خريستو المر
الثلاثاء ١ تشرين ثاني/ نوفمبر، ٢٠٢٢ (المقالة الأصليّة) لم ترَ الطبقات الفقيرة مادّيًا عصرًا ذهبيًّا للبنان يومًا، كان جلّ همّها ألّا ينتهي المرتّب اليومي، أو الشهري، فيعرف أطفالها الجوع أو البرد، وكانت تنوء تحت عبء تسديد أقساط المدارس، إن استطاعت إليها سبيلًا. وإن لم يخلق الله الفقر كجزء من طبيعة هذا الكوكب، فقد أبدع رأسماليّو عصرنا في خلقه بسياسات مرسومة من خرّيجي الجامعات الأجنبيّة والوطنيّة وتجّار الكلمات في الصحف، أولئك الذين خدموا ويخدمون الذين تربّعوا على عرش الحكم في بلد معلّقٍ بين الوجود واللاوجود. لم يهتمّ خدّام بلاط المال والسلطة من المتعلّمين يومًا إلّا بما يناسب مصالح أهل البلاط من سياسيّين، وطفيليّين اقتصاديّين، ورجال دين، فحوّلوا البلاد إلى مرتع لجني المكاسب على حساب المهمّشين. مَن يأكل من كعكة الثروة الوطنيّة حتّى التخمة هو يأخذ من فم المسحوقين، لا مناص. لم ترَ الحارات الفقيرة عصرًا ذهبيًّا، ولولا الجامعة الوطنيّة لمّا خرج أبناؤها وبناتُها من الفقر يومًا. «ذَهَبُ» تاريخ هذه البلاد كان ولمّا يزل بيد حفنةٍ من المستغِلّين وخُدّامهم من الطبقة الوسطى الذين يحتاج إليهم المستغلِّون أدوات لجنيِ الأرباح، ولإعداد خُدّامِ وأدواتِ المستقبل الضروريّين لخدمة ورثة المستغلِّين. وطبقة الخُدّامِ تتضاءل مع تحوّل البلاد نفسها إلى حارات مُفَقَّرَة بسياسات معروفة النهايات: قتل بطيء لمعظم السكّان بالأمراض المزمنة وباليأس. كانت الحياةُ مؤجّلةً للذين نشأوا على تجنّب الموت بالمرور الضيّق بين أنياب الرأسماليّين، ولم تزل اليوم مؤجّلةً مع استتباب سياسات النهب التي يتبرّأ منها الجميع ويشترك بحمايتها جميع الذين يقدّمون للناس أوهام مستقبل سعيدٍ مولودٍ على أيدي الجلّادين. لن يستطيع الفقراء أكل صاروخ دقيقٍ، ولا الشرب من نفطٍ سيذهب إلى العديمي الشبع، ولا التنفّس من غاز التحاصص فوق جثث المواطنين. لا يمكن أن يتصالح رأسمال لا حدّ لشراهته مع جسم الإنسان وروحه، فشراهته موتٌ يمتصّ الحياة من الآخرين ويُبقي منهم ما يكفي ليخدموه في عمليّة جمع المزيد من الأرباح. لا، لا يتصالح الرأسمال القاتل مع الرغبة الإنسانيّة بالحياة بكرامة، هو دائمًا ضدّها. لكن المتربّعين على عروش السلطة والقدرة على القتل، يبرّرون بكلّ أشكال «الأخلاقيّات» و«الضرورات» اشتراكَهم بطريقة أو بأخرى بذبح شعبهم بسياسات الإفقار، والاعتداءات، والتهديد بالقتل، والقتل. يغسل الحكّام أيديهم من دماء مواطنيهم المسفوكة في العلن وفي الخفاء ويطلبون ممّن يرون الموت القادم في عيون أطفالهم أن يؤجّلوا حياة اليوم إلى الغد. لكنّ الإنسان لا يحيا على هذه الأرض إلى الأبد، وهو لا يملك إلّا اللحظة الحاضرة ليحيا، وما من عدالة تقول بأن يَفرِضَ القَتَلةُ وحُماتهم تأجيل عيش الحياة إلى ما لانهاية، فهي هبة أعطاها الخالق ولم يصنعها إنسان. لا يمكن اليوم تبرير تأجيل إشباع شعوبنا لجوعها الإنسانيّ إلى الاكتفاء المادّي والحرّية سوى بجهبذات فكريّة تعنّف الحسّ السليم لمطلق أيّ إنسان مجروحٍ بتراكم المظالم. قال يسوع الناصريّ يومًا إنّ وجه الله هو وجه الضعيف؛ من يمّم وجهُه وجهَ الضعيفِ وعمل كي لا تبقى حياةُ هذا الأخير مؤجّلةً، رأى ما يُمكن أن يُرى اليوم مِن وجه الله وكان مع جماعةِ الله فهي جماعةُ المحبّين؛ ومَن أشاح بوجهه عن الضعيف يعرف كلّ يومٍ في المرآة وجهَ قايين. خريستو المر
الثلاثاء 25 تشرين الأول 2022 (المقالة في الصحف) إلى جورج عبد الله لم يلتفت إلّا إلى المسحوقين، كان الزمان عنده يستيقظ من الغفلة إلى جراح المساكين. وعندما فتح الكتب ليقرأ للأولاد رأى مخالب المتخمين حول أعينهم وأمامهم ومن خلفهم، وهم ما كانوا يعلمون أنّ الجوع لا يأتي من الأعلى وإنّما من هنا من الأسفل. ربّما لم يقرأ الإنجيل، ولكنّ الهواء كان يحمل صوت جائعٍ إلى الحقّ غسل أرجل تلاميذه قبل أن يقضي فوق خشبتين خارج أسوار هذا الأسفل الذي يخاطب جلد الطفولة بالحديد. قال أغسل أرجل تلاميذي بشيء من الحقيقة، ثمّ دَلَف إلى المحشورين في جحيم المخيّم ليقيم بينهم. ربّما سمع أنّ إلهاً ضرب خيمته بيننا وأنّه أخبر يوماً أنّه سيجعل من هؤلاء المسحوقين وجهه إلى العالم؛ أو ربّما لم يسمع، لكنّه إلى الجحيم نزل كي لا يبقى المأسورون وحيدين. أراد أن يكون جسراً لهم إلى الحياة، وحين صار الجسر كسر المتوحّشون الجسر، فكانَهُ من جديد لأنّ أوجاع المظلومين سكنته فكان قلبه يرفض أن يستكين. قيل له إنّ كلّ شيء انتهى، ففتح باباً كي لا يموت وتبقى العصافير أسيرة، وراودته فكرة الخسارة، ولكنّه آثر أن يحيا ولو أسيراً مع المحرومين من أن يموت حيّاً مع المتخمين. وعند أسره قال كيانه إنّ السجّانَ بعطره الفرنسيّ عنصريٌّ، وإنّه لا يحقّ لمن يجرف الأطفال عن عشب الحياة، بالاستغلال وبالرصاص، أن يعظ بالحقّ والأخلاق. قال كيانه ذلك فصرخت شفتاه أنا حرّ منكم، أنتم الهباء، أمّا رغبة الحياة في عيون المسحوقين فحقٌّ أبديّ. وصرخت: لا يحقّ للجلّاد أن يلقي الدروسَ على ضحاياه بالعدالة، ولا ينطق داعمو الاحتلال إلّا بالخراب المختبئ في حصانٍ من دعاية. صار أسيراً، ولكنّه بقي يقرأ للأولاد الذين سكنوا عقله، للجائعين الذين سكنوا لحمه، للأمّهات اللواتي سكنّه بدموعهنّ. أمضى حُكماً لا-حقّانيّاً لا ينتهي، في بلاد الفلاسفة والحقوق. بقي «لا» واقفة تجاه يد البربريّة التي تنكّل بالإنسان بكامل وحشيّتها الأنيقة. بقي «لا» تفضح الاستعمار الذي يخرج من فمٍ يخطبُ بحقوق الإنسان ويأكل الخبز مغمّساً بدم الأفارقة والعرب وكلّ شعب تتكالب عليه أنظمة «الربح قبل الإنسان». بقي «لا» تحتجّ بضميرها لتقول ما قاله يوماً جليليٌّ قضى نحبه ليبقى حرّاً وحيّاً: ماذا ينفع الإنسان أن يربح الهواءَ الطليق والعالمَ كلَّه ويخسر نفسه أو يفقدها؟ لذلك كان الأسيرُ المناضلُ في العمق حرّاً وسجّانه السجين. قد يكون اسمه اليوم جورج عبدالله، وغداً آدم ابن حوّاء، ولكنّه يمشي داخل السجن فوق العزلة كمن يمشي على المياه، يتّجه إلى رفاقه ليهدّئ روعهم كلّما ضجّت لجّةُ التعب والخوف حول قارِبِهم الخفيف. يُضرِبُ مع المضربين عن الطعام تضامناً، فلا يكون هو وحيداً ولا يكونون وحيدين. يُشعل عقله بقلبِه فينكبّ على الكتاب وعلى اللطف حتّى ينبع لطف الإله خلف القضبان فتتجلّى السماء أخوّة في السجن الصغير. لذلك كان الأسير المناضلُ أُمّاً للحياة، لا ينام إن لم يفعل شيئاً ولو واحداً كي يُحاصَرَ الظلمُ في أيّ مكان. لذلك كان الأسيرُ المناضلُ عمودَ نورٍ، شعلةً نبويّةً تدلّ إلى أفقٍ بعيد، قريبٍ، داخلٍ، خارجٍ، ويشير إلى أمواج الحرّية والعدالة القادمة فجراً من عيون المساكين. خريستو المر
الثلاثاء 18 تشرين الأول 2022 (المقالة في الصحف) تبدو الكنيسة الرسميّة، أي الكنيسة بما هي مؤسّسات وقيادات وأناس في مواقع المسؤوليّة، تعيش حالة نكران تامّة لواقع المؤمنات والمؤمنين، وترتاح لما يتوفّر لها من امتيازات، ومال، وتبرّعات تحصّلها من مآسي مؤمنيها، وما توفّره لها بلادنا من سلطة مطلقة في إدارة شؤونها دون حسيب ولا رقيب، وحتّى من خدمات في السلطة المدنيّة توفّرها لها الدولة بحكم تناغم مصالح المال والسلطة بينهما. يرتاح «الراعي» بينما تتعب «الرعية» من ألف ذئب وذئب: ذئب السلطة المدنيّة التي تسطو على الشعب وتوفّر للقيادات تسهيلات معلومة وغير معلومة، ذئب السلطة الاقتصاديّة التي لا تشعر معظم القيادات بأنيابها، وذئب بعض القيادات نفسها وهو موضوعنا اليوم. بات العاقل يخشى أن يصبح الإنتماء إلى القيادة الكنسيّة ملجأ لكلّ مَن يريد حمايةً من ارتكاب، فالموقف الرسميّ للكنيسة عبر السنوات يدلّ على إدمان القيادات حماية الجماعة الكهنوتيّة الحاكمة بأمرها من أيّة إدانة عند أيّ ارتكاب، وتحويل القيادات – عمليّاً وليس رسميّاً - إلى جماعة خارجة عن القانون. وفي سبيل ذلك يتمّ اللغو بكلمات الإنجيل واستخدامها في غير موضعها للإيحاء بأنّه لن يُحاسب أحد لارتكاب ما، لأنّ «منطق» الكنيسة هو غير منطق العالم، وبأنّ الرحمة فيها هي الأولويّة. هكذا، يُستخدم الحقّ في سبيل تسويغ الباطل؛ فالرحمة في الإنجيل تعني أن يُفتح الباب دائماً وأبداً أمام الإنسان لكي يغيّر طرقه ويعود عن ضلاله ليحيا حياة محبّة منسجمة مع الله-المحبّة؛ لكنّ الرحمة لم تعنِ يوماً غيابَ السؤال والمحاسبة، ومواجهة الباطل بالحقّ الذي يحرّر، وإحقاق الحقّ لصاحب الحقّ، والوقوف إلى جانب المعتدى عليه والمظلوم. لقد وعظَت القيادات طويلاً، وكما يجب، بأنّ تفسير آيات الإنجيل لا يتمّ بشكل مجتزأ وإنّما يتمّ في ظلّ كامل الكتاب، بينما هم يجتزئون الإنجيل في قضايا الارتكابات، فالرحمة -التي نحتاج جميعنا إليها - لا تختصر كلّ الرسالة الإنجيليّة، بل هناك أيضاً الدفاع الأساس عن المظلومين الذين سمّاهم يسوع «إخوتي الصغار»، وجعل من الدفاع عنهم وخدمتهم معياراً لدخول الملكوت. فأين هي الكنيسة الرسميّة منهم؟ أين هو عمل القيادة الكنسيّة التي تعيد على أسماعنا كلمات جوفاء وعامّة ومُضَلِّلة حول الرحمة بينما هي لا تأبه لما يحدث للرعيّة؟ منذ أسابيع قام موقع إلكتروني بتسريب لرسالة للسيّدة هيلينا ديتكو مرسَلة إلى بريد المطرانيّة وموجّهة لمطران أميركا الشمالية (المستقيل) جوزيف الزحلاوي تشرح فيها كيف دمّرت تلك العلاقة التي دامت 17 عاماً (2000-2017) زواجها وتسبّبت بطلاقها عام 2004، وكيف سبّبت سرّيتها الأذى النفسيّ الكبير لها، وتوضح أنّها ترسلها من أجل الأجيال القادمة. تخبر السيّدة ديتكو عن تودّد المطران لها وإبلاغها في إحدى الخلوات الروحيّة أنّه «يحبّها بطريقة خاصّة» لتبدأ علاقتهما بعد عدّة أشهر؛ وتخبر عن اكتشاف زوجها لتلك العلاقة وتقديمه شكوى كنسيّة لم تصل إلى أيّ مكان بسبب سلطة المطران الزحلاوي. ثمّ تشير بحكمة لا يمتلكها القادة إلى أنّ الكنيسة ليست مكاناً للأسرار وأنّها بسبب متابعتها لبرنامج في الكنيسة الكاثوليكيّة باتت تفهم ما مرّ بها وبأنّ المطران الزحلاوي هو إنسان «ماكر ومفترس» استغلّ حالة الاكتئاب التي كانت تمرّ بها بعد الوضع. وتشير فيها إلى أنّها تعتقد أنّ المطران الزحلاوي كان يقيم علاقات عديدة مع نساء أخريات، وأنّها مصدومة بأنّه حاول مجدّداً التواصل بها في ربيع 2022 تاركاً لها رسالة صوتيّة. وتطلب منه أخيراً ألّا يعاود الاتّصال بها مجدّداً. علاقات الناس الشخصيّة لا تعنينا، لكن هناك ما يتجاوز حياة المطران الشخصيّة، المشكلة أنّ السيّدة عملت عنده سكرتيرة، وعندها يصبح من الضروريّ أن يتمّ التحقيق إن كان المطران الزحلاوي استخدم سلطته الوظيفيّة، وسلطته الروحيّة، ليستغلّ تلك السيّدة، وعن الظروف التي حكمت تلك العلاقة، خاصّة أنّ السيّدة تذكر في رسالتها أنّها كانت تمرّ بظروف الاكتئاب التي تجعلها في وضع قابل للاستغلال، وتتّهم المطران بأنّه «مفترس» واللفظة تُطلَق على رجال دين يقومون بمحاولات مستمرة لإساءة استخدام السلطة أو المنصب لاستغلال الآخرين جنسيّاً. كما أنّها تذكر اعتقادها بوجود نساء أخريات. هل تمّ استغلال الموقع الكنسيّ للمضايقة في الوظيفة؟ هل تمّ استخدام الموقع الروحيّ الكنسيّ لاستغلال السيّدة ديتكو ونساء أخريات؟ هل من تصرّف «مفترس»؟ لا نعرف اليوم، ونشكّ أنّ أحداً من القيادات طرح السؤال على نفسه. كيف يمكن تفادي هكذا أوضاع في المستقبل؟ كيف يمكن حماية الناس؟ كالعادة، لا أحد من القيادات يأبه. البطريرك نشر رسالة قال فيها إنّه سيتابع الموضوع ويبلّغ عن الخطوات المناسبة بكلّ «شفافية». وأعلن المشرفون على إدارة الكنيسة في أميركا الشماليّة أنّهم عيّنوا شركة محاماة للقيام بتحقيق «مستقلّ». «الشفافية» ظهرت البارحة في تسريب التقرير السرّي للتحقيق «المستقلّ» والذي تقول فيه شركة المحاماة باستخفاف وقح، وبعد أن قامت بسؤال بضعة أشخاص، ومقابلة السيّدة، بأنّ الموضوع لا يتعدّى كونه اتّهامات دون أدلّة من نوع «هو قال» و«هي قالت»، موحية بأنّها استنتجت أنّ الموضوع لا أساس له مع أنّها لم تُنه التحقيق! وأشار التقرير إلى وجود تقريرٍ آخر منذ عام 2005 لا يبدو عليه أنّه وصل إلى نهاياته. وينصح أخيراً بأن يبقى التحقيق سرّياً لأنّه يمكن أن تستخدمه السيّدة، وربّما موظّفون آخرون، لرفع دعاوى مضايقات وتحرّش خلال العمل. وأخيراً يحذّر من أنّ هناك قانوناً قد يُقَرّ في ولاية كاليفورنيا يسمح بأن تُرفَع دعاوى حول تحرّشات ومضايقات في العمل حتّى ولو كانت قديمة زمنيّاً. وماذا عن تحقيق شركة المحاماة مع المطران؟ لا شيء. يذكر التقرير بأنّه لم تتمّ مقابلة المطران لأنّه طُلِبَ من الشركة الكفّ عن التحقيق لأنّ المطران استقال. و«يا دار ما دخلك شرّ». شركة المحاماة الفذّة لا تُكمِل التحقيق، ولكنّها تستنتج بأنّ الموضوع مجرّد قيل وقال، وعلى الأرجح أنّ مَن طلب منها التحقيق طلب التوقّف عنه! لدينا كلّ ما من شأنه أن يوحي بأنّ مَن عيّن شركة المحاماة أراد أن تصل إلى ما وصلت إليه: طمر الموضوع بكلّ «شفافية»، زيادة في «الرحمة» تجاه القيادات وفي الذئبيّة تجاه الرعيّة. خريستو المر
الثلاثاء 11 تشرين الأول 2022 (المقالة في الصحف) «متى استعبدتُمُ الناس، وقد ولدتْهُم أمّهاتهم أحراراً»، جملة عمر بن الخطّاب هذه فذَّةٌ ومعروفَةٌ. الحرّية من أسس الوجود الإنسانيّ، وانتزاعُها مِنه محاولة لدفع الإنسان نحو التشييء، نحو التعامل معه كشيء من دون كرامة، كوسيلة وليس كغاية وكقيمة بحدّ ذاته، وتشييء الإنسان ترفضه الفطرة، ولا يمكن قبوله في ظلّ الفلسفة الإنسانيّة أو الإيمان بالله. لا يمكن التقليل من أهمّية الحرّية في العلاقات الإنسانيّة، سواءٌ أكانت فرديّة أم اجتماعيّة. ولهذا لا يمكن إلّا إدانة كلّ قهر وتسلّط، سواء أكان على صعيد العلاقات الفرديّة داخل العائلات، أم العلاقات الاجتماعيّة داخل المجتمعات والدول، سواء أكان القهر توسُّلَ التهديد أم السجن أم التعذيب، كما هو منتشر في ظلّ حكومات القمع في بلادنا. هذه الإدانة يَضرب بها عرضَ الحائط أحزابٌ وكتّابٌ على أساس أنّ هناك أولويّات صراع أخرى «حاليّاً»، ولكنّ هذا مردودٌ، فحقيقة واقع المنطقة أنّها ستبقى في صراع مع إمبراطوريّات الاستغلال طالما بقي البشر أحياء على هذه الأرض. العالم الاستغلاليُّ (أوروبا وأميركا الشماليّة أساساً) الذي يسعى إلى مراكمة الأرباح على حساب حياة البشر وكرامتهم (أفريقيا، بلادنا، فقراء الدول الغنيّة)، صوتُه عالٍ جدّاً في إدانة أنظمة القمع، ولكن في البلدان التي تناوئه فقط، ويصمت إعلاميّاً عن القمع في البلدان الخاضعة لمصالحه، بل هو يمارس قمع الشعوب حين يُنَصِّبُ القامعين والديكتاتوريّين ويدعمهم من أجل استتباب سيطرته، أو حين يضرب بلداناً بأكملها بالعقوبات الاقتصاديّة لكي تخضع لإرادته بحيث لا تتمكّن من تقرير مصيرها بنفسها. العالم الاستغلاليّ يمارس القهر والتسلّط، ولكنّه يخفي ذلك بدخان إعلاميّ ضخم من الكلام على الديموقراطيّة والحرّية اللتين يسمح بممارستهما إلى حدّ ما داخليّاً، ويحاول تقييدهما إن هما ناوأتا مصالح المتموّلين فيه، والتقييد الكبير يكمن في تغييب كامل لفكرة تراكم الثروات بواسطة الاستغلال عن الإعلام، على الأكثر هناك نقاش لمساعدة الفقراء دون تحليل لأسباب الفقر. الحرّية التي نتكلّم عليها هنا هي أساساً حرّيةُ التفكير والتعبير والتصرّف، وبالطبع هي غير مطلقةٍ وإنّما محكومة بقوانين تضبطها تمنع، مثلاً، خطاب الكراهية والعنصريّة... لكنّ ما يغيب عن النقاش والإعلام بشكل شبه مطلق هو حقّ الحرّية من الاستغلال. الإنسان الخاضع للاستغلال لا يحيا بحرّية، هو أساساً إنسان مقهور، غير حرّ بأن يحصل على عمل يؤمّن له الحياة بكرامة، وبالتالي لا يمكنه أن يأكل ويشرب بشكل مناسب، ولا أن يحيا بصحّة جيّدة، ولا أن يسكن في منزل مناسب. ما هي حرّية إنسان يعمل بأجر لا يسمح له بأن يؤمّن غذاءً كافياً لنفسه ولعائلته، ولا يسمح له بتأمين دواء؟ ثمّ إنّ الاستغلال يقهر حتّى حرّية الإنسان في التعبير، فضغط الرأسماليّين أصحاب العمل على العمّال للصمت عن أوضاعهم المزرية معروف، وكذلك ضغطهم لدعم تيّار سياسيّ، وهذا التقييد لحرّية التعبير ناتج أساساً من الخوف من فقدان العمل. قلب الاستغلال هو التحكّم بحياة البشر واحتقارها في سبيل جني الأرباح، هو اعتبار البشر أدوات جني أرباح، كما تدلّ كلمة «مُستخدَمين» التي تعني بوقاحة أنّ العامل وسيلة بيد «المستخدِم». الاستغلال يضرب حرّية الإنسان، ولكنّ الصمت عن ذلك كبيرٌ في بلاد حرّية التعبير، لأنّ الديموقراطيّات الرأسماليّة تريد سكوتاً في الإعلام المتداول حول استغلال الرأسماليّة للناس، وتغذّي حكاية وهميّة عن إمكانيّة الثروة المتاحة لجميع المجتهدين، وعن ضرورة مساعدة «الأقلّ ثراءً»، وهي عبارة محبوكة حبكاً لتخفي الاستغلال وتحيّد الوعي. منذ سنوات ظهر في لبنان، ولأغراض سياسيّة، شعارٌ جميلٌ رفعه سياسيّون منافقون هو «محبّة الحياة». مَن يحبّ الحياة حقّاً يحبّ الإنسان، ومَن يؤمن حقّاً بالله أو بفلسفة إنسانيّة يحبّ الإنسان. المعيار الوحيد لصدق الإيمان بما لا يُرى هو محبّة الإنسان الذي يُرى؛ ولهذا يرفض المؤمن تحويل الإنسان إلى شيءٍ، يرفض أن تُضرَبَ حرّيته، فيقاوم البطش السياسيّ والبطش الاقتصاديّ، ولا يتوانى عن إدانتهما كِلَيْهما. إنّ تشييء الإنسان قائم في التسلّط كما في الاستغلال، لأنّ كليهما يسحقان الإنسان ويتعاملان معه كشيء. لهذا، فمحبّة الحياة تقتضي الدفاع عن الكرامة الإنسانيّة بإدانة ومقاومة ليس التسلّط الخارجيّ فقط، وإنّما الداخليّ أيضاً، وليس التسلّط فقط وإنّما الاستغلال أيضاً. مَن يؤمن بالله أو بفلسفة تقول عن نفسها إنّها إنسانيّة، يحبّ الحياة حقّاً حين يحبّ الإنسان حقّاً، ويسعى إلى تأسيس أنظمة تحترم حرّية التعبير وتسمح بالمشاركة بثروات الأرض، أنظمة تحرّر الإنسان من القهر المادّيّ والمعنويّ، لأنّها لا تسمح بمقاربة الإنسان كوسيلة بل تسعى إلى أن يكون هدفاً، وتُفسحُ مجالاً للإنسان لينمو إلى ملء قامته بحرّية، وأن تتجمّل هذه الأرض بأنوار السماء أو بالمبادئ الكبرى، فتتجلّى عالمَ مشاركة، يؤمن بالحرّية كاملةً. خريستو المرّ
الثلاثاء ٤ تشرين الأوّل / أوكتوبر ٢٠٢٢ (المقالة الأصليّة) مَن يقرأ بطريرك روسيّا كيريل يعلنُ أنّ مَن يدافع عن بلاده ويموت في الحرب «تُمحى خطاياه»، بعد أن أعلن منذ سنوات الناطق الرسميّ باسم الكنسية الروسيّة الأرثوذكسيّة أنّ حرب روسيّا في سوريا هي «حرب مقدّسة»؛ يتساءل عمّا سيؤول إليه الخطاب من تردٍّ إن نشبت حرب عالميّة ثالثة. تاريخيًّا، منذ دخول الامبرطور قسطنطين المسيحيّة، لم تدعُ الكنيسة المسيحيّين إلى ترك الجنديّة أو الحياة العامّة. بقي الأساس العام أنّ «الخلق كلّهم عيال الله» بسبب من أبوّة الله الخالق، وكلّ قتل هو شرّ وهو أيضًا قتل يحدث بين إخوة. الموقف هو أنّه بالرغم من أنّ استفحال الشرّ قد يتطلّب الحرب، وبالتالي القتل، فإنّ القتل بحدّ ذاته يبقى شرًّا ولا يغدو خيرًا بمجرّد الاضطرار إليه؛ أي أنّه شرٌّ لا بدّ منه. ولهذا كانت الكنيسة الأرثوذكسيّة البيزنطيّة تُخضع العائدين من الحرب إلى مسار من التوبة بسبب اضطرارهم إلى القتل في الحرب. من أجل ذلك لم تعرف الأرثوذكسيّة في لاهوتها عبارات مثل «الحرب المقدّسة». لا يوجد في الإنجيل، ولا في تاريخ الكنسية الأرثوذكسيّة، ما يمكن الاستناد إليه للقول بحرب مقدّسة، مهما كانت تلك الحرب ضروريّة ودفاعيّة، فكيف إن لم تكن؟ فالقدّوس الوحيد هو الله الذي تراه المسيحيّة محبّة، وبالتالي لا قداسة خارج المحبّة المتمثّلة بيسوع المسيح الذي مات حرًّا مدافعًا عن مبادئه وشاهدًا للحقّ، ومن أجل ذلك قُتِلَ ولم يَقْتُلْ في موقفٍ يشبه ما ورد في القرآن «لئن بسطتَ إليّ يدك لتقتلني، ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك» (المائدة). لذلك، فالموقف الرسميّ للكنيسة الأرثوذكسيّة بقي أنّ المقتولين من أجل الإيمان وحدهم يُدعون شهداء. أمّا الغفران فهو عمليّة تتمّ بناء على مسار رجوع عن «خطيئة» (والكلمة تعني حرفيًّا: إخطاء الهدف)، رجوع إلى خطّ المحبّة وهدفها. لكنّ البطريرك كيريل، في محاولته دعمَ قومه وموقف بلاده السياسيّ والعسكريّ، وصل إلى حدّ توزيع نوع من صكوك غفران. في ماضٍ سيّء الذكر، كان الباباوات يعطون صكًّا لغفران الخطايا مقابل التبرّع بمبلغ من المال، واليوم البطريرك كيريل يطلب أكثر، يطلب الحياة البشريّة أضحيّةً على مذبح السلطة المدنيّة مقابل صكّ غفران وهميّ. هو يذهب أبعد من بعض باباوات الماضي، باستخدام حياة الإنسان ثمنًا لمفتاح للجنّة ابتكره هو خدمةً للسلطة المدنيّة، وبهذا هو ينقلب على دوره كبطريرك، فدوره أن يشهد لكلام الإنجيل، ولو كان على تعارض مع السلطة المدنيّة ليُبقي على استقلال المجال الإيمانيّ عن المجال السياسيّ ولا يصبح خادمًا في بلاط الدولة ولمصالحها. لدينا من الجانب الآخر البطريرك الأرثوذكسيّ المسكونيّ برثلماوس في إسطنبول، يخدم ما يوافق بلاط الولايات المتّحدة الأمريكيّة، فسرعان ما وافق عام ٢٠١٩ منفردًا، وبطريقة مخالفة للقوانين الكنسيّة، على خلق كيان كنسيّ في أوكرانيا ينفصل عن كنيسة موسكو، أي على شقّ الكنيسة الروسيّة لتصبح كنيستين كلّ في بلد. وكانت الولايات المتّحدة تدفع للانفصال وتدعمه بشكل علنيّ بشخص وزير الخارجيّة الأميركيّ حينها بومبيو الذي كان أوّل وزير خارجيّة أميركيّ يزور خلال ولايته البطريركيّة المسكونيّة. إنّ البطريرك المسكونيّ نصّب نفسه في مخالفة فاضحة للّاهوت الأرثوذكسيّ رئيسًا للعالم الأرثوذكسيّ كلّه، خارقًا بذلك القوانين الكنسيّة التي لا تقبل إعلان استقلال كنيسة جديدة إلّا بموافقة جميع الكنائس. هذا فيما البطريرك الأوكرانيّ المنصّب حديثًا على كنيسة أوكرانيا المنشقّة غارق حتّى أذنيه في لعبة القوميّة الأوكرانيّة والكراهية. الكنيستان المسكونيّة والروسيّة تتصارعان على ترؤّس العالم الأرثوذكسيّ، والكنيستان غارقتان في عبادة قويميّتيهما اليونانيّة والروسيّة، وتعلنان أنّ لغتيهما الصلاتيّتين «مقدّستان». البطريركان يعملان على توظيف الإله في خدمة الموت والحرب، فالبطريركان ضالعان في توظيف الكنيسة لخدمة بلاط السلطة السياسيّة والعسكريّة. الإمبراطوريّة الأميركيّة من جهة والقوميّة الروسيّة من جهة أخرى. كلتاهما تستعملان بلادنا بيادق لمصالحهما، وهما متصالحتان مع الكيان الصهيونيّ، وتدعمانه وترتاحان إليه. هذا فيما بلادنا تضمحلّ، ويستمرّ بطاركة الشرق في ترداد كئيب لخطابات رتيبة باهتة فارغة من الحياة، ويتابعون صمتًا معيبًا عن قمع واستغلال السلطات السياسيّة، مطبّعين مع الظلم ومتطبّعين به، مقابل التمتّع بالسلطة الكنسيّة والانشغال بمهمّات «كبرى» مثل وضع الأسقف المطيع في المكان المناسب للسلطة الدينيّة، وحماية السياسيّين والمرتكبين من مطارنة وكهنة ورهبان، في رقصة دينيّة-سياسيّة همجيّة فوق أشلاء الأوطان والناس. كلّ هذا يتمّ في كنيسة مات سيّدها الوحيد، في عري الفقراء والمهمّشين، خارج أسوار السلطة، وعاش في خدمة الفقراء، وعلّم أنّ السيادة بالخدمة لا بالتسلّط، وأنّ الذين يدعون أبناء الله هم صانعو السلام. |
الكاتبخريستو المر الأرشيف
December 2023
Categories |