خريستو المرّ
الثلاثاء ٣١ أيّار / مايو ٢٠٢٢ "أثناء وقوفي في الشارع مع بعض الأصدقاء الفلسطينيين، لاحظت وجود فلسطيني مسنّ يسير في الشارع يقود حماره. وكان معه طفل صغيرٌ لا يزيد عمره ثلاث أو أربع سنوات، من الواضح أنه كان حفيده. اقترب عدد من الجنود الإسرائيليين الواقفين في الجوار باتجاه الرجل العجوز وأوقفوه. ثمّ توجّه أحد الجنود نحو الحمار وفتح فمه، وسأل، "أيها الرجل العجوز، لماذا أسنان حمارك صفراء؟ لماذا ليست بيضاء؟ ألا تنظّف أسنان حمارك بالفرشاة؟ " اغتمّ الفلسطيني العجوز، وبدا الطفل مستاءً. كرّر الجندي سؤاله وصرخ بوجهه هذه المرة، والجنود الآخرون يضحكون. بدأ الطفل في البكاء ووقف الرجل العجوز صامتًا مُهانًا. تكرّر هذا المشهد بينما تجمع حشدٌ من الناس. ثم أمر الجندي العجوز بالوقوف خلف الحمار وطالبه بتقبيل الحيوان من الخلف. في البداية، رفض الرجل العجوز، ولكن عندما صرخ الجندي في وجهه وأصبح حفيده في حالة هيستيرية، انحنى وفعل ذلك"، بهذه الحادثة تكشف سارة روي عن وجه الاحتلال الصهيونيّ والذي شهدت عليه عندما زارت فلسطين المحتلّة ١٩٨٥ قبل الانتفاضة الأولى بسنتين. هذا الوجه العنصريّ الذي لا يعتبر الآخر مساويًا في الإنسانيّة هو الذي يخفيه الإعلام الأوروبيّ والأميركي الشمالي في بلاد الديموقراطيّة وحقوق الإنسان، ويتناساه الكثيرون من اللبنانيّين والسوريّين، وتحاول الأنظمة الخليجيّة الخائنة للحقوق العربيّة أن تنسينا إياه تحت غطاء كثيف من بريق الاستثمارات والمال والتقدّم، ونحن لا ننسى كم دمّر الأوروبيّون والأميركيّون – وما يزالوا يدمّرون- شعوبًا حول العالم باسم " التقدّم"، وشعار "الديموقراطيّة" و"حقوق الإنسان" في فم الاستعمار والهيمنة الغربيّة اليوم هم صنو "التقدّم". لكن شتّان بين عام ١٩٨٥ وعام ٢٠٢٢ في فلسطين. القاعدة العامّة في الحياة على هذا الكوكب، أنّه لن ينتبه أحدٌ تقريبًا لظلم إن لم ينتفض المظلوم، ولن تأبه دولة له إن لم يزعجها المظلوم ويحرجها. الانتفاضة الأولى كانت المفصل الذي كسر فيها المقموع القابع تحت الاحتلال صمته، وقَبْلها حملت المنظّمات الفلسطينيّة السلاح خارج مناطق الاحتلال وذكّرت العالم أنّ الفلسطينيّين – على عكس ما أشاعت الدعاية الصهيونيّة – شعب موجودٌ ومُحتَلّ وترك بلاده عنوةً على عكس ما تقول الدعاية اليمينيّة اللبنانيّة. ثمّ جاءت اتّفاقيّة أوسلو والتي كانت ستارًا دخانيّا صُنِعَ ليحجب حقيقة كونه خطّة لإسكات الانتفاضة مقابل تفاوض أبديّ على «الوضع الأخير» الذي لن يأتي، بينما بقي قدم الأراضي والتنكيل والاحتلال مستمرّين بشراهة. نعم، شتّان بين ١٩٨٥ و٢٠٠٢، فبينهما أيضًا دَحر المقاومة لجيش الاحتلال في جنوب لبنان عام ٢٠٠٠، وتدمير الدعاية الصهيونيّة حول «الجيش الذي لا يُقهَر» في جنوب لبنان عام ٢٠٠٦. وبين التاريخين الانتفاضة الثانيية ونموّ القدرة الفلسطينيّة على مواجهة الاحتلال في الداخل والتي بلغت أوجها في المواجهة الموحّدة التي قام بها الفلسطينيّون أمام محاولات طرد سكّان حيّ "الشيخ جرّاح" في القدس، وتنمو هذه القدرة اليوم في معركة القدس والمسجد الأقصى. وفي سنوات طويلة ما بين ١٩٨٥ و٢٠٠٢ واجهت شيرين أبو عاقلة الكذب بكشف الوجه العاري للاحتلال، وما هتاف أحد المحتلّين الهائجين في القدس بأنّ " شيرين لم تعد موجودة" إلّا دليل على نجاحها مع زميلاتها (مثل جيفارا البديري التي اعتقلها الاحتلال مرّة) وزملائها على كشف وحشيّة الاحتلال. ما بين ١٩٨٥ و٢٠٠٢ لم تتغيّر عنصريّة نظام الاحتلال، بل ازدادت تعسّفا وإقصائيّةً، وقد كشفت كاميرا وتقارير شيرين، وكاميرات آلاف الفلسطينيّين اليوم، المزيد من التعسّف المقونن والتدمير الممنهج والتعالي العنصريّ المدمّر. حتّى في سقوطها شهيدةً رفعت شيرينُ العلم الفلسطينيّ بجسدها المدمّى في شوارع فلسطين، وشوارع القدس، وحرّضت على رفعه في الكنيسة وخارجها، ورفعه أيضًا البطلات والأبطال الذين واجهوا بأجسادهم العارية هراوات الاحتلال الوحشيّ ومنعوا وقوع جثمانها الملفوف بعلم فلسطين. وفي سماء القدس رفع الفلسطينيّون العلم الفلسطينيّ بواسطة مسيّرة صغيرة في رمزيّة معبّرة تهيّء لاحتفالنا بتحرير القدس من الاحتلال. وفي القدس نفخ فلسطينيّ شاب دخان سيجارته ببرودة فائقة في وجه جنديّ مدجّج، ليقول: أنا الأقوى لأنّي صاحب الأرض وأنت الأضعف لأنّك تعرف أنّك مُحتَلّ، وأنّ احتلالك إلى زوال. سيُباد الاحتلال كالدخان أمام الوجه الفلسطينيّ المقاوم فتكون الحرّية انتقام شيرين وكلّ فلسطينيّ بريء من قاتليه. خريستو المرّ
الثلاثاء ٢٥ أيّار / مايو ٢٠٢٢ في ٢٥ أيّار ٢٠٠٠، وتحت ضربات مقاومة استمرّت لسنوات طوال، انسحب جيش الاحتلال مدحورًا من لبنان. اليوم يوم فرح لأنّ الظُلم قُهِرَ فيه. خلال سنوات الاحتلال الطوال، كانت معزوفة المنهزمين (وعلى رأسهم بطريرك بكركي) بأنّ المطالبة بتنفيذ قرارات الأمم المتّحدة (القرار ٤٢٥) هو الكفيل بإنهاء الاحتلال لأنّنا بلد ضعيف. من يُريد، يفهم أنّ الدول الكبرى وأتباعها، تدوس القرارات الدوليّة متى تشاء، وأنّ الشعوب المقهورة لا يمكنها أن تبلغ العدالة دون أن تَغْلِبَ ظالميها، أو تقاومهم، حتّى تصبح كلفة الظلم ودعمه أعلى من كلفة العدالة. لا تُلزم الدول الكبرى نفسها تطبيقَ القوانين الدوليّة واحترامَ حقوق الإنسان، وحتّى اليوم لم يمثل واحدٌ من عتاة سفّاحيها، أكانوا رؤساء جمهوريّات أم وزارات، أمام أيّ محكمة دوليّة، بينما تهدّد تلك الدول بالقانون الدولي سفّاحي بلادنا عندما لا ينصاعون لأوامرها، وتغضّ الطرف (إلى حين) عنهم إن كانوا من اصدقائها. إسرائيل تقتل وتسحل وتسجن وتعذّب وتهدّد الفلسطينيّين يوميًّا، وتقصف وتقال في سوريّا، وتهدّد لبنان وإيران، دون أيّ تنديد يُذكَر لا من إعلامٍ ولا من حكومةٍ في بلاد "القوانين الدوليّة". أمّا حكومة الولايات المتّحدة فتهدّد الرئيس الروسيّ بالمثول أمام المحكمة الدوليّة، وهي حكومة بلد صوّت مع إسرائيل، والصين، وقطر، والعراق، وليبيا، واليمن ضد قانون روما الأساسي (The Rome Statute) الذي أنشأ المحكمة الدوليّة ولم يوقّع عليه. فَرَحُنا بالتحرير لا يُلغِ مسؤوليّة ما بعد التحرير، وهي مسؤوليّة مشتركة بين جميع مَن شاركوا في الحكم. لا يكفي التشديد على الدفاع عن السيادة على الأرض بطرد المحتلّ، دون ذكر استباحتها من قبل المصارف اللبنانيّة، ثمّ صندوق النقد الدولي، تلك الاستباحة التي يتشارك فيها أطراف هذا النظام الذين توحّدوا رغم خصوماتهم في اجتماع لجنة تقصّي "الحقائق" الماليّة الشهيرة التي عملت على حماية المصارف من أيّة خسارة. إنّ السيادة العزيزة في خطابات أحزاب النظام كافّة، فرشتها تلك الأحزاب أمام أقدام المصرفيّين، وأقدام الزعماء الناهبين. ما خلا خطاب مواطنون ومواطنات في دولة، كان الكلام الانتخابيّ عبارة عن حماسيّات خطابيّة وحشد مشاعر وذرّ للرماد في العيون. رغم ذلك، يبقى طرد المحتلّ، مهما كان موقف الإنسان من الحزب الذي كان له المساهمة الكبرى في طرده، دليلًا على قدرة شعبٍ صغير، في ظلّ دعم خارجيّ، أن يقاوم دولة تفوقه تسلّحًا بآلاف المرّات. ويبقى نجاح بضعة من المستقلّين عن أحزاب السلطة، جميلٌ، ولكن لن يتحوّل الجمال إلى أمل إلّا بتحويل النجاح الفرديّ إلى عمل جماعي تحت مظلّة وطنيّة مع أحزاب خارج السلطة. حتّى تحين ساعة تغيير هذا النظام الإجراميّ الذي أفقر ٨٠ بالمائة من الناس والذي نتمنّى دكّه دكًّا، فلنضع نصب أعيننا تلك الصورة الفاضحة لأحزاب النظام وهي تدافع عن المصارف بشراسة داخل لجنة تقصّي "الحقائق" الماليّة النيابيّة في مواجهة مع حكومة حسّان دياب وصندوق النقد الدوليّ الذي باتت تبدو سياساته أقلّ جرائميّة من تلك سياسات الأحزاب التي تريد بيع الأملاك العامّة، والإمعان في تفتيت حياة الناس وسيادتهم على حياتهم وبلادهم. خريستو المرّ
الثلاثاء ١٠ أيّار / مايو ٢٠٢٢ مثلما وبّخ البابا فرنسيس الفذّ بطريرك روسيّا على ألّا يكون "صبي مساعد على مذبح بوتين" بسبب مواقفه المؤيّدة للحرب والتي يخون فيها مبادئ الإنجيل، وهو موقف مناسب لكلّ بطريرك خادم على مذبح البطش والاستغلال (أي الرأسماليّة المتوحّشة)، وينطبق على باباوات وكرادلة سابقين وقفوا خدمًا على مذبح ديكتاتوريّات أميركا اللاتينيّة والفليبّين؛ وقف البابا ذاته وقال أنّ "الناتو النابح على أبواب روسيّا" قد يكون هو من سهّل إشعال نيران هذه الحرب. لا شكّ أنّ عبارات البابا حادّة تجاه حلف الأطلسيّ ولا شكّ أنّها ديبلوماسيّة تعبّر باختصار عن مسؤوليّة حكومات الغرب الاستعماريّة عن نشوب هذه الحرب وعن استمرارها. لقد بدت الحرب قريبة من النهاية عندما صرّح الرئيس الأوكرانيّ الدمية أنّ الحلّ لا بدّ أن يتضمّن حياد أوكرانيا (مَن يذكر موقفه في ٢٨ أذار؟) والذي سرعان ما لم يعد مطروحًا (أقلّه في الإعلام) بقدرة قادر. سيحارب الأوكرانيّون لأنّ ردّة فعل أيّ إنسان هو الدفاع عن نفسه عندما يُهاجَم، وستحارب الحكومة الأميركيّة حتّى آخر أوكرانيّ، فهي أعلنت مع البلدان الأوروبيّ الصاغرة أنّ الحرب هذه طويلة، وهو ما يناسب مصالح الولايات المتّحدة، ولكن فلننسَ المؤجّج الأكبر للحرب هذه (وحول العالم) ولنركّز على بوتين فهو ديكتاتور، والديكتاتوريّون هدف أسهل من الديموقراطيّين الذين يغسلون الدماء عن أياديهم بالدعايات الإعلاميّة المسمّاة «أخبارًا» تلفزيونيّة. نحن البشر الذين لا نتابع تفاصيل السياسات العالميّة كالمتخصّصين فاتنا أنّ حلف الأطلسي «نبح» كثيرًا على أبواب موسكو ولسنوات طويلة وأنّ بوتين لم يقف موقفا عدائيّا من الغرب، بل أنّه سعى إلى عضويّة حلف شمال الأطلسيّ. لكنّ الحلف أعلن مرارًا رغبته في وضع صواريخ في أوروبا الشرقية في مخالفة لمعاهدة بين الحلف وروسيا موقّعة عام 1997. أمّا الولايات المتّحدة فانسحبت عام 2001 من معاهدة الحدّ من انتشار الصواريخ الباليستيّة، ثمّ ضغطت لقبول عضوية جورجيا وأوكرانيا في «الناتو»، فما كان من روسيّا إلّا أن ردّت بحرب في جورجيا عام 2008. بعدها وفي عام 2010، أتى الانقلاب الذي قادته أميركا على انتخاب ديموقراطيّ في أوكرانيا إشارةً أخرى لرغبة حلف الأطلسي بمتابعة توسّعه وفرض أجندته، فما كان من روسيا إلّا أن ردّت عام 2014 بخرق القوانين الدوليّة وفرض هيمنتها على القرم. وقّع الجميع على معاهدة مينسك 2014 التي دعت إلى حلّ وضع منطقة الدونباس التي تمّ التنكيل بسكّانها، بإعطائها حكماً ذاتياً، لكنّ المعاهدة لم تُطَبَّق وبقي قصف المدنيّين مستمرّا دون كلمة واحدة من حكومات الغرب الطيّبة الكارهة لقصف المدنيّين. وأمام جمود ألمانيا وفرنسا الراعيتَين للاتّفاق، سعت روسيا للتفاوض مع الولايات المتّحدة، لكنّ الأخيرة انسحبت عام 2019 من معاهدة التخلّي عن الأسلحة النوويّة التي يبلغ مداها بين 500 و550 كلم. وانتهى الأمر، في حزيران 2021، برفض القادة الأوروبيّين من ناحية المبدأ الجلوس مع بوتين في قمّة بوتين ــــ بايدن حول لجم التسلّح النوويّ؛ فـمبدؤهم يقتضي عناق الديكتاتوريين من الأصدقاء فقط. وأخيرًا، يفيدنا الخبير العسكري السويسري جاك بو (Jacques Baud) الذي خدم في حلف الأطلسي، أنّ معلومات الحلف تقول أنّ الحرب في أوكرانيا لم تبدأ يوم أعلن بوتين بدء اجتياحه يوم ٢٤ شباط ٢٠٢٢، بل في ١٦ شباط ٢٠٢٢، عندما بدأت القوّات المسلّحة الأوكرانيّة قصفا واسعا متصاعدا تحضيرًا لاجتياح منطقة الدونباس، وهو ما كان يعلم به العسكريّون والحكومات، لا نحن. ما يغيب عن الصحفيّين والمثقّفين الذين ينتقدون موسكو هو النقد الأكثر ضرورة لسياسات حكومات «الغرب» الاستعماريّة المتواصلة والتي تتّبع تدميرا ممنهجا للكوكب، هذه الحكومات التي لا تمانع أن تتحالف مع الديكتاتوريّين حول العالم طالما هم يسمحون بنهب موارد بلادهم ويتّبعون سياساتها. لكنّ أقلام المحقّين بنقدهم لسياسات الكرملين لا تنتبه لسحق الشعوب لأنّه يتمّ بهدوء وبرويّة ودون جلبة أحيانا كثيرة، ولأنّ وسائل الإعلام الغربيّة الشهيرة حاضرة دائما لغسل دماء الأبرياء عن خريطة بلاد الديموقراطيّات السعيدة، ولإخفاء صوت العظام المتكسّرة بأناشيد الحرّية عندما تضطرّ حكومات الغرب الديموقراطيّة الطيّبة لاجتياح بلد أو لتلزيم اجتياح بلد (اليمن، ليبيا). الإخلاص للإنجيل الذي يطوّب صانعات وصانعي السلام بانّهم بنات وأبناء الله يُدعون، يقتضي أن يهتمّ الإنسان بنقد مَن يقوم الحرب وألّا يُهمل مَن يشعلها، وهذا ما كتبته منذ بداية هذه الحرب اللعينة. إن لم يعِ المثقّفون الأصيلون المناضلون في مجتمعاتهم الغربيّة لأجل الحقّ أنّ سياسات حكوماتهم الديموقراطيّة بالذات، وليس فقط تلك الديكتاتوريّة، قد تودي بالعالم إلى الهلاك، وإن لم تفهم أنّ ما من بلد أو شعب حيّ يقبل بأن يُحاصَر، وأنّ للدول الأخرى مصالحها أيضًا، فإنّ جبروتها سيصل إلى خواتمه: وبالٌ علينا جميعا في حرب عالميّة جديدة لن يسلم منها أحد. ندائي للأصدقاء والصديقات الساكنين في بلاد الغرب السعيد أن يرفعوا صوتهم ضدّ حكوماتهم كما رفعوها ضدّ بوتين، لأنّ تلك الحكومات تأخذهم وتأخذنا إلى الهلاك في حربها لفرض مصالحها وسيطرتها على الكوكب بأسره؛ هي تفعل ذلك الآن روسيّا من خلال أوكرانيا، والرئيس الأميركيّ الديموقراطيّ الطيّب بدأ عهده بتوتّر يعد ربّما بحرب مع الصين التي لا تملك إلّا قاعدة عسكريّة واحد خارج أراضيها (مثلها مثل روسيّا)، بعدما أعلنها "تهديدا" لبلاده التي تملك ما يناهز ٨٠٠ قاعدة عسكريّة في ٨٠ بلدًا حول العالم. إنّنا نشاهد اليوم كيف يسير العالم إلى حرب عالميّة وهو يهلّل للمبادئ السامية، والمثقّفون يشاركون في ذلك إن لم ينتقدوا حكوماتهم. يمكن وقف هذه الجنازة إن ساءَلَ المثقّفون حكوماتهم الديموقراطيّة (التي لا تتردّد في قمع الأصوات المعارضة، وجوليان أسّناج خير مَن يشهد) عن سياساتها الخطرة تجاه الحرب في أوكرانيا، وطالبوها أن تتّخذ مواقف أكثر عقلانيّة وأقلّ تهوّرا. الداعين إلى السلام يجب أن يسعوا إلى لجم هذا الكلب، هذه هي الخلاصة الانجيليّة لكلام البابا. خريستو المرّ
الأحد 1 أيّار / مايو ٢٠٢٢ يأتي الفطر وصلوات العيد المتهادية في صباح الميناء الجميلة ترافقني منذ الطفولة. كلُّ فطرٍ يتمنّى الصباحُ اللاهث وراء الشمس أن يسبقَها، ولو قليلًا، ليطلّ على الجامع الراكع أمام البحر، فيفرحَ بصلوات المساكين تحملها المئذنةُ لتضعها أمام عرش الحبّ، تَوجُّهًا نحو الواحد الأكبر. في فرح العيد نتبادل والأصدقاء أضواءً خبّأها الله في القلوب لتعرفَ تلك كيف تصير نورًا إلهيًّا ممتدّا عبر الأديان وفوقها. بالقلوب يصدقُ الوعدُ الإلهيّ بأن يحميَ اللهُ محبّيه من «الموت»، وأن ينصرهم بالمحبّة التي لا ترى إلّا الوجوهَ، فيَهزِمون معه الأحزابَ التي تستبدلُ الأخوّةَ الإنسانيّة التي أرادها الله بمصنوعاتِ البشر. المتأمّلُ في الفطر يعرف أنّ الإخلاص لله كان مسارًا في الصوم يقولُ فيه الإنسانُ بجوعه الطوعيّ أنّ الله هو المـُحِبُّ الذي أهدانا الدنيا وما فيها، ولكنّه محبوبُ القلب ولهذا هو أهمّ من هداياه. طيلة رمضان وضع الصائمُ الهدايا جانبًا إلى حينٍ وانتظر المحبوب على باب النجوى. أمّا اليوم، فعيدُ اللقاء، تأكل فيه القلوبُ المشاركةَ طعامًا أبديًّا يلقيه اللهُ في الصدورِ حبًّا وشجاعةً يحتاجها كلّ حبّ. مَنْ أصغى لتهليلات العيد بعدما صام قلبه عن غير الله فلم يعبد سواه، يشعرُ بأنفاسِ الحبّ والدمعِ في طرقات المدينة القديمة الجميلة ويسمع ضوضاءَ العيدِ أغنيّةً صاعدةً من أشواقِ الإنسانيّةِ إلى البهاء. اليوم يتلمّس المعيّدون ضوءًا إلهيًّا يمسحُ عن عيونهم كلَّ دمعةٍ، فيفرحون وينسون، ولو ليومٍ، جراحَ الدهرِ الخبيئةِ في لحمهم. يطلّ عيد الفطرِ هذا العام مع عيدِ أولئك الذين يبنون هذا العالم ويعتنون به ويحضنون ما به من عطب؛ أولئك الذين يشاركون الله في تجميل الكون وإعداده حتّى يحلّ موعد العرس الساطع في الفجر الأخير. ولا يتساوى الذين يعملون على العناية وأولئك الذين يعملون على التدمير ويُعمِلون في العمّال استغلالًا. إنّ الذين يخلصون للنور يتجرؤون على الوقوف في وجه المستغلِّين؛ قد ينجحون وقد يفشلون، ولكنّهم يعلمون أنّهم بقوا على الحبّ، وأنّهم لم يخونوا أنفسهم ولا قافلة المحبّين فقد مرّنوا قلوبهم ألّا تطلب العيش، بل الحياة في كنف ربّ العالمين. إنّ الذين يخلصون للنور يتجرؤون على الوقوف في وجه المستغلِّين؛ قد ينجحون وقد يفشلون، ولكنّهم يعلمون أنّهم بقوا على الحبّ وأنّهم لم يخونوا أنفسهم ولا المحبّين، فقد مرّنوا قلوبهم ألّا تطلب العيش، بل الحياة في كنف ربّ العالمين. أتى الفطر وأنا بعيدٌ عن ذاك البحر، وعن الجامع الراكع هناك رافعا مئذنته يناجي بها السماء. لكنّي رأيتُ أمامي طفولتي راكضة في الأحياء الفقيرة فسمعت تكبيرات العيد، وهلّ الفجر. |
الكاتبخريستو المر الأرشيف
December 2023
Categories |