خريستو المرّ
الثلاثاء ٢٦ كانون ثاني/يناير ٢٠٢١ لا يمرّ يوم إلاّ ونسمع فيه عن مقتل أحد الناس بكورونا. هذا الواقع ليس إلاّ ظاهرة، وعلينا التفكير بأسبابها. إنّ الموت الذي يحدث ليس قضاءً وقدرًا لا مفرّ منه ولا مهرب؛ وأسبابه الأساس لا علاقة لها بالفيروس. عندما يؤذي شخص آخر دون قصدٍ، بشكلٍ يؤدّي إلى وفاته، فإننا ندعو ذلك بالقتل عن طريق الخطأ؛ ولكن عندما يعلم المعتدي مُسبقاً بأن الإيذاء هذا سيؤدّي إلى الموت ويقوم به، فإننا ندعو ذلك بالقتل المتعمّد. الأمر سيّان، إن كان المؤذي شخصًا أو جماعةً أو دولةً أو مجتمعًا، فعندما يضع نظامُ الحُكم الملايين من السكّان (مواطنين ولاجئين) في ظروف موضوعيّة تؤدّي إلى موتهم، فهذا الموت لا يعود مجرّد وفاةً طبيعيّة وإنّما يُضحي مماثلاً للموت الناتج عن إطلاق الرصاص عليهم، أي قتلاً. وعندما يَحرم نظامُ الحُكم الملايين من ضرورات الحياة، ويجبرهم من خلال القانون (الحكومة، الجيش، وقوى الأمن) والميليشيات الطائفيّة والزعماتيّة، والمؤسّسات الدستوريّة، والإعلام الخبيث، على البقاء في ظروف موضوعيّة من المعروف أنّها ستؤدّي إلى موت الآلاف بشكل حتميّ بسبب قلّة العناية الصحّية (أو قلّة الغذاء والدخل)، فإنّ ذلك النظام يرتكب القتلَ العمدَ، تماماً كما يفعل أيّ فرد يطلق النار على الناس وهو عالم بأنّ الكثيرون منهم سيقتلون. لكنّ المذبحة الجماعيّة التي ترتكبها الأنظمة مقنّعة وخبيثة، لأنّ أحداً لا يرى قاتلاً واحدًا ملموسًا يحمل سلاحًا اعتياديًّا يقوم باعتداء، ولأنّ القتل لا يحدث بفعل تعدٍّ واضح بل بالامتناع عن الفعلِ (الامتناع عن تقديم الاستشفاء، الدواء، الغذاء...) فيبدو في الظاهر وكأنّ موتَ الضحايا «طبيعيّ»، نتيجة مرضٍ، أو فيروس. إنّ الضحايا الذين يقعون اليوم بسبب فيروس كورونا هم ضحايا جريمة قتل عمدِ، ضحيّة مذبحةٍ موصوفةٍ ناتجة عن إهمال النظام للسكّان. إنّ النظام اللبنانيّ (وكلّ نظام آخر شبيه له بالأفعال وليس بالشكل) يرتكب مذبحة بحقّ سكّان البلاد، مواطنين ولاجئين. نعم هناك مسؤوليّة لمن كان مستهترًا عن العناية بذاته وغيره فانكبّ على السهر والحفلات والمطاعم؛ لكنّ هؤلاء قلّة، فالأكثرية تريد أن تعمل لقوتها ولا دعم حكوميّ لها لكي تبقى في بيوتها (مَنْعُ الناس من الخروج بينما لا يملكون ما يعيلون به أنفسهم هو جريمة). وهناك أيضًا جهل بعض رجال الدين، والبارانويا التي يعيشون، وقلّة شوراهم مع المختصّين، والتي جعلتهم يقولون ويكتبون ليس فقط بأنّ الفيروس مؤامرة شيطانيّة، بل بأنّ اللقاح نفسه هو مؤامرة، وبأنّ الطقوس تحميهم من الإصابة بالفيروس؛ هذا أيضًا جريمة. إنّ النظام القائم بمؤسّساته ومسؤوليه وزعاماته، وموتوري الأديان، والمسؤولون الدينيّون الصامتون في عجزٍ فادحٍ عن القيادة، كلّ هؤلاء يشتركون في المذبحة. وعلينا أن نتذكّر، كي لا نموت أيضا مستقبلًا من الجهل، بأنّ رجال الدين المتواطئين مع رجالات الدولة (المجرمين لتسبّبهم بهذه المذبحة الجماعيّة)، هم شركاء في هذه المذبحة الجماعيّة. فلنتذكّر كيف هبّت وتهبّ القيادات الدينيّة (والإعلاميّة) من الطوائف جميعًا للدفاع عن المجرمين الذين ينهبون السكّان حتّى اليوم، ويتسبّبون بهذه المذبحة الجماعيّة؟ فلنتذكّر كيف هبّت البطاركة والمطارنة من الطوائف جميعا في اجتماع بكركي العام الماضي، لتخدير الناس أثناء انتفاضتهم الشعبيّة ودعوتهم إلى السكينة. فلنتذكّر الزعماء الطائفيّين الذين حاصروا الناس المنتفضة إمّا بالركوب على موجة غضبهم وإمّا بتخوينهم ودعوتهم إلى متابعة الحياة كما كانت. هؤلاء جميعا مشتركون في المذبحة القائمة، الجليّة، المتخفّية بغطاء «الموت الطبيعيّ». معظم الناس تموت اليوم من مضاعفات النظام الطائفيّ وليس من مضاعفات الفيروس، ولا نجاة لا اليوم ولا في المستقبل من المزيد من المذابح المتعدّدة الأشكال إلاّ بتأسيس دولة علمانيّة (أي لا طائفيّة) قائمة على صخرة العدالة الاجتماعيّة. أي بكلام آخر لاهوتيّ: لا خلاص إلاّ بتأسيس دولة يرى فيها الناس بعضهم أخوة لبعضهم البعض، مواطنون ومواطنات في دولتهم، ولكن محبّون للبشر إخوتهم في العالم أجمع، متعاونين معهم «على البرّ والإحسان» لا على الظلم والعدوان؛ «مستبقين الخيرات» في دولةٍ يشترك فيها الناس بخيرات الأرض التي وهبها الله لكلّ الناس، من "رصيف البحر" إلى آخر ثروة طبيعيّة وإنسانيّة، بحيث «يكون كلّ شيء مشتركا بينهم» (كما يرد حرفيًّا في الانجيل). الثلاثاء ١٩ كانون الثاني، ٢٠٢١
خريستو المرّ أن يكتب رجلٌ مقالة عن وضع المرأة في الكنيسة هو دليلٌ على مدى تدهور هذا الوضع. ومن علامات بدايات التحسّن أن تخوض نساءٌ - في مستقبل نرجوه قريبًا - هذا النقاش وتقدن عمليّة ... التغيير ... الضروريّة المرافقة له. الكنيسة الأرثوذكسيّة تغيّب المرأة عن أمور بديهيّة تخصُّها، ولا أجد مثلاً أكثر دلالةً على هذا الوضع من لقاء المجمع الأرثوذكسيّ الأنطاكيّ لشؤون العائلة منذ عامين بحضور أكثر من ستّين رجلا وامرأتين فقط! هذا، في الوقت الذي يحتفل فيه المعهد اللاهوت الأرثوذكسيّ الأنطاكيّ الوحيد الناطق بالعربيّة، معهد القدّيس يوحنّا الدمشقيّ في جامعة البلمند، بذكرى تأسيسه الخمسين، بينما يبلغ عدد الأستاذات المتفرّغات فيه.... صفرًا. نحن بعيدون كلّ البعد عن مسألة كهنوت المرأة، فحتّى وضع المرأة كشمّاسة (مساعدة للكاهن) في الكنيسة، وهو وضع له أسس تاريخيّة، ليس مطروحًا؛ مع أنّ طرحه، والعودة إليه - عمليّا وليس نظريّا – خطوة لها أن تفضي إلى حركة فكريّة وشعبيّة لطرح مسألة كهنوت المرأة في جوّ أقلّ انغلاقًا. بالطبع، يعرقل أيّ تفكير جدّي في موضوع مشاركة المرأة الكاملة في حياة الكنيسة، حالة من الانغلاق والضحالة الفكريّين، والتكرار الببّغائيّ للماضي، والجمود، كما وغياب روح القيادة الذي تكشفه الأزمة تلو الأخرى (التحرّش الجنسيّ، كورونا). على أنّ هذا الواقع لا يمنع من طرح الأسئلة، وأجوبة ممكنة لها. ما هو المانع اللاهوتيّ لكهنوت المرأة؟ ما من سبب مقنع. يسوع اختار ١٢ رَجُلاً تلاميذَ له، ولم يختر امرأة تلميذة ورسولةً؛ لكنّ هذا لا يعني أنّه لم يَشَأ أن تكون المرأة كاهنة. خيار يسوع لرجالٍ لا يعدو كونه تعبيرًا عن حالة المجتمع: اليوم عام ٢٠٢١ لا توجد امرأة واحدة أستاذة متفرّغة في معهد اللاهوت، فهل يمكن تخيّل امرأة عميدة لمعهد اللاهوت؟ فإذا كان الوضع كذلك اليوم فمن كان سيقبل امرأة في وضع قياديّ أيّام يسوع؟ يسوع تعامل مع مجتمعه بشكل عمليّ: إن كان يريد للناس أن تسمع رسالته كان بحكم الواقع مضطرًا أن يختار رجالاً رُسلًا له. هذا ليس دليلًا على أنّ المشيئة الإلهيّة لم تُرِد للمرأة أن تكون كاهنة. المرأة والرجل كلاهما على صورة الله، فالله «خلق الإنسان على صورته ومثاله، ذكرًا وأنثى خلقه»، هناك، إذًا، مساواة كيانيّة بين الرجل والمرأة لا يمكن تهميشها بشكل من الأشكال، المرأة مساوية للرجل في الجوهر. لذا، من الضروريّ التمسّك بهذه المساواة الأساس، وقراءة عدم اختيار يسوع امرأة من الاثني عشر تلميذ في إطارها التاريخيّ الواقعيّ. ورغم أهمّية الانجيل كلّه، تبقى تعاليم يسوع وتصرّفاته في الصدارة أكثر من الرسائل وما يرد فيها من أمور تخصّ ذلك الزمن ومشاكله (غطاء المرأة لرأسها أثناء الصلاة مثلاً، عبارة "خضوع" المرأة للرجل التي استعملها بولس ولو أنّه أعطاها معنى مختلفا). إنّ الدليل على أنّ الأولويّة في الكنيسة هي لكلام يسوع وتصرّفاته – كونه الكلمة المتجسّد نفسه - هو أنّ الكنيسة قرّرت أنّ الكتاب الوحيد الموضوع على المذبح المقدّس لا يحتوي إلاّ على الأناجيل الأربعة حصرًا، دون الرسائل. لا يمكن في النهاية مواءمة المساواة الكيانيّة بين الرجل والمرأة اللذين كلاهما معًا على «صورة الله»، وبين «خضوع» المرأة أو منعها عن ممارسة خدمة معيّنة، كالكهنوت. لا يمكن جمع المساواة في الكيان مع عدم المساواة في الوظائف؟ وبينما اللامساواة البيولوجيّة هي جزء من الطبيعة البشريّة، فإنّ اللامساواة الوظيفيّة ليست كذلك، هذه الأخيرة هي جزء من الاتّفاق الاجتماعيّ البشريّ المتغيّر، الذي حاول يسوع دكّه بتصرّفاته: ففي الزمن الذي كان الرجل فيه يصلّي لله ويشكره أنّه لم يخلقه امرأة (حرفيًّا) كان يسوع يحاور النساء ويسلّمهنّ رسالة التبشير بالقيامة. أمّا بالنسبة لفكرة أنّ الكاهن هو أيقونة المسيح، وأنّ المسيح هو رجل، فلذلك على الكاهن أن يكون رجلاً، فهي باطلة. فعدا على أنّه ليس في الله ذكورة ولا أنوثة، وأنّ وصفَنا لله بـ«الآب» لا يعدو كونه مقاربة للحقيقة الإلهيّة التي تبقى خارج كلّ تصوّراتنا عن الله، فإنّ المرأة والرجل كلاهما على صورة الله، هما إذًا أيقونة الله، بل أنّ القدّيس إيريناوس يرى بأنّ الإنسان -رجلاً كان أم امرأة- مخلوقٌ على صورة المسيح المتجسّد، وهذا يعني أنّ المرأة هي أيقونة المسيح كما أنّ الرجل هو أيقونة المسيح، بغضّ النظر عن الكهنوت. إنّ أيقونة المسيح ليس الكاهن وإنّما أساسًا الإنسان المتقدّس، أي المرأة التي صارت، أو الرجل الذي صار، مثل يسوع. أمّا من يتساءل لم هذا الإصرار على كهنوت المرأة فما من أمر مهمّ سوى سيادة المحبّة، فليتفكّر في شعوره إن اقترح عليه أحدٌ أن يستغني الرجال عن الكهنوت لصالح النساء، ويخضعوا لهذا الوضع بكلّ "محبّة". خريستو المرّ
الثلاثاء ١٢ كانون ثاني/يناير ٢٠٢١ إنّ محوريّة الانسان والخليقة، في الإيمان أمرٌ أساس؛ فالإيمان بالله لا يجعل من الإنسانِ أو الخليقةِ أمرًا أقلّ شأنًا من الإله. إنّ أهمّية الله لا تهمّش أهمّية الخليقة، والإنسان تاجُ الخليقة، وإنّما تزيد من تلك الأهمّية. فالمسيحيّة، مثلاً، تؤمن أولا أنّ الله خلق الإنسان على «صورة الله»، أيّ أنّه مخلوق مُنِحَ العقل، والحرّية والقدرة على المحبّة؛ والإسلام يرى الإنسان «خليفة الله في الأرض»، وما هذه العبارة ببعيدة عن فكرة «صورة الله». وبالتالي إنّ الإنسان ليس فقط مهمّ ولكنّه بالغ الأهمّية لأنّه صورة الله وخليفته، ومن خلاله نلامس ونتأمّل الله بشكل خاص، ولهذا قيل في الأدب الرهباني الصافي"بَعْدَ الله، علينا أن نعتبر كلّ إنسان وكأنّه الله نفسه". بالإضافة إلى ذلك، المسيحيّة تؤمن أنّ كلمة الله تجسّد، فاختبر الإنسانيّة من الداخل وعاشها حتّى الموت على الصليب، وبأنّه بقيامة المسيح بات الله حاضرًا في «القلب» البشريّ بشكل مميّز وحميم، بحيث أنّ الله والإنسان باتا في تداخلٍ حُبِّي يغذّيه الروح القدس. بالمسيح، بات الله في قلب الإنسان كما بات الإنسان في قلب الله، في وحدة حبّ تحترم التمايز الجذريّ بين الخالق والمخلوق، وبين الفرادات. وهذا ما يرفع أيضًا من قيمة الخليقة والإنسان لكونهما محبوبين الله، فما يمسّ بالإنسان وبالخليقة يمسّ بالله بشكل من الأشكال. أمّا الإيمان بالخلق من العدم، فهي اعتقاد بأنّ الخليقة موجودة ولكنّها ليست موجودةً بذاتها، بل لأنّ الله خلقها. لكنّ الخلق من العدم ليس أمرًا حدث مرّة في الماضي، في بدء الزمن، وإنّما يحدث في كلّ لحظة، بحيث أنّ الخليقة تستمرّ في الوجود فقط لأنّ الله يمنحها أن توجد في كلّ لحظة، كنعمة منه، كتعبيرِ حبٍّ منه. هذا يعني أنّ الوجود هذا، الملموس، المادّي، حياة الإنسان والخليقة الملموستين، لهما أهمّية عُظمى؛ وأنّ الدفاعَ عن الحياةِ هو مسؤوليّةٌ إيمانيّة، كونه عملاً مشتركًا مع الله كي تستمرّ الحياة وتتأجّج بنار المحبّة الإلهيّة-الإنسانيّة فتتحوّل الأرض إلى صورة عن «السماء»، حين تخترق نار المحبّة والمشاركة الحياةَ اليوميّة فتتوهّج هذه وتتجلّى في السياسة والاقتصاد والتربية والعمل والتسلية والضحك والبكاء والصحّة والمرض، والعلاقات الإنسانيّة. الخلاصة تكمن في أنّ الإيمان في صفائه يدعو إلى احترام ومحبّة هائلين لحياة الإنسان وللخليقة. هذه الخلاصة ليست مستحيلة التطبيق، فبالفعل «لا يكلّف الله نفسًا إلّا وسعها». إنّ النتائج البحثيّة المتراكمة في علوم النفس تبرهن أنّ عبارة «الإنسان ذئب الإنسان» غير صحيحة وتشوِّه الواقع؛ فالدراسات تدلّ بشكل حاسم أنّ الإنسان مفطورٌ على التعاطف والتعاضد مع الآخرين، بحيث لا يوجد مجال للشكّ بأنّ دعوة الله كي يحبّ الإنسان الآخر فيكون بالفعل خليفة الله، هي دعوة ممكنةٌ، ومنسجمةٌ مع تكوين الإنسان، ومغروسةٌ في طيّات الجسد والنفس (هنا نذكّر أنّ المحبّة ليست شعورًا «ورديًّا» تجاه الآخرين، وإنّما موقفٌ حياتيٌّ مُتعاطِفٌ مُتعاضِدٌ، أي مُدافِعٌ عن الحياة يأنف المسّ بها؛ وهو، بالطبع، قد ينجح وقد يفشل). كلّ تهميش للإنسان وللحياة الأرضيّة تحت حجّة "سماويّة" هو موقف منحرفٌ إيمانيًّا، يُنتج أحيانًا كراهيّة وتدميرًا، وأحيانًا خنوعًا للأحداث بمبرّرات جبريّة، أو إحجامًا عن الفعل وانطواءً في الطقوس، ويقلّل من شأن الواقع الملموس لصالح غيبٍ منفصِلٍ عن الواقع من نسج الأوهام. المواقف المستهترة تجاه كورونا لا تنسجم مع الرؤية الإيمانيّة الأساس. لا تواجَهُ كورونا بذهنيّة لاعقلانيّة تستهتر بصورة الله في الإنسان (العقل)، ولا بجبريّة قدريَّةٍ تترك للمشيئة الإلهيّة أن تختار المصير بينما المشيئة الإلهيّة بتصويرها الإنسان «خليفة» الله وصورته، عبّرت أنّها تريد للمشيئة البشريّة أن تكون شريكتها الكاملة في تقرير المصير الشخصيّ والجماعيّ للخليقة. إنّ العبثيّةَ والتهوّر يُشيران إلى مقدارٍ كبيرٍ من التصرّف العدميّ الذي يتعارض مع الإيمان، وهي عدميّة يشجّع ظهورها انهزامٌ مجتمعيٌّ - نرجوه ظرفيًّا - أمام النهب الـمُمَنهج، وتدهورٌ للأمان الاجتماعيّ-الاقتصاديّ. لكنّ هناك خيار آخر: أن ننهل من الجذور الإيمانيّة لشحذ الرغبة بالحياة، وندافع عنها كمشروع إنسانيّ-إلهيّ متجذّر بمُعَلِّمِ احترام الحياة والحرّية، الذي «ضرب خيامه بيننا» واحتفلنا بذلك منذ أيّام. خريستو المرّ
الثلاثاء ٥ كانون الثاني/يناير ٢٠٢١ من وقت لآخر تظهر في الكنيسة الأرثوذكسية نوعيّة من التفكير تَشي بأنّ العالمَ مكانٌ مليءٌ بالشرّ وبمؤامرات سرّيةٍ لا تنتهي لضرب الكنيسة؛ وطالما أنّ المؤامرات الـمُفترضة سرّية فلا نفهم كيف يمكن تأكيد أيّ شيء حولها، ولهذا يمكنك ربط ما شئت بما شئت، وتخيّل ما شئت، وتحويل كلّ تحدّ واقعيّ في عالمنا إلى «مؤامرة»، أكان التحدّي فيروس كورونا، أم التحرّش الجنسي في الكنيسة، أم المثليّة، أم الإجهاض، إلخ. المؤامرة تنجّي الناس من التفكير ومواجهة الواقع وتحمّل مسؤوليّة الحياة وما تقتضيه من تغيير، هي وصفة للكسل والانغلاق وللكراهية. والفكر المؤامراتيّ مهدِّمٌ في النهاية، وفيروس كورونا فَضَحَ تأثيره القاتل؛ فمقابل التوصيات الطبّية بضرورة التباعد ووضع الكمّامات، حمايةً للذات وللآخرين، تصاعدت الأصواتُ تشكّك بوجود الفيروس، وتعتبره جزءًا من مؤامرة كونيّة، معتمدةً على ترّهات تفوّه بها بضعة موتورين، ضاربةً بعرض الحائط كلّ النتائج العلميّة التي يقوم بها آلاف من البحّاثة عبر العالم. ونتلمّس تأثير غياب العقل في أمور الإيمان أيضًا، بشكل غياب في القدرة على التمييز. فمع فيروس كورونا، تصاعدت اتّهامات بالهرطقة لكلّ من تسوّل له نفسه الدعوة إلى ابتكار وسائل أخرى للصلاة الجماعيّة والمناولة، تحترم الحياة أمام الواقع الفتّاك. فصار استخدام الملعقة - وهو أمرٌ لا معنى له لاهوتيَّا - عند "عُتاة" الأرثوذكس جوهريّا حتّى العظم، وصارت الدعوة إلى الامتناع عن الاجتماع الصلاتيّ والتبصّر في خطوات أخرى لمتابعة الحياة الصلاتيّة والمناولة، هرطقةً وكفرًا بالإيمان "القويم". وفجأة صارت المناولة دواءً شافيًا للجسد، مع أنّ القائلين بذلك - ويا للعجب - لم ينفكّوا يوما عن طلب الطبابة. وغدا الموت بكورونا تعبيرًا عن الشهادة من أجل يسوع، في خلط بين معنى الشهادة الإيمانيّة والانتحار والقتل، بين الموت الذي قد يَنتجُ عن عدم التراجع عن الإيمان، وبين رمي الذات في التهلكة انتحارًا ذاتيّا وقتلًا للآخرين. في كلّ هذا، نحن أمام ضياع العقل والخلط بين الجوهريّ والعرضيّ، بين الإيمان وبين السحر، في حماسة سطحيّة تشوّه الإيمان. وما أضعف القدرة على مواجهة التحدّيات اليوم هو ما سمعناه من خطابات لاهوتيّة شكّكت لسنوات بالعقل دون تمييز، ووضعت "النسك" الأرثوذكسيّ في مواجهة مع "العقلانيّة" واللاهوت الغربيّ، بل والغرب كلّه على أساس أنّ كلّ نتاجه منفصل عن الله ودهريّ! طبعًا، من حسن الحظّ أنّ معظم المسؤولين الكنسيّين دعوا إلى إقفال الكنائس أمام التجمّعات، وإنْ ما زالوا يبدون نقصًا فادحًا في القيادة يجعلهم يُحجِمون عن أيّ خطوة ودراسة عقلانيّة لمواجهة أوضاع مستجدّة ومخاوف (المناولة من الملعقة، مثلًا) ستبقى ملحّة لسنوات بعد كورونا. تلتقي هذه المواقف كلّها على أمر واحد: إنّها لا تأبه لحياة الإنسان. جذور هذه الأزمة تكمن في أنّ حياة الإنسان الملموسة لم تعد محور الإيمان؛ إذ غدا الإيمان، في بعض التعليم الدينيّ، وكأنّه صراعٌ بين الإنسان وبين الله تُعطى فيه الأولويّة لله على الإنسان. ينسى أصحاب هذا التوجّه أنّ الله نفسه ليس مرغوبًا إلاّ لكونه يحبّ الإنسان أولاً قبل أن يطلب من الإنسان أن يحبّه بحرّية؛ وأنّه لذلك يريد للإنسان الحياة والحرّية. لولا ذلك لكانت علاقتنا بالله إرهابًا وعبوديّةً ولما كانت مرغوبةً أبدًا. إنّ إعادة الاعتبار إلى محوريّة الإنسان-الشخص في الفكر والممارسة الدينيَّين أساسٌ للبدء من الخروج من هذه الأزمة. ولتكون هذه المحوريّة حاضرة أبدًا حتّى في حالة غياب العقلانيّة، لم يتركنا الله بل وضع فينا غريزة الحياة التي تدفع الناس لحماية أنفسهم وكبارهم وصغارهم. لاهوتيّا، غريزة الحياة هي من آثار خلق الإنسان من العدم، وتوقه الدائم إلى التمسّك بالحياة، وعدم العودة إلى العدم، ومن هنا خوف الإنسان من الموت. خاف يسوع من الموت، لأنّ الطبيعة الإنسانيّة نفسها ترفض الموت. رجاؤنا اليوم أن تسدّ غريزة الحياة الفجوة التي تركتها اللاعقلانيّة عند الكثيرين. بالطبع يمكن للإنسان أن يتجاوز الخوف من الموت فيضحّي بنفسه فداءً لآخرين أو إخلاصًا لذاته (إيمانه مثلاً)، هذا لا يقوم به من يرمون اليوم أنفسهم وغيرهم في التهلكة، هؤلاء يقدّمون أنفسهم أضاحٍ أمام صنم الموت، من يقدّم نفسه فداءً، اليوم، هم الأطبّاء والممرّضات ومصوّري الأشعّة وعمّال الخدمات الأساسيّة (أكل، شرب، صيدليّات، إلخ)، ومن يضطر أن يعمل لأنّه إن لم يعمل سيتضوّر وعائلته جوعًا في ظلّ غياب وجود دولة. هؤلاء شركاء إله الحياة في خدمة الحياة. الشكر لهم ولله واهب نعمة العقل، وخالق غريزة الحياة، اللذين بهما ينادينا إلى الحياة الحقّة التي هو لبّها. |
الكاتبخريستو المر الأرشيف
December 2023
Categories |