خريستو المرّ – الثلاثاء ٢٥ نيسان/أبريل ٢٠٢٣
الإنسان دائم التوتّر بين التقليد والتجديد. في العلوم الموضوع سهل إلى حدّ كبير في عصرنا، ذلك أنّ الأدوات العلميّة تعطي الباحثين مجالا للتحقّق من نظريّة أو نتيجة، ورغم ذلك فقد تحتدّ الخلافات عند كلّ مقاربة جديدة. أمّا في التقليد الدينيّ فالموضوع أصعب لأنّ لا أدوات للتحقّق من تفسير أو تعليم. لكن يبدو لنا أنّ هناك مجالين مفتوحين للتجديد، الأوّل مدفوع بالتغيّرات الاجتماعيّة والثاني مدفوع بالتغيّرات العلميّة. المجال الأوّل لتجديد الفكر الدينيّ يُطرَح بحدّة عندما نصل إلى نقطة تعارض بين ما هو مقبول ومرفوض من تصرّفات وقوانين من وجهة نظر التفسير الدينيّ، مع التغيّرات الحتميّة الطارئة في كلّ عصر على العلاقات الاجتماعيّة، والفكر والمبادئ الإنسانيّين. مثالنا في ذلك، أسباب الزواج والطلاق (علاقتها بالعنف المنزليّ مثلًا)، وأحكام الحضانة، وعلاقة المؤسّسة الدينيّة بالدولة، وغير ذلك. أمّا المجال الثاني لتجيد الفكر الدينيّ فينفتح تحت وقع معطيات العلوم عندما يثبت بطلان التفسيرات الدينيّة عند مقابلتها بالمعطيات العلميّة الجديدة. مثالنا على ذلك، تحدّيات علوم الحياة التي اضطرّتنا للتفكّر في أخلاقيّاتها (التلقيح الصناعي، مثلًا)، ومعرفتنا المثبتة بأنّ الكون لم يتكوّن في سبعة أيّام التي تضطرّ أيّ عاقل لمحاولة تفسير قصّة الخلق الدينيّة في الديانات الابراهيميّة تفسيرًا رمزيّا، والبحوث التي تحسم اليوم بأنّ هذه القصّة المكتوبة في الفصول الأربع الأولى من العهد القديم كُتِبَت على مرحلتين، واحدة يُرَجَّح أنّها كُتِبَت في القرن العاشر قبل الميلاد (تكوين ٢: ٤ب إلى ٤: ٢٦) والثانية في القرن الخامس قبل الميلاد (تكوين ١:١ إلى ٢: ٤أ)، ثمّ جُمِعَت القصّتين في قصّة واحدة في كتاب التكوين. ومن المعروف أيضًا أنّ القصّة كُتبت بقالب أسطوريّ، فالأسطورة كانت لغة تلك الأزمنة لتفسير الوجود. بالطبع المعنى من تلك القصص الرمزيّة (وجود الإله الخالق، مثلًا) يبقى موضوعًا إيمانيّا، وليس للعلوم أن تقول بصحّته أو عدم صحّته لأنّه ليس مجالها أصلا إذ لا شأن لها بتفسير معنى الوجود وإنّما بتفسير الوجود نفسه. لكنّ إعادة النظر الحتميّة والضروريّة في المجالين اللذين ذكرناهما شبه غائبَين عن المؤسّسات الدينيّة في بلادنا. هذا يعود لعوامل متعدّدة، مثل الربح الماليّ (موضوع الزواج المدنيّ مرتبط بشكل مباشر بالمال)، وكون المؤسّسات تُدار من رجال وبالتالي تبقى قاصرةً عن استشراف المتغيّرات من وجهة نظر النساء (مثلا، في الزواج والطلاق والحضانة والعنف الأسريّ) كما أنّه من المعروف أنّ المستفيد من نظام ما لا يغيّره دون ضغط خارجيّ من المجتمع. ولكن لا بدّ أيضا للإشارة إلى عاملين آخرين يمنع المؤسّسة الدينيّة من دراسة أثر التبدّلات العلميّة على التفسير الدينيّ للأمور: هما الخوف من التغيير والكسل. قد نظنّ أنّها غياب الرؤية، ولكنّ الرؤية لا تغيب إلّا عن خوف أو كسل، فالأسئلة مطروحة على الطرقات (بالإذن من الجاحظ) وتحتاج لإجابات. وقد يعذر المسؤولون أنفسهم قائلين أنّ العلوم متغيّرة دائما وبالتالي من الصعب بناء تفسير جديد على أساس معطيات تتبدّل دائما؛ وهذا مردودٌ لأنّ من واجب جميع المؤمنين، وخاصّة القائمين في مواقع المسؤوليّة، تقديم تفسيرات آنيّة للرؤية الإيمانيّة الواسعة، تفسيرات متناسبة مع الحياة المعاصرة حتّى لا يعيش المؤمنين حياتهم الأرضيّة القصيرة في توتّر بين ما يعرفون أنّه خطأ وبين التفسيرات القديمة، لأنّهم إمّا سيتركون الدين، أو يخالفون العقل في الحيّز العلميّ وهو حيّز العقل، أو يعيشون في توتّر مؤلم لا لزوم له بين أمرين متضاربين في الظاهر. اليوم مثلاً، لا يمكن لرجل دين عاقل أن يقول بأنّ الله خلق العالم في سبعة أيّام لأنّه يكون يخرج عن معطيات العلوم (أعلم أنّ الكثيرين يفعلون ذلك بحماسة ظانّين أنّهم يقدّمون شهادة عن إيمان «عظيم»، وكأنّ الإيمان بالله يجب أن يتضارب مع العقل كي يكون «عظيماً»). هل بالفعل كان هناك أوّل كائنين بشريّين، اسمهما آدم (والكلمة تعني أرض) وحوّاء (والكلمة تعني حياة)، نبتا فجأة في العالم؟ أيضا لا يمكن لعاقل أن يقول بذلك، فنحن نعرف نشأة العالم وتطوّر وجودنا من ذرّات، إلى نشوء خليّة حياة، إلى كلّ هذا العالم المتنوّع اليوم. بالطبع، ترى المؤمنة والمؤمن أنّ الله وراء هذا التطوّر، ولكن لا لزوم للتمسّك بأنّ هناك «كوبل» أوّل نشأ في لحظة. إذن هي قصّة رمزيّة؟ يعترف بذلك كلّ رجال الدين المسيحيّين واللاهوتيّين الذين إمّا التقيتهم في حياتي أو قرأت لهم، ولكنّهم يختلفون في أمر واحد: طالما هي قصّة رمزيّة فإنّ وجود «كوبل» أوّل كان في مكان كامل، في جنّة، ثم «سقط» إلى هذا العالم رمزيّة؟ هنا تتلعثم الأكثريّة الساحقة من المعبّرين عن الفكر الدينيّ المسيحيّ في عصرنا، فطالما ليس من دليل علميّ (ولن يكون يومًا في موضوع هو خارج حدود العلم) على أنّ «السقوط» لم يحصل، يتوقّف عقل هؤلاء عن العمل، ولا يجرؤون على القول ببساطة مع اللاهوتيّ كوستي بندلي، أنّ فكرة السقوط رمزيّة أيضا فكلّ النصّ رمزيّ، فما «السقوط» إلّا سقوطٌ عن وضع يشتهيه الإنسان أن يتحقّق، وليس عن ماضٍ سحيق كان محقّقًا. يخشون هذا التفسير لأنّ هناك إجماع بين القدّيسين، وفي الفكر الدينيّ الذي صاغوه حتّى عصرنا هذا، على اعتبار «السقوط» أمرًا واقعًا رغم قبولهم (بصعوبة) بالمعطيات العلميّة الجديدة حول الكون والتطوّر. التفسير المطروح لا يبدّل شيئا من دستور الإيمان ومن اللاهوت عامّة، ولكنّهم لا يجرؤون كما تجرّأ القدّيسون الأوّلون، لأنّهم حوّلوا أولئك القدّيسين وكلماتهم إلى أصنام تُعبَد لا أمثلة تُحتّذى في الشجاعة والإبداع. لا يمكن إبداع تعبيرات دينيّة تترجم المبادئ الإيمانيّة بلغة العصر الحاضر إلّا بتجاوز الخوف والكسل، والتمسّك بحقائق المعرفة البشريّة، والتحلّي بشجاعة وإيمان الأوّلين لمتابعة مغامرتهم الجميلة في التنقيب عن النور الإلهيّ في هذا العالم بالعقل والقلب معًا. الإخلاص لروح التقليد نفسه يتطلّب ذلك. خريستو المرّ – الثلاثاء ١٨ نيسان/أبريل ٢٠٢٣
البلاد منحدرة إلى الجحيم بفعل شبكة المصالح بين مصرفيّين وسياسيّين ورجال دين، التي أثرتهم وأفقرت ما يناهز الثمانين في المائة من الناس بحسب آخر الإحصاءات. أولئك هم أعداءنا الداخليّين الحقيقيّين الذين يقتلونا ويقتلون اولادنا. هم مرتاحون بأنّنا لن نرى عداوتهم لنا، لأنّهم لا يطلقون الرصاص، ويكتفون بقتل الناس برصاصة الفقر. إنّ أولئك المناهضون لإسرائيل كما ينبغي، والذين يشتهون التطبيع معها ونواجههم، مشاركون معا يدًا بيد وبكلّ وقاحة وبكلّ انعدام إحساس في قيادة البلاد إلى الهاوية. وحين يهتمّ أحد الفريقين بخاصّته، فهو يهتمّ بها من منطلق طائفيّ، ومن منطلق الاستتباع، ودليلنا انعدام أيّ برنامج عمل وخطّة لدى الفريقين لخروج البلاد من الهاوية. حتّى الآن لم يتحوّل لبنان إلى ديكتاتوريّة عارية الوجه، وبقيت بضع كلمات ضوء في هذه العتمة. في ظلّ هذا الواقع، يعزم مجلس نقابة المحامين لكمّ أفواه أعضاء النقابة في محاولة لخنق كلّ كلمة يمكن أن تذكّر الممسكين بزمام البلاد بمسؤوليّاتهم، وتذكّر النقابات ومنها نقابة المحامين بمسؤوليّاتها المعنويّة، وتدافع عن حقوق المهمّشين في هذه البلاد. لا فخر للبنانيّين لا في طوائفهم ولا أديانهم ولا في تاريخها وإنّما فخر الناس ما قد حصل، هكذا تعلّم المناهج المدرسيّة منذ الصغر، وهكذا سيحكم أولاد هذه البلاد على مَن يتفاخرون بتاريخ طوائفهم وبعقائدهم بينما ينزل أولادهم إلى الجحيم دون أن ينبسّوا بشفة، وتكمُّ أفواههم وهم لا يتحرّكون. الخطوة الأولى للنجاة هي العصيان، عصيان التوق الفطريّ لاتباع المألوف. إنّ فضيلة الإخلاص لأشخاص أو لأحزاب دون تفكير ونقد لمواقفهم التي توزّع الإعاشات المذلّة وتمنع الحصول على الحقوق الأساس، والتي تسمح لمصارف مفلسة أن تستمرّ قابضة على جنى الناس، والتي تبيع الناس كلامًا وتناشدهم الصبر بانتظار ما يعدّونه لهم من مزيد من التبعيّة والفقر، هكذا إخلاص هو بمثابة رذيلة. لن يستقيم إيمانٌ في هذه البلاد إن لم يجتمع الناس من الخلفيّات المختلفة ليكونوا كلمة حقّ واحدة. العنصريّة اللبنانيّة في منازلها الكثيرة، تمنع اللبنانيّات واللبنانيّين أن يروا أنّ الشعوب التي يتعالون عليها قد سبقتنا أشواطا في الحرّية والكرامة، وأنّها لم تفعل ذلك بسهولة، تمنعهم أن يعرفوا عدد الثورات الفاشلة التي قام بها أهل سريلانكا أو الهند أو كوبا أو فنزويللّا حتّى تحرّروا وبنوا سيادة وخرجوا ويخرجون من الفقر. بلادٌ لا تكمّ أفواه السفراء وتنتظر وتستقدم التدخّل من كلّ حدب وصوب يُخشى أنّها لن تستحقّ الحياة وأنّها تقضي على نفسها بنفسها. إنّ انقضاض مجلس نقابة المحامين على عدد من المحامين النقديّين ومنهم المحامي الشجاع نزار صاغيّة وصمة عار بحقّ النقابة وصمتنا وصمة عار بحقّنا كشعب. المتكلّمون قلّة، هم بقعة ضوء ينبغي ألّا تتضاءل، بل أن تتوسّع. هذا يلقي المزيد من المسؤوليّة على الشرفاء العاملين في الحقل العام كي يتوحّدوا وهم اليوم متفرّقون. نزار صاغية وقف بجانب المهمّشين حين لم يقف معهم أحدا، وناوئ المتجبّرون الجالسون على أرائك الحكم الدينيّ والسياسيّ، نناوئ معه اليوم أولئك الذين يريدون للفكر الشريف وللأفواه المضيئة أن تنطفئ. حين كانت الناس نيامًا عن الحقّ، وحرّاس القبور مسلّحين بالجبروت، نزل المحامي نزار صاغيّة إلى جحيم المهمّشين الذين رمتهم الأديان والطوائف والدولة إلى زوايا النسيان ليخرج معهم إلى ضوء الكرامة والحرّية. كان نزار يقتضي بالمعلّم الذي مدّ يديه على خشبة، ولكنّه كان يفعل ذلك دون أن يعلم. اليوم يريدون أن يرفعوه على خشبة الظلم، ونحن نرفعه على كتف الحرّية. هو اليوم كلمة للحقّ وهُم خيانتها. خريستو المرّ – الثلاثاء ١١ نيسان/أبريل ٢٠٢٣
إلى يسوع لم تكن أنتَ ذاك الصامت ولا ذاك الجسد المفتوح على الآلام، كنتَ الثائر على الفوقيّة الدينيّة، على اكتفاء المتديّنين بمعرفتهم الدينيّة وانغلاقهم عن إخوتهم في الإنسانيّة، كنت مدجّجا بالفكر الذي يفخّخ منطق الفوقيّة -وكانت دينيّة في وقتك – تلك الفوقيّة التي هي أبدًا باهتةً أمام العقل والقلب. كنت ذاك الذي تآمروا عليه ليهلكوه لأنّ وجوده فضيحة، لأنّ حضورَه كلمةٌ تفضح الفوقيّة المتباهية بأسلحتها الإيديولوجيّة والماليّة والسلطويّة. لم يَرُق لكَ أن يصلّي الرجل إلى الله شاكرا أنّه لم يولد امرأةً في مجتمعك، ففتحت بُعدا جديدا في عالمك واستقبلت النساءَ ضمن جماعة الذين تبعوك لأنّهم أحبّوك. مججتَ أن يتعالى اللاهوتيّون على الناس في طوائفهم، وضربتَ بعرض الحائط الإيديولوجيّةَ القائلة بأنّ دم َالبشر من الطوائف والأديان الأخرى "أنجس من دم الخنازير" كما كان يعتقد المتديّنون المحيطين بك؛ ضربتَ جدران الغربة بين الناس وصرّحت جهارًا وخلافا لكلّ التقاليد بأنّ القرابة بين الناس تُصنع صُنعا، بأنّ الإنسان عندما يخدم حياة الآخر «الغريب» ويدفع عنه الموت يجعل بينهما قرابة. انتقدتَ الذين يُظهرون تديّنهم باستعراض مضخّم للإشارات الدينيّة الخارجيّة ويطالبون الناس بما لا يطالبون به أنفسهم؛ وقرّعتَ الذين يتعالون فيطلبون صدور المجالس وأماكن الصلاة ويرغبون بتلقّي التحيّات والألقاب وقلت لأتباعك أنّ الجميع أخوات وإخوة متساوون في الكرامة، وفَهِمَ أتباعك ذلك بأنّ أخصّاءَك هم حلقة المحبّين المتحلّقين حولك. لقد زلزلتَ المؤسّسة الدينيّة وأدَنْتَ جمعها المال من استغلال الضعفاء، ووبّختَ رجال الدين على نفاقهم بتمسّكهم الشديد بالمظاهر الدينيّة مع إدارتهم الظهر للأخوّة البشريّة، حتّى لرأيت كبارهم «أولاد أفاعي» و«قبورا مُبَيّضة تظهر من خارج جميلة، وهي من داخل مملوءة عظام أموات وكلّ نجاسة»، وقلت لهم مواجهةً أن «من خارج تَظهرون للناس أبرارًا، ولكنّكم من داخل مشحونون رياءً وإثمًا». قلتَ لهم أنّ الأرض وما عليها لكَ، وأنّ البشر يتقاسمون الحياة بالمحبّة والأخوةّ، لهذا كان لا بدّ أن يكرهك الذين أرادوا الاستئثار والفوقيّة في كلّ جيل من كلّ شعب وكلّ دين وأن يتآمروا على قتلك في الأبرياء. ولهذا كذلك كان المستأثرون، المستولون على الأراضي، المستغلّون، والمستعرضون للإشارات الدينيّة، المتعالون على غيرهم، المكتفون المنغلقون على الأخوّة الإنسانيّة منذ أيّام يدكّون جسدكَ داخل المسجد الأقصى تحت أعقاب بنادق جيش الاحتلال، فغدا من جديد جسدك المضروب صرخة مواجهةٍ على دربِ مقاومةٍ للموت سينهيها الفلسطينيّون المحبّون للحياة مثلك، بالانتصار على الموت، عاجلًا أم آجلا. لسنواتٍ سكنتَ ملامح الأسرى المضربين عن الطعام فحوّلتَ السجون دروب جلجلة، دروبَ استقبال طوعيّ للألم كثمنٍ لا يتوانى الحرّ عن دفعه ليبقى حرّا، دروب مواجهة لعدوّ الحياة بالأجساد المعلّقة على الجوع؛ ومَن جاع إلى الطعام كانت كرامة الحياة عنده غذاءً للروح. عيّد المسيحيّون لقيامتك، أو هم يعيّدون خلال أيّام، ولا يكمل العيد إلّا حين نراك في وجوه الفلسطينيّين تغنّي تحت شمس الحرّية. عندها سنقول معهم أنّك قمتَ وأنّك حكمتَ في الأرض عدلًا. عندها، بعد أن نكون قد طلبناك في أجساد الأطفال السابحة بدمائها، نقبّلُ قدميكَ في أقدامهم الراكضة فوق تراب فلسطين وقد تجلّت عروسا للمحبّين وبيتًا للأخوّة الإنسانيّة كما أنتَ أحببت. أنت حاجتنا الوحيدة ولهذا نحتاج أن نتتبّع وجهك في كلّ وجهٍ أسير ومدمّى وموجوع ومثكول، وأن نمدّ الوجوه بأسباب الظفر والغلبة على كلّ جحيم، وعلى جحيم الاحتلال والعنصريّة. أنت الغالبُ. رجاؤنا أن نكون جسدك السرّي على هذه الأرض، أن نحبّ معك، وأن ننزل جحيمنا معك، وأن نتمسّك بك لنغلب معك، يا أيّها النازل إلى الجحيم ومفجّرها، والمحطّم قيود المكبّلين فيها، والصاعد معهم في عربات النور. خريستو المرّ
الثلاثاء ٤ نيسان/أبريل ٢٠٢٣ عام ١٤٥٥، وفي وقت لم تكن فيه السلطة الدينيّة في أوروبا منفصلة عن الدولة، أعلن البابا نيقولاوس الخامس اعتمادا على "كامل السلطة الرسوليّة" بحسب الإعلان نفسه، مباركته لملك البرتغال ألفونسو أن يقوم بالتالي : "غزو، وبحث عن، وأسر، وقهر، وإخضاع كلّ المسلمين والوثنيين، وغيرهم من أعداء المسيح أينما كانوا، وكلّ ما يمتلكونه من ممالك، ومقاطعات، وإمارات، وممتلكات، وجميع السلع المنقولة وغير المنقولة التي في حوزتهم أيًّا كانت؛ واختزال أشخاصهم إلى العبودية الدائمة، وأن يأخذ [الملك] منهم تلك الممالك والمقاطعات والإمارات والممتلكات والسلع وينسبها إلى نفسه وخلفائه، ويجعلها في خدمته وخدمة خلفائه ولأجل مصلحتهم..."(مرجع ١ و ٢). هذا الإعلان، بالإضافة إلى إعلان آخر سبقه للبابا نيقولاوس نفسه، وإعلان لاحق للبابا ألكسندر السادس عام ١٤٩٢، شكّلوا ما يُعرَف بـ«عقيدة الاكتشاف» التي أعطت التسويغ الدينيّ، الذي يحمل قوّة القانون وقتها، لعمليّات القتل والنهب والتدمير والإبادة الجسديّة والثقافيّة التي مارستها الدول الأوروبيّة على الشعوب الأخرى حول العالم؛ هذه العمليّة التي ما زالت تتابعها تلك الدول مع أميركا وكندا، بشتّى الطرق اليوم بتسويغ شعارات علمانيّة مثل "العالم المتحضّر"، و"العالم الحرّ"، و"الدفاع عن حقوق الإنسان". سررنا يوم الخميس الماضي عندما أعلنت الكنيسة الكاثوليكيّة أنّ عقيدة الاكتشاف باطلة، وأنّها لم تكن يومًا جزءًا من عقائد الكنيسة الكاثوليكيّة. يأتي الإعلان هذا بعد ثمانية أشهر من مطالبة السكّان الأصليّين في كندا من جديد الكنيسة الكاثوليكيّة بإبطال تلك العقيدة، خلال زيارة البابا فرنسيس يوم طلب المغفرة من أصحاب الأرض الأصليّين، معترفًا عن مسؤوليّة الكنيسة الكاثوليكيّة في تنفيذ برنامج الإبادة الثقافيّة للسكّان الأصليّين الذي خطّطت له ونفّذته الحكومة الكنديّة بمساعدة الكنائس حتّى منتصف تسعينات القرن العشرين! برنامج الإبادة الثقافيّة ذاك كان يقوم على إجبار السكّان الأصليّين (تحت طائلة السجن إن خالفوا) بإرسال أولادهم الصغار ليعيشوا في مدارس داخليّة تديرها الكنيسة الكاثوليكيّة والكنيسة البروتستانيّة حيث يتمّ التدمير الممنهج للشخصيّة الأصليّة ومحو الهويّة (منع اللغة الأصليّة، منع العادات والتقاليد)؛ وقد أنتج البرنامج آلاما نفسيّة مبرحة، ودمارًا كبيرًا في العائلات، وخرابًا اجتماعيّا ما يزال السكّان الأصليّين يعيشون آثاره حتّى اليوم، لكثرة ما رافقه من تعذيب وتحرّش وقتل لآلاف من الأطفال الذين وضعت جثثهم بكلّ سرّية في مقابر في الأراضي المحيطة بالمدارس الداخليّة (رجاء عندما يتحدّث أمامكم سفير كندا في لبنان عن حقوق الإنسان، أو تجرّأ أوروبيّ عن التلميح إلى "عنف" الإسلام، أعينوه بمرآة). لا يسعنا إلّا أن نرتاح لخطوة الكنيسة الكاثوليكيّة هذه وللخطّ المتواضع الذي رسمه البابا فرنسيس منذ وصوله إلى خدمة البابويّة، هذا البابا الذي تفتقد وجود أمثاله الكنيسة الأرثوذكسيّة الأنطاكيّة. رغم ذلك، تحتاج الكنيسة الكاثوليكيّة إلى خطوات أخرى عديدة لإجراء مصالحة فعليّة واقعيّة مع السكّان الأصليّين. فوثائق مدارس الإبادة الثقافيّة تلك هُرِّبَت من كندا إلى روما ولا مجال للحصول عليها حتّى الآن (مرجع ٣)؛ والتعويضات التي حكمت بها المحاكم في كندا (٢٥ مليون دولار، وهو مبلغ زهيد) والتي ألزمت بها الكنيسة الكاثوليكيّة التي كانت تدير ٧٠٪ من مدارس الإبادة الثقافيّة لم تُدفَع للمتضرّرين حتّى الساعة، بينما دفعت في المقابل الكنائس البروتستانتيّة مبلغ ٩.٢ مليون دولار كانت متوجّبة عليها. الخميس الماضي أشار إعلان بطلان "عقيدة الاكتشاف" في روما، أنّ الكنيسة أوسع من تلك العقيدة، وأنّ مسيحيّات ومسيحيّين وكهنة وراهبات ورهبان بذلوا حياتهم للدفاع عن السكّان الأصليّين، وأنّ هناك بابوات انتقدوا أعمال العنف والعبوديّة والظلم، وهو أمر صحيح؛ ولكنّه فعل حسنا أيضا أنّه ذكّر بأنّ القوى الاستعماريّة استعملت العقيدة تلك "من أجل تبرير الأفعال غير الأخلاقية ضد الشعوب الأصلية التي تم تنفيذها، في بعض الأحيان، دون معارضة من السلطات الكنسية". لكنّ الكلام هذا لا يمكنه أن يخفّف حجم المسؤوليّة الكنسيّة التي أصدرتها أعلى سلطة كنسيّة كاثوليكيّة ولم يتمّ التراجع عنها إلّا بعد مطالبات لعشرات السنوات، فتلك العقيدة كانت بمثابة اشتراك معنويّ في جرائم الاستعمار الأوروبيّ، إذ شكّلت الأرضيّة «الأخلاقيّة» والقانونيّة التي ارتكزت عليها جرائمه، وقد تكون تلك العقيدة لعبت دورًا في التسويغ لعنصريّة البيض، وادّعائهم التفوّق على غيرهم من الشعوب. إذ كما يقول المحامي ديفيد واغونر «أصدر نيكولاس الخامس وألكسندر السادس لاهوتًا للعصور الوسطى - أصبح الآن في قلب فقه قانون الملكية الأمريكي - حول "الولاية البابوية العالمية" و "الكومنولث المسيحي العالمي". لقد أعلنا بواسطة ذاك اللاهوت أنّه يمكن للأوروبيين المسيحيين البيض أن يقتلوا ويستعبدوا ويستولوا على أراضي غير المسيحيين غير البيض في أي مكان في العالم» (مرجع ١). دروس كثيرة يمكن لهذا الانحراف الكنسيّ عن إنجيل يسوع المسيح أن يعلّمنا إياها، لا مجال لذكرها كلّها، منها أنّ التزام إنسان لعقيدة دينيّة (أو لا دينيّة) يعني صراعا حتّى آخر نفس مع قوى الظلام والتدمير التي تغري أتباع تلك العقيدة عبر الزمن، وعبر التاريخ. الفوقيّة في التعبير والتراشق الكلاميّ بين مسلمين ومسيحيّين في لبنان حول أمر تافه كتغيير التوقيت الشتويّ خير دليل. اليوم باتت عقيدة الاكتشاف البابويّة تحت أقدام السكّان الأصليّين نتمنّى المصير نفسه لكلّ عقيدة تعتدي على حياة البشر وكرامتهم، ونخصّ بالذكر العقيدة الصهيونيّة ونظام الاحتلال والفصل العنصريّ الاسرائيليّ. مراجع: (١) David P. Waggoner, “The Jurisprudence of White Supremacy: Inter Caetara, Johnson v M’Intosh and San Antonio Independent School District v. Rodriguez,” Southwestern Law Review, vol. 44, 2015, pp. 749-765 at p. 755 (٢) يمكن العودة إلى ترجمة انكليزيّة كاملة لإعلان البابا ألفونسو على الرابط التالي: https://caid.ca/Bull_Romanus_Pontifex_1455.pdf (٣) https://www.cbc.ca/.../residential-school-records-now-in... |
الكاتبخريستو المر الأرشيف
December 2023
Categories |