لكنّ عبّاد بَعْل المال والسلطة حوّلوا البيت العائليّ إلى مغارة لصوص: «بَيتي بَيتَ صلاةٍ يُدعَى لجميعِ الأُمَمِ. وأنتُم جَعَلتُموهُ مغارَةَ لُصوصٍ". صرخ يسوع. الوطن هو كيانٌ يعامَل الناسُ فيه كعائلة، بتساوٍ وعدالةٍ وتوزيعٍ للحقوق والواجبات بحيث يكون الجميع أحياء وفرحين. لكنّ عبّاد بَعْل جعلوه مكانا لإبليس، مكانا للظلم والجريمة والنهب والسلب والقتل ورمي الناس في اليأس والجوع والمرض والجهل والكراهية لثلاثين من الأعوام، والبارحة في ٢٠ كانون ثاني ٢٠٢٠ جعلوه مكانًا لإطفاء العيون وخنق الناس في الشوارع. هذا النفاق هو ما شجبه يسوع وهذا النفاق هو عينه ما شجبه المتظاهرون في شوارعهم. ليس كلّ عنف مشجوب. غضب الشارع لم يقتل ولم يفقأ عيون ولم يكسر سوى واجهات مصارف تخالف كلّ القوانين وتسحل حياة المواطنات والمواطنين سحلاً بشكل يوميّ وتفقأ قلوبهم. هذه الغضب مفهوم، وهو إنّما يدلّ على أنّ الناس لم تعد خانعة، وأنّها تحاول أخذ زمام أمورها وأمور بلادها بيدها. العنف المشجوب هو نوعين: العنف المؤسَّسيّ البنيويّ، السابق لأيّ عنف لفظيّ أو مادّي حدث بعد الانتفاضة الشعبيّة. وهو عنف موجود ومنتشر ويقتل يوميّاً، ولا يثير غضب الغاضبين من عنف المتظاهرين، لا رؤساء حكومات (ما عدا سليم الحصّ)، ولا وزراء داخليّة، ولا رؤساء جمهوريّة، ولا رؤساء مجلس نوّاب، لأنّ هذا العنف هو عنفهم بالذات. هذا العنف هو عنفهم اليوميّ ولكنّه عنف «كلاس»: يقتل ولكنّه يدع الناس تذهب إلى أعمالها «بسلام»، يسحل ولكنّه لا يقطع الطرقات، ينهب ولكنّه يُبقي على الفتات وبضعة كيلومترات من نفايات التعليم الأخلاقيّ ليرتاح بها ضمير الناس بسلام. هذا العنف المؤسّسيَ البنيويّ هو العنف السابق لكلّ عنف ظاهر باد للعيان اليوم. وهو المسؤول الأوّل والأخير عن عنف رمزيّ قام به متظاهرون. العنف الآخر المشجوب هو عنف الشرطة والجيش. في الأوطان ما من أمر مقدّس إلاّ الشعب والأرض. إن مسّ بهما أحد كان خائنا أو عدوّا، ومن يمسّ بالشعب أكان في القوى الأمنية أم لا، هو خائن للشعب ولا يقوم بواجباته. واجب القوى الأمنية هو أساسا حماية الشعب. القوى الأمنيّة لديها واجب أخلاقيّ تجاه الشعب وليس تجاه من استلم زمام السلطة في حقبة من تاريخ الشعب. هل تحدث محاكمات في لبنان لمن مارس العنف غير المبرّر ضدّ المتظاهرين؟ ليس من أسباب تدعو للتفاؤل، ولكن تجدر محاولة محاكمة المسؤولات والمسؤولين. هناك عنف آخر نختلف فيه هو العنف الثوريّ. هل هو الحلّ اليوم؟ لا يبدو ذلك في الأوضاع الحاليّة، العنف في لبنان أوصلنا إلى حروب أهليّة مدمّرة، وإلى.... سلطة النهب الحاليّة. تجنّب هذا المنزلق واجب، هو في جميع الأحوال غير مفيد وغير واقعيّ لأنّه لا يوصل إلى هدف العدالة. في الظاهر نحن أمام خيارات وطنيّة، أمّا عند من لامس وجه يسوع يوماً بقلبه، وأكاد أقول بيديه، من أحبّ الله، من أحبّ الإنسان، فهو أيضا أمام خيار إيمانيّ، أن يظلّ عبدا لبَعْل وكهنته أو أن يلفظ بَعْل وسلطته ويعمل في نضال لاعنفيّ، بشكل جماعيّ، وبرجاء المؤمن وصلابة عزيمته، على قلب سلطة بعل وطرد صيارفة الهيكل وكهنته لإرساء عدالة على هذه الأرض. خريستو المرّ كيف يمكن لبشر نُهبوا من قبل نظام سياسيّ أشرف على بنائه – ويشرف على استمراره – مجموعة من السياسيّين والمصرفيّين، ألاّ يروا أنّ السياسيّ الذي يدعموه مسؤول إمّا لأنّه نهب، أو لأنّه لم يفعل شيئا لإيقاف النهب بينما هو «زعيم» سياسيّ يُموضع نفسه كزعيم للبلاد وليس لمجموعة قبليّة فيها؟
لدينا كبشر هذه القدرة الخارقة على إيجاد الحجج تلو الحجج لدعم موقفنا المسبق من الأمور. من خصائص حياة الإنسان أن يتحرّك المنطقُ انطلاقًا من دوافع مسبقة ليعمل على تبريرها. يرى باحثون في علم نفس الاجتماع أنّ هناك دوافع ومواقف تكون موجودة مسبقًا لدى الشخص، ثمّ يندفع المنطق ليعطيها التبريرات. من هنا نلاحظ الانشقاق الداخليّ داخلنا وفي الناس حولنا. فنرى، مثلاً، إنسانًا مؤمنًا بإله محبّة وسلام ومشاركة، ويدافع عن سياسيّ ناهب وأنظمة سياسيّة رأسماليّة متوحّشة. عندما نرى هكذا تضارب، علينا أن نعرف فورا أنّ طبقة الفكر الإيمانيّ المُعلنة (محبّة، مشاركة) ليس سوى طلاء لتغطية إيمان حقيقيّ يُمارس يعبّر عن مجموعة من الأفكار الأخرى، هو اجمالاً إيمان بالنظام القائم، اجتماعيًّا كان النظام أم اقتصاديّا. هذا الإيمان الحقيقي يقوم على الظنّ بأنّ النظام القائم هو الأفضل من أجل الذات، أي أنّه يقوم على ركيزة أنّ النظام مفيد (حتّى ولو كانت الفائدة واهمة). ولكنّه أيضًا يقوم – وهنا برأيي السبب الأعمق– على أنّ هذا الإيمان بالنظام القائم يؤمّن شعورا بالانتماء إلى جماعة، وهذا الانتماء يعطي الإنسان أمانًا ولو زائفًا (وهو زائف في ظلّ الانهيار الحالي)، وهويّة، والإنسان مستعدّ لكلّ شيء حتّى للعبوديّة مقابل الشعور بانتمائه إلى جماعة، والشعور بالهويّة الذاتيّة (ولو كانت هويّة لا أخلاقيّة ومدمّرة). من هنا، من الموقف الشعوريّ المسبق للأفكار، تأتي كلّ الإنكارات: لا، النظام الرأسماليّ ليس متوحّش. لا، هناك فقط بضعة لصوص. لا، المصرفيّون أخطأوا ولكن المصارف لم تنهب. لا، المصرفيّون نهبوا ولكن لا ضرورة لتغيير النظام. لا «منعوا زعيمي من العمل». لا، لم يكن ممكنا «إعمار لبنان» دون نهب وسط بيروت. لا، زعيمي استقال. لا زعيمي عليه أن يلعب اللعبة، ولكنّه غير راضٍ عنها. لا، زعيمي ليس مثلهم. ومن هذا الموقف الشعوريّ المسبق تأتي كلّ التبريرات، نعم زعيمي نقيّ ولكنّه مضطرٌ أن يترك الفاسدين يسرحون ويمرحون ليركّز على القضيّة الأكبر. نعم زعيمي دفع رُشى وكان مضطرا لرشوة السياسيين والمصرفيين والعاملين في المؤسّسات العامة والنوّاب والوزراء والإعلاميّين لكي يتركوه يبني البلاد. نعم زعيمي استولى على وسط بيروت ولكن لأنّ قلبه على البلاد وهذه الطريقة الوحيدة لإعمارها. نعم زعيمي اغتال وقتل وارتكب المذابح وهجّر ولكنّه كان مضطرا على ذلك دفاعا عن «الوجود»، ثمّ غيره فعل ذلك أيضًا! نعم صحيح أنا أؤمن بالمحبة والمشاركة ولكن المسيح «طوباوي يعني». ولكن، لا أحد يمكنه أن يقبل ولو بينه وبين نفسه أن تكون مواقفه غير أخلاقيّة أو إنسانيّة. ومن هنا يحتاج الإنسان للانكار والتبرير الأخلاقيّ (أنا متأكّدٌ أنّنا أن سألنا ناهِبًا لوعظنا بأخلاقيّات فعلته وقانونيّتها). والانكار والتبرير سهلان جدّا عندما يتمكّن الإنسان من اللجوء إلى مجموعة تفكّر مثله، إذ عندها تخفّ حاجته للحجّة والمنطق المتماسِك المقنع، لأنّ في المجموعة المتجانسة الكلّ يفكّر بنفس الطريقة. بالديانة الداخليّة المخالفة للديانة اللفظيّة، وبالمنطق المندفع لتبريرها، وبالانغماس في مجموعة متجانسة مدفوعا من رغبة ملحّة بهويّة ما (ولو كيفما اتّفق)، يمكن للإنسان أن يكون فاسدًا، أو مشاركا في الفساد بتبريره، وهو في كامل لياقته الأخلاقيّة لفظيًّا، لأنّه لم يُرد أن يرى أو لم يرَ المسافة بين الأقوال والأفعال، ولم يحمِ حرّيته من ضغط المجموعة التي ينتمي إليها، «فبقي في العبودية مخافة الموت»، الموت عن السهولة، والموت عن حضن الجماعة، للجوء إلى حضن الحقّ والتمسّك بالحاجة الأساس إلى واحدٍ يفتحُ أفق المشاركة والفرح في البنى الاجتماعيّة عبر هذا الموت. خريستو المرّ السطو الجماعيّ على الله: حكاية البطل والجلاّدالثلاثاء ٧ كانون ثاني/ يناير ٢٠٢٠
في العلوم الطبيعيّة نحن نقارب معرفة الواقع الطبيعيّ كما هو مع كلّ تقدّم علميّ. لكن فعليًّا نعيش كلّنا في حكاية، فردا وجماعات. الشيء الذي ندعوه واقعا في الحياة العلائقيّة (الفرديّة والجماعيّة) هو حكايتنا، ففيها ليس من واقع كما هو، إلاّ عند الله الذي يعرف بالفعل. يشترك الأفراد والمجتمعات في ترتيب مكان لمقدّساتها في وسطها. تعبد الشعوب والجماعات مقدساتها (القائد، المبادئ، المؤسِّس الأوّل، العلم، إلخ.)، ومقدّسات الجماعة ليست هي الله حتّى ولو كانت الجماعة مؤمنة بالله لفظيًّا. وهذه المقدّسات جميعا ما هي إلاّ رموز لأمر واحد: الجماعة نفسها. وحتّى أختصر كثيرا، في مجتمعاتنا قلّة قليلة تعبد الله، أو مبدأ معيّن، وتعني ذلك بالفعل المعيوش. معظمنا يقول أنّه يعبد الله وهو بالفعل يعبد قبيلته الدينيّة، بعد أن يماهي بين الجماعة وبين الله، وبين طقوس الجماعة وبين الله. ما يبيّن ما نقوله في مجتمعاتنا هو أنّ الطوائف المتكتّلة تعامل أيّ شخص يخالفها حتّى سياسيّا أو فكريّا أو اجتماعيًّا معاملة كافرٍ أو هرطوقيّ. فهناك سطو على الله تمارسه الجماعة الطائفيّة، القبيلة الطائفيّة، بحيث تغدو هي ممثّلة لله، ويغدو رأيها حتّى السياسيّ (ذاك الرأي الذي ينطق به قادتها فقط) هو رأي الله نفسه، وكلّ خارج عنه خارج عن الإيمان. وما يؤكّد ذلك أنّ الإنسانَ الخارج عن الرأي الجمعيّ في للجماعة، حتّى في أمور المجتمع والسياسة والفنّ، والذي يعبّر عنه قادتها حصرًا، يُعامل معاملة الخارج عن الإيمان بحيث يُقتَل، أو يُهَدّد بالقتل، أو يُنبَذ اجتماعيًّا، والنبذ هو عمليّة قتل معنويّة شرسة وعنيفة. لا مكان للفضاء العام الاجتماعيّ المشترك بين الناس بغضّ النظر عن اعتقاداتهم في الفكر الجمعيّ المغلق العابد لذاته. طبعا الجماعات غير متراصّة في وحدة تامّة، وهناك تيّارات، ولكن لهذا بالضبط تسعى التيّارات المسيطرة إلى قمع أيّ اختلاف وتعتبره "نشازًا". يكره عبّاد الجماعات التنوّع. يفهمون الوحدة المطلقة تجانسا تامًّا. يستخدمون الله وسيلة للتجانس، ويستخدمون التجانس وسيلةً لتحويل الجماعة إلى أداة بيد القادة. في خضمّ كلّ هذا، تأتي حكايةُ بطل الجماعة، والبطل ليس سوى ذاك الحامي لمصالحها ولوجودها. قد يكون رئيسا أو قائدا عسكريّا أو قائدا علمانيًّا (أرسله الله أو الكون) أو قائدًا دينيّا لا يهمّ، ففي مطلق الأحوال ما يحدّد بطولته هو أنّه يساهم في تقدّم مصلحة «الجماعة»، وبالأحرى المهمّ أن تعتقد الجماعة أنّه ساهم في تقدّم مصالحها وحمايتها، وهنا يكمن فِعْلُ الحكاية. فالمهمّ أن تعتقد الجماعة بواسطة حكاية (دعاية، خطابات، كتب تاريخ، إلخ) أنّ مصالحها وحمايتها تقدّمت وأنّ أشخاصًا ما هم أبطالها، ولو أنّ أبطالها ربّما يقودنها إلى الإبادة. في حكاية أولى كان هتلر، مثلاً، «بطلاً» قوميّا قبل أن يُدخِلَ العالم في جحيم الإبادات، ويقود بلاده إلى التفكّك والانهيار. ما عاشه الناس في النهاية جعلهم يكتبون حكاية أخرى. و«البطل» في حكاية جماعة ما قد يكون جلادًا في حكاية جماعة أخرى، فقد يكون ارتكب مجازر بحقّها. لكنّ مجموعة «البطل» لا ترى مجازر، فكلّ حكايتها مرويّة لتظهر أنّ الدفاع عن الجماعة كان ضدّ «وحوش» يريدون إبادة الجماعة ولا نعرف «لماذا يكرهونها». والحكاية تقول أنّه إن وقع ضحايا فهؤلاء كانوا «دروعًا بشريّة» أو «أضرارًا جانبيّة» لا بدّ منها. كيف إذن نحكم على الحكايا المتقابلة. أيّة حكاية هي الصحيحة بين الشعوب وبين الجماعات؟ هناك حكاية واحدة أعرفها تحكم بين حكايا الشعوب، حكاية يسوع المعلّق بين السماء والأرض والمبغوض بلا سبب. حكاية الضحيّة البريئة المنبوذة هي الحكايةُ الحاكمة. وعيون يسوع في عيون الضحايا البريئة هي التي تحكم اليوم وفي اليوم الأخير فيما كانت فيه تختلف الحكايا. لا يوجد مِنْخَلٌ آخر للروح يصفّيها من عتمات حكايا الجماعات وأوهامها وبطشها الناعم، إلاّ صمت الضحيّة البريئة، ووجهها الشاهد لدمها المخفيّ بين سطور الحكايا ويصرخ خلف حروفها. خريستو المرّ |
الكاتبخريستو المر الأرشيف
December 2023
Categories |