خريستو المرّ، ٢٩ آب ٢٠٢٣
الجنس أمر حسّاس على الصعيد الشخصيّ والجماعيّ في كلّ المجتمعات ولذلك ينبغي مقاربته بالكثير من الرويّة. المثليّة ظاهرة موجودة عبر التاريخ البشريّ في جميع البلدان وجميع الشعوب دون استثناء؛ وموقف المجتمعات من المثليّة ليس ثابتًا، ولا هو واحد عبر التاريخ، إذ لم يتعرّض المثليّون (ما اتُّفق على تسميته مجتمع الميم)، ذكورا وإناثًا، دائمًا للاضطهاد عند جميع الشعوب. فالسكّان الأصليّون في أميركا الشماليّة، مثلًا، لم يقفوا موقفًا اضطهاديًّا من أصحاب الهويّات الجنسيّة المختلفة، بل قبلوهم في المجتمع كما هُم، كذلك لم يُضطهد المثليّون عموما خلال أزمنة مختلفة من حُكم الإمبراطوريّات العربيّة الإسلاميّة. لكن يهمّنا موقف الناس من منطقتنا اليوم، أكانوا في بلادهم الأصليّة أم في بلاد الاغتراب, لا نريد في هذه المقالة أن نخوض في مواضيع شائكة مثل تبنّي المثليّين للأولاد، ومحتوى المناهج الدراسيّة ولأيّة فئات عمريّة، بل نودّ التركيز على أمر أبسط بكثير: ما هو الموقف الإنسانيّ والإيمانيّ الذي ينبغي اتّخاذه من هذه الظاهرة الإنسانيّة ألا وهي المثليّة؟ المثليّة علاقة ينطلق معظم المناوئين للمثليّة من اعتقادهم بأنّ الممارسة الجنسيّة المثليّة هي شأن إراديّ يختاره الإنسان بديلًا عن الممارسة الجنسيّة مع الجنس الآخر؛ وبما أنّ كلّ ما يتعلّق بالإرادة هو أمرٌ فيه أخذ وردّ، وبالتالي حكم قيميّ، يرفض هؤلاء هذه الممارسة على أساس أنّها «انحراف» عن أصل مسجّل في بيولوجيا الإنسان. الفكرة عامّة هي أنّ الإنسان مخلوق ثنائيّ الجنس ذكر وأنثى، ولكن قبل الخوض في النقاش نريد أن نذكّر بوجود تنويعات أخرى يولد عليها الإنسان مثل الناس ثنائيّي الجنس. بالتأكيد، البيولوجيا الجنسيّة للإنسان، ككلّ المخلوقات، تهدف إلى التوالد واستمرار النوع البشريّ، ولكن ينبغي ألّا نخلط بين البيولوجيا وبين الممارسة الجنسيّة الواعية الحرّة، مثليّة كانت أم غير مثليّة. فالممارسة الجنسيّة هي علاقة بين شخصين وليست مجرّد بيولوجيا، وكونها علاقة فإنّها قضيّة تبقى في إطار الحرّية الشخصيّة للشخصين، ولا دخل لأحد في ماهيّة وطبيعة العلاقات الحّرة البعيدة عن القهر التي يريد أن ينشئها إنسان واعٍ مع آخر. التوالد هو بيولوجيّ أمّا الممارسة الجنسيّة فهي علاقة شخصيّة لا تهدف إلى التوالد بالضرورة، وهي ممارسة قد يهدف بواسطتها أن يتجاوز الإنسان هدف الإشباع الغريزيّ البحت بهدف تعميق علاقة لقاء حبّي أو لا، هذا شأن شخصيّ لكلّ إنسان ونقاشه خارج موضوع بحثنا هنا. من هنا علينا أن نُقارب المثليّة من زاوية العلاقة الشخصيّة وليس من زاوية التوالد البيولوجيّ و«الانحراف» المزعوم عنه. والأفضل أن تكون المقاربة واقعيّة بشيء من التواضع والحكمة. المثليّة واقع بشريّ الواقعيّة تقتضي أن نلاحظ أنّ المثليّة واقع بشريّ لا يحول ولا يزول، فهو حاضر في كلّ المجتمعات على مرّ العصور، وتشير الإحصائيّات، بشكل لا لُبسَ فيه، أنّ التوجّه الجنسيّ المثليّ موجود في كلّ مجتمع، والتزايد الشكليّ لنسبة المثليّين مع الوقت في بلدان مختلفة يدلّ على صراحة أكبر في التصريح والتعبير عن الميول الجنسيّة دون خوف من عنف جسديّ أو معنويّ أو قانونيّ. وإن أصغينا بالفعل وبجدّية إلى المثليّين لوجدناهم يقولون بشكل لا لُبس فيه أنّ مثليّتهم هي توجّه لا إراديّ إلى الجنس نفسه، أيّ أنّها ليست نتيجة خيار شخصيّ يمكن تغييره بالإقناع، أو الحوار، أو الضغط الاجتماعيّ، أو القوانين، وغير ذلك. بالطبع يمكن القول أنّه ولو كان عملا إراديّا حرّا بين شخصين ناضجين فما شأن المجتمع بهم، ولكنّنا هنا نريد التأكيد أنّ المعطيات تقول بأنّه توجّه لا إراديّ. طالما أنّ الأمر كذلك، فإنّ خوف الأهل من أن يتحوّل أطفالهم إلى مثليّات ومثليّين من جرّاء ملاحظة المثليّة في المجتمع، أو الدراسة عنها في المدارس، هو خوف في غير محلّه، إذ لن ينحو إنسان نحو المثليّة إن كان غير مثليّ بتكوينه، خاصّة أنّ هناك أدلّة، وإن غير حاسمة وربّما لن تكون يومًا حاسمة، حول دور للجينات في المثليّة. وإن كان صحيحا أنّ هناك حالات مثليّة تنشأ نتيجة ظروف اجتماعيّة مختلفة (طريقة تربية)، فتبقى هذه الحالات جدّ استثنائيّة مقارنة بنسبة المثليّة في المجتمع (النسبة هي بين 1% و4.2% في الولايات المتّحدة عام 2022). إذًا، طالما أنّ الموضوع يتعلّق بتوجّه لدى الإنسان يمارسه أشخاص واعون بحرّية، فإنّنا نعتقد أنّ الحكمة تقتضي أن نقول بأنّ دور الدولة تجاه المثليّين لا يكون بقوانين تُحاكِم وتجرّم العلاقات المثليّة وإنّما بقوانين تحمي المثليّين من الاعتداءات وتنظّم أوضاعهم الاجتماعيّة عند الضرورة. مدى التنظيم ونوعه (تشريع زواج، حقوق بالإرث، إلخ.) قد يختلف عليه الناس في المجتمع، ولكن يحقّ لأيّة مجموعة بشريّة أن تُطالب بتنظيم أمورها في الدول التي تعيش فيها، دون اعتداء أو تنكيل. شكل التنظيم المقبول وزمنه أمران يتطلّبان عملًا وهما متروكان للمستقبل، ولكن يجب أن يُسمح بوجود هكذا مطالب وحمايتها من الدولة. المهمّ للأهالي القلقِين أن يتّضح لهم أنّ أولادهم لن يصبحوا ليسوا ما هم عليه أصلًا. حول الموقف الدينيّ أمّا بالنسبة لمَن يعتقد أنّ الإنسان المثليّ سيذهب إلى جهنّم، أكانت ممارسته نتيجة توجّه طبيعيّ أم لا، فهو حرّ باعتقاده. المهمّ أن يتذكّر أنّ لا أحد هو الله، وبالتالي لا أحد مخوّل أن يحوّل حياة البشر إلى جحيم، لا قبل الموت ولا بعده، فالحساب هو يوم الآخرة وبيد الله وحده وليس بيد أحد من البشر. ومَن يضع نفسه مكان الله، ينبغي أن يعيد النظر في نظرته إلى نفسه وإلى إيمانه بوحدانيّة الله. أمّا المؤمنون والمؤمنات، وخاصّة رجال الدين، الذين يقودون رعاياهم، فعليهم الاطّلاع على الوقائع من مجامع المختصّين والأطبّاء، لتثقيف ذواتهم حتّى تنطلق آراؤهم من وقائع وليس من مخاوف نابعة من أوهام. ألا يفترض الإيمان أن يكون الإنسان واسع الأفق فاهمًا قبل أن يتصرّف؟ ثمّ هل من الإنسانيّة والإيمان أن تستخدم مجموعة وسائل القانون لتمنع وتجرّم علاقة جنسيّة واعية وحرّة بين شخصين لا تؤذي أحدًا؟ هل من الإنسانيّة والإيمان أن تفرض مجموعة على مجموعة بشريّة أن تتصرّف بشكل معاكس لتوجّهٍ طبيعيّ لا يؤذي أحدًا؟ هل يمكن لمن هو غير مثليّ ومناوئ للمثليّة أن يتخيّل أنّ مجتمعا مثليّا يفرض عليه ممارسةً مثليّة؟ ألا يمكن للإنسان أن يضع نفسه في وضع الآخر ولو للحظة ليفهم فداحة الاعتداء الذي تشكّله رغبة التحكّم بتصرّفات البشر في شأن خاص لا يؤذي أحدًا؟ أليست الحرّية شرط الحساب في الآخرة؟ خلاصة مثليّة البعض لن تغيّر البعض الآخر؛ هناك جهل كبير في موضوع المثليّة يودي بالأكثريّة إلى رغبة بالقيام بما ليس هو معقول، ألا وهو مناهضة واقعٍ غير قابل للتغيّر، هكذا مناهضة لن تصل إلى تغيير في المثليّين، ولن تؤدّي سوى إلى تحامل المجتمع عليهم وتفتح الباب واسعًا على إمكانيّة اضطهادهم، وإلى آلام لا حصر لها. التروّي في هذا الموضوع وتقصّي الحقائق يفتح الباب أمام مقاربات إنسانيّة متّزنة، مقاربات أكثر انسجاما مع المقاصد الأخيرة للإيمان، فليس كلّ رفع للصوت هو محكّ للإيمان، المحكّ هو رفع الصوت لإحقاق الحقّ، والحقّ يجب أن يعتمد على معطيات وليس على تمنّيات وأوهام. خريستو المرّ، الثلاثاء ٢٢ آب/أغسطس ٢٠٢٣
قدرة الإنسان على إقامة تعاون جماعيّ من أجل الوصول إلى هدف مشترك خاصّية غير موجودة لدى الحيوانات؛ تلك الأخيرة قد تُقيم فرادى أو في جماعات، لكنّها لا تتعاون لتحقيق هدف مشترك، ويبدو أنّ ما يجعلنا قادرين على ذلك - يقول الباحث في علم النفس الاجتماعيّ جوناثان هايدت في كتابه «العقل الصالح: لماذا ينقسم الناس الطيّبون بواسطة السياسة والدين» - لا يكمن في قدرتنا على تحليل فكريّ لما هو الأفضل للمجموعة، وإنّما في خَلْقِنا لأنظمةٍ تشدّد على المسؤوليّة (الثواب والعقاب ضمناً) داخل كلّ جماعة بشريّة. للتدليل على ذلك يخبرنا هايدت عن المعطيات العلميّة الموجودة حاليّاً والتي تحلّل كيفيّة تفكيرنا في المواضيع الأخلاقيّة. يبيّن فيليب تيتلوك في تجربة شهيرة أستخدمُها في تدريسي، أنّه أمام قضيّة ينبغي أن يتّخذ فيها إنسان قراراً، عادة ما يأتي القرارُ غير دقيق معتمداً على حدس ذاك الإنسان أكثر منه على وقائع، إلّا عندما يكون عليه أن يعود ليشرح قراره أمام جماعة، إذ عندها يتّخذ قراره بعد تقييم واضح للأمور مبنيّ على الوقائع التي بين يديه. ولكنْ هناك نوعان من التفكير، يقول تيتلوك، واحد تفسيريّ يستخدم فيه الفرد التفكير التحليليّ لكي يحلّل ويفسّر قراره، والآخر تأكيديّ يستخدم فيه الفرد تفكيره ليؤكّد لنفسه وللآخرين وجهة نظر وصل إليها قبل بدء التحليل، أي ليُعَقلِن وجهة النظر تلك. وجد تيتلوك أنّ الفرد لا يستخدم التفكير التفسيريّ «البارد» إلّا في ظلّ ثلاثة شروط: أن يعلم أنّه مسؤول عن قراره أمام آخرين، وألّا يعلم ما رأي هؤلاء في الموضوع (كي لا ينحاز برأيه)، وأن يعلم أنّهم يفهمون في الموضوع ومهتمّون بدقّة القرار. أمّا في كلّ الحالات الأخرى، أي تقريباً كلّ الوقت، فالواحد منّا يستخدم العقلنة لتأكيد وجهة نظر مسبقة. ولهذا يستنتج تيتلوك أنّ التفكير الواعي موجود في الإنسان من أجل إقناع الآخرين بوجهة نظر الفرد، أكثر منه من أجل التحليل واكتشاف الحقيقة؛ أي بكلمة أخرى التفكير موجود لبناء الحلفاء، لبناء مجموعة. فكّر بذلك قبل محاولاتك المقبلة القيام بنقاش سياسيّ لإقناع إنسان لا يدين بوجهة نظرك السياسيّة حول حقيقة ما حدث (عين الرمّانة 1975، اغتيال الحريري 2005، انفجار المرفأ 2020، الطيّونة 2021، الكحّالة 2023، إلخ). حظّا سعيدا في الحوار! ولكن، في المجتمع الذي نعيش، هل نأبه لرأي الناس فينا، وهل تؤثّر نظرتهم على قراراتنا وتصرّفاتنا؟ شكّل الباحث في علم النفس مارك ليري، مجموعتين من الناس، الأولى مكوّنة من أفراد يقولون عن أنفسهم إنّهم متفرّدون لا يهتمّون برأي المجتمع، والثانية مكوّنة ممّن يقولون عن أنفسهم إنّهم يتأثّرون جدّاً برأي الناس فيهم. وضع ليري كلّ واحد من هؤلاء في غرفة وطلب منه أن يتكلّم عن نفسه وأبلغه أنّ هناك عدداً من الناس خارج الغرفة سيصغون إليه، ووضع أمامه عدّاداً وقال له إنّه كلّما مرّت دقيقة سيظهر أمامه رقمٌ يمثّل عدد الناس السامعين خارج الغرفة والذين يرغبون في التحدّث إليه عند الانتهاء من الحديث عن نفسه. يمكننا أن نفهم ماذا شعر الذين كانوا يتحدّثون عن أنفسهم وكانت الأرقام في العدّاد تظهر على الشكل الآتي 7، 5، 3، 2... كانت النتيجة أنّه حتّى الناس الذين أكّدوا أنّهم لا يهتمّون برأي غيرهم شعروا بضيق كبير. بالطبع، كان الأمر خدعة ولم يكن من أحد يصغي إليهم غير الباحثين. تخيّلوا الجهد الذي على الفرد أن يبذله ليبقى على قناعة غير شعبيّة في محيطه، بطولة بلا شكّ، ووحدة مؤلمة بلا شكّ. ولنا في مسار الأنبياء وبعض العلماء عبرة: أتذكّر، مثلاً، الطبيب إغناطيوس سامّلويس الذي قال بوجود البكتيريا قبل أن يتوصّل إلى صنع منظار يؤكّد ذلك، سُخِرَ منه من أطبّاء عصره، وطُرد من وظيفته، وقضى نهاية حياته في مصحّ عقليّ، مع أنّه أنقذ النساء من الالتهابات بعد الوضع، وذلك فقط لأنّه أمر الممرّضات والأطبّاء بتطهير يديهم بالصابون قبل عمليّة الولادة. بيتر واسون، وديانا كون، ودايفيد بيركينز (وغيرهم) قاموا بأبحاث دلّت على أنّنا عادة ما نبحث عن أدلّة وتفسيرات تؤكّد وجهة نظرنا الأساس وليس لنبحث عن الحقيقة (أبحاث واسون وكون)، وأنّه يمكننا بسهولة البحث عن أدلّة لتفنيد وجهة نظر الآخر (أبحاث بيركينز). حتّى أمام مجموعة كبيرة من الأدلّة التي تبيّن حقيقة مختلفة وجهة نظرنا، يتمسّك معظمنا بأمثلة قليلة تناسب وجهة نظره ليستنتج بأنّها صحيحة. حاول أن تقنع أحداً لا يريد أن يتوقّف عن التدخين بأنّ التدخين يسبّب سرطاناً، سيقول لك إنّ جدّه دخّن حتّى اليوم الأخير من حياته ولم يُصَب بشيء، أو أن تخاطب بالعقل والحجّة لتقنع إنساناً مقتنعاً بأنّ «كوفيد» مؤامرة لضرب الإيمان والتحكّم بالشعوب بحقيقة وجود «كوفيد»، سيرسل لك فيديو لأربع شخصيّات تقول إنّ الأمر لا يعدو كونه مؤامرة وسيتجاهل رأي مئات آلاف الأطبّاء والنقابات حول العالم. الغشّ أيضاً أمر جدّ منتشر، ولا يقتصر على أناس نادرين، النادر هو عدم الغشّ. في إحدى تجاربها، وعدت الباحثة ديانا كون المشاركين في تجربة (وهميّة) بمبلغ من المال عند الانتهاء منها، وطلبت من الشخص الذي سيعطيهم المال في نهاية التجربة أن يخطئ قصداً في أحد الأرقام ويعطيهم أكثر بكثير من المبلغ الموعود، فقط 20% صحّحوا الخطأ وأخذوا فقط المبلغ المتّفق عليه، بينما سكت 80% عن الخطأ وأخذوا كامل المبلغ. أعادت الباحثة التجربة وطلبت من الشخص الذي يدفع أن يسألهم مباشرة إن كان المبلغ صحيحاً، عندها ارتفعت نسبة الذين صحّحوا الرقم إلى 60%. الخلاصة أنّ من الصعب علينا أن نكذب مباشرة، ولكن معظمنا مستعدّ أن يغضّ الطرف عن غشّ إن كان يمكنه أن يجد لنفسه عذراً لو افتُضِحَ أمره (كان من الممكن أن يقول كلّ مشارك في التجربة الأولى «آه، لم أنتبه»). يمكننا دائماً أن نجد عذراً لأنفسنا. أخيراً، إنّ التحليل العقليّ يميل إلى أن يعطينا الاستنتاجات التي نريدها. الباحث توم غيلوفيتش وجد أنّنا نتبنّى بسهولة منطقاً وأدلّة تعجبنا (نسأل أنفسنا «هل يمكنني تصديق ذلك؟» وعادةً الجواب نعم)، أمّا أمام منطق وأدلّة لا تعجبنا، فسرعان ما نضعها جانباً (نسأل أنفسنا «هل من الضروريّ أن أصدّق ذلك؟»، وعادة ما يكون الجواب لا غير ضروري). أبلغ الباحثان إميلي بالسيتيس وديفيد دانينغ المشاركين في إحدى تجاربهما أنّ الكومبيوتر سيعرض أرقاماً وأحرفاً على الشاشة، وأبلغا نصف المشاركين أنّهم سيشربون عصير ليمون طازجاً إن عرض الكومبيوتر رقماً، وأبلغا النصف الآخر أنّهم سيشربون عصير الليمون إن عرض الكومبيوتر حرفاً، وفي الحالة المعاكسة سيشربون عصيراً مقرفاً من الخضر. عند الاختبار عرض الكومبيوتر صورة لجزء من الثانية كان يمكن أن تُفسّر على أنّها حرف B أو رقم 13؛ معظم المشاركين قرّروا أنّهم رأوا الخيار المفيد لهم (أولئك من الفريق الأوّل قالوا إنّهم رأوا الرقم 13 وأولئك من الفريق الثاني قالوا إنّهم رأوا حرف B ليتمتّعوا بعصير الليمون ويتجنّبوا عصير الخضر. يؤكّد جوناثان هايدت وفرة الأبحاث التي توثّق الطرق الملتوية التي يستخدمها فكرنا للوصول إلى الخلاصات والاستنتاجات التي نريدها مسبقاً؛ أمر ليس بالبسيط أنّنا في أمر مثل النظر نحن مستعدّون لأن نميل لنرى أمراً بالشكل الذي يناسبنا. تذكّر ذلك في المرّة المقبلة التي تحاول أن تحاور فيها أحداً من وجهة سياسة مختلفة عنك، حول حدث سياسي أو أمنيّ ما، لتصلا إلى حقيقة واحدة؛ أو عندما تحاول أن تقدّم الأدلّة العلميّة والتاريخيّة والثقافيّة وما شئت لتغيّر رأي شخص حول المثليّة في مجتمع شديد المحافظة أو شديد الليبراليّة. مبروك مسبقاً النتيجة. طبعاً لا يمنع المحاولة لتغيير مقاربة الموضوع والشعور والرؤية، ولكن علينا أن نفهم أنّ الموضوع لا يتعلّق بالمنطق والأدلّة أساساً. الموضوع يتعلّق – يقول هايدت – بأنّنا في مواضيع السياسة والدين والأخلاق نحن نميل إلى ألّا نتصرّف بحسب ما تمليه علينا أنانيّاتنا (ما مصلحتي إن انتخبت الحزب الفلاني؟) بل بحسب ما هو مقبول من جماعاتنا، نحن مجموعيّون (groupish). ولهذا السبب نرى الناس يصوّتون عكس مصالحهم، لأنّهم لا يتساءلون - إلّا بشقّ النفس - ما هي مصلحتي من انتخاب الحزب الفلانيّ، وإنّما يتصرّفون بحسب «ما مصلحتنا نحن؟»، هذه المجموعة، هذه الطائفة، هذا الحزب، حتّى ولو لم تكن «مصلحتنا» سوى تثبيت وجود (قد يكون غبيّاً ومجرماً في الواقع) مقابل وجود آخر (قد يكون أكثر غباءً في الواقع). نحن أكثر استعداداً لتصديق أيّ شيء يدعم فريقنا، وهذا ينطبق على الولايات المتّحدة كما ينطبق على لبنان، أو أيّ بلد آخر. بل دلّت أبحاث دروو ويستن على أنّ تهرّب الإنسان من مواجهة حقيقة ضدّ مجموعة بإيجاد أعذار لها، يُطلق مادة الدوبامين في الدماغ، وهي مادة تعطي لذّة وتريح الإنسان، ولهذا فالمناصرون والمحازبون سيحاولون المستحيل ليجدوا ألف طريقة ومنطق لعذر زعمائهم وحزبهم. التحزّب إدمان صعب الرجوع عنه. ما المعنى الأخير هنا؟ أوّلاً علينا التذكير بأنّ المعطيات فوق ليست حتميّة لكلّ إنسان، دائماً هناك ميل بشريّ عام ولكنّه لا يحكم تصرّف كلّ إنسان حتميّاً (مثلاً، معظمنا يغشّ ولكن ليس كلّنا؛ بعض المشاركين قالوا إنّهم لم يروا لا حرفاً ولا رقماً في التجربة فوق). ثانياً، ليس إجراء محاولة إقناع عقليّة مكلفة هي الطريق الأمثل دائماً، هناك تغييرات طفيفة في المحيط تساعدنا على أن نتخطّى الميول التي رأيناها فوق (سؤال مباشر لشخص إن كان المبلغ صحيحاً أو لا، وجود مرجع يراقب القرار، تغطية صحّية مجانيّة تعطي للإنسان قدرة على الحرّية). في موضوع القرارات، النصيحة العمليّة هنا هي الآتية: إن أرادت شركة أو منظّمة أو أيّ مجموعة أن تصل إلى أفضل قرار ممكن حول أمر ما، فعلى الفريق الذي يريد أن يتّخذ قراراً أو ينصح بقرار، أن يكون مكوّناً من أشخاص يأتون من مشارب مختلفة ولديهم وجهات نظر مختلفة، إذ إنّ ذلك يدفعهم للوصول إلى حوار نقديّ أكثر، على أن يكون النقد مسموحاً به، بل مطلوباً؛ وأن يكونوا مسؤولين أمام مجموعة أخرى مطّلعة، تنتظر منهم دقّة في التقييم. هذا لا يعني أنّ كلّ قرار سيكون صائباً، ولكن سيكون للمجموعة حظّا أوفر بالوصول إلى قرار صائب. من وجهة نظر علوم النفس، التي حاولنا نقلها هنا، عبادةُ العقل أمرٌ يدلّنا العقل نفسه أنّه غير عقلانيّ، فقدرة الإنسان الفرد على الوصول إلى قرارات سليمة في المواضيع السياسيّة والدينيّة والأخلاقيّة لا يعوّل عليها بشكل مطلق، فالأفضل من وجهة نظر عمليّة بحتة إنشاء مجموعة من وجهات نظر مختلفة، موضوعة في جوّ يسمح بالحرّية والنقاش والمخالفة، للوصول إلى قرار بالأكثريّة. لا وسيلة أفضل لدينا اليوم. كوننا نحبّ الجماعات ونحيا فيها، لا يعني جمود الحياة الجماعيّة بالضرورة، ولا يعني أنّنا عبيد للجماعات. فعبر التاريخ، غيّرت الجماعات رأيها في موضوع سياسيّ أو دينيّ أو أخلاقيّ بتراكم الخبرات والآراء والأدلّة الموضوعيّة التي وفّرتها العلوم، وبتغيّر الظروف الموضوعيّة للجماعات. خريستو المرّ – الثلاثاء ١٥ آب/أغسطس ٢٠٢٣
الأخلاق والشعور سلمى شابّة لطيفة وتحبّ المحافظة على البيئة، وتعمل في مشرحة في إحدى المستشفيات. أثناء عملها وحدها في إحدى الليالي، تصل إليها جثّة إنسان توفّي للتوّ وعملها يتطلّب منها أن تحرق الجثّة، وهو أمر مقبولٌ طبّيًا وقانونيّا في بلدها، لكنّ سلمى شعرت بالأسى أن تُحرق الجثّة ولا يتمّ الإستفادة منها بينما هي لا تزال صالحة للأكل، فقرّرت أخذ قطعة لحم من الجثّة إلى البيت وقامت بطهيها وأكلها. هل موقف سلمى مقبول أخلاقيًّا على افتراض أنّه قانونيّ؟ هذا النصّ خياليّ، وإن كنّا كالأغلبيّة الساحقة من الناس الذين قرأوا هذا النصّ المأخوذ من الباحث في علم النفس الاجتماعيّ جوناثان هايدت، نكون قد قرّرنا فورًا أنّ الموقف مرفوض وغير أخلاقيّ؛ ولم نأخذ وقتًا لنفكّر ونقرّر إن كان الموقف أخلاقيًّا أم لا، بل كان قرارنا فوريًّا، وارتكز أساسًا على شعور بالرفض، بالقرف، وربّما بالغضب. وسيتمسّك واحدنا بحكمه الأخلاقيّ إلى النهاية حتّى ولو لم يجد سببًا واحدًا مُقنعًا لحكمه؛ فهو مقتنعٌ بقرارة نفسه أنّ موقفه الأخلاقيّ هو الصحيح. بالطبع، هناك أوضاع كثيرة أخرى يمكن بسهولة إيجاد مبرّرات لأحكامنا الأخلاقيّة تجاهها، مثل رفض ضرب إنسان لأنّه يجب عدم إيذاء الآخرين؛ ولكنّ اختبارات هايدت وغيره تدلّ على أنّ الحكم الأخلاقيّ لا ينطلق من مبرّرات فكريّة، بل على العكس، هو ينطلق أساسًا من مشاعر يثيرها الحدث فينا، ثمّ تأتي المبرّرات الفكريّة للحكم الأخلاقيّ، بل ويستمرّ الحكم الأخلاقيّ حتّى ولو لم نتمكّن من إيجاد تبرير منطقيّ له. أصل المشاعر الأخلاقيّة الشعور الذي يؤسّس لمواقفنا الأخلاقيّة إمّا متوارث أو نتيجة التربية. فالأطفال، وهم في عمر بضعة أشهر، قادرون على التمييز بين الإنسان الذي يساعد غيره وذاك الذي لا يساعده، ويفضّلون التعامل مع الأوّل؛ هذا عدا ميل الأطفال إلى مساعدة غيرهم عفويًّا. هكذا نستنتج أنّ الشعور الذي يجعلنا نفضّل أخلاقيًّا مساعدة الغير، متوارثٌ. في المقابل هناك مشاعر تنقلها التربية وتؤدّي إلى أخلاق مرتبطة بالمجتمع؛ فالإنسان يتعلّم شعورًا بالارتياح أو بالنفور من بعض الأوضاع بحسب التربية والمحيط، وبحسب هذا الشعور المُتَعَلَّم يبرز مبدأ أخلاقيّ. المهمّ أنّه أمام كلّ وضع هناك مشاعر تقودنا إلى إصدار حكم أخلاقيّ محدّد. والمشاعر تحتوي عادة على حدْس أي تفكير أوتوماتيكيّ يحدث عفويّا، نقرّر على أساسه حكمنا الأخلاقيّ؛ وبعد ذلك نحاول أن نحلّل لنبرّر حكمنا. كيف يمكن تغيير المواقف الأخلاقيّة؟ هناك إمكانيّة، وإن ضئيلة، بأن يحاول الإنسان أن يغيّر أحكامه الأخلاقيّة بنفسه من خلال مراجعة ذاتيّة لتبريراته ومشاعره ليعدّل من رؤيته للواقع، فيتغيّر بذلك شعوره وحدسه تجاهه. إمكانيّة التغيّر تصبح أوفر من خلال الحوار مع آخر. لكن من المرجّح ألّا يؤدّي تبادل الحجج المنطقيّة الباردة إلى نتيجة دون مخاطبة الحدس والشعور. أمّا إن أبدى المُحاوِرُ احترامًا للآخر وفهمًا وإصغاءً لمشاعره (الكامنة وراء حججه)، مهّد بذلك سبيل الآخر للإصغاء إلى حدْسٍ مختلف وموقف شعوريّ مختلف يحملهما المُحاوِر، وبالتالي فتح مجالًا للآخر لتغيير حدسه ومشاعره، وبالتالي حكمه. والحظّ بالتغيير يغدو أكبر إن كان الخطاب محمّلًا بالمشاعر وليس فقط بالمنطق، كما يشير هايدت، وهو ما يحدث حين يصلنا «الخطاب» من خلال فيلم بديع، أو رواية جميلة، أو خبر مؤثّر. أمّا الأمر الأكثر حظًّا لتغيير الحكم الأخلاقيّ فهو التأثير الاجتماعيّ، حيث إنّ معظمنا مستعدّ أن يعدّل من مواقفه ومشاعره ليتبنّى ما يرضي الأكثريّة في محيطه. هذا الاستعداد لكسب رضى الأكثريّة عابر للثقافات، ولهذا فإنّ مَن يشيرون بشجاعة في مجتمعاتهم إلى طريق أخلاقيّ لا تدين به الأكثريّة يسمّيهم الناس أنبياء. خريستو المرّ – الثلاثاء ٨ آب/أغسطس ٢٠٢٣
هناك تاريخ طويل من الاحترام للعقل والفكر في التراث الحضاريّ على حساب الشعور. وعادة ما نتّخذ مواقف توحي بأنّ الإنسان متنازع بين الفكر والشعور ونعطي أولويّة للفكر على الأخيرة. اعتقد أفلاطون، مثلًا، أنّ الفكر هو صنيعة الخالق، ولكنّه لم ينظر بشكل إيجابيّ إلى الجسد والشعور وغيرهما، بل كان يعتقد أنّها أمورًا «أدنى»، وأنّ رقبة الإنسان موجودة لتسمح بمسافة بين «الأعلى»، أي العقل والفكر، و«الأدنى» أي الجسد بمشاعره ورغباته (يمكن العودة لكتاب أفلاطون Timaeus، 69 d-e). أمّا ديكارت، صاحب القول الشهير «أنا أفكّر إذا أنا موجود»، فهو الفيلسوف المنظّر لثنائيّة الجسد والعقل، حيث كان يراهما مختلفان جوهريًّا. هذه المقاربة للشخص البشريّ تركت أثرها في تاريخ دينيّ طويل يقارب الجسد بشكل سلبيّ، ويرى في الشعور ضغطًا على الفكر العقلانيّ يشتّته، ويجعله غير قادر على الحُكم السليم. هذه النظرة السلبيّة لخبرات الشعور (والجسد عامّة) تدحضها كشوفات علميّة بقيت مطمورة ولم تنتشر كفاية في ثقافتنا اليوميّة. يذكّرنا الباحث في علم النفس الاجتماعي جوناثان هايدت بملاحظات الباحث في علم الأعصاب روبيرتو داماسيوّ حول حالات طبّية لأشخاص تضرّر جزء من أدمغتهم (يقع خلف الأنف ويدعى ventromedial prefrontal cortex) ففقدوا جرّاء ذلك قدرتهم على الشعور بشكل شبه تام؛ بحيث أنّهم لم يعودوا قادرين أمام مشهد معيّن على الشعور لا بالفرح ولا بالقرف ولا بأيّ أمر آخر. ومع أنّ هؤلاء بقوا قادرين على التفكير والحكم الأخلاقي، أي التمييز بين المقبول أخلاقيّا وغير المقبول، إلّا أنّهم فقدوا القدرة على التفكير السليم. فالمفاجئ أنّهم بفقدانهم قدرتهم على الشعور لم يعودوا قادرين على اتّخاذ قرارات يوميّة في حياتهم، وفقدوا القدرة على اتّخاذ قرار حتّى في المهام التحليليّة الصافية التي نراها أنّها تنتمي إلى نطاق الفكر بشكل خاص. وهذا ما يدلّ أنّ العقل لا يمكنه أن يكون عقلًا فعلًا إلّا بمساهمة من الشعور، على عكس ما ترسمه الرؤية الأفلاطونيّة أو الديكارتيّة للإنسان. إنّ القرارات اليوميّة التي نتّخذها دون تفكير وتمحيص ترتكز أساسا على الشعور: نصغي لشخص لأنّنا نتعاطف معه، نبتعد عمّن يوحي بالأذى لأنّنا نشعر بالخوف، نتجنّب المتملّق المُداهن لأنّه يثير فينا شعورًا بالقرف، نشتري فاكهة معيّنة لأنّنا نرغب فيها، إلخ... أمّا بالنسبة لهؤلاء المُصابين فقد لاحظ الأطبّاء أنّه بات عليهم أمام أيّ موقف وفي كلّ لحظة أن يتقصّوا كلّ الإمكانات ويزنوا سلبيّاتها وإيجابيّاتها لكي يصلوا إلى قرار سليم؛ وبالطبع هذا يجعل الحياة اليوميّة صعبة للغاية. هذه المعارف تدلّنا بشكل لا لُبس فيه إلى أنّ فكّ الفكر عن الشعور لا يحرّر الفكر من «وطأة» مزعومة وإنّما يتسبّب بتعطيل الفكر بحيث يصبح غير قادر على التحليل السليم أو اتّخاذ القرارات. بالطبع كلّنا نعرف أنّ الانفعال العارم، كالغضب، يشكّل ضبابا للفكر، وأنّ الشعور يحتاج إلى فكر لكي ينضبط ولا يتوه؛ ولكن المعطيات العلميّة (والخبرة نفسها) تقول بأنّ الفكر يحتاج إلى الشعور، وأنّه دون الشعور يتوه بدوره. الموقف السليم هو النظرة إلى الإنسان ككلّ، كوحدة متكاملة، دون وضع جزء منه كقيمة أعلى من أجزاء أخرى، في ثنائيّات قاتلة للحيويّة الإنسانيّة. الشعور طاقةٌ أساس في الشخص البشريّ وينبغي أن نتعامل معها باحترام وأن نعطيها حقّها، وهو ليس فقط أساس للفكر السليم كما ننقل هنا، بل يلعب دورًا أساسًا في تمتين البُنى الأخلاقيّة التي نلتزم بها، وهو ما سنتركه للمقالة المقبلة. خريستو المرّ، الخميس ٣ آب ٢٠٢٣
كلّ إنسان يحبّ هذا العالم لا بدّ أن يشعر بالمسؤوليّة تجاه مصير الناس والبيئة، والمسؤوليّة تفترض معرفة ليتمكّن الإنسان من تلمّس الأفضل. من هنا، لا ينفع الحماس الأرعن ولا الخوف المكبِّل في مسألة التعامل مع الابتكارات العلميّة، فكلا الموقفين يعكسان استسلام الإنسان أمام التكنولوجيا والشركات المنتجة لها، وبالتالي هزيمتنا وانصياعنا لمفاعيل تلك التكنولوجيا السلبيّة، أو خسارتنا لمفاعيلها الإيجابيّة. ويعتمد الذكاء الاصطناعي، والتكنولوجيا الرقميّة عامّة، على البيانات (داتا) التي تعمل الخوارزميّات على تحليلها، واستعمال نتائج التحليل لاتّخاذ قرارات (عرض منتج للبيع، دعاية سياسيّة...)، لكنّ عمليّة حصول الشركات على البيانات منّا نحن المستعملين لمنتجاتها تقوم بعمليّة استعماريّة تشبه في طرقها وإيديولوجيتها إلى حدّ كبير الاستعمار التقليديّ، وسنشرح في هذه المقالة باقتضاب الخطوط العريضة للاستعمار الرقميّ. عندما كان الإسبان المستعمرون السفّاحون الذين احتلّوا أراضي الملايين من السكّان الأصليّين في القارة الأميركيّة وقتلوهم، يريدون احتلال أراضي السكّان الأصليّين والبدء بعمليّة إخضاعهم واستغلال أراضيهم، كانوا يتلون عليهم شروط استعمارهم باللغة الإسبانيّة غير المفهومة لدى الشعوب الأصليّة، وتلك الشروط تتلخّص بـ«حقّ» الإسبان في إخضاع السكّان الأصليّين للسلطة الإسبانيّة واستغلال خيرات أراضيهم (وبالطبع تبشيرهم بالمسيحيّة). هذا الخضوع للسكّان الأصليّين أمام شروط المستعمِر غير المفهومة هو تماماً ما نعيشه اليوم كمستهلكين للتكنولوجيا الرقميّة. هو حالنا أمام البرامج الإلكترونيّة ومنصّات وسائل التواصل الاجتماعيّ، إذ نوافق جميعنا على «أحكام وشروط» البرامج تلك المكتوبة بلغة تقنيّة قانونيّة غير مفهومة لنا. نقول «نعم» موافقين على شروط غير مفهومة صاغرين أمام شركات التكنولوجيا العملاقة وخضوعنا لسلطتها، كما كان السكّان الأصليّون صاغرين أمام مستعمِرٍ أكثر تقدّماً في التكنولوجيا الحربيّة. وبينما كان رفض السكّان الأصليّين لشروط المستعمِر يعني محوهم عن وجه الأرض، فإنّ رفضنا لشروط وأحكام شركات التكنولوجيا يعني اليوم «مَحْوَنا» عن المنصّات الرقميّة (فايسبوك، إنستغرام، تيك توك...). وبينما كان جنود المستعمِر يحتكرون أسباب القوّة في الاستعمار التقليديّ، فإنّ أسباب القوّة اليوم تكمن في المنصّات الرقميّة (والتركّز الاقتصاديّ). في الاستعمار التقليديّ كانت مساحة ومدى الاستعمار يكمنان في الأرض المحتلَّة، أمّا مساحة الاستعمار الرقميّ فهي كلّ المساحات الجغرافية حول العالم المتّصلة بالإنترنت. لكنّ الأمر الأكثر فداحة اليوم هو أنّ الاستعمار الرقميّ اليوم يتسرّب إلى الحياة الاجتماعية فيقبض على تفاصيلها عبر المنصّات الرقميّة (منصّات التواصل الاجتماعيّ، هواتف ذكيّة، ساعات ذكيّة...)، بينما كان الاستعمار التقليديّ يكتفي باحتلال الأرض والتحكّم بحياة العمل وتبقى رقابته وسلطته خارج معظم نواحي الحياة الاجتماعيّة. كذلك يتلاقى الاستعمار التقليديّ والاستعمار الرقميّ في نظرتيهما المشتركة الاختزاليّة إلى الحياة البشريّة، فكلاهما يختزل الإنسان الحيّ ببعد كمّي مجرّد يتمثّل في أرقام وأعداد: في الماضي كان الاستعمار يختزل الإنسان بعدد يمثّل العبيد أو العمّال أو وزن الإنتاج، بينما اليوم هو يختزله بموقعه الجغرافيّ، ماذا يكتب، ماذا يشتري، كم خطوة يمشي، أيّ أماكن يزور، ما هو عمره، ما هو مدخوله. هذه النظرة الاختزاليّة إلى الحياة البشريّة، هذا الاختزال لحياة الإنسان في مجموعة من البيانات أمرٌ مشترك لكلّ من الاستعمار الرقميّ والتقليدي. هكذا، تتضاءل قيمة الإنسان كحياة، لتنمو قيمته كمصدر للربح، ككمّية. عوض العنف الجسديّ في الاستعمار التقليديّ، فإنّ الاستعمار الرقميّ قادر اليوم، بواسطة الذكاء الاصطناعيّ، على المراقبة الأدقّ والتحكّم الأكثر فعّاليّة في توجّهات الإنسان وخياراته من خلال عنف الإيحاء الدعائيّ الذي يحاصر الإنسان على المنصّات الرقميّة، ويضعضع قدرته على الحكم والتفكير النقديّ. هناك أيضاً شبه إضافيّ بين الاستعمارَين، فالاستعمار التقليديّ ينظر إلى الثروات الطبيعيّة على أنّها مواد خام «موجودة هناك» وتنتظر أن تُستَخرَج، أي تنتظر المستعمِر القادر على استخراجها من أرض المُستَعمَر وتصنيعها لبيعها كبضائع للمُستَعمَر. الأمر شبيه بالنسبة إلى الاستعمار الرقميّ حيث تعمل الشركات على ترقيم الإنسان المُستَعمَر، أي تحويل حياته الاجتماعيّة إلى بيانات وأرقام وتخزينها، ثمّ تقوم باستخراج تلك الأرقام لدفعها إلى خوارزميات تقوم بدورها بإنتاج معرفة عن المُستَعمَر تُستخدَم بدورها لبيعه بضائع أو خدمات الاستعمار التقليديّ. عبارة «البيانات هي النفط الجديد»، التي غدت شهيرة في مجال الداتا، تَشي بنظرة الشركات الاستعماريّة تجاه بياناتنا، فهي تُعاملها كأنّها مواد خام «موجودة هناك» لا يعرف كيف يستخدمها المُستَعمَرون وتحتاج إلى شركات التكنولوجيا لتعمل على استخراجها واستخدامها في صناعة بضائع. والشركات تريد أن تقنعنا أنّها هي مَن تملك الحقّ في بياناتنا/المواد الخام، بينما الصحيح هو أنّ بياناتنا هي مُلكنا. أدوات الإنتاج اليوم في آلة الاستعمار الرقميّ هي، أولاً، أجهزة إدخال وإخراج البيانات من منصات رقمية (لـ مايكروسوفت، أو غوغل، أو ميتا)، وأجهزة رقميّة (هواتف ذكيّة، أجهزة استشعار) وأنظمة رقميّة. بالإضافة إلى تلك أجهزة الإدخال وإخراج البيانات، فإنّ أدوات الإنتاج تحتوي على أجهزة تخزين البيانات، وأجهزة معالجة البيانات. لكن خلف كلّ استعمار تكمن إيديولوجيا. في الاستعمار التقليدي كانت الإيديولوجيا هي مهمّة «تحضير» السكّان الأصليّين أي نقلهم إلى «الحضارة»، اليوم إيديولوجيا الاستعمار الرقميّ تقوم على فكرة «تحديث» حياة السكّان الأصليّين حول العالم، ونقلهم إلى التكنولوجيا الرقميّة من «ثورة» رقميّة إلى «ثورة» رقميّة أخرى. الإيديولوجيّتان تقولان الأمر نفسه: هناك مواد خام «موجودة هناك» (مواد طبيعيّة أو بيانات)، وهذه المواد الخام لا قيمة فعليّة لها، بل تحتاج إلى المستعمِر وتكنولوجيّته لكي تتحوّل إلى قيمة؛ وبينما كان يتمّ الاستيلاء على الموارد الطبيعية مجّاناً في البداية ثمّ بسعر منخفض حاليّاً، اليوم هناك استيلاء على البيانات مجاناً. والإيديولوجيّتان تعتمدان على يد عاملة تعمل لقاء أجر زهيد: في الاستعمار التقليديّ عبيد يعملون مجاناً ثمّ عمّال ذوو أجر زهيد. أمّا في الاستعمار الرقميّ فهناك عمل لكلّ إنسان لكي يساهم في جمع البيانات الرقميّة حول نفسه، هذه العمالة الضروريّة للشركات خفيّة وهي تتوارى تحت عنوان «المشاركة»: مشاركتنا لبياناتنا مع الشركات. أخيراً، فإنّ النموذج الإيديولوجيّ في الاستعمار التقليديّ يقول إنّ الشركات الخاصة هي الكيانات «الطبيعية» لتحويل المواد الخام إلى بضائع «يستفيد» منها المستعمَر، بينما تقول إيديولوجيا الاستعمار الرقميّ إنّ الشركات الخاصة هي الكيانات «الطبيعية» لتخزين البيانات وخصخصتها، وإنّ ذلك سيفيد المستعمَر في النهاية. النتيجة أنّه يتم اليوم وضع المجتمع بأكمله، والحياة الاجتماعية في خصوصيتها، تحت تصرّف الربح. خريستو المرّ - الثلاثاء ١ آب/أغسطس ٢٠٢٣
لا نستطيع، مهما حاولنا، أن نصف إنسانًا آخر بطريقة تجعله «معروفا» لإنسان لا يعرفه، وحتّى لا نستطيع أن نصف بشكل كامل إنسانا لمن يعرفونه، إذ يبقى الشخص أبعد من تعريفاته مهما حاولنا أن نجعلها كاملة. يستحيل علينا التعريف الكامل بشخص. أمام الشخص نحن أمام معرفة الخبرة، وهي معرفة لا تنتهي، ندخل مع شخص في خبرة علاقة ومن خلال العلاقة «نعرفه» ولكن يبقى الشخصُ دائمًا خارج تلك المعرفة عنه، إذ نكتشف دائمًا وبشكل مستمرّ طوال الحياة شيئًا فيه أعمق وأبعد ممّا «نعرفه» عنه. والحقيقة أنّ هذه معرفتنا الحقّة لإنسان آخر، معرفتنا التي تغوص أعمق من السطح والعموميّات، لا يمكن أن تبدأ دون تعاطف، دون محبّة. فالأفكار المجرّدة «الباردة» لا يمكنها أن تسمح لنا بتفاعل من الداخل مع مكنونات الإنسان الآخر وحالاته وخبراته، وهو التفاعل الضروريّ لمعرفة تتجاوز الفكر لتصل إلى المعرفة الشخصيّة، الكيانيّة. ففي النهاية نحن لسنا أفكار وأدمغة وإنّما كائنات متجسّدة لها وجدان ونفس ومشاعر لا يمكن الولوج إليها إلّا بالأفكار والمشاعر معًا، أي بالتعاطف أوّلًا وهي كلمة تختصر الكيان في امتداده نحو الآخر. من خلال خبرتنا مع البشر يمكننا أن نقيس خبرتنا مع الله الذي لا نراه. الله شخص وليس قوّة. وإن كانت معرفتنا لشخصِ إنسانٍ ستبقى دائما ناقصة بالضرورة ومحدودة بالضرورة فكم بالأحرى معرفتنا لله؟ معرفتنا به محدودة كون الله شخصًا آخر، وهو أكثر من ذلك آخر مُطلَق. الأمر الثاني الذي يحدّ من معرفتنا لله هو أنّه آخر مُطلَق غير مخلوق، بينما كلّ مقارباتنا لله هي مقاربات محدودة بالخبرة البشريّة ولغاتنا وحضاراتنا وبكلّ ما هو مخلوق. لهذا سيبقى الله خارج كلّ تحديداتنا عنه. كلّ شيء نحياه هو في النهاية غير كامل ومحدود، ولكن ضرورات التواصل البشريّ تفرض علينا أن ن |
الكاتبخريستو المر الأرشيف
December 2023
Categories |