الدم المضيء
الثلاثاء ٢٨ نيسان/ أبريل ٢٠٢٠ (إلى فوّاز السمّان شهيد لبنان في طرابلس) "هناك هيكليّات للعنف داخل البلد الواحد. لا بدّ لنا من الاحتجاج على السلطة التي تسلب الناس إنسانيّتهم" (المطران جورج خضر) "وماذا يعطي الإنسان فداء عن أحبّائه؟" سأل يسوع ولم يجب، جوابه كان ذهابه طوعا في مواجهةٍ للوحشيّة، الجميلة المنظر، المرفّهة، الحلزونيّة، المغتبطة بذاتها، المسلّحة بالقوانين وبالسلاح، والتي أبلغها قبل حين أنّها "تبلع الجمل وتغصّ بالبعوضة"، وأنّها تكذب كنفاق حجر ٍجميلٍ فوق قبرٍ... جوابه كان ذهابه طوعا في مواجهته حتّى النهاية، أي حتّى ولو قتلوه وقد قتلوه. مفارقة الشهداء أنّهم يحبّون الحياة ويقاتلون من أجلها، من أجل من يحبّون، وأنّ المتوحّشون لا يتركونهم يعلنون حبّهم للحياة إلاّ بالدم. السلطة إذا صارت هدف نفسها توحّشت. والذين يشهدون اليوم للحقيقة بأنّ السلطة متوحّشة في لبنان هؤلاء يصبحون شهداء للحقيقة. وشهادة الكلمة للحقيقة قد تقود إلى شهادة الدم، وقد قادت قبلا يسوع. ويبذل الإنسان دمه من أجل تأكيد الحقيقة لكون الحقيقة تلدنا في الله، والولادة "من فوق" أغلى من الدم، والدم الذي أُهرق على صليب الخبز اليوميّ، أكثر بلاغة من كلمات ومقالات وكتب طالعة من مَحَافظِ البنوك. تأتي شهادة الدم لتتوّج شهادة الكلمات التي نقول والتي نفعل، وهي توحّدنا بجسد المسيح وترسمه في عيوننا. ويمحو دم الشهداء الفرق بين كلماتهم وأفعالهم وأجسادهم وأرواحهم، فيصبحون أغانٍ في قصيدة الشاعر الأكبر. أصنام البطش فضّة وذهب، هي من أعمال جرائمِ الناس. لها إفواهٌ وقنواتٌ تلفزيونيّة وإذاعاتٌ ومواقع انترنت وصحفٌ ولا تتكلّم بالحقّ. لها عيون وكاميرات ولا تُبصر جريمة في وضح النهار. لها آذان وميكروفونات ومخابرات ولا تسمع حشرجة لا الموتى ولا الأحياء. مثلها هم صانعوها: أصنام ستنكسر يوما على صخرة صنم آخر، أو معول ثائر، وبالتأكيد سيكسرها الموت: عندها لا يمكنها أن تهرب من وجوهها، من تلك الفجوة الغائرة في القلب والتي تأكلها حتّى أعماقها. للشهادة الكلمة الأخيرة. هي الدم الذي يعلن أنّ الوجوه واحدة، وأنّ أجساد الفقراء دينونة الأغنياء. القادم من الصليب والقيامة يفهمون أن الوحدة مع المصلوبين هي خبزهم اليوميّ، وهي تجلّي أحلامهم بمعانقة الله. والذين واللواتي أطلقتهم العنصرة حضورا في العالم، يعرفون أنّهم مطالبون بأن يكونوا أكثر كثافة في الحضور في هذا العالم من المادّة، وأكثر شفافيّة من الريح التي لا يُعرف من أين تأتي ولا إلى أين تذهب. يأتي الثائرون في هذا العالم، على وحشيّة هذا العالم، من المسيح، ويذهبون إليه. بهم نعرف كيف يمكن للضوء أن ويسمع ويرى يقول ويفعل. بهم نعرف كيف يمكن لنا أن نصير شركاء الثورة الإلهيّة على حجر القلب لتدحرجَه، فيعود النبض. لا يعرف الشهداء المحبّون الصفقات، هم تعلّموا من ريح تهبّ في القلب أنّ المُحبّ يموت من أجل المحبوب، وقد رأوا الله نفسه إنجيلاً فوق صليب؛ ولا تموت العصافير فوق صليب إلاّ لتطير إلى آفاق الحقّ، وتُطْلِق الأحياء نحو الشمس، وتضيء بدمها-حبّها الطريق. خريستو المرّ الحبّ الذي يتجلّى
الثلاثاء ٢١ نيسان/ أبريل ٢٠٢٠ خريستو المرّ نور الله الأبديّ ليس في مكان ما على هذه الأرض أو بعيدٍ عنها، ولا نحن نجده في شعلةٍ ما. نور الله الأبديّ هو أقرب إلينا من أنفسنا. فَإِنْ قيل أنّه ها هُوَ هنا، أو هناك، في البرّية أو الشعلة أو المدينة أو القرية فلا نَخرج ولا نُتْعِب أنفسنا، لأنّ نور الله هو في "القلوب"، داخل الإنسان، في كيانه، في عمق ما يقول فيه: أنا. يُضيء اللهُ الإنسانَ بالروح القدس، يُضيئه من الداخل، فيحلّ فينا الملكوت اليوم، وننمو فيه، وينمو فينا على هذه الأرض. المسيح نفسه فينا ونحن فيه. ألا يكفينا هذا؟ وهل من أكثر؟ يحضن الله الخليقة كلّها ويشعل القلوب بالحبّ والحرّية. وتكفي هاتان الكلمتان ليكون الانجيل من أخطر الكتب، في الكنيسة وفي العالم. مشكلة محبّي التحكّم بضمائر العباد – في الكنيسة وخارجها – أنّهم يتعاملون مع يسوع المسيح المكتوبة تعاليمه في كتاب لا يمكنهم تمزيقه ولا تهميشه ولا حرقه وسيعارض أهواءنا إلى الأبد. الانجيلُ يفخّخ أكبر سلطة في هذا العالم لأنّه يحمل رسالة تحريريّة لا يمكن محوها، مهما فعل من جعلوا هدف حياتهم إدارة الضمائر، ومن رشّحوا أنفسهم لإدارتها. "قام المسيح ولا ميّت في القبر"، كما تقول قطعة طقسيّة فصحيّة. حسنا، قام المسيح، فماذا نفعل الآن؟ إنّ وجود المسيحيين ككنيسة تكوّنها المناولة (سرّ الشكر)، يكمن في نموّ شخصيّ وجماعيّ في يسوع القائم من الموت، مسيرة اتّحاد في المسيح القائم. هذا التوجّه العاموديّ – ان صحّ التعبير – لا يمكنه أن يكون مقطوعا عن التوجّه الأفقيّ، عن التزام هذه الأرض، عن عيش فرح القيامة في هذا العالم. لفتني مرّة أحد الكتّاب - ولا يحضرني الآن من هو وكلّنا تتلمذ لكثيرين من تلاميذ يسوع- إلى قول لوقا في كتاب أعمال الرسل بعد صعود المسيح «وفيما كانوا يَشْخَصون إلى السّماء وهو مُنْطَلِقٌ، إذا رجلانِ قد وقفا بهم بلباسٍ أبيض، وقالا: أيّها الرجال الجليليّون، ما بالكم واقفين تنظرون إلى السماء؟ إنّ يسوع هذا الذي ارتفع عنكم إلى السماء سيأتي كما رأيتموه منطلقا إلى السماء» (أعمال 1: 10 11)؛ وكأنّهما كانا يقولان لنا بأنّ بعد الصعود: ما بالكم واقفين تنظرون إلى السماء تبحثون فيها عن المسيح؟ المسيح بينكم. مهمّتكم الآن هي أن تنظروا إلى الأرض، أن تعمّدوها، أن تحوّلوها كما يحوّل الخمير العجين، كي تحمل طعم الخبز السماويّ، أن تعملوا على بثّ روح الحبّ والحرّية في هذا العالم ليصبح بالفعل لا القول عالم الله. أليس ملكوت الله هو ملكوت الحبّ والحرّية؟ بلى إنّه كذلك، يكفي يسوع في الانجيل لنفهم ذلك، يسوع هو السلطة العليا في الكنيسة؛ ولكن لمن يحتاج لكلام آخر ليطمئنّ قلبه، فهذه كلمات واضحة للقدّيس اسحق السريانيّ «الحبّ هو الملكوت الذي حدّثنا عنه السيّد رمزيّاً عندما وعد تلاميذه أنّهم سيأكلون في الملكوت: "لِتأكلوا وَتشربوا عَلَى مَائِدَتِي فِي مَلَكُوتِي". ماذا سيأكلون إنْ لم يكن الحبّ؟ الحبّ يكفي لإطعام الإنسان بدلاً من الطعام والشراب. هو النبيذ الذي يُسعد قلب الإنسان. طوبى لمن شرب هذا الخمر»؛ وأيضا إشارة اسحق السرياني إلى أنّ الملكوت هو "وطن الحرّية". وهل من حبّ ممكن دون حرّية؟ إنّ إيمان الكنيسة بنزول المسيح إلى الجحيم لا يكمن في التصديق بـ"أعجوبة"، إيمان الكنيسة بنزول المسيح إلى الجحيم، ليحرّر المعتقلين، يكمن في نزولها إلى جحيم هذا العالم في إثر سيّدها، مع كلّ الذين نزلوا في إثره علموا أم لم يعلموا، لتلاقي سيّدها وتحرّر معه المعتقلين: معتقلي جحيم الفقر والاستغلال والعزلة والأسر. المسيح هو هناك، أي هنا، مع المرميّين على قارعة الحضارة، هنا في جحيم الأرض تحفظ الكنيسة نفسها كنيسةً، عروسًا للمسيح. وأين يتجلّى الحبّ حبًّا إن لم يكن في الجحيم؟ الثلاثاء 14 نيسان/ أبريل ٢٠٢٠ (كورونا - بداية الأسبوع الخامس من الحجز الطوعيّ)
نتلمّس الفصح، والموت رابضٌ حولنا، وان انتبهنا فهو رابضٌ فينا. حولنا أوجاع المرض، والفقر، وامتهان الكرامة. هي الأرض قد استلمناها كما هي ولن نسلّمها كما استملناها لأنّ المسيح جاء ونصب خيامه بيننا، مرّة وإلى الأبد، وقال اذهبوا واعجنوا هذا العالم بخميرة الحبّ؛ وزِّعوا خبز عيونكم جسدي، واسكبوا خمر جراحكم دمي حتّى تُحيونَ العالم الذي يحبّكم والذي لا يحبّكم، وهذا يجعلكم كلّكم معًا خليقة جديدة. ونحن هنا لا بدّ أن نتوجّع لأنّ الأرض أرضٌ، لكنّ الأوجاعَ تنكسر شوكتها بالحبّ. ومن كَسَرَ شوكة الموت يكسر شوكة الأوجاع في أولئك الذين تعلّموا فنّ الحبّ على يديِه وأيدي الذين أحبّوه فنقلوه، أولئك الذين يعرفونه وأولئك الذين يظنّون أنّهم لا يعرفونه. نهتمّ لأمور كثيرة ولأناسٍ كثيرين وهذا تعبير محبّة لا غشّ فيه. ولكنّ واحدًا عرف أنّ هناك شيئًا أبعدَ. واحدٌ اتّكأ على صدر المعلّم وعرف أنّ العشاء الوحيد هو عشاء الحبّ، وأنّ الحبَّ شبعُ جوعٍ لا يشبع، وأنّ الخبز اليوميّ هو ذاك الأبديّ، وأنّه وجه السيّد. وجهكَ هو العيدُ الذي يُذيقنا فرحَ جزيرةٍ جميلةٍ، بعيدةٍ خلف بشاعات العالم، قريبةٍ من استراحةِ الضوء فوق زهر الصباح. وجهك هو الفصحُ، ونحن نحضنُ الأرض ونضمّنا إلى جُرحِكَ وفمك، أيّها المصلوب القائمُ، لتُسلمَ روحك فينا، علّ الأوهام تقع عن القلوب فتخلع عنها الهروب فتفرح. كيف نعود إلى رحمتك الوسيعة لتلدَنا من جوفك من جديد؟ كيف إن لم نرَك في وجه المصلوبين ولم ننزل الجحيم معهم لنكون معك، ونقوم معك؟ لن يُشعلنا بالحياة إلاّ الحبّ، والحبّ قادرٌ على الخلقِ وعلى إحياء الموتى. وإن لم نحيَ من موتنا اليوم فقد لا نعرف أن نحيا عندما نذهب يومًا إلى عشائك الأخير الأخير، أي ذاك الذي هو أوّل. حتّى ذلك الحين، لنا في وجهك، وفي وجوه مَن يحبّونا ونحبّهم، أي في وجهك، لنا فصحٌ صغيرٌ يؤجّج الضياء فينا كل يوم، والفصح شاة صغيرة ثغاؤها جسرٌ ماسيّ فوق هاوية العدم. لا يحمل شمسك سوى العشق، ولا يعرفك إلاّ العاشقون، هؤلاء الذين إذا ضمّوا بعضهم بعضا غابت عنهم الحدود التي لا تغيب بين الحبيب والحبيب. ثمّ إذا تدحرجوا عن الوحدة أكلوا كسراتِ الخيبة ليتعلّموا الحبّ أعمقَ، ويتسلّقوا من الصورة إلى المثال، ويفتّشوا عن وجهك الذي لا يغيب والذي لا يدعنا نغيب. لقد قمتَ حتّى نصيرَ فيك، ونعرفَ أنّنا محبوبون إلى الأبد، فلا نخشى الموت. وحدهم العاشقون وجدوك، فتّشوا عنك أم لم يفتّشوا، هم جسدك المشرقُ في عتم العالم. سيعرفُك العاشقون يوما ويكون فصحهم الأكبر أتى. عرفناك خبزنا وخمرنا، يا فصحنا، ياعبورنا منّا إليك، يا عبورنا إلينا. يا فصحنا اليوميّ، يا مسيح الله، يا فقيرًا معلّقًا على كلّ صليب، يا قائما ومُقيمنا من كلّ موت، يا فصحنا الأحبّ. أيّها الحبيب. ها أمامك هي حياتنا الترابُ والضوء، فانفخِ الروحَ فيها حتّى لا يبقى فينا إلا النشيد. خريستو المرّ «الرمز» وسرّ الشكر
السبت ٤ نيسان/ أبريل ٢٠٢٠ (كورونا - نهاية الأسبوع الثالث من الحجز الطوعيّ) القدّاس، أو سرّ الشكر (سرّ بمعنى mystère/mystery وليس بمعنى secret)، القائم على تناول جسد ودم الربّ يسوع المسيح، هو سرُّ اتّحادِ المؤمنات والمؤمنين بيسوع المسيح، بكيانه[1]. المسيح نفسه في الإنجيل، وقدّيسون مثل إيريناوس أسقف ليون، والذهبيّ الفم، والنيصصيّ وغيرهم، يؤكّدون جميعًا أنّ ما يتمّ تناوله هو جسد ودم الربّ "فالمسيح بمنحه نعمتَهُ يُوزِّع ذاته في كلّ مؤمن بواسطة هذا الجسد الذي يأتي وجوده من الخبز والخمر، المسيح يتَّحدُ هو نفسه بأجساد المؤمنين..."، كما يقول القدّيس غريغوريوس النيصصيّ[2]. في القرن الثامن، ومع ظهور بدعة محاربة الأيقونات، برزت مواقف تقول بأنّ الأيقونة الوحيدة المقبولة للمسيح هي جسد ودم الربّ. هنا أعلنت الأرثوذكسيّة أنّ جسد ودم الربّ ليسا مجرّد أيقونة للمسيح صالحة للتأمّل، بل هما المسيح المُمَجَّد بعد القيامة، وأنّنا بالمناولة نُساهمُ في إنسانيّة يسوع المُمَجَّدة[3]. وعلى خطى القدّيس أثناسيوس الإسكندريّ، الذي قال إنّ "الإله صار إنسانًا ليصيرَ الإنسان إلهًا"، كتب القدّيس نيقولا كاباسيلاس بعد قرون عديدة: "بما أنّه لم يكن من الممكن بالنسبة لنا أن نعلو إليه، ونشاركه بما له [أي الألوهة]، فهو الذي نزل إلينا وشارك في ما هو لنا [أي إنسانيّتنا]. وقد تطابق بدقّة مع ما اتّخذه [أي إنسانيّتنا] بحيث أنّه بإعطائه لنا هذا الذي تلقاه منّا [إنسانيّته] فإنّه يعطينا نفسه. وفي تقاسمنا جسدَ ودمَ إنسانيّته، فإنّنا نستقبل الله نفسه في نفوسنا"[4]. وقد كتب المطران جورج خضر يومًا أنّه "في الفلسفة اللاهوتية التي وراء الكلام: جسدي هو انا والدم هو حياتي"[5]. الذبيحة الإلهيّة هي المسيح الممجَّد نفسُه، أرثوذكسيًّا، لا جدل في ذلك. هذه حقيقة إيمانيّة روحيّة نعبّر عنها بكلمات بشريّة. من هذه الكلمات كلمة "رمز". وكلمة "رمز" ليست بحدّ ذاتها تعبيرًا هرطوقيًّا، وإلّا لكان شخص مثل القدّيس مكيسموس المعترف هرطوقيًّا لأنّه استعملها[6]. عندما نستخدم كلمة، علينا أن نفهم ما هو المكتوب والمقصود. كلمة "رمز" لها معانٍ مختلفة باختلاف الكاتب والعصر والإيمان. واستخدامنا لها هو في خطّ اللاهوت الأرثوذكسيّ. ومِنَ المعبّرين عن هذا اللاهوت في عالمنا المعاصر، الأب ألكسندر شميمن. يشرح الأب ألكسندر شميمن معنى الرمز في الأرثوذكسيّة فيقول: "إنّ المعنى الأساس لكلمة «رمز» ليس أبدًا موازيًا لـ«تصوير»... إنّ هدف ووظيفة الرمز ليس تصوير... وإنّما إظهار وإيصال ما يريد الرمز إظهاره. يمكننا القول بأنّ الرمز لا «يشبه» كثيرًا الحقيقة الذي يرمز إليها وإنّما هو يساهم فيها، وبذلك هو قادر أن يوصلها في الواقع... بطبيعته، يوحّد الرمز حقائق مختلفة..."[7]؛ وفي كتاب آخر يميّز بين الرمز التفسيريّ (illustrative symbolism)[8] والرمز القويّ الذي يتّحد مع الحقيقة التي يعبّر عنها. يعود شميمن إلى القدّيس مكسيموس المعترف ليشرح معنى الرمز القويّ، فيكتب أنّ "الرمز بالنسبة لمكسيموس... لا ينفصل عن السرّ... هو طريقة حضور وعمل السرّ... هو حقيقة الأمر الذي يرمز إليه"، ويشير إلى أنّ القدّيس مكسيموس يستعمل كلمة "رمز" في إطار كلامه عن جسد ودم المسيح في الإفخاريستيّة[9]. وبالفعل، يستخدم القدّيس مكسيموس كلمة رمز بشكل يوحّد بينه وبين المرموز إليه، كما يظهر مثلاً في عبارةٍ في Ambigua 10 حيث يكتب بأنّ كلمة الله «كان يجب أن يخلقَ ذاتَه حسب ما نحن عليه بلا تَغَيُّر، وذلك بسبب محبّته للبشر التي لا تُقاس، مُقتبلاً أن يصير رمزاً ورسماً لذاته. كان يجب أن يُظهر ذاته من ذاته رمزيّاً، وأن يقود بيده، ظاهراً، الخليقة كلّها، بذاته إلى ذاته، بوصفه غير مرئيّ.... وذلك بواسطة أفعاله الإلهيّة الظاهرة في جسده»[10]. في هذه العبارة يقول مكسيموس إنّ يسوع المسيح هو «رمز» للابن، بمعنى أنّه هو الابن، الرمز إذاً هنا يتماهى مع المرموز إليه. ويرى أستاذ اللاهوت الأرثوذكسيّ د. أسعد قطّان أنّ عبارة "بلا تغيّر" تشير إلى أنّ القدّيس مكسيموس يربط بين نصّه حول الرمز وبين مجمع خلقيدونية وقراراته حول طبيعتي المسيح المتواجدتين معًا "دون اختلاط، أو تحوّل، أو انقسام، أو انفصال"، أي أنّ القدّيس يرى بأنّ الرمز والمرموز له، هما واحد، دون أن يفقد أحدهما طبيعته، كما أشرت من جهتي في مقالتي السابقة[11]. الاستعمال العاديّ اليوميّ لكلمة "رمز" هو استعمال للعبارة بالمعنى الضعيف، معنى التمثيل والإشارة، وهو لا يؤدّي المعنى القويّ الذي استخدمه بعض الآباء والذي شرحناه فيما تقدَّم، ولهذا عادة ما نتجنّب استعمال الكلمة منعًا لسوء الفهم. لكنّ استعمالنا العاديّ اليوميّ لكلمة "رمز" لا يمكنه أن يلغي تاريخَ استخدامٍ أرثوذكسيٍّ مقبولٍ لها. إنّه من الحكمة أن نركّز على المعنى المقصود عندما نقرأ نصًّا ما. هذا الاستسهال والتسرّع بإطلاق أحكام الهرطقة هو تمامًا ما أنتقده. بالتأكيد هناك من يقول إنّ الجسد والدم كلمتان رمزيّتان – بمعنى الرمز الضعيف - وليسا بالفعل جسد ودم الربّ؛ هذا بالطبع خارج الإيمان الأرثوذكسيّ، ولا علاقة له بمقصود الرمز كما استعملتُه في مقالتي السابقة بناء على استعمال الأب ألكسندر شميمن، والأب توماس هوبكو، والقدّيس مسكيموس وغيرهم، لكلمة رمز. فكما قال الأب توماس هوبكو "يستخدم التقليد الأرثوذكسيّ مصطلح «الرموز» للتقدمات الإفخارستيّة. وتسمّى الخدمة «سرًّا»، وتسمّى ذبيحة القداس «ذبيحةً روحيةً غير دمويّة». هذه العبارات مُستخدمة من قبل الآباء القدّيسين، والليتورجيا نفسها. تستخدم الكنيسة الأرثوذكسيّة مثل هذه التعبيرات لأنّ في الأرثوذكسية، لا يتعارض ما هو حقيقيّ مع ما هو رمزيّ أو صوفيّ أو روحيّ. بل على العكس تمامًا، فمن وجهة النظر الأرثوذكسيّة، الواقع كلّه- العالم والإنسان نفسه - هو حقيقيّ بقدر ما هو رمزيّ وصوفيّ، بقدر ما أنّ الواقع نفسه يجب أن يكشف ويُظهر الله لنا"[12]. إنّ هاتين المادّتين اللتين نراهما بأعيننا، أو تحت الميكروسكوب خمرًا وخبزًا، نراهما بعيون الإيمان يسوعَ المسيحَ نفسَه، ونؤمن أنّ بهما نتّحد بالمسيح الممجّد ونستقبل الله في نفوسنا[13]. أن نرى الخبز والخمر كمادّتين من هذا العالم ليس بالشيء الغريب، فهو أمرٌ تفرضه علينا التصرّفات الليتورجيّة نفسها، فالكاهن عادة يقوم بتجفيف أجزاء من القربان المقدّس بعد الذبيحة الإلهيّة، لتتبخّر المياه منها، فتصبح قابلة للحفظ لمدّة أطول، ليقوم باستخدامها في مناولة المرضى عند الضرورة. كما وأنّه في أوقات الأوبئة قد تسمح الكنيسة للمؤمنين بأخذ جزء من القرابين المقدّسة إلى المنزل وتدعوهم لتجفيفها، وتناولها في المنزل لاحقًا طالما استمرّت الأوضاع (أوبئة، اضطهادات) التي تمنعهم من المشاركة في القدّاس الإلهيّ، كما حدث في الكنيسة الأرثوذكسيّة في بريطانيا خلال وباء كورونا[14]. والكنيسة بهذا التدبير تسير على خطى المسيحيّين الأقدمين، والرهبان، على ما يذكر القدّيس باسيليوس الكبير[15]. ولنتذكّر أنّه عندما تقع قطعة قربان من الكأس على الأرض، يقوم الكاهن بتناولها بفمه، ويضع جمرةً فوق المكان الذي وقعت عليه لكي يحرق ما تبقّى من آثارٍ للخبز والخمر، ويسبّب بتبخّرها. إذًا، الكنيسة تتعامل مع مادتي الخبز والخمر بحسب خصائصهما الطبيعيّة بالرغم من أنّها تؤمن بأنّهما جسد الربّ ودمه. هذا عدا عن أنّها تتعامل بمطواعيّة مع المناولة (المناولة الذاتيّة في المنزل) كـ«تدبير» تفرضه الظروف. كون الخبز والخمر هما في مطلق أيّ تحليل مخبريّ، وبعيون البشر أجمعين، وبموجب العادات الليتورجيّة، هما خبز وخمر من الطبيعة المادّية، يمكننا أن نقول إنّهما "رمز" بالمعنى الأرثوذكسيّ القويّ للعبارة بمعنى أنّهما "شيء" يجمع حقيقة الخبز والخمر الفيزيائيّة-الكيميائيّة، بالحقيقة الإيمانيّة (جسد الربّ ودمه)، فكلمة "رمز" (symbolon) في اليونانيّة تعني تحديدًا "ما يربط بين واقعين". أيُّ شيء يَظْهَرُ في "شكلٍ" ما، ولكنّه يحمل حقيقة أخرى؛ هذا هو الرمز بالمعنى القويّ للعبارة (وليس المعنى الشائع)، وفي سرّ الشكر يبلغ الرمز أعلى درجاته في الوحدة الكاملة بين الرمز والمرموز إليه. هذا ليس هرطقة، هذا تعبير عن الواقع الإيمانيّ الأرثوذكسيّ بلغة إنسانيّة يمكن أن يفهمها المسيحيّ وغير المسيحيّ، والمؤمن والملحد واللاأدري، وكلّ من يقرأ بتأنٍّ. وإذا أردنا العودة إلى عقيدة طبيعتي المسيح الإنسانيّة والإلهيّة، فإنّي أعتقد أنّها يمكنها أن تساهم في إيضاح كيف أنّ، في سرّ الشكر، الخبز والخمر هما مادّيان، وهما في الوقت نفسه جسد الربّ ودمه. فكما أنّ يسوع هو بطبيعتين إنسانيّة وإلهيّة لا تنفي أحدهما الأخرى، ففي سرّ الشكر، الخبز والخمر هما من طبيعة هذا الكون، وفي الوقت نفسه هما جسد الربّ ودمه. لا هذا يلغي ذاك ولا ذاك يلغي هذا. إنّ طبيعتي المسيح الإلهيّة والإنسانيّة تتبادلان الخصائص الإلهيّة والإنسانيّة في شخص الابن. فأقنوم الابن يوصل (communique) لطبيعته الإنسانيّة خصائص تحتويها الطبيعة الإلهيّة، كالمجد الإلهيّ مثلاً، وفي المقابل تسمح الطبيعة الإنسانيّة لأقنوم الابن المتجسّد بأن يختبر واقعنا المخلوق، فيتألّم، ويجوع إلخ... هذا ما تقوله عقيدة «تبادل الخصائص» الأرثوذكسيّة[16]. ربّما يمكن لهذه العقيدة أن تسهّل لنا أن نعي بأنّ المسيح يستخدم خصائص الخبز والخمر الفيزيائيّة-الكيميائيّة ليكونَ هو لنا طعامًا روحيًّا، فتمرّ من خلالهما خصائصه إلينا (إن صحّ التعبير)، فنتّحد به، وبذلك نتألّه. هكذا، فالخبز والخمر هما جسد الربّ المُمجَّد ودمه، وهما يحملان خصائصه، ولكن دون أن تغيب خصائصهما المادّية. ببساطة، طالما أنّنا نرى ونتذوّق، أو نختبر في المختبرات، أنّ الخبز والخمر اللذين تحوّلا إلى جسد الربّ ودمه بفعل نعمة الروح القدس، يبقيان على مرّكباتهما ويحتفظان بخصائصهما، فإنّه يمكننا أنّ نقول بأنّ المسيح المُمَجَّد يتجلّى في موادَّ من هذا العالم تحتفظُ بكامل خصائصها الفيزيائيّة-الكيميائيّة. هذا أمر بديهيّ، وقد عبّر إيريناوس أسقف ليون عن هذه البداهة فكتب في القرن الثاني أنّ "[المسيح] أعلن أن الكأس، وهي جزء من الخليقة، هي دمه الذي به يقوى دمُنا. كما أعلن أن الخبز، وهو جزء من الخليقة، هو جسده الخاصّ الذي يتمّ من خلاله تقوية أجسادنا"[17]، فـ"إنّ الخبز الذي يأتي من الأرض، بعد استدعاء الله، لا يعود خبزا عاديّا وإنّما إفخاريستيّا، مكوّنا من شيئين الأوّل أرضيّ والآخر سماويّ"[18]. إنّ استعمالنا لكلمة «الرمز» هو محاولة ضروريّة للتمييز الإيمانيّ، وذلك بسبب تأكيد العديدين أنّ المناولة لا يمكنها أن تحمل أيّة عدوى للإنسان لأنّها جسد الربّ ودمه (وكأنّها فقط جسد الربّ ودمه). استعمالنا لكلمة الرمز- بالمعنى القويّ الأرثوذكسيّ للعبارة - يؤكّد أنّ الخبز والخمر هما بالحقيقة جسد الربّ ودمه، ولكنّه في الوقت نفسه يضفي توازنًا على نظرتنا بحيث لا ننسى الوجه المادّي للخبز والخمر، اللذين بهما يتجلّى المسيح الظافر لنتّحد به ونتألّه. إنّ التوازن في النظرة إلى سرّ التجسّد، بحيث لا ننسى الطبيعة الإنسانيّة ليسوع، هو من ميّزات التراث الأنطاكيّ كما هو معروف في تاريخ الكنيسة، وهذه النظرة المتوازنة للخبز الخمر في سرّ الشكر هي، برأيي، في هذا الخطّ الأنطاكيّ، ونحتاجها اليوم أثناء تعاملنا مع وباء كورونا، كي لا يكون هذا التعامل غير متوازن فيكون، من حيث لا ندري، وبالاً على حياة الناس؛ بل يبقى أمينًا للتراث الذي لا بدّ أن ينسجم مع احترام الحياة والدفاع عنها. خريستو المرّ مراجع [1] بالطبع لا نعني بتناول جسد ودم يسوع، أكل لحمه وأعضاءه البيولوجيّة وشرب دمه من كريات بيضاء وحمراء وبلازما؛ وإنّما نعني الاتّحاد بكيانه يقول المطران جورج خضر "إن ثمة خبزا لا يُستغنى عنه وهو الخبز النازل من السماء ويريد به المسيحيون شيئين: الكلمة الالهيّة التي تصير لهم طعامًا، وما يتخذونه كقرابين يعتقدون أنّ يسوع يجعلها بالروح القدس إلى جسده ودمه، أي إلى كيانه" المطران جورج خضر، "البشرية والألوهة معاً"، الأحد 27 أيار 2012- السنة 79 - العدد 24742 [2] Meyendorff, J. (1975). Initiation à la théologie byzantine : l'histoire et la doctrine: Éditions du Cerf. p.268 [3] المرجع السابق [4] المرجع السابق ص. ٢٧٣ [5] جورج خضر، "دخول يسوع أورشليم"، النهار، السبت 27 نيسان2002 - السنة 69 - العدد 21246 [6] يقول مايندورف "إنّ الكبير مكسيموس المعترف، الذي يسنخدم مفهوم " الرمز"... يطبّق بشكل منهجي عبارتي "رمز" أو "صورة" على الليتورجية سرّ الشكر، وبشكل خاص على عنصري الخبز والخمر" راجع: Meyendorff, J. (1975). Initiation à la théologie byzantine : l'histoire et la doctrine: Éditions du Cerf. p.269 [7] Schmemann, A., & Kachur, P. (1988). The Eucharist: Sacrament of the Kingdom: St. Vladimir's Seminary Press. p.38-39 [8] Schmemann, A. (1981). Symbols and Symbolism in the Orthodox Liturgy. In D. J. Cons (Ed.), Orthodox Theology and Diakonia: Essays in Honor of His Eminence Archbishop Lakovos on the Occasion of His Seventieth Birthday. Massachusetts: Hellenic College Press. [9] المرحع الشابق ص. ١٢٣ أنظر أيضا في الموضوع نفسه Kattan, A. E. (2010). The Byzantine Icon: A Bridge Between Theology and Modern Culture? In A. E. Kattan, F. A. Georgi, a.-B. Dayr Sayyidat, & a.-B. Jāmi (Eds.), Thinking Modernity: Towards a Reconfiguration of the Relationship Between Orthodox Theology and Modern Culture. Balamand: St. John of Damascus Institute of Theology, University of Balamand. p.171-173 [10] يعود إلى الدكتور أسعد قطّان الفضل بنقل هذه العبارة إلى العربيّة [11] خريستو المرّ، "قراءة في الخطاب الأصوليّ المسيحيّ زمنَ كورونا"، مجلّة الآداب، ٢٠ نيسان/أبريل، ٢٠٢٠ موقع انترنت: قراءة-في-الخطاب-الأصوليّ-المسيحيّ-زمنَ-كورونا http://al-adab.com/article/ [12] Hopko, F. T. (2016). The Orthodox Faith: Vol 2: Worship (2nd ed.): St Vladimir's Seminary Press. [13] وبالطبع يجب بعدها أن نتابع الجهاد الحسن، ونكمل السعي لنصل بالتوبة إلى أن نتماهى مع يسوع المسيح [14] https://www.aidanorthodox.co.uk/wp-content/uploads/2020/03/The-Domestic-Church.pdf [15] يقول القدّيس باسيليوس الكبير في رسالة له "ولا داعي للإشارة إلى أن إجبار أي شخص في أوقات الاضطهاد على أخذ الشركة بنفسه دون حضور كاهن ليس مخالفة خطيرة، فطالما فرضت العادة هذه الممارسة... جميع الرهبان المتوحّدين في الصحراء، حيث لا يوجد كاهن ، يأخذون المناولة بأنفسهم، ويبقون المناولة في المنزل. وفي الإسكندرية ومصر، يحافظ كل واحد من العلمانيين، في معظم الأحيان، على الشركة في بيته ويشارك فيها عندما يريد". Saint Basil of Caesarea: To the Patrician Cæsaria, Concerning Communion, Letter 93 راجع أيضا: كوستي بندلي ومجموعة من المؤلّفين، "مدخل إلى العقيد المسيحيّة"، منشورات النور، طبعة 3، بيروت، 1982، ص. 237 [16] Meyendorff, J. (1969). Le Christ Dans la Theologie Byzantine. Paris: Éditions du Cerf. p. 230-233 [17] Irénée de Lyon, Contre Hérésies V, 2, 2 Clément, O. (2008). Sources: les mystiques chrétiens des origines : textes et commentaires: Desclée de Brouwer.p. 129 [18] Irénée de Lyon, Contre Hérésies IV, 18, 5 Clément, O. (2008). Sources: les mystiques chrétiens des origines : textes et commentaires: Desclée de Brouwer.p. 129 |
الكاتبخريستو المر الأرشيف
December 2023
Categories |