خريستو المرّ
الثلاثاء 27 تمّوز/يوليو ٢٠٢١ في لبنان لم يكن السلم في لبنان سوى استمرارًا للحرب بطريقة أخرى. البلد قائم أساسًا على حرب من طرف واحد يشنّها الذين يَستغِلّون على الذين يُستَغَلّون. البلاد منذ الاستقلال شركة قائمة بين السلطة السياسيّة ومجموعة رجال أعمال لاستغلال ثروات البلاد لمصالحهم الفرديّة. لم يكن لبنان يومًا سويسرا الشرق، فسويسرا فيها الشيء الكثير من العدالة الاجتماعيّة المفقودة في لبنان حيث كان 40% من الشعب يعيش تحت خطّ الفقر، بينما كان يستحوذ حوالي 4% من السكّان على 84% من المدّخرات وعلى ثلث الدخل الوطنيّ، في ستّينات القرن الماضي، أي في عزّ "سويسرانيّة" لبنان. الوضع كما نعرف لا يختلف اليوم كثيرًا، فالتفاوت الطبقيّ بات أكثر توحّشًا. هذا النظام الإجراميّ الذي يطحن بالإفقار معظم الناس، والذي يدافع عنه، إضافة إلى المصرفيّين ورجال الاقتصاد والسياسيّة والعسكر، المؤسّسةُ الدينيّة التي تتكلّم عن الله وأنبيائه وقلبها مع السلطة والمال، والتي تعظ بالفقر والعفّة وتتنعّم بمفاعيل الاستغلال والجريمة. هذا النظام لا يمكن الدفاع عنه أخلاقيّا، ولذلك احتاج لجيش من رجال الدين ولأدوات غسل الدماغ الإعلاميّة لكي يقبل به الناس. فعكف الإعلام ورجال الدين على غسل أيدي "الزعماء" الدينيّين والسياسيّين من دماء السكّان المصلوبين يوميًّا واتّهام "الآخرين" بالشرور، وإيهامنا بأنّ "كرامة" الناس لا تكمن في حقوقها، وإنّما في ضمان وهمٍ شائعٍ يُدعى "حقوق الطائفة". المؤسستان الدينيّة والإعلاميّة فلا تنشران الحميّة بين الناس إلّا دفاعًا عن مصالحهما التي تتناغم مع مصالح النظام القائم؛ ما عدا ذلك، تستفيد المؤسّستان من نشر التربية على الاستكانة، فتعلّي المؤسّسة الدينيّة شأن "الطاعة" على الشجاعة الأخلاقيّة، وتركّز على بُعد الشخص الذي ينمو باللطف والحرّية وتغيّب بُعد البُنى والأنظمة التي لا تتغيّر إلّا بالقوّة. ارتكاب جريمة 4 آب بالإهمال العمد، عرّت الوجه الإجراميّ للنظام، وأسقطت السُتُر التي يستتر بها المسؤولون والذي تراوحت بين عدم المعرفة، وعدم التدخّل "احترامًا" لفصل السلطات وعدم الاختصاص، والمطالبة بالتحقيق الداخليّ ثمّ رفض نتائجه، وحماية الجميع للجميع لأنّ الجميع مُرْتَكِب. كلّ ما نشاهده يكشف المجرمين بالأسماء والألقاب، من الأكثر تسلّحًا بينهم إلى الأقلّ. في بلد يتفاخر بالطوائف الابراهيميّة تشتمّ تحت أشكال عبادة الله رائحة عبادات كثيرة، عبادة صنم المال والسلطة، عبادة صنم "الزعيم"، عبادة صنم "الذات الجماعيّة" المدعوّة طائفة، عبادة صنم الذكورة، عبادة صنم العسكر. لا عجب والحال هذه أن تنحو نُظُم الحكم في بلادنا كلّها نحو التسلّط والاستغلال. وإن كان تحليلي صائبًا، يمكن استنتاج التالي: قُل لي مَنْ هو إلهك أَقُلْ لك من أنت. أي بتعبير آخر ملموس: قل لي ما هو موقفك من الإنسان أقل لك من هو إلهك الحقيقيّ. بلدٌ غارقٌ في عباداته الصنميّة لا يمكن إلّا أن يسحق الإنسان. منطقةٌ غارقةٌ في كفرها بالإنسان لا يمكنها أن تدّعي إيمانها بالله. لقد أفرغ السياسيّون اللبنانيّون كلّ تعبير شريف من معناه، فهم يريدون تحرير المظلومين ويريدون سيادة وطنهم ويحبّون الحياة وفي الآن عينه يرتكبون الظلم، وتحت شعار تحرير شعبٍ لا يمانعون بسحقه أو بسحق شعب آخر. ورغم ذلك علينا أن نعيد الشرف للغة ونستخدم التعابير في معناها الأصيل ونقول: حين نلتزم - فعلًا لا كلامًا، وصدقًا لا كذبًا – تحرير كلّ المظلومين (لا جماعتنا فحسب)، ونُترجم ذلك في تعاون جماعيّ لإنشاء سياسات وبُنى للعدالة الاقتصاديّة ومشاركة الخيرات، أي حين نصير حلفاء عمليّين للمقهورين في الأرض، عندها نكون قد عانقنا المسيح والانبياء بالفعل، وصرنا على شبههم. هذا ليس واقعيّ؟ صحيح، ومتى كان الإيمان واقعيًّا؟ أن يكون شيء لا واقعيّا لا يعني أنّه غير صحيح. مَن منّا لا يخطّط للمستقبل؟ كلّ تخطيط لمستقبل هو حتمًا لا واقعيّ، لأنّه يرى ما ليس بموجود، ولكنّه يراه صحيحًا ومُمكنًا. قبل أن يسقط أيّ ملك أو ديكتاتور أمام شعبه، كان سقوطه أمرًا لا واقعيّا. كلّ سلطة تسقط بالظلم. فلنسعَ أن تساهم صرخة أهالي شهداء 4 آب، وعملهم الشجاع، بتحقيقِ سقوطِ هذا السلطة الزائلة أمامنا بممارستها الظلم. القدسيّة للإنسان، ولا قدسيةٌ لأي نظام قائم، فكيف إن كان ظالمًا؟ خريستو المرّ
الثلاثاء ٢٠ تمّوز/يوليو ٢٠٢١ أمام الأحداث يتساءل الإنسان ماذا يفعل؟ والسؤال عن الفِعل يسبقه عادةً تحليلٌ لأسباب الظروف. العديد من الناس ينتهجون اللامبالاة حيال الأحداث والاستقالة من الفِعل، فلا يتساءلون عمّا يمكنهم فعله، لكنّ التساؤل الكبير الذي نكاد جميعًا نتجاهله هو ماذا نكون؟ أن نكون هو أساس كلّ شيء، أساس الحياة وهدفها بآن. وأن نكون هو شيء أعمق من أن نوجد ونأكل ونشرب ونتوالد ونرتاح ونعمل. أن نكون هو الحالة التي نحن عليها بينما نفعل ذلك كلّه. أن نكون هو توجّه داخليّ. قد أفعل خيرًا بهدف شرّير أو أنانيّ، مثلًا، أتبرّع بمبلغٍ ماليٍّ بهدف شراء الذمم لأنجح في الانتخابات، أُعطي منحةً دراسيّةً وهدفي أن يخضع لي من أمنحهم، أصبح راهبًا وهمّي أن أتعالى عن غير الرهبان، أدرس وهمّي أن أسيطر، إلخ. إنّ توجّهي الداخليّ في كلّ هذه الحالات هو توجّه انغلاقيّ، بحيث أنّ تبرّعاتي وعطائي وترهّبي ودراستي وذكائي ليست بالنسبة لي سوى مرايا أعشق نفسي بها. و"عاشق نفسه ضدّ نفسه" كما قال مكسيموس ان اسعفتني الذاكرة. كينونتي عندها، حالتي الداخليّة هي حالة تشبه الجحيم، فما الجحيم سوى حالة الانقطاع عن المشاركة، مشاركةُ الإنسان ومشاركة الله، والمشاركتان تترافقان ولا يمكن فصلهما. بالنسبة لوجودي، لحالتي الداخليّة، لنفسي، أفعالي وما أقوم به، تغدو هامشيّة، فما أحياه هو حقيقتي. وإن كنت أتلهّى على هذه الأرض عن حقيقتي، بالأعمال والتنافس و«النجاحات» والمرح فإن هذه الحقيقة ستظهر لي كما هي بعد الموت ، حيث لا مجال بعد للهروب من الذات. عندها يصبح وجود الله -الذي هو دائمًا محبّةٌ لا متناهيةٌ تعطي الفرح، ودائمًا يجذب الإنسان إليه - مصدرَ انزعاجٍ وكدرٍ وتمزّق لأنّي تمرّنت في حياتي على القسوة، على أن أغلق نفسي على نفسي وألّا أشارك، فإذا بي أحكم على نفسي بجحيمي. الله لا يعذّب أحدًا وإنّما نحن نعذّب أنفسنا برفض الانفتاح عليه وعلى الآخرين، نعذّب أنفسنا اليوم ولاحقًا، وإن خدّرنا عذابنا اليوم بشتّى صنوف الهروب من الذات لن يمكننا أن نفعل ذلك لاحقًا. لكن هذه الحالة الجحيميّة التي نكون فيها ليست لا شيء بالنسبة لله الذي يحبّنا، فعذابنا يغدو لله «عذابًا» بطريقة ما، فإنْ كان الله محبّةً فلا يمكن إلّا أن يكون وجوده مهتمًّا بالمحبوب وحسّاسًا لمصيره. لهذا كُتِبَ عن كلمة الله أنّه مصلوبٌ قبل إنشاء العالم، لأنّ مصير الإنسان يؤلم الله بألمٍ لا نفهم نحن كيف هو، لكنّنا نفهم أنّه لا بدّ موجود إن آمنّا بكلمة كتبها يوحنّا الرائع: أنّ الله محبّة. هذا ما يمكن قراءته في التراث المسيحيّ من زاوية يسوع المسيح المصلوب. ورغم ذلك، عند الصفاء (وهذا قليل)، تدفعنا المحبّة أن نرجو أن يتمكّن الإنسان حتّى بعد الموت من أن يتغيّر، ولكنّنا هنا في الرجاء وليس في التأكيد، فلا شيء في الأديان يشير إلى هذه الإمكانيّة، فيدعونا التواضع ألّا نجزم في شيءٍ، راجين وتاركين كلّ شيء لسرّ القلب مع الله وسرّ الله مع القلب. الأعمال، على كبرها وأهمّيتها بالنسبة للآخرين، لا تقدّسنا ولا تؤلّهنا؛ وإنّما وضعنا الداخلي، إن كان نورانيّا، مُحِبًّا، هو الذي يُضيء ويشعّ في أعمالنا. هذه هي الأعاجيب الحقيقيّة: أنّ إنسانًا مُحِبًّا يمكنه أن يفتح عالمًا من التنفّس والاطمئنان لإنسان آخر بكلمةٍ، أو هتافٍ، أو سلامٍ، أو سؤالٍ، أو صمتٍ وإصغاءٍ، أو أيّ عملٍ آخرٍ، لأنّ المحبّة، المتعاطفة أبدًا، تحتضنُ وتُطلِقُ في آن، وتجعل وجودنا ووجود الآخرين يتنفّس وينمو ليصبح ملكوتًا. لهذا كلّه، نكون بأن نحبّ، بحيث تجعلنا المحبّة أحرارًا من الانغلاق على أنفسنا؛ وتجعلنا الحرّية محبّين حقّا بالانطلاق خارج العبوديّة والأسر؛ وينبغي أن ننتبه أنّ النظام الاقتصاديّ الرأسماليّ بتركيزه على الاستهلاك المتزايد (والانتحاريّ لكوكبنا) يساهم بالتركيز على الأشياء، والمزيد من الأشياء، ويُبعدنا عن التركيز على الشيء الوحيد الذي هو حاجة: أن نكون. يسوع أشار لامرأة صديقة كانت مضطربة بشأن عملها أنّ الحاجة هي إلى واحد، إلى كلامه، إليه، إلى كلمة الله التي تُحيي، إلى الحبّ، ذلك أنّنا جائعون إلى الحبّ، إلى كلمات الحبّ، التي إن أكلناها دَفَعَتْنا في رحلةٍ متعبةٍ كي يصير وجودنا حبًّا، كي نتحوّل إلى أناسٍ مُحِبّين، كي نصير أشخاصًا، فنكون. عندها تكون كلّ أعمالنا الصادرة عن وجودنا حياةً تُشعّ شيئًا جميلًا ليس من هذا العالم أو هو العالم في عمقه. خريستو المرّ
الثلاثاء ١٣ تمّوز/يوليو ٢٠٢١ الظلم العميم يلقي بالظلمة على بلادنا، على الناس. الظلم يسحق أكان الظالم عربيّا أم لم يكن، لا قوميّة في الظلم، وإن كان ظُلم الاحتلال أشنع وأشدّ تنكيلًا لأنّه يريد أن ينفي شعبًا كاملًا عن الوجود، فلا يجعل ذلك من الظلم الداخليّ عدلًا، وقد هجّر حكّامٌ ملايين من مواطنيهم، وسحق آخرون الملايين بالإفقار والاستغلال. في كندا، من كان مرهف القلب يسمع في المساء أنين أولادٍ تحت التراب، ويرى سيلًا من الدماء يختفي تحت الحدائق الجميلة. كم تشبه كندا فلسطين. أمام الظلم الصارخ ماذا يفعل الإنسان؟ قد لا يستطيع سوى البكاء، والبكاء أفضل من الهدوء المنافق الذي يشي بعدم الإحساس؛ وقد لا يستطيع سوى الدعاء المجبول بالتعاطف، والدعاءُ توقٌ إلى العدالة لم يتحقّق وأكثرُ انسانيّةً من عدم الاكتراث. إنّ الشهادة ضدّ الظلم بالدموع والصلاة معموديّةٌ للقلوبٍ يطهّرها من ظلامٍ قد مسّها. الظلم يودّ أن يعمَّ الظلام على القلوب حتّى يموت الحبّ. لا يمرمر الظالم إلّا الحبّ الذي يشهد بوجوده بأنّ عالمًا آخر ممكنٌ. الظالمون يأتون من رغبة بالتألّه تتوهّم الألوهة إلغاءً للوجوه فتتوسّل القتل وسحق كلمة "لا"؛ ولهذا يبقى الظالمون في الخوف الكبير من بساطة الحبّ لأنّه يزيد الوجوه لمعانًا، ولأنّه لا يُمسَك ولا يُكَمّ، وحين يهبُّ لا يُعرَفُ موضعه. ولهذا يطلب الظالمون نفوس الفنّانين أوّلا لأنّهم يحطّمون الرتابة ويبعثرون الامتثال المميت. ولهذا أيضًا يشدّد الظالمون على الطاعة ويكرهون المحبّة إلّا إذا خانت نفسها فصارت تشبه الخنوع. ويتوّهم الظالمون أنّهم إذا ظلموا صاروا آلهة، وهم في الحقيقة يتعمّقون في الموت، فكلّ متحكّم عبدُ أوهامه ولهذا مَن يظلم فقد اعتدى "ومن يفعل ذلك ظلم نفسه" (البقرة ٢٣١) إذ يكون الظالمون قد بنوا نفوسهم أصنامًا يدعونها من دون الله وبهذا "ظلموا أنفسهم" (هود ١٠١) لأنّ قلوبهم تحجّرت فماتوا وهم أحياء. لهذا أضعف الإيمان أن يقاتل المظلومون الظالمون بالمزيد من الحبّ بينهم، بالمزيد من التعاطف والتعاضد اللذان يضيئان كي تُقهَرُ الظلمة التي تُحاصِر المظلومين، وهي الظلمة نفسها التي حاصرت يسوع المرفوع على خشبة خارج أورشليم فقهرها الحبّ. لكنّ الإيمان الصَلْبَ يقتضي أن يرفض المظلومون الظلم ويسعوا لرفعه عنهم. هناك أنصاف حقائق قاتلة؛ فإن طلب المؤمنون "المدينة الآتية" فلا يعني ذلك أنّهم لا يحبّون مدينة اليوم، بل يعني أنّهم ينظرون أن تكون مدينة اليوم كالآتية، فلا تتعلّق قلوبهم بالأرض ولا يساومون على الحقّ. فإن تاق المؤمنون إلى العدل والفرح في اليوم الأخير، فهذا لا يعني أنّهم لا يتوقون إلى تحقيق العدل والفرح الآن وهنا ليتذوّق أبناء وبنات الله الملكوت الآتي مُسبقًا. إنّ الذين يتوقون إلى الحقّ يناضلون، فالحبّ ليس عاطفة تحتضن الآخر فقط هي رغبة بالحياة تناضل كي تكون الحياة وتكون أوفر. الإيمان المُحِبّ حقًّا يدفع المؤمنين كي يبحثوا عن وسائل النضال مع غيرهم حتّى يفرح الناس إذا تحقّق العدل والحقّ. والعدل والحقّ صورة عن ذاك الذي هو العدل والحقّ، ولهذا من يعشقونه يعشقونهما وقد يؤدّون في سبيل المعشوق ركعتان في العشق قد "لا يسوغ فيهما الوضوء الا بالدم" كما هتف الحلّاج يوم مات شهيدًا. لا فرق ان يموت الإنسان حُبًّا بحبيبٍ إلهيّ وآخر بشريّ ففي الحالتين يموت من أجل الحبّ الواحد الذي هو الحاجة كلّها. الفلسطينيّون يقولون ذلك يوميًّا بأجسادهم المُشَظّاة، بالنسك المرسوم في أيقونات وجوههم في السجون، وبالقبضات العارية، وينظّمون أنفسهم ما أمكنوا. منهم لسكّان منطقتنا أن يتعلّموا. هل ننظّم أنفسنا لنطيح بالظُلّام؟ هذا رجاء القلوب التي تحترق. خريستو المرّ
الثلاثاء 6 تمّوز/يوليو ٢٠٢١ الأسبوع المنصرم زار بطاركة المسيحيّين في لبنان البابا فرنسيس. يمكن للإنسان أن يستشفّ أنّهم اجتمعوا ليتبادلوا الرأي حول أوضاع البلاد النازلة إلى جحيمٍ كان يمكن أن يتوقّعه كلّ عاقلٍ. صلّى ممثّلو الطوائف معًا، وكان للبابا دعاءٌ بأن تترك القوى الخارجيّة والداخليّة مساعي الهيمنة والمصالح الخاصة واستغلال آلام الناس لتهتمّ للسلام. ويُفهم من كلام المطران بول كالاغير، وزير خارجية الفاتيكان، أنّ من دوافع الاجتماع قلقٌ عام من هجرةٍ واسعةٍ للمسيحيّين من لبنان على غرار ا حدث في العراق وسوريا. فاته أنّ الهجرة ستطاول الجميع وليس المسيحيّين فقط، وأنّ المسيحيّ مؤتمن على حياة الناس جميعًا لا المسيحيّين فقط. في حرصهم الظاهريّ على وجود المسيحيّين لا يوحي ممثّلو الكنائس في لبنان بالثقة. فهم أوّلا حلفاء أهل السلطة الذين أودوا بالبلاد إلى أوضاعها الكارثيّة، سواء في لبنان أم في سوريا. في لبنان تحديدًا، حَرِصَ رجال الدين على الدفاع عن المرتكبين الذين تشوبهم تهم لفساد، وتأمين سدّ طائفيّ منيع لحمايتهم من أيّة محاكمة ممكنة، والدافع الواضح هو "التوازن الطائفيّ" في الفساد والمحاكمات، لو قال بذلك جارنا «عبد الله» لفهمنا عليه فهو انسان مسحوق قد لعب الإعلام بعقله لعشرات السنين كي يوهمه أنّ حماية "حقوق طائفته" ستحصّل حقوقه، وهذا عين الوهم. لكن رجال الدين ليسوا جارنا «عبد الله» المغلوب على أمره، هم كانوا وما زالوا شركاء الطبقة الماليّة-السياسيّة في البلاد. لقد استفادوا ويستفيدون من تبرّعاتها للمؤسّسات الكنسيّة (تبرّع ببناء لجامعة من هنا، تبرّع ماليّ، هدايا سجّاد عجميّ لمطرانيّة، تبرّع موتور لكنيسة عشيّة الانتخابات، إلخ)، ومن الإعفاءات الضريبيّة للمؤسّسات الدينيّة والممتلكات والأراضي، ومن حماية رجال الدين من الملاحقات القانونيّة. في المقابل يقدّم رجال الدين لهم "خدمات" جلّى، مِن حماية من الملاحقات القانونيّة (المعاملة هنا بالمِثِل!)، وتأجير لأراضي الأوقاف بأسعار متهاودة لمشاريع «البزنس» المربحة، إلى ما هنالك. رجال الدين والمجموعة الماليّة-السياسيّة الفاسدة شركاء إلى حدّ كبير، والمؤسّسات الكنسيّة والإسلاميّة استفادت كثيرا من فساد الفاسدين. الآن يرفعون الصوت في مسرحيّة بائسة، رفعًا للعتب فقط. إذًا، المسؤولون الكبار في الطوائف المسيحيّة لا يتدخّلون فقط في تفاصيل الحياة السياسيّة (مثل البطريرك المارونيّ، ومطران بيروت الأرثوذكسيّ) وهو أمرٌ فيه تجاوزٌ لدورهم الدينيّ، وإنّما يتدخلّون أيضًا في السياسة بشكل مستمرّ من خلال تبادل الخدمات والحماية مع مجموعة الأوليغارشيّة أي السلطة الماليّة-السياسيّة؛ أي أنّهم يتدخّلون بشكل مستمرّ.... ضدّ الشعب.... ويغطّون مساوئهم بتوزيع المساعدات الآتية من الخارج. ماذا يمنع الكنائس اليوم من استعمال الكمّ الهائل من أراضيها وعقاراتها في خدمة المحتاجين من جميع الناس مسيحيين وغير مسيحيين؟ لا شيء سوى تفضيل الممتلكات على الإنسان. الكلام نفسه ينطبق على الطوائف الإسلاميّة حيث يُضاف مشكلة أخرى عندما يترأس مسؤول دينيّ حزبًا سياسيًا إذ يتمّ عندها الخلط بين المعتقدات وبين الشخص وبين الحزب. *** في مكان آخر، تابع رجل دين مسيحيّ نشر مقالات يدافع فيها عن هلوسةٍ (وهي ظاهرةٌ تحتاج للدراسة العلميّة من متخصّصين) تقول بأنّ هناك مؤامرة عالميّة للتحكّم بالإنسان بواسطة لقاح مرض كوفيد19. يأتي صاحب المقال بعدد من "الشهادات" لعدد من "المتخصّصين"، متجاهلًا رأي مئات آلاف الباحثين والأطبّاء حول العالم. ليست المشكلة في خطأ رجل الدين هذا، ولا في قناعة رجلٍ دينٍ بوجوب عدم أخذ اللقاح، المشكلة هي في أنّه في موقع سلطة، ومن موقعه هذا يدعو الناس إلى عدم أخذ اللقاح، وهو ما قد يؤدّي إلى موتهم أو موت آخرين عن طريقهم. العلوم لها مرجعيّاتها وأدواتها، وطرقها في تقديم الدليل والحجّة. نحن غير المتخصّصين في علم ما يمكننا أن نستخدم النتائج التي يتوصّل إليها المتخصّصون به، وأن نعود إليهم كمرجع، كما يمكننا أن نعود إلى هلوسات بضعة أشخاص لنكتب قصّة مشوّقة ننشرها، ولكن أن نعتمد على رأي بضعة أشخاص ولو كانوا متخصّصين لكي ندعو الناس إلى أمرٍ يُعاكسُ ما اتّفقت عليه المرجعيّات الطبّية حول العالم، فهو ضرب من التهوّر يُخشى أن تشوبه الكبرياء. هنا أيضا، يتدخّل رجال الدين ضدّ الناس، ولو عن حسن نيّة هذه المرّة، لكنّ الطريق إلى «جهنّم» مزروعة بالنيّات الحسنة، كما يُقال. *** نحن مسؤولون عن مصيرنا، عن تغيير سياسات بلادنا واقتصادها وطريقة تصرّف رجال دينها، كي نستطيع أن نحيا بكرامة وحرّية. أن نعي أنّ رجال الدين الذين ترسمهم وسائل الإعلام والتربية التقليديّة كأنّهم أنصاف آلهة، هم مجرّد بشر يمكنهم أن يَضلّوا ويُضِلّوا، ويمكنهم أن يكونوا -مثلنا جميعًا- من أعتى المتسلّطين وأفسد الفاسدين وأكبر المستغلّين وأجهل الجهلاء، لهو أمر يساعدنا أن نتعامل مع الواقع الكنسيّ والاجتماعيّ-السياسيّ-الاقتصاديّ بطريقة أقلّ كسلًا وأكثر مسؤوليّة، وبالتالي أكثر إبداعًا. |
الكاتبخريستو المر الأرشيف
December 2023
Categories |