خريستو المرّ
الثلاثاء ٣٠ آذار ٢٠٢١ في كلّ المجتمعات يرتاح الإنسان إلى ما يشبهه، ولربّما كان ذلك يعود لحاجة الإنسان إلى أن يكون مفهومًا ومُحتَضَنًا في ما يُشبِهُ العائلة، لهذا غالبا ما تنقسم المدن في مجتمعات الاغتراب إلى أحياء متجانسة بحسب البلاد الأصليّة للمهاجرين. لكن عدا الارتياح للشبيه، يحتاج الإنسان أيضًا إلى خريطة طريق تساعده كي يجد جوابًا على قلقه الوجوديّ عن معنى الحياة، ولهذا فهو عادة ما يرتاح إلى ما ألفه من أفكار وعقائد يشاركها مع آخرين لأنّها تزوّده بنوع من خارطة طريق مشتركة يواجه بها الواقع ويتعامل معه بشيء من الطمأنينة في قلب جماعة تشبهه. لهذا يمكننا أن نفهم لماذا يقاوم الكثيرون أيّ فكرٍ جديدٍ، فهو يزلزل خارطة الطريق تلك، يزلزل الأداة التي بواسطتها يحاول أن يجد الإنسان معنى لحياته بها، ممّا يشعرُهُ بالضياع. لذلك يقاوم الإنسان الفكرَ الجديد بقوّة أكبر كلّما كان الفكرُ مخلخلًا لما ألفه من عقائد وأفكار، خاصّة إن كان يجني فائدة من وجودها: هكذا مثلاً، يقاوم المستغلّون والمتسلّطون أيّة فكرة مساواة وتوزيع عادل للثروات الوطنيّة والضرائب التصاعديّة، إلخ. لكنّ عدا ردّات الفعل هذه المشتركة بين كلّ المجتمعات، هناك ضيقٌ آخر في العالم العربيّ، ضيقٌ ناتج عن ثلاثة أمور: أوّلها شعور السكّان أنّ كرامتهم مهدورة جرّاء الهزيمة السياسيّة العامّة تجاه القوى الخارجيّة (الولايات المتّحدة، أوروبا الغربيّة، إيران، وإلى حدّ ما روسيّا)، وثانيها شعورهم بأنّهم مسلوبو الإرادة من حكّامهم المتسلّطين والفاسدين والمتعاونين مع تلك القوى الخارجيّة، وثالثهما تربيةٌ دينيّة على التكفير وعدم احتمال الآخر المختلف. وهذه النقطة الأخيرة موجودة في الدينين الإسلاميّ والمسيحيّ على حدّ سواء، وهي موضوعي. هناك نوع من التربية الدينيّة قائم ليس على قبول عقيدة ما واحترامها والعمل على عيشها، وإنّما مبنيّة على انغلاقٍ على الذات يتجسّدُ بمقارنة الهويّة الدينيّة الذاتيّة بالهويّات الدينيّة الأخرى، وإعلاء شأن الهويّة الذاتيّة وتسفيه وتسخيف ومهاجمة كلّ هويّة وعقيدة أخرى، وخاصّة أن كانت عقيدة طائفة أخرى من الدين نفسه؛ فإن كان من الطبيعي لعقيدة دينٍ آخر أن تكون مختلفة، فإنّ عقيدة مختلفة بناء على الدين ذاته هو أكثر ما يخيف الفكر المغلق للتربية الاستعلائيّة. فالفكر الدينيّ المغلق لا يأبه في الحقيقة لله ولو هو يتشدّق باسمه، فلو كان الله هو الهمّ لجادل الإنسانُ الفكرَ بالفكرِ، ولَقَبِل بأن يكون على صواب وعلى خطأ وترك الحكم بالأمر لله، ولكن العدائيّة وتكفير الآخر والمطالبة بنبذه والعنف اللفظيّ والمطالبة أو القيام بالعنف الجسدي ضدّه (لا ننسى كيف هدّد مسيحيّون حياة أعضاء فرقة فنّية، وكيف ضرب أحدهم الراحل المطران غريغوار حدّاد)، ظواهر تفضح، كما أشار كوستي بندلي، نزعة الإنسان الى المُماهاةُ بين ذاته وبين المثال الأعلى الذي يدين به، أكان المثال الأعلى عقيدة دينيّة أم فلسفيّة. هذه المُماهاة بين الذات والمثال الأعلى تَجعلُ الإنسان يتوهّم أنّه والمثال الأعلى واحد، وإذا المثل الأعلى مرآة ينظر بها الإنسان إلى ذاته ولكأنّها صارت مُطلَقَة ومثاليّة ومُتَخَطّية للمحدوديّات والنقصان. ولهذا فإنّ الصراع الأشرس للإنسان الذي يماهي بين ذاته وبين عقيدته، يكون مع أناسٍ ينطلقون من نفس مُنطلقاته الدينيّة، ولكن يختلفون معه في الاستنتاجات والتصرّف، فهؤلاء لكونهم ينطلقون من نفس المنطلقات – الدين نفسه أو الطائفة نفسها مثلاً – يبرهنون بوجودهم بأنّ ذاك الإنسان يمكن أن يكونَ على خطأً، وبأنّ رؤيته للمثال الأعلى (العقيدة الدينيّة) يمكن أن تخضع للنقاش. الآخر الشبيه والمختلف يُفقِدُهُ رؤيته النرجسيّة لذاته على أنّها مُطلقة وعظيمة، ويُفقِدُهُ بالتالي تلك الأرضيّة الوهميّة التي ارتكز عليها لكي يعلّي شأن ذاته (خاصّة تجاه المختلفين من الأديان الأخرى). إنّ التربية الدينيّة المغلقة المنتشرة في بلادنا مأزقٌ فكريّ وحضاريّ، لأنّها من ناحية تخنق أيّ حوار يمكنه أن يسمح بتقدّم الأفكار وإنتاج الحلول، ومن ناحية أخرى يقدّم مخدّرا للناس مناسبًا للحكّام إذ يزيح غضب الناس عن حكّامهم ويدفعهم لممارسة العنف اللفظيّ والجسديّ ضدّ كبش محرقة يُقَدَّم فداءً عن كرامتهم التي توهّمون أنّها مجروحة من الآخر المختلف، بينما تبقى كرامتهم فعليًّا مُداسة من الحكّام وأدواتهم البوليسيّة والاقتصاديّة. إنّ مواجهة التربية الدينيّة المستعلية على الآخر ضرورة قصوى للخروج من المأزق الحضاريّ الحاليّ، وذلك لتنقية الإيمان من شوائب النرجسيّة وإنتاج فكر دينيّ واجتماعيّ مُحترِم للإنسان، كما ولتوجيهٍ سليمٍ للغضبِ نحو سالبي الكرامة الحقيقيّين. غابت عنّا نوال السعداويّ الأسبوع الماضي وما كان ذاك الكمّ الكبير من الحقد والشتائم والتشفّي الذي قرأناه إلّا تعبيرًا عن هذا الضيق في العالم العربيّ، عن الانغلاق الخائف، وعن لعبة عبادة الذات تحت غطاء عبادة الله، ولعبة الهروب من مواجهة الواقع بالتحامل على كبش محرقة. إلى أمّهات ضحايا جرائم الساسة: في الحرب والسلم
الثلاثاء ٢٣ آذار ٢٠٢١ خريستو المرّ مريم، تلك التي ولدتْ «الكلمة الذي من عند الله»، جاءت بإنسان أراد أن يكون البشر جُددًا، أي أن يصيروا آلهة، كما قال قدّيس من الاسكندريّة. تلد الأمّهات أطفالهنّ في هذا العالم كلماتٍ، ومن نجحن هنّ اللواتي عرفن كيف يعلّمن كلماتهنّ فنّ الحياة، أي فنّ الحبّ اليوميّ. تقول الأمّهات أطفالهنّ كلمات في الأرض، وكلّ كلمة تشتهي أن تكون قصيدة في قلب جماعة من المساكين، علّ هؤلاء يصيرون أجمل حين يلاقوا الضوء الخبيء خلف العالم، علّ الطين يصير بهاءً. لكنّ سياسيّي الأنظمة الوحشيّة - أولئك الذين نصّبوا ذواتهم وحوشًا للعبادة - يلتهمون كلمات الأمّهات، ثمّ يتفوّهون خطابات مات فيها الإحساس: يلتهمونهم بانفجار مرفأ، بحرب أهليّة، بأقبية سجون التعذيب، بالاعتقالات التعسّفيّة السياسيّة، بخطابات فاشيّة، بالتهديد، بالمخابرات، بالمحاكمات الصوريّة، بسجنٍ دائم دون محاكمة، بسلاسل إنجيليّة وقرآنيّة وتوراتيّة. والوحش يخلق عدوّه على صورته، يلد خصمه وحشًا، فإن انتصر الخصم كان وحشًا مطيعًا للوحشيّة، وتابَعَ التهامَ كلماتِ الأمّهات. وفي كلّ ذلك تتابع الأمّهات ذَرْفَ أولادهنّ حتّى الجنون، حتّى القاع المزروع بدموع الأمّهات، والذي لا تعرفه إلاّ مَن نزلت إليه شخصيًّا فماتت يومًا وهي حيّة تُرزَق حين جاءها الخبر: التهم الوحش قلبكِ الذي يمشي. لكنّا نحن الذين لا نفعل شيئا أمام الوحش شركاؤه، شركاء إلى حدّ، في وحشيّته: نحن الصامتون، ونحن الممجّدون له ولـ«حمايتِه» لنا، والفَرِحون لنصره على وحشٍ آخر، والمبرّرون لجوعه إلى القتل وكمّ الأفواه، والمُحتفون بِكواتِم الصوت حين تَكتم كلماتَ خصمٍ، نحن الذين تركنا الكلمةَ المصلوبَ في كلماتِ الأمّهات، وفي وجوههنّ، ثمّ اجتمعنا للصلاة أمام صورة الكلمة، في خطّ أو أيقونة، لنكذب على أنفسنا ونقول «لم نتركْهُ»، نحن الذين جمعنا الأضّداد لنغسل أيدينا من دم هابيل إلى دم كلماتِ بلادنا النازفة في دموع الأمّهات. أن يعود احترام الأمومة إلينا على المستوى الجماعيّ، على مستوى حياتنا العامّة كمجتمع، هو أن يعود الإنسان محورًا وهدفًا لكلّ نشاطاتنا، من الأكثر شخصيّة إلى الأكثر جماعيّةً؛ هو أن نتوب عن تقديس الجيش والقوى الأمنيّة لنقدّس الإنسان كإنسان؛ هو أن نسلخ عنّا تقديسنا الغبيّ لرجالات الطوائف سياسيّين ودينيّين لنتعمّد بروحِ تقديسِ وجهِ الإنسان، وخاصّة وجه المظلوم؛ هو أن يُرسي المؤمنون في أديانهم مشروع تربية دينيّةٍ، تكون ثوريّةً بكونها تؤكّد فكرًا واحدًا يقول أنّ محوريّة الإنسان هي مقياس محوريّة الله، أنّ تقديس الإنسان هو المقياس الوحيد لتقديسٍ صادقٍ لله. عدا ذلك المتديّنون يعيشون نفاقًا في نفاق، ويعومون على زبد من كلام يتحطّم على صخرة أوّل تحدٍّ واقعيّ. دون هكذا مشروع تربويّ سنبقى أسرى الوحشيّة: وحشيّة حُكمٍ يستولد صورته حتّى في مناهضيه. بلادنا منافقةٌ كبلادِ أخرى كثيرة، تَسحق الأمّهات عمليًّا وتحتفي بهنّ رسميّا، تقتل كلماتهنّ وتغطي الجريمة بمعطف سميك من الكلام الأجوف عن وطنيّة وفسيفساء وطوائف وأديان وحقوق وحضارات وأقلّيات وحمايات ومحاور وعربٍ وفُرسٍ، مفتونة بالسفّاح الأجنبيّ والوطنيّ وتصلّي لإلهٍ محبّةٍ وإلهٍ رحيمٍ، تسمح حشرجات كلمات أمّهاتها وتحتفي بالقتلة. أن نحبّ أمّهات وطننا، فعلًا، في الحياة العامّة هو أن نبشّرهن أنّنا سنعيد اختراع أنفسنا، أنّنا سنعيد ولادة أنفسنا من باطن الحقّ كي يلدنا الحقُّ كلماتٍ جديدةٍ تواجه القتلة إن قتلوا بسجن، أو بتعذيب، أو بكمّ أفواه، أو بغياب صحّة، أو ببطالة، أو بنهب للبلاد، أو بمخابرات، أو بسلاحٍ، أو ببطش، أو بانفجارٍ، أو بدِينٍ، أو بقانونٍ جائرٍ، أو بتدميرٍ لبيئةٍ، أو بكلّ ما يدمّر حياة الإنسان، فقط لأنّ هناك أمرًا بسيطًا ببساطة وجوه الأمّهات: كلّ إنسان، كلّ كلمةِ أُمٍّ، هو المقدّس الملموس للمقدّس غير الملموس. خريستو المرّ
الثلاثاء ١٦ آذار ٢٠٢١ الحارات شيء تافه عند البعض الذي لا يعرف من الهويّة إلاّ الرصيد المصرفيّ، أو مرآة شهادة جامعيّة أو أشياء يختبئ بها من اللامعنى ومن مغامرة الحياة. لكنّ الذين أبحروا يعرفون أنّ التفاهة تعشّش عادة في المرايا، وأنّ رائحة الموت تجمّل صحراءَها بالرخام، كما حلا للناصريّ يوما أن يقول. ولكنّ صديقي قال لي البارحة - وقد عاد طفلًا - «أنّ الحارات وطنٌ لا يرى أحدٌ فيه نفْسَه غريبًا. هذا جمال الحارات». كان العالم بأسره يتموّج تحت قدميه وهو يُبحر في الحارة بين ضفّتين من جدرانٍ أكل طلاءَها وحشُ الإهمالِ، ثمّ عرف لاحقًا أنّ «الوحش» كان لقبًا للظلم البنيويّ. نما في شلّة صغارٍ تعاركوا، تصالحوا، لعبوا ليتعرّفوا على العالم المختبئ حولهم، قطفوا «حُمّيضة» ليأكلوا وتقشعرّ أبدانهم، لكنّهم لم يقطفوا زهرة؛ ومع ذلك كانت مزهريّةُ أحلامهم مليئة بالحدائق. وكما يجدر بالأطفال، نامت طفولَتُه على صمتٍ كثيف في غابة من الأسئلة. يقول أنّه سكت سبع سنوات، وقرأ سبع سنوات، قبل أن يقع بين يديه مرآة مكتوبة بشغف الفكر، تصفّحها فقالت أسئلةً وطريقًا إلى شيء أجمل. لم يعرف الأجمل إلاّ حين جاءت جماعة وقالت فلنضحك، فلنضحك فقط؛ ولنصبح أصدقاء، أصدقاء فقط؛ ولنأكل ونشرب معًا؛ ولنذهب معًا في رحلة، ولو سجينةٍ؛ وربّما نبكي قليلًا ونفرح قليلًا حين نقول شيئًا حقيقيًّا، وعندها قيل أنّه يتراءى كنزٌ جديدٌ خلف الضباب. فرحلوا معًا حتّى فَقِروا، ولم يبقَ شيءٌ إلاّ ضوءٌ ما وخبزُ الصداقة. لربّما كان الخبز معجونًا بقمحِ الأجوبة، تلك الأجوبة الحقيقيّة المفتوحةِ على الأسئلة؛ لربّما كان الخبز مبلّلا بدمع الضحك والبكاء، لربّما أنضجته نارٌ تخترق الكونَ بالرغبة. ربّما ولكن بالتأكيد كان الخبز مُسْكِرًا، كأنّما غمّسه حُلُمٌ بعيدٌ بخمرٍ مسحورةٍ، قبل الفجر ربّما؛ ربّما مسّته أيقونة ونحن نصيح بالحرب: تبًّا، وبالعالم: نحبّك. بعد ثلاثين عامًا، قال لي أنّه صار يعرف أنّ الأبديّة موجودة لأنّ خبزًا ما لم تمسّه السنون. وفي وسط الصداقة، في حارة الشبيبة الأرثوذكسيّة، وقف إنسان، يقول أنّه إلهٌ، لم يتفوّه بكلمة مع أنّه حدّثنا دائمًا: أحيانًا بضوء، أحيانًا بصاعقة فكرة، أحيانًا برغبة، أحيانًا بالهدوء، أحيانا بشجرة «أكي دنيا»، أحيانًا بصلاة، أحيانًا بين أربعة جدران، وأحيانًا في جزيرة. إنسانٌ إلهٌ مجنونٌ يقف في وجه الواقعيّة المنطقيّة والسلاسل المخمليّة الوحشيّة المكتوبة المقروءة المدروسة المقبولة الراسية في بحر من خنوعٍ رفيع القدر مكلّل بالنياشين والجوائز البهيّة، ويرمي عليه ثورته الكبرى: لا، قولوا لا، واتبعوني. بعد هذا فقد صديقي صوابه. إلى اليوم يتتبّعُ صوتَ إلهٍ يقول أنّه إنسان، إلى اليوم كلّ يوم يخلع حذاء الليل ويركض حافيًا في غابة العاشقين: قال لي أنّه مرّةً صار فراشةً حين لامس خِفّة الضوء فغسلت وجهه، وقال أنّه مرّة أكل كسرة ضوءٍ فكان طعمها عسلًا، ثمّ قال أنّه مرّة صار ضوءًا حين خطفته قطرة حبٍّ رأى فيها بحرًا فبكى. ويقول أنّه يجذف في مركب العمر كي ينام في أفق الحالمين ليستيقظَ، وأنّه يغازل الشعر كي يكتبه في البيت المطلّ على شلالات الحنين. عندما سألته: ما زلتَ تتذكّر؟ أجابني: وهل ينسى إنسانٌ نفسه؟ قلت نعم، إن نسي الآخرين. ضحكنا كلانا. وقال لي لم يشعر يومًا أنّه غريبًا لا في حارات الطفولة، ولا في حارات إنسان يقول أنّه إلهٌ، وإلهٍ يقول أنّه إنسان، ولا في مملكة الحبّ حيث تطلّ بشعرها السماء ليصعد كلُّ المحبّين. خريستو المرّ
الثلاثاء 9 آذار/مارس ٢٠٢١ طالما تحجّج ويتحجّج الكثيرون في الكنيسة الأرثوذكسيّة الأنطاكيّة في مواجهة تحدٍّ ما يحتاج للتغيير بأنّ «المجتمع غير مُهّيأ» للتغيير. ففي موضوع الطائفيّة تقول الكنيسة الأرثوذكسيّة الأنطاكيّة أنّها ضدّ الطائفيّة ولكن تمارس صراحة وبتصريحات وتصرّفات مسؤوليها بأنّها تريد المحاصصة الطائفيّة طالما أنّ لبنان طائفيّ، أي طالما أنّ «المجتمع غير مُهّيأ»، فإذا بها صورة عن واقع في المجتمع يسحق الناس. وفي موضوع حياة المرأة تعظّم الكنيسة نظريًّا المرأة ولكنّها لا تنتبه الكنيسة بأنّها جمعت ٦٠ رجلا في حضور امرأتين فقط لكي تبحث بموضوع العائلة، فإذا بها صورة عن المجتمع الذي يهمّش المرأة بشكل يثير الصدمة والسخرية والحزن بآن. ويشيد المسؤولون بالمرأة ومكانتها في «لاهوت» الكنيسة، وفي الوقت عينه لا يأبهون لواقع المرأة الملموس، فإن قام كاهن بالتحرّش بامرأة من الرعيّة وكان لديها الجرأة والقوّة أن تشكوه للمسؤولين لا يفعل هؤلاء شيئًا، بل تجد المرتكب في الأحد التالي في القدّاس ليتابع عمله وتحرّشه كالمعتاد؛ فإذا بالكنيسة صورة عن مجتمعها. ويُشيد المسؤولون في الكنيسة بالأطفال والشباب ولكن عندما يقوم مطران أو راهب بالتحرّش بشاب أو شابّة، يسعى معظم المسؤولين لدفن الموضوع، وعندما يضطرّون لفتحه يقومون بتمويه الحقائق، ويتعاملون بخفّة مع الواقع، ثمّ يعتبروا بأنّهم قاموا بواجباتهم فيتابعوا ورشة سباتهم الفكريّ العميق كأنّ كلّ شيء انتهى، كأنّ الأمر مجرّد حادث عابر لا يحتاج لمتابعة ولا لتخطيط لحماية الناس في الحاضر والمستقبل في المؤسّسات الكنسيّة. والكنيسة بذلك ليست مجرّد انعكاسٍ لمجتمعها بل متخلّفة عنه ومناهضة له، فالمجتمع يتحرّك بشكل حيويّ وفاعل لموقع قياديّ فاعل للنساء فيه، ولحماية النساء والأطفال والأحداث، بينما الكنيسة لا تتخلّف فقط عن تحديث القوانين فيها، ولا تتخلّف فقط عن بناء سياسات ومؤسّسات لحماية العاملات والعاملين فيها، بل تحاول جهدها حماية المرتكبين. *** البارحة كان عيد المرأة العالميّ، فسأبقى اليوم في أوضاع المرأة: كيف تستقيم حجّة «المجتمع غير مُهّيأ» لتغيير في أوضاع النساء أمام تعليم وحياة يسوع المسيح؟ وُلِدَ يسوع في بيئة كانت الرجل فيها يشكر الله في صلاته أنّه لم يَخلقْهُ امرأةً بينما تشكر المرأةُ اللهَ أنّه خلقها "بحسب مشيئته". كما كان مجتمع يسوع يعتبر الماء الذي يقدّمه إنسان من الطائفة السامريّة (المختلفة لاهوتيّا مع اليهوديّة) أنجس من دم الخنازير. ماذا فعل يسوع؟ هل أخذ بعين الاعتبار بأنّ «المجتمع غير مهيّأ» فالتزم بمعاييره وامتنع عن التعامل مع السامريّين واحتقر النساء؟ سأشير لحادثة واحدة. يُخبرنا إنجيل يوحنّا أنّه أثناء مرور يسوع في منطقة سامريّة توقّف عند بئر يرتاح وقد أعياه السفر بينما ذهب تلاميذه لشراء طعام، فجاءت امرأة سامريّة إلى البئر لتأخذ بعض الماء. عوض أن يعتكف يسوع عن الكلام معها وينزوي (فهي من جهة امرأة ومن جهة سامريّة)، بادر إلى الحوار معها مبتدئًا بطلب بسيط داس به كلّ العادات الدينيّة الاجتماعيّة الراسخة: طلب أن تسقيه ماءً، طلب أن يأخذ منها شيئا يُعتَبَرُ أنجس من دم الخنازير. المرأة بالطبع تفاجأت ولكن طلبه يجرّها إلى حوار بدأ بأن سألته عن جرأته بأن يتكلّم معها، ثمّ تابعا معًا حديثًا أفضى إلى حوار لاهوتيّ عميق أطلّ فيه يسوع إلى قلب تلك المرأة ليطلقها حرّة من الخوف، وتجاوز يسوع كلّ الخلاف اللاهوتيّ بين اليهود والسامريّين حول هيكل الله، ليبشّرها بالثورة الإيمانيّة في الزمن الآتي حيث الله سيسكن في القلب البشريّ نفسه فيكون الإنسان هيكل الله، ثمّ أنبأها يسوع أنّه هو شخصيًّا سيفتتح هذا الزمن. تكتشف المرأة عندها أنّه المسيح المُنتظر فترجع إلى قريتها لتخبر السكّان عنه. يعود التلاميذ ويلمحوا يسوع يتكلّم مع المرأة السامرية يشعروا بالصدمة، ولكنّهم لا يقولون شيئًا. أُحرج التلاميذ على ما يبدو. لا شكّ أنّهم أحسّوا بالفضيحة: معلّمهم الدينيّ الذي يجلّون، يتحدّث مع امرأة خارجةٍ عن الدين القويم، لولا تقديرهم له لربّما قرّعوه على "فعلته". النتيجة أنّ أهل القرية استقبلوا يسوع، وبقي يسوع مدّة يومين يعلّم في وسطهم ويشرب من مائهم. حرّية يسوع الهائلة هذه تدعونا للذهول ولإعادة النظر في مواقفنا. كسر يسوع تقاليد مجتمعه كلّها بخطوة بسيطة، ولكنّها مرفوضة لمن كانوا حوله: أن يدخل في حوار مع امرأة ومن الطائفة السامريّة. موقف المسؤولين الكنسيّين من حالة المرأة في بلادنا وفي الكنيسة موقف مخزٍ عندما نقارنه بموقف يسوع. لا يمكن تبرير ذاك المزيج من التقاعس والجبن وانعدام الإحساس الذي يعيشه المسؤولون الكنسيّون عندما يتعلّق الأمر بكلّ تحدّ كنسيّ يطاول أمرًا آخر غير سلطتهم. يكسر يسوع أنماط التفكير والتصرّف المجتمع والدين، بينما يكرّر المسؤولون الكنسيّون أسوأ ما في أنماط مجتمعهم. فبينما المجتمع مُهَيَّأ لوجود امرأة في مواقع قياديّة عديدة، فإنّ لا مكان للمرأة في موقع قياديّ واحد في الكنيسة الأرثوذكسيّة الأنطاكيّة، بل لا يوجد أستاذة لاهوت واحدة متفرّغة في معهد اللّاهوت في جامعة البلمند؛ وبهذا، فالوضع في الكنيسة أسوأ بكثير من المجتمع. هناك شيء من تهميش مقصود، ليس لأنّ المجتمع غير مهيّأ بل لأنّ القيادات غير مُهيّأة، لا يمكن إلاّ أن يشتمّ الإنسان رائحة مزيج من رهاب المرأة وكراهيّة النساء في جوّ الكنيسة الأنطاكيّة الأرثوذكسيّة. وصول قيادة كالبابا فرنسيس إلى سدّة الرئاسة الأنطاكيّة أمرٌ بعيد الاحتمال حاليّا. لكن أتوجّه برأي للقارئات، لا تنتظرن من المسؤولين الكبار في الكنيسة أن يتصرّفوا بحسب الانجيل من تلقاء أنفسهم، إذ يبدو عليهم ولكأنّهم مجرّد مجموعة رجال يعيشون في عالم مغلق مكتفٍ بذاته وسلطته وأولويّاته، لن يُطرح وضعُ النساء بشكل سليم في أجنداتهم إلاّ من خلال حركة نسائيّة كنسيّة. تواصلن مع بعضكنّ البعض ولو كنتنّ ثلاث نساء في البداية، استخدمن أدوات التواصل الاجتماعي لتأسيس شبكة نسائيّة. ما من شكّ أنّه يمكنكنّ التخطيط والعمل معًا في الكنيسة للضغط لانتزاع موقعكنّ فيها. أن تضغطن في موضوع واحد وتنتصرن فيه سيشجّعكنّ على المتابعة. ولربّما من الأفضل ألّا تقبلن بأنصاف حلول قد يقترحها رجالٌ لأنّهم لا يشعرون بحالكنّ مثلما تَشْعَرْنَ بأنفسكنّ. يمكنكنّ إنشاء شيء تكتشفْنَهُ بأنفسكنّ، ربّما تهدِفْنَ لتقبّل الشكاوى حول التحرّش الجنسيّ في الكنيسة وتوثيقها، أو تطالبنَ بتمثيلٍ نسائيّ من ستّين امرأة من ذوات الاختصاص، حين يجتمع للبحث في شؤون العائلة حوالي ستّين مسؤولٍ من رجالِ الدين، يُقال أنّ جلّهم لم يَعُدْ يملك اختصاصًا سوى بالإذعان للرتبة الكهنوتيّة الأعلى؛ ومن طلب في السلطة والمال العُلى أذعن النهارات والليالي (وتسلّط على الأضعف تعويضًا). «يا نساء الكنيسة فلنتّحد»، صرخة لا بدّ أن تطلقها -بطريقة ما - النساء في الكنيسة يومًا. خريستو المرّ
الثلاثاء ٢ آذار/مارس ٢٠٢١ يولد الإنسان ويعيش داخل شبكة من العلاقات في العائلة والمدرسة والمؤسّسات الدينيّة والدولة وغيرها. هذه البنى تولّد بيئة تؤثّر في نفس وعقل وتصرّفات الإنسان؛ لهذا، فإنّ تحليل أثر هذه البُنى على مختلف الميادين ومنها ميدان الإيمان ضرورة. إنّ الإيمان بالله تصديقٌ عميق بوجوده يدفع إلى علاقة محبّة مع الله ومع الناس، وما العبادة إلاّ شكل من أشكال التعبير عن هذه المحبّة: أن يستيقظ إنسان فجرًا للصلاة هو تعبيرٌ على اعتبار الله أولويّةً ومصدرًا للحياة، تشعّ هذه اليقظة حين تصدر عن وَلَهٍ عبّر عنه كبار المتصوّفة. الأمر كذلك في المسيحيّة، الحقيقة فيها أنّ لا شيء إلاّ الحبّ، فيسوع قد كشف بأنّ الله-محبّة وما خطّ يوحنّا ذلك إلّا شاهدًا. لأجل ذلك، يمكن القول بأنّه لا يوجد أيّ هدف على هذه الأرض أعلى من أن يتربّى الإنسان على المحبّة، ولا معنى لأيّ بنية بناها الناس: لا عائلة ولا مدرسة ولا دين ولا دولة، إن لم تنمِّ القدرة على المحبّة. أن يحبّ الإنسان يعني أنّه إنسانٌ حرٌّ أوّلاً، وبحرّيته يلتقي لقاء عميقًا بآخر دون أن يفقد كلّ منهما تمايزه. أي بصيغة أخرى، الـمُحبّ هو الذي يتّحد بآخر بتمايز، في بيئة من الحرّية. وعلى بساطة هذه الجملة فإنّها من أصعب ما يكون، وهي أقرب إلى المشروع الذي يتحقّق تدريجيًّا في الحياة، ويسهر عليه الإنسان حتّى النفس الأخير، ويخطئ فيه ويصوّب ويصيب. مشكلتنا الإيمانيّة مع البيئة التي تولّدها البُنى الاجتماعيّة والسياسيّة، أنّ هذه تؤثّر في ممارستنا للحرّية كما وفي نوعيّة الوحدة التي نمارسها. التسلّط في العائلة، والكنيسة، والمدرسة، والعمل، والدولة، هو مضادٌ للإيمان لأنّه بالترهيب يدفع الإنسان إلى الخوف والخضوع، فيجمّد نموّ الحرّية، ويشوّه العلاقات الإنسانيّة في علاقات تسلّط-تبعيّة حيث لا وحدة ولا تمايز، بل كتلة بلا وجوه. وإن تحرّكت هذه الكتلة سياسيّا ولّدت الفاشيّة، وإن تحرّكت دينيّا وسياسيّا ولدّت الفاشيّة الدينيّة الطائفيّة. من هنا فإنّ الإيمان لا ينسجم مع الديكتاتوريّة، أكانت الديكتاتوريّة علمانيّة أم دينيّة، لأنّها في تناقض صارخ مع الإيمان. مَن يؤمن، فعلاً لا قولًا، لا يمكنه إلاّ رفض كلّ تسلّط في كلّ البُنى من العائلة إلى الدولة. لهذا فإنّ التناغم بين المؤسّسة الدينيّة والديكتاتوريّة يخون الإيمان ولا يعكس وجه لله بل نقيضه. إنّ سقوط مشروع الدولة، في جميع ديكتاتوريّات المنطقة الملكيّة والأميريّة والرئاسيّة، يرمي على عاتق المسؤولين الدينيّين مسؤوليّة مضاعفة بحيث يغدو من واجبهم، دون يدخلوا بتفاصيل السياسة، أن يذكّروا بالمرتجى الإنسانيّ، بمبادئ الإيمان فيشدّدوا على الحرّية والكرامة الإنسانيّة، وعلى أوليّة المحبّة كهدف للبُنى الإنسانيّة، وأن يشهدوا للإيمان بنقد الاعتقالات التعسّفية، والتعذيب، وكمّ الأفواه، والدولة البوليسيّة. وإن كانوا غير قادرين على ذلك، وجب عليهم مسبقًا عدم القبول بانتخابهم رؤساء دينيّين لئلّا يكونون شهداء صامتين على التسلّط الذي يسحق الإنسان، ويعرقل تحقيق أهداف الإيمان العمليّة: تحقيق المحبّة الحرّة. لكنّ الكارثة التي نشهدها، في الأديان الابراهيميّة في منطقتنا، لا تتوقّف فقط على الصمت تجاه ارتكابات الأنظمة، وإنّما بتبنّي معظم السلطة الدينيّة لذهنيّة التسلّط السياسيّ داخل مؤسّساتها، بحيث تغدو المؤسّسات الدينيّة ديكتاتوريّات صغيرة في الديكتاتوريّة الكبرى، وهذا لا يمكن عذره إطلاقًا، لأنّهم هؤلاء المتسلّطون الصغار أصحاب الأمر في مؤسّساتهم. ولكن كيف لا يكون معظم المسؤولين الدينيّين صورة عن المسؤولين السياسيّين إن كانوا قد تربّوا داخل البنى القمعيّة القائمة على مدى الوطن العربيّ، بشكل أكبر أو أقلّ بحسب كلّ بلد؟ وهذا ما يعيدنا إلى نقطة البداية، أنّ للبنى الاجتماعيّة والسياسيّة أثرٌ حاسم على طريقة الحياة. لله الحمد أنّ هذا الأثر ليس حتميّا، أوتوماتيكيّا، إذ يمكن للإنسان الفرد والجماعة أن تنمو في الحرّية وفي المحبّة، ولو ليس بالشكل الأمثل، حتّى ولو عاش الناس في ظلّ أعتى الأنظمة، فأجساد المسيحيّات والمسيحيّين الممزّقة في حلبات روما تشهد. لكنّ ما لم نستوعه كفاية اليوم هو أنّ روما اليوم هي بلادنا القمعيّة والـمُستعمرون، الذين يتعاونون على حصارنا في كلّ لحظة. إنّ الإيمان بالله في لبّه هو مشروع تحرير داخليّ للإنسان، مشروع حرّية ومحبّة، وللناس أن يترجموا ذلك في بناهم الحياتيّة بالطريقة التي يتّفقون عليها في أطر دولة المواطنة التي يتساوى فيها الجميع. إمّا الانجيل فسيبقى في تضادّ مع الأنظمة القمعيّة، ولهذا تحاول الأنظمة السياسيّة تدجين البُنيَة الكنسيّة بتحويلها إلى صورتها، صورة التسلّط. هذا كان دأب السلطة السياسيّة عبر العصور، وعبر العصور حفر المسيح له، ولأتباعه بالقلب، نفقًا للحرّية عبر دهاليز الأنظمة. |
الكاتبخريستو المر الأرشيف
December 2023
Categories |