الثلاثاء 27 تشرين أوّل/أكتوبر 2020
خريستو المرّ نسبة المواطنات المعنّفات في بلاد الثماني عشر طائفة المعترف بها هي بين 35% و40%، مع نسب من العنف غير الجسديّ تصل إلى 49% (إحصاءات 2019). أي بين كلّ 10 فتيات أو نساء تلتقي وتلتقين بهنّ هناك 4 تعرّضن للتعنيف الجسدي، وخمسة تعرّضن لعنف نفسي و/أو جنسيّ و/أو نفسيّ. ولا تشير الاحصاءات المتوفّرة إلى فارق بين الأديان في نسب العنف. على حدّ علمي، ما من برنامج تربويّ أو برنامج دعم واحد في أيّة مؤسسة كنسيّة (أو إسلاميّة) من أيّ نوع يتحدّث عن تعنيف النساء ولا بالطبع عن التحرّش الجنسيّ وهو منتشر في المجتمع والكنيسة. ولكن كيف ستقوم هكذا مؤسّسات بإدراج تعنيف النساء في برامجهنّ ومعظم القائمين الأساس في الهيئات العليا لتلك المؤسّسات هم رجال؟ لا شكّ أنّ الأرقام لا تختلف كثيرا في سوريا والأردن والعراق. كلّ هذا كان قبل أزمة كورونا، ومن المعروف أنّه بعد أزمة كورونا تزايدت حالات العنف ضدّ المرأة حول العالم بسبب الحجز المنزلي. العاملات الأجنبيّات يعملن كالعبيد في سوق نخاسة عصريّ يسمّى "مكاتب الاستقدام". مؤخّرا في لبنان، عَمِلَ "المؤمنون" و"المؤمنات" المسيحيون والمسلمون والمسيحيات والمسلمات الأعضاء والعضوات في سوق النخاسة المسمّى "نقابة أصحاب مكاتب الاستقدام"، وفي وحدة وطنيّة قلّ نظيرها، على تجميد العمل بـ "عقد العمل الموحّد" الذي كان يرمي إلى تحويل سوق النخاسة العصريّ إلى شيء شبيه بسوق العمل وذلك بإضفاء قليل من شروط المعاملة الإنسانيّة والعدالة إلى عقد العمل. فقد اعترض هؤلاء المؤمنين وأولئك المؤمنات على تحديد قيمة الأجر بما لا يقل عن الحد الأدنى للأجور (يا للهول)، وتحديد ماهيّة العمل، والعطل، والإجازات السنويّة، وحقّ العاملات والعمّال بحيازة أوراقهما الثبوتية التي عادة ما تُصادر من قبل المؤمنين والمؤمنات الذين يستقدمون العاملات والعمّال ليصبحوا أشبه بالسجناء. أي أنّ اعتراضهم كان حول اعتبار العاملات والعاملين المستقدمين بشرًا مساوين في الكرامة، فمن من المعترضين والمعترضات يرضى أن يعامله أحد في بلد آخر بنفس الطريقة التي يعامِل وتعامِل بها عاملا أجنبيّا في لبنان؟ بالطبع الملاحظة نفسها تنسحب على كلّ البلاد العربيّة، "المؤمنة" بدورها. كلّ هذا ونحن مرتاحون إلى صلواتنا وعقائدنا، لا همّ لنا إلاّ أن نصل إلى قُدُساتنا التي منعتنا عنها كورونا، وألاّ يهين أحد معتقداتنا المقدّسة لا في مسرحيّة ولا في كاريكاتور، حتّى ليبدو للمتفكّر في شؤون مجتمعاتنا وشجونها أنّ الأشياء والأفكار عندنا مقدسّة أكثر من الإنسان نفسه هو لبّ الخليقة وغاية الوصايا والمقدّسات. لكن كعادتنا في نفاقنا الدينيّ (الذي لا علاقة له بالإيمان في شيء) تصبح الوسائل أهمّ من الغاية. فما همّنا النساء إن كان التراتيل رخيمة، ثمّ إنّنا "نترك" النساء يرتّلن في القدّاس (بالفعل "تقدّميتنا" لا حدود لها)، وأما ما يجري في المجتمع، أي في البيوت وفي العمل وفي المؤسّسات، فليس شأننا، هو شأن "العائلة" و"الدولة"، كأنّ العائلة والدولة كائنان أسطوريّان ليسا مُكوَّنين من مجموع هؤلاء المؤمنين الذين يضربون ويهينون ويتحرّشون ويعتدون ويسحلون وأحيانًا يقتلون. لو كان المؤمنون والمؤمنات بالفعل يفهمون مهمّتهم في هذا العالم لفهموا أنّهم مسؤولون ومسؤولات عمّا يحدث في محيطهم اوّلاً قبل محيط الدول البعيدة (دون أن يلغي هذا ذاك)، وأنّهم بالتالي مسؤولون عن مواجهة أنفسهم وخرابهم وخطاياهم واستهتارهم ونفاقهم قبل مواجهة تلك التي في الآخرين. والمؤمنات بشكل خاصّ مسؤولات عن أنفسهنّ، فالقبول بالذلّ وبالإهانة والعنف ليس من محبّة الآخر بشيء وليس من محبّة الذات بشيء. هذه تبريرات المعتدي والمتماهين والمتماهيات مع المعتدي. يسوع سأل أتباعه أن يهتمّوا به في الضعفاء، وبولس ذكّرنا أنّنا عاملون مع الله: الملكوت ليس هو "مكان" لاحق أو أمر مُرجأ إلى ما بعد الزمان، هو هنا والآن في هذه الأرض حين نحوّلها مع الروح الذي يحتضننا ويحتضن هذا العالم إلى شبكة علاقات محبّة وبُنى محبّة. في لبنان وسوريا ومنطقتنا الناس-الكنيسة مسؤولون أن يكونون ملح هذه الأرض بالذات، أن يبادروا في مواجهة خطاياهم؛ وللقيادات الكنسيّة والحركات الشبابيّة أن تكون قياديّة في إعادة النظر في برامجها التربويّة، وفي فتح ورشات عمل بالتعاون مع المؤسّسات المختصّة في المجتمع لفتح ملفّات الجرائم التي ترتكب في وسطها ووسط المجتمع، للخروج من الوضع الحاليّ المسكوت عنه. الإنسان مسؤول عن المجتمع وليس فقط عن عائلته. من مسؤوليّة المسيحيات والمسيحيين الإيمانيّة أن يعملوا مع الجميع على مشاكل "الأرض" بالضبط لأنّهم مهتمّون بـ"السماء". خريستو المرّ
٢٠ تشرين أوّل /أكتوبر ٢٠٢٠ من قِصَر النظر أن يظنّ إنسانٌ أنّ شهادة مكتوبة حول نقطة ما في الحياة ستُحدِثُ تغييرًا جذريًّا في واقع العلاقات بين البشر. العلاقات بين البشر لا تَحدث في فراغ وإنّما من خلال بُنى كالعائلة، والمدرسة، والكنيسة؛ وتغيير طبيعة هذه العلاقات لا يحدث إلاّ بتغيير البُنى التي تحكمها، وهو ما لا يحدث فجأة بل بشكل بطيء وبجهود متلاحقة لعدد واسع من الناس. هذا لا يعني أنّ الكتابة كتعبير عن الفكر (أكان الفكر إيمانيّا أم لا) لا مكان لها في تغيير واقع العلاقات البشريّة. الكتابة فعل. الأفكار تؤثّر في الوعي، والوعي إن احتضنته جماعة يمكنه أن يتحوّل إلى خطط وأعمال، وهذا هو المطلوب في النهاية. لكن دون وعي لا يمكن لأيّ فعل هادف أن يتكوّن. ولكن نتائج الوعي والمعرفة (حتّى في العلوم) لا تُطَبَّقُ إلاّ في حالتين: إن كان هناك منفعة مادّية-ماليّة لمؤسّسة (شركة، حكومة)، أو إن انطلقت مجموعة واسعة من الناس لتضغط وتناضل باتّجاه تغيير الواقع. الناس في القرن التاسع عشر كانت تعمل ٦ أيّام في الأسبوع، وكانت عمالة الأطفال رائجة، وساعات العمل تصل إلى ١٨ ساعة يوميّا؛ لم تأتِ قوانين العمل الحالية نتيجة صدفة بل بسبب كتابات، ثمّ نضال طويل لحركات نقابيّة وأحزاب في صراع مرير، وكلّ ذلك مبنيّ على أرضيّة من الحرّية الفكريّة والسياسيّة التي تسمح بالنشر وبالعمل السياسيّ. قِسْ وقيسي على ذلك قوانين تحمي المعوّقين وحرّيتهم (المجتمع كان يعزل المعوقين ويضعهم في مؤسّسات خاصّة)، وتحمي النساء والأطفال من العنف. لم تُسّنّ هذه القوانين في المجتمعات بسبب بعد نظر إنسانيّ خاصّ بالحكومات، وإنّما لأنّ هذه الحقوق انتُزِعَت (ولا تزال تُنتَزَع حتّى اليوم) انتزاعًا من خلال ضغط مجموعات مختلفة. في هذا العالم، تغيير الأنظمة والبُنى يتمّ من خلال الضغط على المستفيدين منها، وليس من خلال الكلمة الحسنة المتوجّهة لهم، النقاش يتمّ لنشر الوعي وتأسيس الرأي العام الضاغط (أو بالعكس لتغييب الوعي، وبروز مصرفيّين على شاشات التلفزة اليوم هو من باب تغييب الوعي). بالضغط وليس بالإقناع تتغيّر البُنى، كلّ إنسان واعٍ يعلم أنّه مهما وعظت المصرفيّين والسياسيين عن الله والأنبياء والأخلاق سيتابعون نهبهم للناس. الأمر كذلك داخل المؤسّسات الكنسيّة (والدينيّة عامّة)، هناك مستفيدون من الوضع القائم ماليّا وسلطويّا، ولن يأبهوا لا لتذكيرهم بيسوع ولا بنبيّ ولا بكتاب، ولا حتّى "بالبكاء وصريف الأسنان" في الآخرة. إسألوا جميع اللصوص والمتستغِلّين في جميع أديان وبلدان العالم. الفخر بالعقيدة القويمة في المسيحيّة والإسلام والكلام الانشائيّ حولها يمكنه أن يكون مترافقا مع كلّ المفاسد: مع التسلّط، مع النهب، مع قمع الأطفال، مع العنف ضدّ النساء، مع الإبقاء على المعوقات الاجتماعيّة أمام المعوقين، مع الشعور الهمجيّ باحتكار الخلاص وكراهية الآخرين. حتّى مساعدة الفقراء يمكنها أن تتمّ مع دعم بُنى الاستغلال التي تولّد الفقر وهذا بالضبط ما يقوم به كلّ من يدعم فقيرا ثّمّ ينتخب من ينهب الناس ويدفعهم إلى الفقر. الكتابة هي خطوةٌ في التغيير، وخطوة أخرى أن نشهد للحقّ والحقيقة جهارًا عندما نكون وجهًا لوجه مع الآخرين، خاصّة إذا كانوا من أصدقائنا والذين معهم قد نتساهل؛ الخطوات الأخرى تطلّب عملا جماعيًّا. الصراع مع المحيط صعب، لكن الحقّ أهمّ، وما من محبّة حقّة للمحيط دون شهادة للحقّ؛ ومن الصعوبات الشعور بالضيق، فالمعروف أنّ الإنسان يشعر بالضيق بل وأحيانًا بالذنب عندما يتصادم مع من يحبّهم، وعندها لنتذكّر نصيحة بولس "إن بكّتتنا قلوبنا فالله أعظم من قلوبنا"، إن شعرنا بذنب لا معنى له لمجرّد مخالفتنا للمحيط المباشر لنا، فلنتابع بشجاعة لنكتب ونتكلّم ونشهد، ونعمل معًا. ومن يؤمن لا ينتظر أن يصل خلال عمر حياته القصير بل يفرحه أن يسير في الطريق، بالفعل الملكوت هو سلسلة بدايات لا تنتهي، كما قال غريغوريوس النيصصي يومًا، هو سلسلة بدايات من الفرح. السبت 17 تشرين أوّل / أكتوبر ٢٠٢٠
لم تفلح أوّل جولة من جولات الانتفاضة الشعبيّة التي بدأت في ١٧ تشرين أوّل في تغيير النظام الحالي، ولكنّها حقّقت أمرا غاية في الأهمّية: أوضحت بما لا يرقى إليه الشكّ (عند الذين لم يستعبدوا عقولهم لأشخاص) أنّ جميع المشتركين في حكم هذه البلاد هم مشتركون في حماية هذا النظام الاستغلاليّ-القمعيّ واستمراره. أوضحت ١٧ تشرين، بالارباك الدائم الحاصل بسببها بعدها، أنّ أعداء الشعب الأساس هم هؤلاء، هذا لا يُقدّر بثمَن وهو من إنجازات انتفاضة الناس. ليس بالتفصيل أن تنهال السباب في العلن على أرباب هذا النظام، هؤلاء جميعا كانوا حتّى ما قبل انتفاضة الناس شبه آلهة لا يمسّهم أحد بكلمة. كانت السباب وسيلة الضعيف لتدمير «الهيبة» الواهية الكاذبة للمستغِلّ، فِعْلُ السباب هذا لم يكن سوى ردّ فعل دفاعيّ عن الذات، وكان ضروريّا لتحطيم أصنامٍ تصرّفاتها تعكسُ أنّها وضعت نفسها مكان الله؛ في مكان ما يشهد هذا السباب للحقّ. أوقعت ١٧ تشرين صنم الزعيم المعبود المفدّى. النظام اللبنانيّ نظامُ استغلالٍّ، وقد فضح الانهيار الاقتصاديّ شيئا من طبيعته هذه بفضل محلّلين اقتصاديّين لامعين، ولكنّ الانتفاضة الشعبيّة أيضا أماطت اللثام عن حقيقة أخرى لهذا النظام ألا وهو أنّه في العمق نظام قمعيّ، وحرس مجلس النوّاب تفوّقوا في هذا الميدان ولكن أيضًا القوى الأمنية والجيش. كم من حادث إطلاق نار مباشر ومقصود على الوجوه والأعين حدث، ولم تحدث محاكمة واحدة. النظام اللبنانيّ أقلّ قمعا من النظام السوريّ ولكنّه أيضا قمعيّـ وعلينا أن نخرج من وهم أنّ النظام اللبنانيّ يحترم الحرّية، هو يحترمها طالما لا تمسّ بالاستغلال. أوقعت ١٧ تشرين صنم وهم الحرّية. النظام-الجيفة اليوم يحتضر دون أن يتشكّل البديل، ولكن الناس التي انتفضت ذاقت شيئين نادرين ومُهِمّين ستؤسّس عليهما انتفاضتها المقبلة، لقد ذاقت الناس القدرة والوحدة.... وهاتان هما اللتان تثيران قلق كلّ القامعين والاستغلاليّين، فكلّ وسائل الإعلام الملحقة بهم تدأب على إقناع الناس أنّهم مُفَتَّتون وأنّه لا قدرة لهم... أظهرت ١٧ تشرين أنّ اللبنانيّين ليسوا فقط مجموعة طوائف، وأنّ الطائفة الحقيقيّة التي تجمعهم هي طائفة: المستَغَلّين (بفتح الغاء). على هذا الوعي ستتأسّس انتفاضة أخرى وسيقع هذا النظام. انتفاضة ١٧ تشرين خلقت شبكة من العلاقات عابرة للطوائف وللمناطق بين مجموعات مختلفة، وخلقت شبكات أخرى حول العالم بين اللبنانيين غير المقيمين. هذه الشبكات ما تزال قائمة وعملها اليوم يُنضجها للجولات المقبلة. أوقعت ١٧ تشرين صنم الطائفيّة والضعف والتفكّك. أيضا انتفاضة ١٧ تشرين كشفت اللثام عن نفاق المجموعات الحاكمة، فمنها ما حاول ركوب موجة الانتفاضة (الحريري، جعجع، جنبلاط) ومنها ما وقف منها موقف العداء المبطّن فقال أنّها محقّة في "وجعها" ولكن تحرّكها الأصابع الأجنبيّة (نصرالله، برّي، عون) أمّا الحقيقة الناصعة فكانت في مكان آخر، كانت في تعاونهم الفاعل في لجنة التحقيق حول الخسائر والتي اجتمعوا فيها لحماية المصارف والنظام. حطّمت الانتفاضة صنم "الفريق الشريف"، كشفت الانتفاضة عن أيدي الجميع الملوّثة. الخاسر الأكبر كان حزب الله فقد اضطرّته الانتفاضة أن يكشف عن عدائه لكلّ تغيير في طبيعة نظام طائفيّ يترك له أن يفعل ما يشاء. موقفه معناه أنّ بقاءه أهمّ من العدالة والحرّية، أي أهمّ من الشعب نفسه، وهو بذلك أوضح أنّه في النهاية شبيه الطبقة الحاكمة. مشكلته أنّه قدّم نفسه للناس على أنّه مقاومة وحامٍ للشعب، لكن كيف يمكن لمن يقول أنّه يريد تحرير الناس من احتلال أجنبيّ أن يكون هو الحامي الأوّل لنظام يمعن في استغلال وقمع هؤلاء الناس الذين يدّعي حمايتهم؟ إنّ كلّ كلام عن تدخّل الولايات المتّحدة وأذيالها في الانتفاضة لا يمكن أن يثير سوى السخرية (خاصّة اليوم!)، فأذيال الولايات المتّحدة كانوا دائما في الحكومات المتعاقبة، أي أنّهم اجتمعوا مع وزراء الحزب المذكور على نفس الطاولة لسنوات. أسقطت ١٧ تشرين صنم وهم آخر. ١٧ تشرين أوضحت المشهد وأسقط اصنام عديدة، وبدأت طريقا طويلاً لا بدّ أن ينتهي بدفن الشعب لهذا النظام الاستغلاليّ-القمعيّ. خريستو المرّ
الثلاثاء ١٣ تشرين الأوّل / أكتوبر ٢٠٢٠ لم تلتقط القيادات الكنسيّة الأرثوذكسيّة، وحركات الشباب في أنطاكية حتّى الآن الغليانَ الفكريَّ والحياتيّ الذي يحدث داخلها وحولها. وما زالت تتمسّك بوسائلَ وخياراتٍ من الماضي لم تعد تنفع. فلا هي تحاكي الحاضر ولا تحضّر للمستقبل. الماضي كان أجرأ. صوتُ المجمع الأرثوذكسيّ إثْرَ الحرب الأهليّة عام ١٩٧٥ كان نبويًّا. من يقارن بين بيان المجمع الأرثوذكسيّ إثر اندلاع الحرب الأهليّة عام ١٩٧٥ وبين بيانات المجمع اليوم يترحّم على الإنجيليّة الثوريّة، وعلى توقّد الفكر، وعلى الجرأة. لسنوات قليلة خلت كان صوت حركات الشباب نبويًّا. وأمّا اليوم فالبلاد في الهاوية، ولا كلمة حرّة لحركات الشباب تقولها للمجتمع الأوسع رسميًّا وعلنيًّا وبوضوح في وسائل الإعلام. ما هو الخطاب الرسميّ المتوجّه للمجتمع الأوسع لحركات الشباب الكنسيّة إثر انهيار الاقتصاد في لبنان؟ لا شيء. تنهار مجتمعات بأكملها ولا صوت لها يدعو إلى العدالة، ويخرج إلى العلن ليدين النظام الطائفيّ والاقتصاديّ القائم بفمٍ ممتلئٍ بنار الروح. تنهار المجتمعات ولا خطاب رسميّ-فكريّ-إعلاميّ-متحرّك ومتشابك مع الحراك المجتمعيّ تجاه الظلم الاجتماعيّ. غياب صارخٌ لا بدّ أن يكون له أثرٌ سلبيٌّ فادحٌ على الحاضر وعلى المستقبل. لا تكفي الأصوات الفرديّة هناك ضرورة لشهادة جماعيّة مُعلَنَة. القيادات الكنسيّة اليوم تستنسخ الذهنيّة السياسيّة السلطويّة الموجودة حولها. أين التهافت الكنسيّ على مقاعد طائفيّة، والذي يجتمع عليه بشكل نادر بطريرك أنطاكية ومطران بيروت، من كلام المجمع الأنطاكيّ عام 1975:"نحن لا نتّبع المنطق الطائفيّ لننافس أحدًا على منصب، ولكنّا سنذكّر دائما باسم الإنسان في لبنان أنّ إسناد الوظائف إلى أصحابها على أساس طائفيّ إنّما هو نظام بالٍ... إنّ القمع الطائفيّ هو عنصريّتنا اللبنانيّة". حركات الشباب تعمل بتفانٍ قلّ نظيره، وتشكّل بيئة فريدة في الأخوّة والشهادة ليسوع. ولكن يبدو أنّ الخوف الذي يجمّد المبادرة قد مسّها. هل هي تخطئ في قراءة علامات الأزمنة؟ لا يمكن الركون إلى الماضي، الماضي ربّانا لأنّه كان ابن حاضره، "لا يجعلون خمرًا جديدة في زقاق عتيقة، لئلّا تنشقّ الزقاق، فالخمر تنصبّ والزقاق تتلف. بل يجعلون الخمر الجديدة في زقاق جديدة فتُحفَظُ جميعًا". هذه الكلمات لم تكن يومًا دعوةً لرمي القديم وإنّما دعوة للتجديد، دعوة "لنطرح الخوف جانبًا"، فـ"كلّ كاتب متعلّم في ملكوت السماوات يشبه رجلًا ربّ بيتٍ يُخرج من كنزه جُدُدًا وعُتُقًا". الخدمة الاجتماعيّة ضروريّة ولكن كما قال البيان نفسه عام ١٩٧٥ "بعد أن تلتفتوا إلى كلّ نزف أينما حصل وأن تصلّوا لكلّ جريح، لا بدّ أن تعملوا حتّى تزول إراقة الدماء"، والعمل يتطلّب إلهام قياديّ. ماذا يمنع حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة وغيرها من الوقوف جماعيًّا وقفة واحدة بشكل رسميّ ضد المظالم؟ ماذا يمنعها من أن تقف مع هيئات أخرى، مسيحيّة وغير مسيحيّة، موقفًا اعتراضيًّا واضحًا وصريحًا ضد نظام اقتصاديّ مدمّر، يضع ثروات البلاد في يد 1% من السكّان؟ ما الذي يمنعها؟ هكذا مواقف ليست سياسة تفصيليّة ولا حزبيّة، هذه مواقف حول المبادئ، باتت ضروريّة حتّى التنفّس. الخوف يجمّد الفكر قبل الفعل، من يخفْ من "الموت" يبقَ تحت العبوديّة. المحبّة تؤجّج الشعور بالمسؤوليّة، والشعور بالمسؤوليّة يمدّنا بالرغبة في العمل، والرغبة تلد الجرأة، والجرأة خطوة التفكير الأولى، والتفكير يتبعه الوعي، والوعي يتبعه نضالٌ طويل. ألف ميل، ألفُ ميل تبدأ بمحبّة ففكرة. قد تكون الفكرة حديثة وصغيرة السنّ ولكن لا يستهن أحدٌ بحداثة فكرة. المسيحيّة، كفعل ينقذ العالم، يجب أن تجد لها تجسيدًا بصوتٍ نبويٍّ جماعيّ يُحْيي مبادئ العدل والمشاركة، ويلهم العمل الوطنيّ. خريستو المرّ
الثلاثاء ٦ تشرين أوّل/أكتوبر ٢٠٢٠ كشف يسوع بأنّ الله محبّة، كما نقل يوحنّا. هذا ليس بتفصيل لاهوتيّ بل نقطة مركزيّة منها يمكن للمسيحيّات والمسيحيّين أن يقرأوا الكون، والحياة، والعلاقات الفرديّة والجماعيّة، وأن يبنوا مواقف، ويقيّموا سياسات وبُنى. الله-محبّة، وكي يكون الإنسانُ كالله، على مثاله، عليه أن يكون مُحِبًّا، ولكي يكون محبّا عليه أن يكون حرّا فبدون حرّية لا يوجد سوى خضوع عبيد. الوجه الآخر لهذه الأحجية هو أنّه بمقدار نموّ محبة الإنسان، بمقدار ما تنمو حرّيته بشكل يخدم الحياة، بحيث لا تتدهور حرّيته إلى تدمير ذاتيّ أوتدمير للآخرين. ولهذا فإنّ الموقف المسيحيّ الأصيل من القمع موقف جذريّ: لا يمكن التصالح مع القمع تحت أيّ مسمّى ولو كان مسمّى الاستمرار بالعيش؛ قد لا يمكن للإنسان أن يغيّر ظروفه، وقد يختار الصمت، ولكنّه لا يتصالح مع القمع والتعسّف والاعتقال التعسّفيّ، هذه كلّها تبقى شرّا خالصا بالضرورة. من هنا كانت شهادة البنى الرسميّة في الكنائس في ظلّ القمع العميم في بلادنا المختلفة (سوريا، لبنان مصر، العراق، مثلاً) فضيحة كاملة. حرّية الإيمان بالطبع جذريّة أيضا، وإلاّ تحوّلت حياة الإنسان مع الله ومع الآخرين إلى فراغ، إلى حياة مزوّرة، يفقد الإنسان فيها نفسه وأيّ فقدان هو أفدح من هذا؟ لكنّ بينما حرّية الإيمان والفكر مطلقتين بمعنى أنّه للإنسان أن يفكّر ويؤمن بما يشاء، فإنّ حرّية الفعل ليست مطلقة أكانت في العلاقات الشخصيّة، أم علاقات العمل، أو العلاقات الاجتماعيّة العامّة. فإن كان فعل الآخر في العلاقة الشخصيّة وعلاقات العمل مؤذيًا فلا بدّ لي أن أردّ الأذى، وأن أقطع التواصل إن اقتضى الأمر، وليس في ذلك نقص في المحبّة، وإنّما دفاع عن الحياة، دفاع عن حرّيتي بأن أنمو وأحيا وأحبّ. من هنا ضرورة الابتعاد عن العلاقات السّامة التي لا تنتج إلا القهر، الخضوع والإخضاع. في العلاقات الشخصيّة من مسؤوليّة الفرد أن يكوّن وعيًا يسمح له بأن يرى مشروعيّة الابتعاد، وحتّى الانقطاع، عن الآخر، وبأن يمارس تلك المشروعيّة. أمّا في العمل فهناك قوانين وسياسات داخليّة ترعى الدفاع عن الذات من ضرر الآخرين، وإن لم تكن هكذا قوانين موجودة فيجب أن توجد. ويبقى ذلك كلّه في خطّ المحبّة، حبّ الذات بالعناية بها، وحبّ الآخر بصدّ عدوانه. أمّا في العلاقات الاقتصاديّة، فالناس حرّة في التعامل مع الأحداث، ولكن ليس كلّ تعامل هو تعامل مُحِبّ وبالتالي مسيحيّ. هناك من يريد حرّية ليستغلّ غيره، والاستغلال هو تحويل شخص إلى أداة. إنّ العامل والموظّف مُستَغَلّان إلى حدّ بعيد، هما يوظّفان طاقاتهما وينتجان أرباحًا هائلة أحيانا، لكنّهما لا يجنيان منها إلاّ النزر اليسير. حرّية ربّ العمل تقول له أنّ ذلك كلّه حسن، وشرعيّ. مركزيّة المحبّة في المسيحيّة تقول أنّ هذا التصرّف الشرعيّ غير مشروع مسيحيّا، ولا اسم لهذا التصرّف غير الاستغلال، وبلغة مسيحيّة أوضح يمكن وصفه بالخطيئة. ماذا نفعل، إذًا، أمام حرّية من يريدون ويخطّطون ويعملون من أجل استغلال غيرهم؟ لا يمكن التعامل معهم بالابتعاد والانقطاع كما في العلاقات الشخصيّة، ولا بالقانون كما في حالة العمل (فعادة ما يكون الاستغلال قانونيّا وشرعيًّا)، وواهمٌ بالطبع من يظنّ أنّ الوعظ يؤتي نتيجةً في هؤلاء. هناك وسيلةٌ وحيدة يمكن استعمالها ألا وهي الضغط والقوّة. قد يختلف المسيحيّون على نوع القوّة والضغط المتوافقان مع الإيمان أثناء النضال لمواجهة الاستغلال (اضراب، تظاهر، توقّف عن العمل، نضال لا عنفيّ، نضال عنفيّ) ولكن لا يمكن أن يختلف عاقلان على أنّه إن كانت حرّية الإيمان حرّية مطلقة، فإنّ العدالة التي نحن مدعوّون لتحقيقها في هذا العالم، كتعبيرٍ عن المحبّة على الصعيد الاجتماعيّ، لا يمكن بناءها إلاّ بالقوّة. والقوّة تقتضي الشجاعة. ليس من المسيحيّة بشيء أن تضع التربية الكنسيّة لنفسها هدفًا أعلى يكمن بتخريج الرهبان والراهبات، وإنّما المسيحيّة تقتضي أن يكون الهدف الأعلى للتربية الكنسيّة تخريج قدّيسين وقدّيسات، ومن الناس من يتقدّس بالترهّب، ومنهم من يتقدّس بالحياة في العائلة، ومنهم بالعمل في قلب المجتمع لعضد الناس، ومنهم بالنزول إلى جحيم المجتمع ليقيموا بقوّة يسوع المستغَلّين، الموتى معنويًّا. نعم، من المحبّة والقداسة أن يناضل الإنسان لتحقيق الحرّية ولدحر الاستغلال. |
الكاتبخريستو المر الأرشيف
December 2023
Categories |