الثلاثاء ٢٥ شباط/فبراير ٢٠٢٠
يؤمن المسيحيّون وتؤمن المسيحيّات أن المسيح صُلِبَ وقام، ويستعيدون ويستعدنَ عيشَ حدث النصر كلّ عام محيّين بعضهم بعضا على حسب عادة قديمة بعبارة «المسيح قام»، ويردّ السامع والسامعة «حقّا قام». السؤال الكبير - وهو السؤال نفسه في كلّ عقيدة إيمانيّة - هو كيف يمكن أن يجسّد الإنسان إيمانه في حياته اليوميّة؟ أن يكون المسيح مات وقام يحمل في ذاته معنى هائلاً ألا وهو أنّ الانتصار على الموت الذي حدث على الصليب هو إعلانٌ بأنّ النصر النهائيّ في هذا العالم هو للحياة والعدل والفرح، أنّ الكلمة الأخيرة في هذا العالم هي للحياة وليس للموت، هي لربّ الحياة الذي انتصر على الصليب؛ وأنّ هذا النصر قد بدأ. بهكذا توجّه إيمانيّ، يواجه الإنسان أوقات الجحيم التي في هذا العالم، وما أكثرها، بشجاعةٍ وبتصميم، وليس بانتظار باهت أو تخاذل؛ فربّ الحياة لم يقل أنا أنتصر وأنتم تستكينون، بل طلب من أتباعه أن يعملوا معه، أن ينشروا معه الخبر السار؛ وقد فهم بولس هذا الكلام فكتب "أنّنا عاملون مع الله". إذا، انتصار المسيح على الصليب ليس مدعاة للفتور، وإنّما إعلان عن تدشين ملكوت النصر على الموت وعلى أشكال الموت المختلفة في هذا العالم؛ إعلانٌ هو بمثابة دعوة لكي يضع أتباعه، وكلّ مخلص، أيديهم معه في ورشة تجديد العالم ليتجلّى عالم حياة ومشاركة وفرح. هذا التجديد، بالطبع، لا يتمّ إلاّ عبر مواجهات مع قوى الموت في هذا العالم، وهو ما فعله يسوع خلال مسيرته بيننا. هذا يعني أنّ الإنسان المؤمن بأنّ المسيح حقّا قام، يواجه بصلابة وتصميم وإيمان لا يتزعزع ويساهم في ورشة النصر على الموت حتّى عندما يبدو كلّ شيء مظلمًا ولا فائدة منه ولا أمل فيه، حتّى عندما تحملق فيه الهزيمة أمام قوى الموت، لأنّه يعلم أنّ ما هذا كلّه إلاّ مرحلةٌ في الصراع مع قوى الموت، المهزومة أصلا بكونها لا «تحيا»، ولأنّه يعلم بأنّ الكلمة الأخيرة في هذا العالم هي ليسوع المسيح «الغالب»: أي للحياة. الإيمان بيسوع المسيح قائما من الموت هو دعوة إلى الرجاء أي إلى متابعة المسيرة مهما حدث، لأنّ الإيمان لا يتطلّب رؤية موضوع الإيمان حاصلا اليوم، هو إيمان وليس مشاهدة، هو عيش، هو طريقة حياة. غير المؤمنين بإله لا يعيشون دون إيمان، هم يومنون بفكرة: تحرير الإنسان من الظلم مثلاً، وهم يعملون لا انطلاقا من مُشاهدة إيمانهم محقّقًا ولكن بالضبط انطلاقا من كونه غير محقّق، من إيمانهم بأنّ تحقيق الهدف ضروريّ حتّى التنفّس، وعند البعض حتّى الموت. هم أيضا مشاركون في نصر المسيح على الموت إن كان هدفهم تحرير الإنسان وكرامته وفرحه. أمّا المؤمنون بالمال والسلطة فلا نصيب لهم مع يسوع لأنّ قلوبهم مغلقة، فأهدافهم هي استخدام الآخرين لا خدمتهم. الإيمان بيسوع المسيح قائمًا من الموت هو دعوة إلى الرجاء حيث لا أمل، ودعوة إلى الشجاعة، إلى مواجهة مع قوى الموت لا تتهاون، وهو أيضًا دعوة إلى تسمية الأشياء بأسمائها أمام الطغاة، فيسوع تكلّم كلاما واضحا أمام المستغلّين والطغاة الدينيّين والسياسيين، قال بوضوح لبعض الناس أنّهم لصوص عندما قلب موائد الصيارفة، قال لرجال اللاهوت والدين أنّهم كالقبور الجميلة من الخارج والتي حقيقتها الداخليّة موت، نعتهم بأنّهم «أولاد الأفاعي»... يسوع كان لطيفًا ووديعًا أمام الضعفاء لم يكن كذلك أمام الطغاة والمستغلّين. منه نتعلّم. المسيح قام فليكن سجودنا لقيامته عملاً يوميّا لا يكلّ، شجاع، يرجو حيث لا أمل، ويؤمن إيمانًا يحرّكنا لنشارك المسيح في ورشة تجديد الكون وتحويله إلى مكان حياة وفرح ومشاركة، بشجاعة أمام قوى الموت، ناطقين بالحقّ وعاملين به مع جميع عاملات وعمّال الحياة في ملكوت يسوع، الملكوت البادئ منذ اليوم في حياتنا بأبعادها جميعا، ومنها البعد الوطنيّ. خريستو المرّ في ساحة فرنسيس الأسيزي وهي من الأقدم في مدينة هافانا (١٦٢٨)، والواقعة أمام دير باسم القدّيس الكاثوليكي الذي التصق بالفقراء والطبيعة (١١٨١)، كانت تجري بكلّ سلاسة في الزمن الغابر تجارةَ العبيد.
يتساءل المرء ألم تُثِر تجارةٌ حوّلت الناس إلى بضاعة، ثائرةَ رهبانِ دير القدّيسِ الرقيقِ والصلبِ فرنسيس؟ لا أحد يمكنه أن يعلم ذلك، ولكنّنا نعلم انّ الكنيسة الرسميّة لم يُثرها موضوع العبوديّة كثيرًا عبر التاريخ، وسوّغت للعبدويّة فكريّا باستخدامها لأقوال من بولس الرسول الذي دعا العبيد في زمنه إلى طاعة سادتهم وأن يعملوا بضمير (أفسس ٦: ٥)، ونعلم أنّها استفادت ماليًّا من تجارة العبيد، الموضوع ليس وقفا على الكاثوليك أو البروتستانت، فالدولة البيزنطيّة استخدمت العبيد والكنيسة البيزنطيّة سنّت قوانين ذَكَرَتْهُم فيها، ممّا يعني أنّها قبلت وضعهم ولم ترفض وجوده. إن وضعنا الأمور في إطارها الحقيقيّ، نفهم أنّ الفكر المسيحيّ لبولس الرسول أو غيره، كان ابن زمنه في أمور كثيرة، تمامًا كما كان فكر أفلاطون الذين لم يدعُ إلى إلغاء العبوديّة ولم يرَ مساواةً بين الرجل والمرأة في جمهوريّته الفاضلة. لم تعِ البشريّة أنّ الأوضاع هي وليدة ظروف مادّية اقتصاديّة وسياسيّة واجتماعيّة إلاّ مع أشخاصٍ، أمثال كارل ماركس، الذي ندين له جميعا، فهمنا للعالم اليوم. ومَن تطهّر بحبّ الله، فصار يعلم، قَبل أن يموت، أنّ الحياة هي بالحبّ، يعلم أنّ الماركسيّة في ما سَعَت إليه من مشاركة وحرّية فيها شيءٌ من المسيح، وتذهب مذهب قدّيسين كالذهبي الفم وباسيليوس الكبير. كان بولس الرسول وغيره يرون أنّ ما يحدث على الأرض هو الموجود، ولا يمكن تبديله لأنّه لا بدّ وليد إرادة «إلهيّة»، وأنّ أفضل ما يمكنه أن يفعله الإنسان هو أن يدعو إلى المساواة في التعامل بين الناس مهما كان وضعهم. لهذا، بعد دعوة بولس للعبيد أن يطيعوا «سادتهم» وأن يعملوا بضمير، دعا «السادة» في الآية ٩ من الرسالة نفسها "وأنتم أيّها السّادة، افعلوا لهم [أي للعبيد] هذِهِ الأُمُورَ [الخير الذي طلبته من العبيد]، تاركين التّهديد، عالمين أنّ سيّدكم أنتم أَيْضًا فِي السماوات، وليس عنده مُحاباة"، أي هو لن يعاملكم بطريقة أخرى غيرَ بقيّة الناس فقط لأنّكم أصحاب مراكز. هذا القول ثوريّ في بيئة ذلك الزمن، فهو يرى الجميع متساوين أمام الله في ضرورة عمل الخير مع الآخر، رغم توزيع الأدوار الذي يفترض أنّه منسجم مع «إرادة إلهيّة». وثوريّة بولس تبدو بوضوح في مكان آخر فإنّه "ليس عبد ولا حرّ، وليس ذكر ولا أنثى، لأنّكم جميعا واحد في المسيح" (غلاطية ٣: ٨)، هذه نظرة خارقة في بيئة ذلك الزمن، فحتّى في زماننا، ملايين من المسيحيين لا يقبلون كلامًا كهذا. طبعا نحن نظنّ أنفسنا في وضع أفضل من بولس الرسول ورهبان دير ساحة فرنسيس (على افتراض أنّهم تصالحوا مع فكرة بيع العبيد) فنحن في القرن الواحد والعشرين والكنائس تغسل يديها من دماء العبيد التي سالت في أكثر من قارة ومنها الدول العربيّة. ولكنّني أعتقد أنّ ذلك غير صحيح، أنّنا نبرّئ أنفسنا بعجلة. نعم أعلم أنّ هناك رقيقٌ اليوم أيضا، حيث تخطف عصابات نساءً من ذويهم لتبيعهنّ ليتحوّلن لبيع أجسادهنّ تحت التهديد والتعذيب، هذا تدينه الحكومات والناس والكنائس. وأعلم أنّ هناك عبوديّة معاصرة في المنازل في بلادنا وتدينها المنظّمات الأهليّة بينما يستفيد منها المسيحيّون (والمسلمون) والكنائس الرسميّة (والمؤسّسات الإسلاميّة) باستخدامهم العمّال والعاملات الأجنبيّات العاملين والعاملات تحت نظام الرقّ المعاصر الذي ندعوه نظام كفالة. هذا نظام رقّ معاصر أتمنّى أن ينهار مع هذه الأزمة الماليّة في لبنان. ولكن هناك أيضا وأساسا نظام الرقّ الذي لا تراه الكنيسة الرسميّة إطلاقا لا بل وترعاه، هو نظام الرقّ الذي استعبد شعبا بأكمله (ما عدا طبقة الواحد بالمائة) خلال عشرات السنين وجعله يعمل بشكل عبوديّ لكي تُراكِمَ طبقةُ الواحد بالمائة من مصرفيّين وسياسيّين ورجال أعمال، ثروات واسعة وحشيّة - وحشيّة لأنّها مغمّسة بعرق وبدم المواطنين الذي يقتلون أمام أبواب المستشفيات، وببطء في بيوتهم، ببثّ هواءٍ ملوَّثٍ لتسميمهم، وبإعطائهم أدوية مزوّرة، وبمنع التغذية عنهم، وبتيئيسهم وإفقارهم وطردهم من بلادهم للعمل في الخارج... نظام الرقّ في لبنان يدعوه كهّانُهُ وتجّارُهُ "المبادرة الفرديّة" و"النظام الاقتصاديّ الحر"، ولا يراه معظم المسيحيّون والمسيحيّات، ولا تراه الكنائس ومسؤولوها الرسميّين المشغولين بـ«إتيكيت» التظاهرات وإخماد همّة الناس، على أنّه نظام عبوديّة. ولهذا يتابع نظام العبوديّة اللبنانيّ هذا، بيعَ الناس وجُهدِهم العضليّ والفكريّ، وعرقِهم، وآمالهم، وأحلامهم، في ساحاتِ المصارف والسياسيّين، أمام الأديرة والكنائس والجوامع، دون أن تنبسّ للكنائس شفةٍ ضدّهُ، لقلّة وعيٍ أو لجُبنٍ أو لإفادة. لا نستعجلنّ ونبرّئ أنفسنا اليوم من دعم العبوديّة والسكوت عنها. وحده ووحدها - وأنا واعٍ صعوبةَ ما أقول - مَنْ يدعون النظام اللبنانيّ القائم بأنّه نظام عبوديّ، ويدينونه لأنّه عبوديّ، ويرفضونه لأنّه عبوديّ، ويدعون لتغييره إلى نظام يحرّر الناس، جميع الناس، من العبوديّة الاقتصاديّة والسياسيّة، يمكنهم أن يكونوا منسجمين مع رسالة التحرير التي أتى بها يسوع، ومع كلام بولس أنّ "الجميع واحد في المسيح"، ويمكنهم أن يحموا دماءهم ودماء أطفالهم من العبوديّة، ويغسلوا بالفعل أيديهم من الدم الذي يسفكه هذا النظام ويسكر به مَن ظنّوا أنفسهم «أسياد» مالٍ وسياسةٍ ودينٍ إذ أسكرتهم رائحة الدم، ككلّ متوحّش حقيقيّ فَقَدَ الإحساس. خريستو المرّ (الصورة ساحة فرنيسيس الأسيزي - هافانا) الخميس ٦ شباط/فبراير ٢٠٢٠
ضربوه وبصقوا عليه وشتموه وجرّحوه وعيّروه أنّه غريب. فعلوا ذلك كلّه بيسوع منذ ألفي عام وفعلوا ذلك بيسوع مجدّدا البارحة في جونيه، وفعلوا ذلك به وما زالوا يفعلون في سوريا والعراق ولبنان وفلسطين ومصر وتونس والجزائر والبحرين والسعودية واليمن وليبيا، وغيرها من البلدان، كلّما ضربوا وعذّبوا وشتموا وجرّحوا وعيّروا إنسانًا، وكلّما ظلموا وغرّبوا وهجّروا وجهًا. كيف يمكن لإنسان أن يُضرب و/أو يُذلّ إنسان؟ هذا أمر وحشيّ وحشيّ. وكم هي نذالة إنسان يمارس هكذا وحشيّة وهو يتنكّر بلقب «مسيحيّ» أو «مسيحيّة»، وهو يتسمّى بالناصريّ زورًا وبُهتانًا! كلّ الذين يضربون ويذلّون ويهمّشون ويقهرون ويظلمون إنسانًا هم يفعلون ذلك بيسوع شخصيَّا. والأنجسُ بين هؤلاء المتوحّشين هم مَن تسمّوا على اسم المسيح. «لو كنتم عميانا لما كان عليكم خطيئة. ولكنكم تقولون الآن: إننا نبصر فخطيئتكم ثابتة». والمسيح قال بوضوح ودون مواربة أو مدعاة لسوء فهم: أنا والمهمّشين واحد، كلّ سوء فعلتموه بهؤلاء بي فعلتموه، وكلّ خير فعلتموه بهؤلاء فبي فعلتموه، وكلّ خير كان باستطاعتكم أن تفعلوه لهؤلاء ولم تفعلوه فبي لم تفعلوه: إنّ أفعالكم واحجامكم عن الفعل سيفرزكم منذ اليوم إمّا من عداد متذوّقي الملكوت أو متذوّقي الجحيم. هل من الضروري تسمية الأحزاب التي تنكّرت بالمسيحيّة لترتكب مجازر وتنكّل وتنهب في الحرب وبعد الحرب؟ إنّ أيّ تخفيف لفداحة ارتكابات أحزاب سياسيّة وقيادات سياسيّة، باسم ضرورة التكتّل الطائفيّ، وباسم العصبيّة الطائفيّة، هو ذهاب إلى ما يناهض الإنجيل ورسالة يسوع المسيح، هو السير في موكبٍ يعلّق يسوع على الصليب. الفاشيّة لا تأتي مرّة واحدة، الجريمة لا تظهر بغتة. إنّها تتسرّب قليلاً قليلاً في ممارسات «صغيرة»، «هامشيّة» ليست بذي «شأن»، ممارسات يساوم فيها المرء مع احتجاج ضميره، إلى أن ينتهي بأن يخدّره أمام الممارسات «الكبيرة» متحجّجًا بأسباب «استثنائيّة» تهدّد «الوجود» الذي يدعى زورا بالـ«وجود المسيحي» (أو «الإسلامي» لا فرق). يكون الوجود مسيحيّا فعلاً عندما يتحوّل المجتمع إلى مجتمع عدالة للجميع، إلى مجتمع مساواة وإخاء وشيء ابتكره المسيحيّون الأوائل يُدعى مشاركة، أي بلغة اليوم يُدعى عدالة اجتماعيّة: كلّ بحسب ما يحتاج وليس بحسب ما يعمل. الإنجيل يُخبر - وليس مرتزقة الاقتصاد الحرّ المتنكّرين بالأديان والعلوم - ويقول عن المسيحيين الأوائل أنّ «كلّ شيء كان مشتركا بينهم». هذا الابتكار هو ترجمةٌ لمحبّةِ المسيحيين ليسوع، في الاجتماع والسياسة والاقتصاد، إنّها ترجمةٌ تقصد بناء مجتمع مشاركة لا مجتمع أخذ ونهب وسلب و«شطارة؛ ترجمةٌ تريد بناء مجتمع الأنا والأنت، مجتمع الـ«نحن» وليس مجتمع الـ«أنا» المغلقة على نفسها. القيادات السياسيّة والأحزاب المتنكّرة بالمسيحيّة في بلادنا تخون المسيح كلّ يوم وكلّ ساعة وهي تلغو باسمه وتتقيّأ عنصريّة وتعصّبا وكذبا ونفاقا، مع الثورة وضدّها. ويتحالف معها القيادات الدينيّة المتنكّرة بالمسيحيّة والتي تتقيّأ مسرحيّات الكياسة واللياقة وتضجّ بممارسات القمع والحسد والخساسة. إنّ تناضح الذهنيّة السلطويّة بين المدى السياسيّ والكنسيّ ليس صدفة؛ بُنى الظلم والاستبداد لا تنتج سوى عبيد يرغبون باستعباد غيرهم. كتب مرّة راهب عميق في القرن الرابع هو أيفاغريوس "بعد الله، علينا أن نعتبر كلّ إنسان على أنّه الله نفسه"، وفي القرن الثالث ذكر آخر هو أقليمس الاسكندري «عندما تبصر أخاك تبصر إلهك»، هذا تراث لا يمكن أن يقتله أيّ نظام ولا أيّ حزب ولا أيّ سياسيّ. كلّ اعتداء جسديّ أو نفسيّ على ضعيف هو اعتداء على الله نفسه، الاعتداء البارحة في جونيه هو اعتداء على المسيح نفسه، وكلّ اعتداء على إنسان لا قوّة له هو اعتداء على يسوع. لقد رأينا هكذا اعتداءات من قبل وسنسهر كي لا نُسكِتَ احتجاجات ضميرنا، كي لا نتصالح مع هكذا أفعال من أيّة جهة أتت، خاصّة إن كانت تتنكّر بالمسيحيّة. كم هو حقير أن يسوّغ الإنسان لنفسه ولجماعته السياسيّة أو الدينيّة أو الوطنيّة كلّ شيء باسم مطلق أيّ شعار، مُستعبِداً نفسه لمشاعر بدائيّة تدفعه لتكتّل عصبيّ، يستقيل فيه من عقله. كلّ شعار يسقط أمام المسّ بالضعيف. الاثنين ٤ شباط/فبراير ٢٠٢٠
يكاد يكون التواصل معدوما بين الناس إن كانوا على ضفّتين مختلفتين في أيّ مجال، وخاصّة السياسيّ. الآخر هو «العدوّ». الوضع أصبح أكثر حدّة عندما تصاعدت الانتفاضة الشعبيّة. وقد نال الذين التحقوا بالقيادات الطائفيّة للبلاد أبشع النعوت. ولا شكّ أنّهم مسؤولون عن سياسات النهب بدعمهم لهؤلاء. فالسياسيّون لا يمكنهم متابعة النهب إلا لسكوت الناس وتشجيع بعضهم الضمنيّ وتزلّفهم، وأبشع اتزلّف تزلّف مجموعات المرتزقة، أصحاب الشهادات الجامعيّة والدكاترة، المستعدّون والمستعدّات أن يبيعوا ويبعن نفوسهم ونفوسهنّ في خدمة السياسيين الفاسدين، وهم سعيدون وسعيدات بالقرب منهم، وبالألقاب، وبالسلطة الوهميّة التي حصلوا عليها. المهمّ عندهم دخول تاريخ البلاد، ولو كان من الباب غير المشرّف. لا شكّ أنّ الانتخابات الأخيرة كانت كارثيّة حيث انتخب الناس الزعماء أنفسهم الذين نهبوهم، ولم يعوا أنّ البلاد تنهار إذ صدّقوا من «قتلوا الناس في الحرب الأهليّة، ثمّ طمأنوهم أنّهم لن يقتلوا مجدّدا شرط أن ينهبوهم؛ أي تمّ السطو تحت التهديد بالقتل، ودعوا ذلك سلام» على حدّ قول مثقّفة. لكن لا يمكن تأسيس ثورة بناء على العقل والوعي إلاّ إذا توفّرت ظروف أخرى كأن يشعر الناس بأنّ حياتهم وحياة أولادهم باتت في خطر، أو بأنّهم لن يرضوا دوس كرامتهم بعد الآن مقابل فتات حقوقهم. حتّى يصل يوم الانفجار الشعبيّ الكبير، وهو سيصل، هناك حوار ضروريّ بين الناس. من المفضّل أن يمتنع الإنسان عن نعت الناس المختلفين عنه بنعوت كالـ«غنم» وغير ذلك، فالناس تلحق بالزعيم لأنّها تريد أن تعيش، ومعظم الناس -متعلّمين أم أمّيين- لا يريدون أن يدفع ثمن الحرّية من الزعيم، يرضون بالفتات لأنّهم لا يرون طريقا آخر ممكنا. دلّي الآخر على الطريق الممكن الآخر أفضل من أن تضعي نصب عينيه عبوديّته. قد تكسبينه وقد لا تكسبينه ولكن على الأقلّ تتركي الطريق مفتوحة. الأمر الآخر الممكن، هو الفصل بين الموقف السياسي للشخص وبين الشخص نفسه، قد يكون الموقف السياسيّ الكارثيّ (وهو كارثيّ إن كان تبعيّا لأنّه شجّع ويشجّع السياسيّين على النصب والنهب والقتل) وليد المخاوف والإحباطات والاستسلام، وقد يكون نتيجة نظام وتربية جعلتا الإنسان ذليلاً ودعتا المذلّة «إخلاصا». طبعا بالنسبة للبعض قد تكون نتيجة استفادته المادّية الشخصيّة من الزعيم (الوظيفة أو الحماية من خطر)، ولكنّها أيضا قد تكون نتيجة استفادة معنويّة (الشعور بالكرامة مثلاً)، ولا يهمّ إن كانت الاستفادة حقيقيّة أو متخيّلة، فالنتيجة واحدة: استقالة للفكر الشخصيّ والتبعية العمياء للجماعة والقائد. دلّي الآخر على طريق أخرى أفضل لاكتساب الكرامة والحماية. أمّا اكتساب الرزق فصعب تركه مقابل شيء سيأتي لاحقا، لا يوجد سوى الانهيار المادّي لقدرة السياسيّين على توزيع الفتات قادر على كسر سلاسل «الإخلاص». يكاد يكون من المستحيل تغيير عقول الناس عن طريق الجدال الفكريّ معهم. في حالة المواقف المتضاربة، تدلّ الأبحاث أنّه عادة ما يكون لدى الإنسان شعور مبرم حول موضوع سابق لأيّ قول، ولا يأتي الكلام إلاّ لتثبيت الموقف المسبق. الطريق الأفضل للحوار، هو خلق الروابط والعلاقات الشخصيّة، فأقرب طريق للوصول إلى العقل هو القلب. تدلّ الأبحاث أنّ التعارف الشخصيّ، يجعل الآخرين مألوفون وبالتالي يخفّف من العدائيّة، فصداقة الأشخاص المختلفين معهم بالرأي تجعل الخلاف أقلّ حدّة لأنّها مرشّحة أن تضع عليه وجها انسانيّا. بعدها من الصعوبة بمكان نعت مجموعة بأبشع الصفات، فصديقتك وصديقك منهم، وأنت تعرفين وأنت تعرف أنّك تختلفين وتختلف عنهما بالرأي ولكنّهما ليسا خارج الإنسانيّة. ولربّما الخطوة الأولى لفتح طريق القلوب والعقول هو بدء أيّ حديث بالاعتراف بالخشبة التي في عين فريقك، قبل التوجّه لنقد القشّة أو الغابة التي في عين الفريق الآخر. يتكلّم الإنسان مع بعضهم وبعضهنّ، ويظنّ نفسه أمام نشرة الأخبار الفلانيّة: انعدام أيّ حسّ نقديّ وتفكير ذاتي ونقد للفريق الذاتيّ. أخيراً، ينصح الباحث في علم النفس الاجتماعيّ جوناثان هايت في بدء أيّ حوار، أن يبدأ الإنسان بذكر بعض الأمور الإيجابيّة في الفريق الآخر، حتّى ولو كان أمرا واحدا. مثلاً، أنا مقتنع أنّ الآخر الذي استغنى عن حرّيته هو انسان شريف يحاول أن يكسب حياته ويهتمّ بأولاده، ولكنّه لم يجد طريقا آخر غير الذي يعرفه: الاسترزاق من موائد المتنفّذين. بالطبع من يعتدون على الناس يجب أن يعاقبوا عقابا مناسبا لأفعالهم الشنيعة، ولكن حتّى هؤلاء ليسوا سوى أناس أذلّهم النظام السياسيّ اللبنانيّ واستخدمهم كأدوات قمع، كأشياء، هذا النظام المجرم الذي ينهب ويقهر ويستعبد، والذي قسّم الناس مجموعات عصبيّة في طوائف، فلم يتمكّنوا من أن ينظروا إلى أنفسهنّ وأنفسهم كمواطنات ومواطنين في دولة. تغيير النظام واجب يراه كلّ ذي عقل، ولكنّ العقل معطّل عند البعض، ويجب احتمال ذلك وبلوغ العقل من خلال القلب، وكذلك من خلال النضال الذي يدلّ الآخر أنّ طريقا آخر ممكنٌ خارج خطى النهاب الطائفيّ، إلى أن يكتمل الموعد مع ثورة كاملة، ويمدّ الناس أضلعهم ليؤسّسوا تاريخا جديدا، في شرق جديد، كما اشتهى الشاعر خليل حاوي. |
الكاتبخريستو المر الأرشيف
December 2023
Categories |