خريستو المرّ
الثلاثاء ٢٨ آب / أغسطس ٢٠٢٢ على محبّة الأرثوذكس في الكنيسة الأنطاكية لكنيستهم وتراثها، يعيش الكثيرون منهم حالة من النقمة على رجال الدين فيها. بالطبع، هناك المتطرّفون الذين يهرطقون كّل مَن لا يقول رأيهم في الكنيسة، ولكنّ الأغلبية المسالمة التي لا تريد سوى ان تحيا بكرامة في هذه الحياة وأن تساهم في صناعة مصيرها، على الأقلّ في الكنيسة طالما ممنوع عليها أن تساهم بصناعتها في الحياة العامّة بحكم الديكتاتوريّات والحالة الحربيّة التي تجتاح المنطقة، هؤلاء المسالمون لهم نقمتهم المحقّة على معظم -وليس كلّ- رجال الدين الممسكين في زمام السلطة، وعندما نقول ذلك نحيّد تلقائيّا الأغلبيّة الساحقة للكهنة الذين يعانون عادة كبقيّة أعضاء الكنيسة من غير الإكليروس من أحوال البلاد والمصاعب. المؤمنات والمؤمنون، وبحكم وسائل التواصل الاجتماعيّ، باتوا يعرفون أكثر من قبل التضارب الكبير بين الكلام والعمل في الممارسة الكنسيّة. ما يزعج الكثيرين هو أنّهم يلاحظون أنّ الرتب الكنسيّة باتت مدخلًا للمال والتسلّط، حيث يلاحظون البذخ عندَ معظم مَنْ نذروا الفقر في حياتهم، والتسلّطَ عند معظم مَن نذروا الطاعة. ما يزعجهم هو النفاق والتضارب بين الأقوال والافعال، اللذان أدّيا إلى غربة بين هذا النوع من رجال الدين وبين الناس. إنّ الأذى الأكثر انتشارا هو التسلّط وجمع المال (والمال في النهاية أداة سلطة). فبحكم موقعه، يستطيع المطران أو الأسقف أو البطريرك من أن يضع يده على الكثير من الأموال ويتصرّف بها بشكل مطلق. بالطبع، عادة ما يجمع حوله بضعة «المبخّرين» ويعتبرهم لجنة استشاريّة ليقول أنّه لا يفعل شيئا دون «شورى». ولكنّ هذا لا يخدع أيّ عاقل، فالشورى الحقيقيّة في الكنيسة تقتضي أن يكون للناس كلمة في إدارة شؤون رعيّتهم المباشرة في مدينة محدّدة، ثمّ في إدارة أبرشيّتهم، وبطريركيّتهم، ولا يمكن فعل ذلك إلّا من خلال مؤسّسات تمثيليّة. وقد يأتيك مَن يقول أنّ الكنيسة ليست جسمًا ديموقراطيًّا وإنّما تتّبع الحقّ، والحقّ لا علاقة له بالعدد. ورأيي أنّ هذا صحيح في الكنيسة وخارجها، ولكن حين نقول مشاركة في صناعة المصير في الكنيسة فليس المقصود الحقّ والباطل في شؤون العقيدة أو في قضايا تأوينها (أي ترجمة العقيدة في «الآن»)، وإنّما المقصود إدارة شؤون الحياة الكنيسّة، إبداء الرأي الفاعل في قضايا ملموسة والتي تتلخّص بوضع شؤون الناس وشجونه موقع المركز في الكنيسة وليس موقع الهامش: الهجرة، الفقر، الحرّية، تحديث المحاكم الروحيّة، إلخ. هناك قضايا متعدّدة تشكّل تحدّيًا يوميّا، والمسؤولون في الكنيسة الذين بيدهم إدارة مؤسّساتها بشكل مطلق يقفون منها موقف اللامبالاة، فالكنيسة مثلا تملك أوقافًا ضخمة، الأرجح لا حصر لها، فكيف يمكن لها أن تمتلكها بينما الناس تكاد تهلك في ظلّ ضائقة اقتصاديّة، في سوريّا أوّلا ثمّ لبنان، تسحق الناس منذ سنوات؟ قامت البطريركيّة منذ عدد من السنوات بـمؤتمر جمع المطارنة حول العالم، وممثّلين عن جمعيّات أرثوذكسيّة، وحركات شباب، وكما كان متوقّعا لم تكن النتيجة أكثر من «مهرجان» لا طائل ولا نفع منه يُذكر، كلّف ملايين الدولارات. بقيت نتائج المهرجان حبرا على ورق، واستمرّ شبه انعدام في التنسيق بين الأبرشيّات، واستمرّ التفرّد التام في استخدام المال والمؤسّسات، والخضوع لمن «فوق» المترافق مع التسلّط على الأضعف، وتهميش المرأة، والانحياز ضدّها في المحاكم الروحيّة، وحماية المتحرّشين، واجترار الكلام. باختصار، بقي غياب التعاطف والاحساس بالآخر ومعاناته، والتركيز على المكاسب الشخصيّة. وإذا بالناس اليوم يتجذّر فيها الشعور بغربة عن المؤسّسات الرسميّة في الكنيسة، ولولا محبّتهم ليسوع نفسه، وعناية الروح القدس بهم، لتركوا الكنيسة منذ زمن بعيد. وحده الإيمان بربّ الكنيسة يحملك إلى المتابعة في مؤسّسة يحكم معظم (وليس كلّ) قادتها النفاق واللهاث وراء المال والسلطة. المهمّ أن يعمل العاملون معًا وليس فقط فرادى، لينشروا ما أمكن من دفءِ مشاركةٍ إنسانيّةٍ وحرّيةٍ وفرح، فيتابعوا بذلك تجسيد حبّ يسوع للعالم، فيكونون نساءً ورجال على حسب قلبه، يقودون كنيسته «من تحت»، من الجحيم الذي تجتازه، حيث يوجد يسوع مع المشتعلين ألـمًا وحبًّا. خريستو المرّ
الثلاثاء ١٦ آب / أغسطس ٢٠٢٢ لكلّ فرد هويّات مختلفة تكتسب أولويّة لدينا عندما تكون مهدّدة، وعندها تتفاعل عنده أواليّة الدفاع عن النفس. الإنسان، كما الحيوان، يدافع بعدوانيّة عن ذاته متى أحسّ أنّ مصالحه الحيويّة مهدّدة. لكنّ مروحة المصالح الحيويّة عند الإنسان ليست فقط مادّية وإنّما يحتاج الإنسان أيضاً إلى إطار وتوجّه عام في الحياة، لقيم، لتوجّهات روحيّة، بالمعنى العام للكلمة الذي يشمل الإيمان بمبادئ وقيم معيّنة. ولهذا فإنّ الإنسان يعتبر أنّ أيّ تهديد لهذه القيم هو تهديدٌ لمصالحه الحيويّة. وعندما يظنّ المرء بأنّ قيمة حيويّة (والمقدّس قيمة حيويّة) لديه قد تعرّضت للتهديد أو للاعتداء فإنّه يلجأ إلى التفكير القاطع الثنائيّ (أنا خير هم شرّ)، ويستعدّ المرء تلقائيّاً للهجوم دفاعاً عن قيمه. بواسطة التفكير الثنائيّ يرى الإنسان أنّ ذاته وجماعته هما ممثّلي الحقّ أو الخير، وأنّ الآخر وجماعته هما ممثّلي الباطل أو الشرّ. ويلعب الاستبداد والاستعمار دورين كبيرين في موضوعنا. فعندما تشعر جماعة ما وطنيّة او قوميّة او دينيّة أنّها مهزومة أمام الاستعمار والاستبداد، يشعر المرء بانعدام الأمان، فهو بشكل دائم تحت التهديد. ولكن لا يمكن لإنسان أن يحيا دون أمان، لهذا لا بدّ له أن يتمسّك بشيء يعيد إليه الشعور بشيء من الأمان، لذلك يتمسّك بآخر هويّة له لم يستطع الحاكم أن يسحقها وتعطيه شيئا من الأمان المفقود: الهويّة الدينيّة. لكن إن كان الهويّة الدينيّة للشعوب المقهورة هي الملجأ الأخير فأيّ تهديد لها أو إهانة، سيُعاش كجرح أكبر بكثير ممّا لو كانت الأحوال عاديّة، لهذا نفهم (ولا نبرّر) تعاظم ردّات الفعل العنفيّة التي تعبّر عنها شعوبنا المسحوقة بين مطرقة الاستعمار وسندان الحكّام. هذا إذا لم نتحدّث عن دور مباشر للاستعمار في التحريض على العنف الدينيّ ليتفسّخ المجتمع أكثر وتضعف قدرته على التحرّر. لا تكمن المشكلة في وجود هويّات أو في الدفاع عنها، وإنّما في الشكل الذي قد يتّخذه الدفاع عند الذات. هل الإنسان مستعدّ أن يلجأ إلى القضاء والمجتمع الأوسع لكي يأخذ حقّه؟ أم أنّه سيندفع لهدر دم الآخر، أو الآخرين، والدعوة إلى القتل الفرديّ، أو ذلك الجماعيّ حيث لا أحد يشعر بمسؤوليّة شخصيّة؟ أي أنّ السؤال هو التالي: هل الجماعة الدينيّة، فوق الوجود الوطنيّ المتمثّل بدستور وقضاء؟ هذا السؤال مطروح بالنسبة للمسيحيّين وللمسلمين، فلسنوات خلت هدّد مسيحيّون فرقًا فنّية بالأذى الجسديّ، أي أنّ جماعات مسيحيّة أرادت أن تكون فوق الدولة. ولا نزال نذكر كيف أحرق مسيحيّون دور للسينما في فرنسا لشعورهم بأنّ مقدّسهم قد تهدّد جرّاء عرض فيلم "التجربة الأخيرة للمسيح". لكنّ المشكلة، في عصرنا، مُضاعفة بالنسبة للمسلمين لأنّ هناك قيادات دينيّة وازنة لا يرفّ لها جفن في دعم دعوة لقتل. لله الحمد، أنّ معظم الناس لا يأبه لتلك القيادات، ولكن لا بدّ للإنسان أن يلاحظ تلك الطمأنينة وراحة الضمير التي يتكلّم بها كثيرون على صفحات التواصل الاجتماعيّ عند المحاولة الأخيرة لقتل سلمان رشدي. ولسنوات خلت اطمأنّت جماعات مقاتلة في سوريا والعراق إلى القتل والتدمير والإبادة باسم تفسير محدّد للدين يجعل من تلك الجماعات ممثّلة لإرادة الله، ويجعل من كلّ مَن لا يتبعها مُباحًا بكلّ طمأنينة لكلّ أنواع الفظائع. على صفحات التواصل مَن يذكر تبريرات قتل كاتب لا يفعل شيئًا سوى ترداد ما قد تعلّمه، ويسمعه، ويقرأه، من رجال الدين. يشعر المسيحيّون الذين يحبّون المسلمين ويشاركونهم المصير، بأنّ هناك اجتهادًا ضروريًّا في قلب الإسلام، للخروج بنا من أوضاع لا ترتدّ علينا جميعًا سوى بالخراب وبالتفسّخ والاحتراب الداخليّ (التوتّر المذهبيّ السنّي-الشيعيّ أكبر دليل) بينما الاستعمار يتمدّد في فلسطين وينهب في ثروات بلادنا ويُفَقِّرها. ولا بدّ من التذكير بأنّ هناك اجتهادًا آخر ضروريّ لكي نعيش بسلام في كنف دولة تجمع مواطنيها على أساس مواطنيّة كاملة غير منقوصة، تساوي بين الجميع، لا مكان فيها لأهل ذمّة، ولا لمسلمين يدافعون عن مسيحيّين، بل لمواطنين متساوين يدافعون عن أهاليهم وقت الحاجة. حتّى اليوم، لم نستطع أن نقوم في بلادنا بجهد فكريّ وعلميّ واسع النطاق، مؤثّر في المجتمع، لنفكّر بحرّية في أحوالنا ونتمكّن من الإمساك بمصيرنا. قد يكون الناس في الماضي أجابوا عن إهانة الرموز الدينيّة بالدعوة إلى القتل، ولكن تلك كانت طرق ذلك الزمن. هذه الدعاوى اليوم هي من خارج العصر، ولا يمكن ان تمرّ دون أن تؤذينا معنويًّا جميعًا، وهي تساهم في تدهور القدرة على النقد في داخل الأمّة. هكذا طريقة تفكير لا بدّ أن تذهب أبعد فأبعد في كمّ العقول والأفواه. القبول بأن يحتكم الجميع إلى دولة غير ملحقة بدين، وأن تكون الأديان المؤسّسات الدينيّة في، وليس فوق، المجتمع، وحده يضمن السلام الدخليّ في البلدان، ويمنح الناس فسحة ضروريّة لحرّية التفكير والنقاش. ممارسة العنف الداخليّ أمر تضعه الشعوب في يد دولها، ويُمارس بواسطة مؤسّساتها، وإلّا تفسّخ المجتمع. إنّ «الشعور» الدينيّ أمر دقيق، والأفضل أن يحتكم الإنسان إلى القضاء الذي يعبّر عن المجتمع ويرى الأنسب. مارسيل خليفة، كاد أن يدخل السجن لأنّ شعور أحدهم الدينيّ تحسّس فجأة، واتّهمه ظلما بتحقير الشعائر الدينيّة الإسلاميّة، لكنّ القضاء حكم بعدم وجود إهانة، وانتهى الموضوع. لو ترك الموضوع للشارع ماذا كان ليحدث ظُلماً؟ إنّ الأسلم والأفضل بما لا يُقاس أن يُترك الأمر للقضاء، وهو الأمر الوحيد في نظرنا يسمح بالسلام وبإحقاق الحقّ والقانون داخل الأمّة، ويسمح للأمّة بأن تتقدّم ليس فقط عسكريّا وإنّما أيضا حضاريّا وثقافيّا وفنّا وعلمًا وخدمة للإنسان، واللجوء إلى القضاء يحترم حرّية الإنسان بالتفكير والتأمّل في أسرار هذا الكون وهذا الوجود وأن يؤمن بما يشاء ولا يؤمن بما يشاء، حتّى يحكم الله بيننا في ما كنّا فيه نختلف. لم يوكّل الله أحدًا ويَقُل له: أنت تمثّل إرادتي. كلّ مَن يقول أنّه يمثّل إرادة الله هو يفسّر نصوصًا، ورأيه بالتالي يحتمل الخطأ أكثر ما يحتمل الصواب، بحسب رأينا. لتغيير أحوالنا، هناك مهمّة كبرى لتفسير مختلف للنصوص لتحترم حياة الإنسان، وهناك مهمّة دحر الاستعمار والقضاء على الظلم الداخليّ، وهناك مهمّة خلق أطر مشاركة سياسيّة تسمح للناس بالإمساك بمصيرها والمشاركة في صنع مستقبلها، والعيش بمواطنيّة غير منتقصة داخل دولة يحكم فيها قضاء عاقل ملتزم بالقانون الذي يضعه المجتمع. مهمّات كبرى لنصبح أمّة كبرى مُعاصرة. خريستو المرّ
الثلاثاء ٩ آب / أغسطس ٢٠٢٢ والقلب على فلسطين الجريحة الأسيرة أكتب عن لبنان. في لبنان، لا حقّ. الكلام حول لبنان-الرسالة "كليشيه" يجمّل بشاعة النظام السياسيّ لهذا البلد الجميل، وبالتالي يخدّر الممارسة السياسيّة الضروريّة لنخرج من الطائفيّة، من هذا النظام السياسيّ الطائفي المدمّر الذي رتّبه المستعمر العلمانيّ لكي يُبقي على وسيلة يمارس من خلالها سيطرته. في لبنان، لا حقّ. الطائفيّة تأكل كلّ حقّ. الطائفيّة تأكل كلّ إيمان باسم الدين. كلّما طاف على سطح اليوميّات اتّهام لشخص أو مجموعة بالتفريط بالمال العام أو بالمال الخاص (مال المودعين) تجنّد بطريرك ومطران من هنا، ومفتي وشيخ من هناك، ليضرب بالإيمان عرض الحائط في سبيل "كرامة" الطائفة، فيضع خطًّا أحمرًا أمام استدعائهم للتحقيق. بخالف رجال الدين أسس إيمانهم من أجل الطائفة، والكلّ يعلم أنّ الطائفة لا تستفيد ولا تتكرّم بالطائفيّة، وإنّما الطائفيّة وسيلة استفادة ماليّة و/أو سلطويّة للمتنفّذين فيها فقط، ووسيلة تخدير ونزاع يستخدمها المتنفّذون لمحاربة بعضهم البعض على المال والسلطة. انفجار ٤ آب ٢٠٢٠ ذهب دون عقاب ودون معرفة لحقيقة، كما توقّعنا. سنتين على الانفجار دون تقدّم يذكر. هناك اتّهامات مجانيّة، أخبار و"تحقيقات" تطلقها وسائل إعلاميّة مشتراة من أجهزة خارجيّة، ولا حقائق. القضاء ممسوك سياسيّا إلى حدّ كبير، والسياسيّون يصونون أنفسهم وأتباعهم من الملاحقات، وهم مدركون أنّ القضاء ممسوك من السياسيّين لأنّهم يعلمون ماذا فعلوا، وكيف زرعوا الأجهزة القضائيّة بأتباعهم. الكلّ يطالب بالتحقيق على أن يصل التحقيق إلى الاستنتاجات التي هو يريدها. إن لم يتصرّف القضاء كما يريد هذا الحزب أو ذاك، توقّفت عجلة العدالة المكبّلة أصلا. الأحزاب الطائفيّة نخرت الجسم القضائيّ لأنّها لا تثق ببعضها البعض وتتنافس على المغانم نفسها والسلطة نفسها. وانعدام الثقة هذا، هو الذي يدفعها إلى رفض تطبيق العدالة في أيّ ملفّ ما لم تضمن مسبقا نتائجه. الواقع، من الزاوية الإيمانيّة، أنّ المتكلّمين باسم المسيحيّين والمسلمين مدفوعين بحكم النظام الذي يشتركون بالدفاع عنه، هذا النظام المولّد لانعدام الثقة وللتنافس على المغانم، مدفوعون دفعًا إلى خيانة كلّ مبادئ إيمانهم التي تتطلّب ضرورة العدل وإحقاق الحقّ للمظلوم. المتكلّمين باسم المسيحيّين والمسلمين سياسيّين ورجال دين، هم أسرى هذه التركيبة الطائفيّة التي يحمونها بحكم العادة وبحكم الاستفادة. تاريخ الأديان المعاصر يضع الإلحاد في مواجهة الإيمان، وكأنّ الإلحاد هو الوضع المعاكس للإيمان. هذا التواجه خطأ إيمانيّ فادح. الإلحاد ليس عكس الإيمان ولا هو ضدّه، فقد يكون الإنسان ملحدًا فكريّا بالله، ولكنّه يعمل عمليّا كلّ الأعمال الصالحة التي من المفترض أن يفعلها المؤمن؛ وقد يقول الإنسان عن نفسه بأنّه مؤمن ولا يفعل من تلك الأعمال شيئًا. الإلحاد ليس هو عكس الإيمان أو ضدّه، عكس الإيمان وضدّه هو الإيمان الظاهريّ، الإيمان المنافق، الإيمان الذي يحوّل الله نفسه إلى وسيلة قمع واستغلال، واستفادة شخصيّة وجماعيّة. من هذا المنظور الطائفيّة هي ضدّ الإيمان، هي معادية للإيمان، لأنّها تشوّهه وتحوّله إلى عصبيّة دينيّة هدفها استمرار الجماعة الدينيّة بغضّ النظر عن علاقتها بالله (الكراهيّة الطائفيّة خير دليل على إرادة الاستمرار بانفصال عن الله). لا يمكن ان نشهد جوّا يسمح بصفاء في العلاقة مع الله ومع الآخر في المجتمع في ظلّ النظام الطائفيّ. الإيمان نفسه يدلّنا أنّنا يجب أن نتخلّص من النظام الطائفيّ لنبني نظاما علمانيًّا، أي غير طائفيّ، مثل الأنظمة الأخرى الموجودة حول العالم والتي عندما يلجأ إليها اللبنانيّون واللبنانيّات يمكنهم – إن تحرّروا من سمّ الطائفيّة في وطنهم الأصليّ- أن ينعموا بنعمة التعامل مع الآخر كإنسان فريد، أي يمكنهم أن يتعاملوا معه كوجه. الملحد يمكنه أن يرى الوجوه، ويصعب على الطائفيّ، ذاك المؤمن الظاهريّ المنافق، أن يراها، فهو مشغول بالكراهية والاستغلال، أي مشغول بذاته الفرديّة وصورتها الضخمة الجماعيّة. إنّ مرور جملٍ من ثقب إبرةٍ أسهل من أن يدخل طائفيّ ملكوت الوجوه. مَن يتجاوز الطائفيّة يرَ الوجوه، وبالوجوه يكتب قصائد علاقاته الإنسانيّة. أبجديّةُ الحياة مع الله هي الوجوه، آمن الإنسان أم لم يؤمن. خريستو المرّ
الثلاثاء ٢ آب / أغسطس ٢٠٢٢ كلام البطريرك بشارة الراعي عن الامتناع عن تسمية الذين تعاملوا مع إسرائيل وأداروا معتقلاتها بأنّهم عملاء مثير أقلّه للعجب. إذ أنّ هؤلاء نكّلوا باللبنانيّين واللبنانيّات الذين كانوا تحت الاحتلال. قد لا يكون كلّ واحد منهم مسؤولًا، أو مسؤولًا بنفس الدرجة، وقد لا يكونوا وحدهم العملاء في هذا البلد، فتصرّفات بعض السياسيّين توحي بأنّهم عملاء: لـِمَ يصرّ البعض على نزع السلاح الوحيد الموجود، بينما لم تستطع ولا تستطيع بلادنا تسليح جيشها بشكل سليم، وبينما تعانق الدول العربيّة خيانة العدالة بالتطبيع مع اسرائيل التي تقتل الفلسطينيّين يوميّا والتي هدّدتنا وتهدّدنا، واخترقت وتخترق أجواءنا، وأقامت معتقلات تعذيب أهالينا في الثمانينات ومستعدّة لتقيمها في المستقبل، والتي تريد سرقة ثرواتنا النفطيّة علنًا؟ ثمّ أين هو تاريخ جرائم اسرائيل بحقّنا في كتب التاريخ؟ أين هو في إذاعاتنا؟ بلد مليء بالعملاء في الخفاء في كلّ مكان، والبطريرك يريد أن يحرّم استعمال الكلمة للعملاء في العلن، وهو الذي يحمي علنًا حاكم المصرف المركزي. هذا إنسان يداه ملوّثتان بما تلوّثت به يدي حاكم المركزي ويريد أن يحرّم ويحلّل بالعمالة! مهزلة كاملة. لو أنّ جارنا عبد الله أعطى رأيه بالعمالة لكان ذنبه أقلّ فهو ليس شريك في سياسات رياض سلامة وإنّما ينزف من مخالبها. الغفران في المسيحيّة لا يعني أن تترك الإنسان يفعل ما يشاء وألّا تحاسبه. هذه فكرة متداولة فقط عندما يكون المرتكِب والمجرم رجل دين من طائفتنا أو عندما لا نأبه لغيرنا ومصيره. فعندما صرخت مجموعات في الكنيستين الأرثوذكسيّة والمارونيّة حول ارتكابات بعض الكهنة والرهبان بحقّ الأولاد والناشئين، قالت العقول الخانعة أنّ المسيحيّة تطالبنا بالغفران، تكلّموا عن الخطيئة والغفران ليقولوا يجب ألّا نفعل شيئا بحقّ المرتكِبين. هذا تفكير يخالف المفهوم المسيحيّ للغفران. الغفران بين الناس هو القدرة بأن تفتح صفحة جديدة مع شخص عاد عن أخطائه ودفع ثمنها. أمّا الله فيغفر للجميع مَن تابوا، أي مَن أرادوا أن يعودوا عن ارتكاباتهم. الكنيسة لديها مجموعة قوانين داخليّة شائكة، لو أنّها تفكّر بأنّ الغفران هو ألّا تفعل شيئًا وألّا تحقّق عدالةً، لما كانت سنّت قوانينها الداخليّة. دَفْعُ المرتكب لثمن ارتكاباته هو جزءٌ أساس من إحقاق العدالة للضعيف الذي نحن ملزمون به مسيحيًّا. بالنسبة للعملاء الغفران يقتضي أن يعترفوا بعمالتهم، ومَن ارتكب يدفع ثمن ارتكاباته بحسب قوانين الدولة، وعندها للمجتمع أن يقبله. الكنيسة تقبله دائمًا، ليس لكي توافقه على جرائمه، وإنّما لتذكّره بأنّ جرائمه هي جرائم، وبأنّه قادر ومدعوّ على التراجع عنها والاعتراف بها، وأنّ جدّية التراجع تقتضي تحقيق العدالة للمظلوم، وبالتالي تقتضي أن يدفع الثمن. لقد قيل بحقّ أنّ الكنيسة هي كنيسة الخطأة الذين يتوبون. الجميع خطأة، ولكن ليس الجميع يتوبون، والكنيسة دورها التذكير بضرورة التوبة، أي بضرورة العودة إلى محبّة الله، ودورها أن ترعى تلك العودة بالدعوة لتحقيق العدالة التي تفترضها المحبّة كدليلٍ جدّيٍ وملموسٍ للعودة إلى الله. المطران والبطريرك عليهما تذكير المرتكبين بأنّ العمالة جريمة؛ ليس لأنّ المجتمع يقول ذلك، ولكن لأنّ العمالة تعني الاشتراك مع قاتل في سحق إنسان من أجل الفائدة الشخصيّة. وهنا تكمن خطيئة العمالة. المحبّة التي تغفر، تغفر لذاك الذي يعترف بجرائمه، والذي يريد أن يدفع ثمنها بطريقة تحقّق للمظلوم عدالة. لا يمكن العمل الصحيح للبطريرك بتبييض الجريمة والخطيئة وجعلهما «طبيعيّين»، و«حلالًا»، وإنّما أن يذكّر الناس بطرق التوبة: الاعتراف بالخطيئة والعودة عنها إلى الله، وترجمة تلك العودة بتحقيق العدالة للمظلوم. الفاجعة أنّ هذا بديهي، وأنّ بطريركًا احتاج لعلمانيّ أن يذكّره بالبديهيّات لتراجع إحساسه بضرورة العدالة. |
الكاتبخريستو المر الأرشيف
December 2023
Categories |