خريستو المرّ
الثلاثاء ٢٨ آذار، ٢٠٢٣ يُعَدّ التواضع أمرًا جميلًا ومرغوبًا في إطار الإيمان، كما يُعَدّ الله مصدر كلّ حقيقة في هذا الكون، فهو الذي وضع قوانين هذا الكون وأسّسها على معادلات رياضيّة يكتشفها الباحثون والباحثات أجيالًا بعد أجيال، وهو الذي أسّس قماشة هذا الكون الفيزيائيّة - الكيميائيّة ووضع في وسطها أواليّات (mechanisms) دفعت البيولوجيا، أي الحياة كما نعرفها، إلى أن تولد من الفيزياء والكيمياء. انطلاقًا من هذه الرؤية، لا يمكن أن نرى حقيقة في هذا الكون إلّا ونرى الله وراءها، وهو في هذه كلّها ينكشف ويختبئ معًا أمام عين الإيمان. فبينما نكتشف الحقائق ويقرأها القلب ولكأنّها رسالة حبّ من كاتبها (أي الله)، يعرف الإنسان أنّ الله يبقى أبعد وأكبر بما لا يُقاس من كلّ الحقائق التي «كتبها» لنا في هذا الكون، من كلّ الجمالات التي وضعها في «زجاجات» العلوم والتي يُخاطب بها القلب كي يجد ضالّته التي تناديه في عمق الكيان الإنسانيّ. ففي عين الإيمان كلّ كلمات الكون، ومنها كلمات العلوم، تشير إلى الكلمة الإلهيّة الخالق: «كُن فيكون». وهناك أيضًا الحقائق الاجتماعيّة والاقتصاديّة حول ما خلقناه نحن كبشر من خلال علاقاتنا بالطبيعة وببعض. هذه الحقائق أكثر تعقيدًا من الفيزياء والكيمياء أحيانًا لأنّ العلاقات أصعب من أن تُختزل في معادلة. رغم ذلك، هناك ملامح واضحة لأنواع من العلاقات والشخصيّات تعرّفنا عليها علوم النفس (نرجسيّة، ساديّة، مازوشيّة، استغلاليّة، ...). وأبعد من ذلك، فإنّ الأمر المحسوم في العلوم المختلفة هو أنّ الظواهر التي نراها لها أسباب ترتبط بالبيئة، والبيئة ترتبط بالهيكليّات والبُنى. حتّى ولو كانت أسس الظواهر بيولوجيّة، جينيّة مثلًا، فالظواهر غير حتميّة، فالجينات نفسها ليست حتميّة، بل تُشكّلُ ميلًا لحدوث أمر لا يُصبحُ حقيقة إلّا في حال كانت البيئة تحفّز الجينات. فمثلاً قد يكون لدى الإنسان جينات سكّري، ولكن حظّه بأن يُصاب بالسكّري يتصاعد إن كان يعيش في بيئة غير صحّية (يأكل طعامًا غير صحّي مثلًا)، والبيئة غير الصحّية هي البيئة الحتميّة لكلّ فقير. ولكن بيئة الفقر غير الصحّية هذه هي وليدة البُنية الاقتصاديّة-السياسيّة لبلد ما؛ فإن كانت البنية الاقتصاديّة-السياسيّة تسمح لمجموعة صغيرة من الناس باستغلال المجموعة الأكبر، فلا بدّ من أن تُنتِجَ بيئة الفقر. عندما نكتشف هذه الروابط بين الظواهر الاجتماعيّة (الصحّية وغيرها) وبين البيئة والبُنى، ونبيّنها إحصائيًّا (المراجع أكثر من أن تُحصى) فهذا يعني أنّنا نُقارب حقيقة اجتماعيّة اقتصاديّة سياسيّة لم يخلقها الله على هذه الأرض، وإنّما خلقتها خيارات الإنسان داخل الحياة التي خلقها الله، أي نحن نكتشف مبادئ حول الإنسان وعلاقاته الفرديّة والجماعيّة. وفي هذه الحقيقة التي نكتشفها بين الظواهر والبيئة والبُنى يقرأ المؤمن أيضًا حضور الله في الأواليّات التي خلق الإنسان عليها، فمثلًا، يمكن للمؤمن أن يرى في هذه الحقيقة أنّ الله خلق الإنسان للمشاركة والتعاضد اللذين يسمحان للفرد والجماعة البشريّة بأن ينتعشا صحّيًا ونفسيًّا؛ ويمكنه بذلك أن يفهم أنّ وصايا الأنبياء بالمحبّة والتراحم وبأن يشارك الإنسان خيراته ويدافع عن المظلوم فلا يترك الناس فقراء، ليست وصيّة خارجيّة مفروضة فرضًا على الإنسان بشكل يُعاكس مصلحته، وإنّما هي تنبيه إلى طبيعة العلاقات التي تُحقّق للإنسان الفرح، وتنعش الجماعة البشريّة، يكتشف أنّها وصايا متناغمة مع «طبيعة» الإنسان وليست ضدّها. لهذا كلّه، ليس من المهمّ في عينَي المؤمن إن كان مكتشف الحقيقة الكونيّة أو الإنسانيّة مُلحدًا أو مؤمنًا، ففي اكتشافات هذا وذاك يقرأ القلب كلمات الله وملامح وجهه القيّوم. ولهذا فإنّ الفوقيّة والشوفينيّة الدينيّة التي يتعامل فيها كثير من المؤمنين مع الملحدين والمؤمنين من الطوائف والأديان الأخرى، والتي تجعلهم يرفضون حقائق يكشفونها للناس في هذا العالم، فقط لأنّهم لا يدينون بنفس الموقف الدينيّ الذي لا علاقة له بالحقيقة المكتشفة، هو موقف الإنسان المنغلق المكتفي بذاته الذي لا يريد أن يُتعِبَ نفسه باكتشاف الجديد، فيتمسّك بالجهل وهو يظنّه إيمانًا. والحقيقة أنّ موقف الرفض هذا موقف منافق لأنّ ما من أحد من هؤلاء المتديّنين يشترط ليأخذ حبّة دواء أن يكون مخترعها مؤمنًا، أو مؤمنًا من دينه وطائفته؛ فعندما تكون المصلحة الشخصيّة الصحّية في الميزان يفقد هؤلاء فوقيّتهم ويعيدون اكتشاف التواضع أمام الحقيقة. بالنسبة لماركس – رحمه الله وأعلى من شأنه في الملكوت- فهو كشف حقيقة لا لُبسَ فيها أنّ البُنى المستغِلّة التي تُسَمّى الرأسماليّة، تولّد بيئة قاتلة جسديّا ونفسيّا وروحيّا (المراجع أكثر من أن تُحصى هنا أيضًا)، ولكن بينما البعض يرى الحقيقة ويتمسّك بها ويقرأ فيها ملامح الله وخلقه البشر على طبيعة تنمو وتنتعش بالمحبّة المشارِكة ولهذا تتوق إلى العدل وتعمل من أجله، يرتع البعض الآخر في العتمة منغلقين ومتمسّكين بفوقيّة وهميّة، وما ذلك إلّا من أثر بيئة مجتمع الاستهلاك وبريقه الذي يُفقِد البصيرة، ودخان الدعاية الرأسماليّة والتديّن المنغلق الفوقيّ الذي يخفي طبيعة حياة الزومبي التي تقدّمها الرأسماليّة لسكّان هذه الأرض: أن يعيشوا طوال العمر يحلمون بغدٍ أفضل، بينما هم يتمسّكون ببيئة استغلال وقمع تسبّب الموت المعنويّ والجسديّ بالفقر والعزلة والجهل والتفكّك والحروب، وتحجّم في الناس رغبتها بالمحبّة والمشاركة. خريستو المرّ
الثلاثاء ٢١ آذار/مارس ٢٠٢٣ «إنّ اكتفاء المخلوق بما قُسِمَ له ليس مصدر سعادة له وحسب بل واجب عليه. هذا الاكتفاء هو الفلسفة الشعبيّة الحقيقيّة. لماذا تُحَدِّثون الشعب عن حقوق مزعومة... علّموه الهدوء والاعتدال والقناعة، حذّروه من التجارب الباطلة والحاجات المُصطنعة. ردّدوا على مسامعه أنّ مصير الإنسان في هذه الدنيا طريق مِحَن وممارسة طويلة للصبر... يا من دعاكم المُنَظِّم الإلهيّ لمصائر البشر إلى حياة وضيعة وشاقّة» (عن روزنامة وزِّعَت بين الطبقات الشعبيّة في فرنسا، القرن التاسع عشر). يمكن قسمة العالم إلى ما قبل ماركس (وإنغلز) وبعده. قبل ماركس كانت الخبرات الإنسانيّة المظلمة من فقرٍ ومرض وموت مُبكر وجهل وغير ذلك، مجرّد خبرات إنسانيّة مؤلمة؛ وكان الفكر الدينيّ المسيحيّ، ولا يزال في معظمه، يفهم الوجود على أنّه تدبير إلهيّ لا يحول ولا يزول، ولذلك يكتفي باجترار عبارات تدعو الفقراء إلى الصبر والأغنياء إلى المشاركة، بينما ترى المؤسّسة الكنسيّة وجود الأثرياء «طبيعيّا» فتقدّم لهم الصدور في المجالس. بعد ماركس فهمنا أنّ الرأسماليّة التي نحيا في ظلّها منذ قرون تُنتج إنتاجًا، بسبب الاستغلال الذي تمارسه، الفقرَ، والبطالة، والعبوديّة العمليّة، والمرض، والموت الذي يمكن تجنّبه والذي دعاه إنغلز بـ"القتل الاجتماعيّ". جعلنا ماركس نعي أنّ هذه الظروف يمكن تجنّبها كما ويمكن بناء عالم أفضل ببناء بُنى اقتصاديّة تسمح بنشوء علاقات غير استغلاليّة بين الناس. وعينا جميعا اليوم مطبوع بالوعي الذي خلقه فكر ماركس، أكنّا متبنّين لنظرته الفلسفيّة للدين أم ناقدين لها. الدعاية الدينيّة كما تلك الرأسماليّة المضادة للشيوعيّة، والتي معظمها لم يكن يتكلّم عن الفلسفة الماركسيّة بقدر ما كان يتكلّم عن الإيمان وفظائع الأنظمة الشيوعيّة بينما يخفي فظائع النظام الرأسماليّ في جميع دوله، تلك الدعاية جعلتنا مجموعة من الجهلة بتاريخ وواقع النظام الرأسماليّ على هذا الكوكب. قد لا يوافق الإنسان على الشيوعيّة وعلى نواح في الفكر الماركسيّ، ولكنّ مسؤوليّته تجاه نفسه ألّا يجهل تاريخ هذا الكوكب ونوعيّة النظام القائم فيه. معظمنا لا يشعر أنّ النظام الوظيفيّ ليس شيئا طبيعيّا. فالإنسان لم يبدأ حياته على هذا الكوكب في وظيفة، بل كان عاملا مستقلّا في مهنة (إسكافي، حدّاد، مزارع) حتّى نشوء الرأسماليّة الصناعيّة، فكان يحدّد إلى حدّ كبير أهداف عمله، والطرق التي يستخدمها من أجل الوصول إلى أهدافه، من دون منافسة تُذكر في السوق، وكان السوق شيئا محدّدا محصورا. حين بدأ ما سمّي بـ«الثورة الصناعية» حيث تنامت القدرة على التصنيع بالآلات عوض الجهد العضليّ، دُفع الناس دفعًا لترك أعمالهم الصغيرة والالتحاق بالمصانع التي كانت تحتاج إلى يد عاملة. الحكومة البريطانيّة سنّت قوانين لتمنع المزارعين عن زراعة بعض الأراضي التابعة للدولة لكي يضطرّوا للذهاب إلى المدينة والعمل في المصانع تحت رحمة «ربّ» العمل، وتحت التهديد بالموت جوعا إذا ما لم يفعلوا. يمكن بالطبع الاستنتاج أنّهم كانوا يرضخون لمطلق أيّ ظرف عمل ولأجور زهيدة فقط كي يتمكّنوا من العيش. وكان الأطفال في عمر السابعة يعملون في المصانع بشكل «طبيعي» ثلاث عشرة ساعة متواصلة في اليوم عام ١٨١٩. كلّ ذلك كي يتمكّن صاحب رأس المال الذي أسّس المصنع من جمع أكبر قدر من الثروة وهو لا يمكنه أن يفعل ذلك إلّا بتخفيض الأجور إلى الحدّ الأدنى. الجشع هو القائم خلف كلّ النظام، ولكنّ النظام يولّد الجشع أيضًا، يُضفي غطاء طبيعيّا على أكل البشر لحياة بعضهم البعض. طبعا الأمور تعاقبت بشكل متسارع بعدها، وعدا سوق البضاعة صارت لدينا سوق لكلّ شيء، سوق للأسهم، سوق للمال. ومن أجل الحصول على المواد الأوليّة التي يشاء لصناعة ما يشاء وبيع ما يشاء بالسعر الذي يشاء يعمل الرأسماليّون بواسطة دولهم على تدبير الحروب والانقلابات والاحتلالات وتنصيب الديكتاتوريّات (مع أنّهم ينتقدون دعائيًا ديكتاتوريّة الدول الشيوعيّة) ودعم أكثر الدول قساوة قتلًا وتدميرًا للإنسان والطبيعة عبر المعمورة. هو مسعى تراكم رأس المال بواسطة التدمير، كما يصفه الزميل علي القادري. الوضع «الطبيعي» القائم اليوم: موظّفون ينتجون الثروة ولا يأخذون منها إلّا القدر اليسير بينما يأخذ صاحب رأس المال حصّة ضخمة منها، الرأسماليّة كنظام اقتصادي «طبيعي» وينسجم مع «طبيعة» الإنسان، كلّ ذلك هو محض دعاية أيديولوجيّة للرأسماليّة. ما من أمر طبيعي في ذلك، هو محض ابتكار لطريقة حياة وفرضها على الجميع من أجل مصلحة واحد في المائة من سكّان الأرض. الملكيّة الفرديّة نفسها ليست أمرا «طبيعيًّا»، لا نعني بالملكيّة الفرديّة أن يكون للإنسان ثيابٌ وحلى وأدوات خاصّة، وإنّما ملكيّة أدوات الإنتاج وملكيّة الأرض. من قال إنّ الأرض تُمتلك، ألا يمكن تخيّل شكل حياة مشاركة للأرض غير عن طريق الملكيّة؟ بلى يمكن، حتّى في الرأسماليّة وفي بريطانيا بالذات ملكيّة الأرض تبقى للملِك أو الملكة والإنسان عندما «يشتري» بيتًا هو «يشتريه» لمدّة محدّدة فقط، بعدها إمّا «يبيعه» لشخص آخر أو تعود الملكيّة للملك. المهمّ في الموضوع أنّ الفكر البشريّ يمكنه أن يبتكر طرقًا أخرى لقيادة الحياة البشريّة. ثمّ، أيّ منطق عادل يسمح لإنسان أن يستولي بماله على قطعة أرض كبيرة وربّما زراعية ويستعملها لمآربه، للتسلية مثلًا، وبينما الناس ينقصها الطعام؟ هذا ليس مثلًا افتراضيًّا، هذا واقع الناس في بلدان عدّة (البرازيل مثلا) حيث يمتلك أناسٌ أراضي زراعيّة يتركونها بلا زراعة، بينما تتدهور أحوال فلّاحين يريدون أن يزرعوا ولكن لا أراضي متوفّرة لديهم. نتيجة الاستهلاك المطرد لكلّ شيء ضروريّ وغير ضروريّ، والذي تقتضيه الرأسماليّة، هو الانحباس الحراريّ. الدول الغنيّة لا تسعى لحلّ الموضوع بشكل جادّ لأنّ الأمر مكلف وغير مُربح. كلّ شيء مكلف، ألّا يستأهل إنقاذ حياة الناس والأرض كلّها كلفةً؟ لا، هذا هو الجواب غير المُعلَن لرأسماليّي هذا الكوكب. هذا النظام والقائمون عليه آكلو اللحم البشريّ المتربّعون على أرائك الجشع، ما زالوا يتنافسون على غرف الثروات وحفر آبار النفط وهم يَعِدون بأنّهم يومًا ما سنصل إلى خفض الانبعاثات. المشكلة لديهم أنّهم لا يستطيعون أن يتوقّفوا عن تراكم الثروة لأنّ النظام نفسه يدفعهم لذلك، هدفهم بحكم النظام نفسه أن يتنافسوا على جمع الثروة ونهب البشر. الدارسون للطاقة البديلة يقولون إنّها ليست حلًّا، وإنّ التكنولوجيا لن تكون حلّا، وإنّ كلّ ما نقوم به في منازلنا من تدوير وتخفيض للاستهلاك ليس سوى حبّة رمل في جبل الانبعاثات التي تسبّبها الشركات، وإنّ الحلّ لن يكون إلّا بتغيير نمط الحياة الذي نعيشه من نمط رأسماليّ إلى نظام آخر سمّوه ما شئتم، لكن لن تتمكّن الأجيال القادمة ان تحيا من دون تجاوز الرأسماليّة. قد يبدو الموضوع بعيدًا عن البال في لبنان والمنطقة، فنحن منهمكون بالخروج من الحروب والاختناق الاقتصاديّ. صحيح، ولكن ما سبب هذه الحروب والتدهور والاختناق الاقتصاديّ؟ الديكتاتوريّة والفساد؟ صحيح، ولكن إلى حدّ فقط، السبب الأساس هو التكالب الرأسماليّ الداخليّ والخارجيّ من أجل التحكّم بالدول والشعوب وجمع أكبر قدر ممكن من الثروات الطبيعيّة بأبخس الأثمان، مع فتح أسواق دائمة، واستخدام موظّفين بأبخس الأسعار، من أجل مصلحة واحد في المائة من الناس! من وجهة نظر مسيحيّة، ما هو موقف المؤمن بالله من كلّ هذا؟ يجب أن يهمّنا الموضوع في منطقة تكثر فيها المؤسّسات الدينيّة. بالطبع يمكن للإنسان أن يجمع «إيمانه» بالرأسماليّة مع إيمانه بيسوع، لكنّنا هنا نتحدّث عن رؤيتين متعارضتين، عن سُلَّمَيْن للقيم متناقضين يولّدان هيكليّتين حياتيّتين تنفي إحداهما الأخرى: مسيحيّة تدعو للقداسة بالمحبّة، وللمشاركة كتعبير عن المحبّة، وترى الجماعة البشريّة عائلة واحدة، ورأسماليّة تدعو للجشع وتراكم المال. عندما يحاول الإنسان التوفيق بين رؤيتين متناقضتين للحياة، مثل الرأسماليّة والمسيحيّة، فهو عادة ما يفعل ذلك لكي يغطّي بشاعة ما يرتكبه (أو يتمنّى أن يرتكبه) بشكل ملموس بواسطة الرأسماليّة، بمعطف من المبادئ الفكريّة الجميلة غير الملموسة للمسيحيّة والتي لا يُبقي منها إلّا على فولكلورٍ يخدّر به ضميره. فضل ماركس على المؤمنين أنّه جعلهم يعون العالم الحقيقيّ الواقعيّ الذي يؤثّر في أفكارهم ويجعلهم يحيون في انقسام بين الأفكار التي يؤمنون بها والحياة العمليّة التي يعيشونها، أي بين إيمانهم الفكريّ وإيمانهم العمليّ. ربّما تصل البشرية يومًا إلى وقت "تتصالح فيه مع الماركسية دون اقتباس إلحادها" كما قال يومًا المطران جورج خضر، إن لم تفعل فستودّع الأجيال القادمة الكوكب وهي في قلب مأساة. خريستو المرّ
الأربعاء ١٥ آذار/مارس ٢٠٢٣ كانت أمّه تقبّله - أو ربّما لانشغالاتها لم تكن تقبّله وإنّما هو يضيف إلى الذاكرة - وتعطيه قطعا معدنيّة بسيطة ليشتري شيئا ما في المدرسة. لكنّه لم يكن يعرف مسافة بين عينيه وعينين حزينتين أمامه؛ وهو لم يكن يفكّر حتّى، إذ كان يجهل مسافة التردّد بين القلب والعقل فكان فقط يحيا، ولهذا كان يُخرجُ، عفويًّا، بيده الصغيرة من جيبه القروش تلك ويعطيها للمرأة الحزينة الواقفة أمام باب المدرسة الضيّق، ثمّ يدخل المدرسة وينسى. وكانت المرأة تقف يوميّا أمام الباب خاليةً من أيّ ملمح من ملامح عصر لبنان «الذهبي». استمرّ الأمر لوقت طويل قبل أن تكشف أمّه فعلته تلك. يذكر أيضًا أمورًا «سحريّة» لم تكن تعجبه؛ منها، مثلًا، أنّ قدميه الصغيرتين كانتا تستطيعان ملامسة الأرض بينما هما داخل حذائه! «سحرٌ» هو الآخر لا يعرف «ذهب» لبنان. وإذ كان يؤلمه السحرُ ذاك، كان يخبر أمّه فترافقه إلى الإسكافيّ لترميم الحذاء المثقوب. الشتاء لم يكن سهلا، إذ كانت المسافة بين الجوارب والماء معدومة من وقت الخروج من المنزل ذهابًا إلى المدرسة حتّى العودة بعد يوم طويل بارد. لاحقا، على مسافة بضعة سنين، بات يافعا وككلّ يافع كان يخشى المجهول، فتحصّن لوقت استطال بالمسافة الفاصلة بين الناس. كان يخشى فم المسافة الفاغر بين أنا والآخرين وهو ينمو إلى ملءٍ لا يعرفه. ثمّ أشارت جارة، عرف لاحقا أنّها كانت ملاكًا مرسَلا من السماء، أشارت إلى طريق، إلى شيء يشبه مسافة تتّسع للجميع، قالوا إنّ الطريق «حركة» والحركة طريق، فتعجّب تجاوز الخشية ومشى. المنقذ الأوّل من حصن المسافة كان جسر الصداقة الممتدّ تحت شمس الكلمة. فالصداقة جسرٌ يجمع جماعة إلى واحد، دون اختلاط ولا امتزاج. هناك تستقبل الوجوه بعضها بعضًا، تصغي، لا تُدين ولا تتأفّف من أخطاء الشباب وشرودهم أثناء تلمّسهم للملء. هناك لا تريد الوجوه شيئا لنفسها، هي تريد فقط أن نضحك معًا، ونبكي معًا ونفكّ معًا لغز الكلمات، والكلمات دائمًا جديدة، دائمًا راكضة أمام الوجوه، ونحن نلاحق الكلمات لنرى أنفسنا أجمل فنصنع الدنيا أحلى. وكانت الكلمة التي فوق الجسر تلد أبجديّة جديدة حاول الجميع أن يتعلّموها، وكانوا إذا تقاسموا ما تعلّموه غدا خبزًا. كنّا نقتات أبجديّة المحبّة، والمحبّة تجري أمامنا وتضحك، ونحن مجانين مجانين، نضحك ونركض ونرتاح ونأكل، وأحيانا نجد خمرةً في الطريق. قالوا إنّ الخمرة علامة فرح، عرفنا لاحقا أنّ صانعها قضى نحبه حرًّا لكثرة الحبّ، ولهذا نبعت خمرة من جنبه. قالوا إنّه قضى مطعونًا وللوقت خرج خمر وماء، ولكنّ الولد الذي غدا شابًا قال إنّ الطعنة لا تلد الخمرة، أنّ ما يلد الخمرة هو الحبّ، هو انعدام المسافة بين المحبّ والمحبوب، بين الكلمة والحياة، وأمّا الطعنة فنصيب مجانين الحبّ ولا تفعل سوى أن تثقب خابية القلب. وقال إنّ الجميع يجوعون إلى الحبّ، ولكنّ الحبّ كالريح لا يُعرَفُ موضعه، هو يُتَنَفَّسُ ولا يُقبَضُ عليه، وكالطريقٌ يُمشى ولا يؤكل، ومَن يرفض الطريق ويجعل من المسافة بين القلب والعقل وبين العين والعين طاولة طعامه يلتهمُ الوهمَ فيطعن المحبّين ويختنق. لكنّ الخمر في تمامها، تأتي من حرّيةٍ في تمامها، لهذا بعد خمرةِ الصداقة كان الحبّ هو الخمر العتيق. والحبّ أمرٌ ملتبِسٌ ولهذا يقرأه اثنان ويكتبانه ويقرآنه وقد يمحوانه ثمّ يكتبانه ويقرآنه ويكتبان ويقرآن... ليكتشفا إن كانا يجيدان النَظم معًا لكي يجعلا من حياتهما قصيدة تلقيها الملائكة أمام عرش الله. هل يجد كلّ حبيبين قصائدهما معلّقة على باب الأبديّة، أو ربّما مجنّحةً في قلب الله؟ «بالتأكيد» يقول الولد. والمحبُّ المسافر في الطريق لا يحتمل أن يجنح إنسانٌ تائهٌ إلى التهام حياة البشر. ولهذا يصارع المحبّون، يواجهون معًا فراغ الحبّ الذي يلتهم العالم بالاستغلال والحرب. قد ينجحون وقد يخفقون، وقد ينجحون ثمّ يخفقون، ولكنّهم لا يستسلمونَ إلى أن يعودَ العالم ولدًا لا يعرف مسافة بين العين والعين وبين القلب والفكر؛ لا يستسلمون إلى أن تنجذبَ القلوبُ إلى سحر اللقاء وفرح المشاركة وتتوقّفَ شعوذة المدينة التي تأكل أحذية الأولاد. ومن أجل كلّ ذلك، لا يتردّد المحبّون أن يمشوا الطريق إلى نهاياتها، حتّى إن كانت نهاياتُها خشبةً منصوبة خارج أسوار مدينة الالتهام، خشبة يصعدونها فرحين عالمين أنّهم إن مدّوا أيديهم عليها وطُعِنوا بحربة سيخرج خمرٌ وماء لمن يأتون بعدهم، وسيصبحون هم غيمةً على كتفي المسيح، فيعودون أولادًا ويعبرون خفافًا إلى ملكوت المحبّين. خريستو المرّ
الثلاثاء ١٤ آذار ٢٠٢٣ لم نستطع كبشر خدمة حياة الجماعة البشريّة، وحياة الخليقة على هذا الكوكب، بالسلم. فكوننا خرجنا عبر العصور من طور التصرّف المحكوم بالغرائز، إلى ظهور الوعي والمسؤوليّة، لم تعد الغرائز هي ما يتحكّم بنا بشكل كامل كما الأمر في حالة الحيوان، بل دخل عناصر الوعي والتفكير وحرّية الخيار في التكوين الإنسانيّ. تفتّحت في إنسانيّتنا زهرة الحرّية، فصار لدينا مساحة خيار ذاتيّ حتّى في المواضيع الغريزيّة البحتة كالأكل والجنس. فأمام غريزة الأكل يمكننا اختيار الامتناع عن الطعام لسبب دينيّ أو سياسيّ، وأمام غريزة الجنس نختار الأشخاص الذين نمارس معهم الجنس، ومعهم نختار الأوقات والظروف والأوضاع. حرّية الخيار هذه هي التي تسمح لإنسان أو لمجموعة بأن يختاروا أن يحبّوا أو أن يظلموا، ويستغلّوا، ويؤذوا ويذلّوا ويقتلوا. لكنّ القتل أمر بالغ الصعوبة لدى الإنسان، ودليلنا على ذلك كمّ من الأبحاث في علوم النفس، والجهد الإعلاميّ الهائل الذي تبذله الحكومات لأقناع شعوبها بأنّ خيار الحرب «لا مفرّ منه» وأنّ قتل «الأعداء» عمل «خير». مع نموّ قدرة دماغنا على الفكر والتحليل والمنطق، أصبح أيضًا معرّضا للتوهّم. فقد يتوهّم الإنسان أن المشروع الذي ألتزم به هو مشروع خير، وأنّ معارضة مشروعه هو معارضة للخير، لا بل محاولة قتل لي ولجماعتي. هذا الوهم يحرّك فينا وسائل دفاع غريزيّة عن الحياة، فيغدو إنهاء حياة الآخر المعارض لمشروعي، خيرًا وضرورة للدفاع عن حياتي وحياة المجموعة التي أنتمي إليها. الحرب على أفغانستان والعراق شُنَّتا تحت غطاء الوهم هذا، وحروب الطوائف في لبنان خاضها المقاتلون (وليس القيادات) تحت غطاء هذا الوهم. هناك أيضا وهم الجشع. الجشع هو وهم القيادات السياسيّة والاقتصاديّة. الجشع يقف خلف الدفاع المستميت للقيادات السياسيّة والاقتصاديّة في إرساء سياسات تسحق شعوبا بأسرها عبر استغلالها. الحيوان يقتل للأكل، الجشعون يقتلون -ببطء عبر الاستغلال أو بسرعة عبر الحرب – لكي يجمعوا الثروات. الجشعون لديهم ما يكفيهم، ولكن لا يكتفون. لهذا فإنّ الجشع انحراف يوهم الإنسان أنّ تعاظم الثروة ضروريّ للحياة وهو ليس كذلك. فخلف وهم الجشع، وكلّ وهم آخر يسعى إلى السيطرة، هناك وهم التألّه بذاتنا. الامتلاك للمزيد من الثروة هو سعي لما تسمح به الثروة الأكبر، هو سعي للقدرة المطلقة. الجشع سعي لدفع العالم ليصبح كما يحلو للرغبة الشخصيّة أن يكون؛ أي في النهاية هو سعي لتحكّم مطلق. وبذلك هو شبيه بالديكتاتوريّة التي تسعى بدورها لتحكّم مطلق. التحكّم المطلق هو مخدّر الذين يريدون أن ينسوا الموت بأن يتوهّموا بأنّهم آلهة. الخوف من الموت هو القابع خلف الرغبة بالاستغلال وكما وبالتحكّم. إنّ السعي للقدرة المطلقة، أكان ذلك بالديكتاتوريّة أو بالاستغلال، هو سعي للهروب من الموت، من الهزيمة الحتميّة أمام الموت، وذلك بمحاولة هزم الآخرين وقتلهم إذا لزم الأمر، إذ بالقدرة شبه المطلقة يهرب الإنسان من العطب والموت من خلال تحويلهما من أمرين داخليّين يخضع لهما، إلى أمرين يذيقهما لغيره. إنّ مجموع هذه الأوهام الناتجة عن مساحة الحرّية البشريّة التي تجعلنا نتجاوز الغرائز البحتة إلى تصرّفات مدمّرة، هو ما يُفشِلُ إمكانيّة خدمة الحياة الجماعة البشريّة، والحياة عامّة على هذا الكوكب، بالسلم. لهذا فالصراع لا مفرّ منه، فبصمات الأوهام البشريّة واضحة إن تأمّلنا واقع أنظمة القهر في بلداننا، وواقع نظام الاحتلال والفصل العنصريّ في فلسطين. على الصعيد الشخصي، يمكن للتعاطف، والتمسّك بوجه الإنسان، وعضد المهمشين، والانتباه لميل القلب والعقل، كما والإيمان الشخصيّ بإله محبّ رحيم يستقبل الإنسان بعد الموت كأمّ حنون، من شأنه أن يساهم بمواجهة قلق الموت. لكنّ هذا لا يكفي، فهناك ضرورة قصوى لنضال لا هوادة فيه لدكّ بُنى القهر والاستغلال التي تربّي وعلى الأوهام وتسعى لاستتبابها. فهذا يعني عيشًا رسائل الأنبياء بالجسم والفكر والنفس وترجمةً لها في الحياة اليوميّة، الفرديّة والجماعيّة. خريستو المرّ – الثلاثاء ٧ آ١ار / مارس ٢٠٢٣
الإيمان بالله، أو بألوهة ما، الذي على أساسه يبني البشر أديانهم، أي عقائدهم وطقوسهم، ينتج عنه رؤية للعالم ينطلق منها الناس لصياغة رؤى في الشأن العام وفي آفاق وأهداف عليا يرونها ضرورة لتحقيق إيمانهم: الخير المشترك مثلًا. هذا أمر يشترك فيه المؤمنون بالله مع المؤمنين بفلسفات دينيّة أو لا دينيّة، مهما كانت. ما من إيمان لا يُنتج رؤية للعالم وينتج من اختبار هذا العالم إلى حد ما. بالطبع الخير المشترك هو تفسير للإيمان وإسقاط له على الشأن العام، ولهذا يختلف المؤمنون من دين واحد في تفسيرهم لمقتضيات الإيمان في الشأن العام (والشأن الخاص حتّى). لكنّ الإيمان بالله يختلف عن الإيمان بفكر ما أو فلسف ما من ناحية أنّه يعتقد أنّ خطًّا معيّنًا في التصرّفات ضروريّ من أجل حياة أبديّة مفرحة بعد الموت. إن أردنا استعمال مصطلحات مثل الخطيئة والتوبة، فإنّ الخطيئة هي كلّ ما يعرقل الفرح في الحياة الآخرة، والتوبة هي كلّ عودة عن تلك التوجّهات. وجهة نظري تقول أنّ الخطيئة هي كلّ ما يعرقل عيش المحبّة في الحياة اليوميّة وأنّ المحبّة هي طريقة حياة مشاركة تحفظ وحدة الجماعة البشريّة في احترام لتمايز أفرادها. برأيي، هذا منسجم مع لبّ ما قالته المسيحيّة في صفائها عبر تعرّجات الزمن. لكن ما هو غير واضح في الإيمان - المسيحيّ أقلّه - أنّ هناك وجهين للخطيئة، وجه ذاتيّ ووجه عام. في وجهها الذاتيّ، الخطيئة هي فعل يبعد الإنسان عن الله قوامه إقدامه على خيارات وطريقة حياة تتضاءل معها قدرته على المحبّة. بالخطيئة ينحرف الإنسان عن المحبّة نحو التسلّط على الآخرين أو الخضوع لهم ضاربا التمايزَ الذروريّ للمحبّة بعرض الحائط؛ أو هو ينعزل عن الآخرين بشكل أنانيّ ضاربا الوحدة البشرّية الضروريّة للمحبّة بعرض الحائط. حينها يؤذي الإنسان ذاته دون أن يؤذي غيره وهذا شأنه؛ ولكن إن أذى غيره، دون إرادة ذلك الغير، فحينها يتدخّل المجتمع عبر القوانين ليضع حدّا للحرّية البشريّة في ضلالها، فيمنع العنف الأسريّ، واستغلال العامل، والتحرّش في العمل، والسرقة، والجريمة، وغير ذلك. أمّا إذا كان الموضوع لقاء أنانيّتين أو أكثر، يريدون أن يخطئوا معا، بحيث لا يكون هناك قسر لشخص لآخر فذلك يكون من نوع خطيئة إراديّة لأشخاص يلتقون على أهداف خاطئة من وجهة نظر دينيّة. وهنا، برأيي، حدود الدين. إذ على المؤمنين أن يتركوا الناس ترتكب خطاياها الإراديّة بحرّية لأنّ العلاقة مع الله في النهاية علاقة حرّة، لا يمكن لإنسان أن يجبر فيها أحدا، إذ أنّ الإكراه في الدين تزوير للوجود وإهانة للدين نفسه (للأسف رفض الطوائف للزواج المدنيّ هو إهانة للأديان لأنّ باسمها يُهان الإنسان وتُداس حرّية ضميره). وعندما نتذكّر أنّ البشر يختلفون في تحديدهم للخطيئة من عصر لعصر (العبوديّة كانت مقبولة كنسيّا أيام الامبرطوريّات، ولا يختلف مسيحيّان اليوم بأنّ استعباد الآخر خطيئة)، فذلك عليه أن يدفعنا أكثر للتمسّك بمبدأ ضرورة ترك البشر يخطئون بحرّية إرادتهم وأن تقتصر مواجهتنا لانحراف حرّيتهم بالكلام والنقاش ومعطيات العلوم. عدا الوجه الذاتيّ للخطيئة التي يجب احترام حدوثها باحترام إرادة مرتكبها، إن لم يكن يؤذي أحدًا أو يغصب إرادته، هناك وجه عام. الوجه العام للخطيئة ينعكس في أثر الخطيئة على المجتمع بأسره، وذلك يتجلّى بخطايا ذاتيّة لمجموعة من الناس تتّفق وتتعاون على الاستيلاء الأنانيّ على خيرات الأرض المشتركة بين البشر، وعلى السيطرة على الآخرين بالقهر والتعسّف أو بالدعاية والإعلام أو بكليهما، وإخضاعهم للاستغلال. تتجلّى خطايا تلك المجموعة الأنانيّة بآثارها المدمّرة على الصحّة الجسديّة والنفسيّة في المجتمع وعلى كرامة الناس صغارا وكبارا. هذا هو الوجه الجماعيّ العامّ للخطيئة الذاتيّة. عندها، نحن بالطبع في وضع مضاد للمحبّة، فهناك ضرب للوحدة البشريّة في المجتمع باستغلال أنانيّ للآخرين، وهذا الاستغلال باستخدامه الآخر وسيلة يضرب حتّى التمايز الإنسانيّ الذي يجعل من كلّ إنسان قيمة عليا مساوية للآخر وغاية بحدّ ذاته. هذا الوجه العامّ الجماعيّ للخطيئة منسيّ غالبًا، وبينما يتحمّس الناس ضدّ فرد أو جماعة تخالفهم القناعة في أمرٍ لا يؤذي أحدًا ولا يقهر إرادة أحد، يبقون غافلين عن التجسّد الملموس القاهر للخطيئة في الحياة الجماعيّة، عن تجسّد الخطيئة في السياسات الاقتصاديّة والتربويّة والاجتماعيّة التي تسحق البشر وتستخدمهم وسائل لأغراض أنانيّات فرديّة ملتقية على الاستغلال والاستبداد. الإيمان بالله يقتضي مواجهة الخطيئة في الذات لكي يستطيع الإنسان أن يحيا بطريقة عيش منسجمة مع المحبّة، واحترام انحراف إرادة الآخرين وعيشها طرق مخالفة للمحبّة حين لا تقهر تلك إرادة آخرين. ولكنّ الإيمان نفسه يقتضي في المقابل أن يواجه الناس إرادة الآخرين في ضلالها عن المحبّة في الحقل العام، أن يواجهوا بالقوّة وجه الخطيئة العامّ، بنضال لا يستكين ضدّ الإرادات المنعزلة الأنانيّة التي تجتمع مع بعضها لاستغلال الآخرين وإخضاعهم لمآربها الأنانيّة المدمّرة للآخرين. هذه الإرادات الأنانيّة قد لا تدخل الجنّة لانحرافها عن المحبّة وهذا يعود لحرّيتها، ولكن آثر تلك الحرّية المدمّر في الحقل العم ينبغي أن يواجه وأن يُغلَب. لا احترام لشعار أكان «مبادرة فرديّة» أو «نظام رأسماليّ» أو غيرها من الشعارات فهذه مجرّد غطاء لاستغلال مجموعة من الأنانيّات لمجتمع بأكمله. الرأسماليّة بالذات قائمة على الاستغلال كقيمة «مقبولة» و«منطقيّة»، وهذا مناهض حكما للمحبّة، ولذلك هي شرّ لا بدّ من مواجهته. احترام إرادة المخطئين في الشأن الذاتي غير القاهر، كما ومحاربة بُنى الخطيئة في والاجتماع والاقتصاد والسياسة والتربية، كلاهما واجب ينبع من إيمان بأنّ المحبّة هي ألف الإيمان وياؤه. |
الكاتبخريستو المر الأرشيف
December 2023
Categories |