تجديد العام تجديد الحياة لا شيء جديد في العام الجديد إن لم نكن نحن جُدُدا. هل يمكن أن نكون جددًا؟ يمكن تجديد الفكر هذا أمر سهل أحيانا. يكفي أن تقتنع مجموعةٌ حول الإنسان بفكرة حتّى يأخذ بها، مدفوعا بالانحياز الفطريّ إلى من هم حوله. الصعوبة الأكبر هي عند من يعتنق فكرا جديدًا في محيط مخالف له. هذا شهيد أو شهيدة، وشاهد أو شاهدة: شاهدين للحقّ الذي بدا لهما. لكن بعد الفكر الصعوبة الكبرى هو تجديد الممارسة.
"فليكن فيكم هذا الفكر الذي في المسيح يسوع أيضًا" (فيليبي ٢: ٥) يقول بولس. كيف يمكن ترجمة هذا الكلام في إطار بلاد تنهار اقتصاديّا؟ قبل كلماته تلك كتب بولس "فتمّموا فرحي حتّى تفتكروا فكرا واحدا ... لا تنظروا كلّ واحد إلى ما هو لنفسه، بل كلّ واحد إلى ما هو لآخَرين أيضًا. فلْيَكُنْ فيكم هذا الفكرُ الّذي في المسيح يسوعَ أيضًا" (فيليبي ٢: ٢-٥). عندما ينظر الإنسان ما لذاته فقط، ولا ينظر لحاجات غيره، لا يكون مسيحيّا حقّا، وانتهى. لا يوجد نقاش وفذلكات في الموضوع. لا يمكن أن أقضي حياتي وأنا أهتمّ لعائلتي فقط، وحاجاتها فقط، وأعتبر نفسي مسيحيًّا ومسيحيّةً. لا، أنا عندها أب صالح أو أمّ صالحة، وهو أمر جيّد، ولكن ما من أمر مسيحيّ في الموضوع، ما من جديد في الموضوع، الحيوانات تهتمّ لصغارها. أنت حيوان طبيعيّ عندها. ألف مبروك! طبعًا الحياة الحيوانيّة والإنسانيّة أفضل من ذلك والأمثلة أكثر من أن تُحصى. أي في النهاية، لا مجال لمبروك. الفكر الاجتماعي المسيحيّ للكنيسة الأولى ما يزال ممتدّا في التعليم الكنسي اليوم: ساعد المحتاج لأنّ المحتاج هو المسيح نفسه واقف أمامك، وهو مرميّ على هامش التاريخ. فيسوع جعل الهامشَ المــَــتْنَ، والصعاليكَ الملوكَ. هكذا كان للكنيسة أن تكون، وهي حتّى اليوم تخون. ليس أنّها تخون في أنّها لا تقدّم مساعدات، ولكن في كون الفقراء فيها مهمّشون وليسوا في المتن. حكى لي صديق قرأ نسختين من أحد كتب التعليم المسيحيّ الأولى "تعليم الرسل الاثني عشر"، أنّ الكتاب في نسخته الأولى كان يوصي بأنّه إن دخل فقيرٌ الكنيسة على المطران أن يقف ويجلسه على كرسيّه، لكن في نسخة لاحقة غابت هذه العبارة لتحلّ محلّها عبارة أقلّ قوّة ووضوحًا "أن يجدوا له مكانا ليجلس" أو شيء مثل هذا. طبعا نحن لا نطبّق شيئا لا من هذا ولا من ذاك. والكنيسة تخون لأنّها أيضا -في لبنان والمنطقة- شريكة الحكّام في التعسّف وفي الاستغلال. لا لزوم لشروحات مطوّلة. الكلّ يعرف الواقع. لكنّ الكنيسة تخون لأسباب أخرى، أكثر ملحاحيّة برأيي. الكنيسة تخون لأنّها لا تشدّد على المؤمنات والمؤمنين بأن يدرسوا الواقع، لا تدفعهم لتثقيف أنفسهم حول الواقع الذي يعيشونه. كما أنّها لا تزال تستخدم مفاهيم وأفكار صحيحة ولكنّها قاصرة عن إلهام الواقع. فمثلا استعمال تعبير مثل الإفقار أو التفقير هو أكثر دقّة من الفقر، لأنّه لا يوجد فقراء «بالطبيعة» هناك نظام سياسي اجتماعيّ أدّى إلى استغلال البعض للبعض الآخر، وهؤلاء مَن هم في قعر الاستغلال افتقروا إلى حاجاتهم الإنسانيّة المختلفة؛ أي أنّ هؤلاء هم ضحايا نظام محدّد له مستفيدون محدّدون. لا يمكن للكنيسة أن تــُخلص لإيمانها فقط بتردادها دستور الإيمان، لا يمكن. لأنّه لا يمكن للكنيسة أن تؤمن دون أن تمارس، والممارسة في عالم اليوم تقتضي أن نفهم أنّ هناك ظواهر (الفقر، الضائقة الاقتصاديّة) وهناك أسباب لهذه الظواهر (نظام استغلاليّ)، ولا يمكن الدعوة لمعالجة الظواهر دون الدعوة لمعالجة الأسباب إلاّ أن كان الإنسان منافقًا أو غبيًّا. يدعو البعض إلى تأميم المصارف. تبدو الدعوة لا واقعيّة. يدعو البعض إلى محاكمة المصرفيّين ورجال السياسة. تبدو الدعوة حمقاء. يدعو البعض إلى تغيير النظام، يبدو الأمر جنونا. عجبي من مسيحيّين ومسيحيّات صاروا فقراء الخيال وفقراء التاريخ وفقراء الإيمان إلى هذه الدرجة التي توقّفوا فيها عن تخيّل أيّ عالم أفضل! هناك تذكيرٌ لنا ضروريٌّ في نهاية العام: يسوع المسيح هو ربّ «اللاواقعيّة» وربّ «الحماقة». هذا جزء من الإيمان المسيحيّ. أن يتجسّد كلمة الله ويموت مصلوبًا ويعتبر الإنسانُ أنّ ذلك انتصارٌ لهو حماقةٌ وجهلٌ في عرف الفِكْر الــمُعتاد، وهذا ما واجهه الرسل مع محيطهم. فقالوا بأنّ هذا «الجهل» وهذه «الحماقة» بالذات هما بالضبط "قوّة الله وحكمة الله، لأن حماقة الله أكثر حكمة من الناس، وضعف الله اوفر قوة من الناس" (١ كورنثوس ١ :١٨ - ٢٥). أليس من صلب الإيمان عندها أن يبتكر المسيحيّون والمسيحيّات، أو يوافقوا عندما يبتكر أحد غيرهم، أفكارًا «حمقاء» في الفكر الاقتصاديّ المجرم الشائع، ويعلّونها وينادون بها لأنّها بالضبط تمثّل «حماقة» الله التي قالها يسوع مرّة وإلى الأبد فوق الصليب، عندما مدّ يديه ليجمع آهات المهمّشين حول الأرض وعبر التاريخ، ويضمّها إليه ويرفعها معه إلى الملكوت؟ منذ تلك اللحظة الجنونيّة فوق الصليب، مَن يلاحقون خُطى السيّد وملامحَه في الأرض هم حمقى ومجانين، ولا يمكنهم أن يكونوا سوى حمقى ومجانين، ولن ينقذ البشريّة إلاّ الجنون الذي على الصليب، الذي يتجرّأ على العاديّ والمتعارَف عليه ليبتكر عالماً جديداً، فتكون «أرض جديدة وسماء جديدة» (رؤيا ٢١: ١) و«إنسان جديدٌ»، في عامٍ جديدٍ بالفعل، تتجسّد فيه تباشير "أورشليم الجديدة النّازلة منَ السّماء" (رؤيا ٣: ١٢). خريستو المرّ الميلاد وإعادة اكتشاف العالم: الله الذي يلاعبنااعتدنا على العالم حتّى فقدنا الإحساس بالدهشة أمامه. ننظر الشجرة ولا نراها. نمرّ بالماء كما لو أنّه لا شيء. عدا الشعراء، معظمنا، لا يستعيد الدهشة إلاّ حين يرى ولدًا صغيرًا مدهوشًا أمام كائن نعتبره عاديًّا: شجرة، طائر، غيمة. ما زلت أذكر بوضوح عينيّ ابننا ألكسي يوم رأى فراشةً لأوّل مرّة! لاحقناها سويّة... الأطفال يكشفون سحر العالم لنا من جديد إن أخذناهم على محمل الجدّ. الأطفال معلّمو الدهشة، معلّمو الفرح بالعاديّ.
يدلّ الأهل أولادهم على فراشة أو زهرة، على عصفور، على لون ولون، على ملمس قطعة قماش، على صوت معدن، على طعم السكّر. ينزلون إلى مستواهم، يلاعبونهم، يتنكّرون معهم، يكلّمونهم، ويلاعبونهم كي ينمو الأولاد بالفرح والمعرفة. هكذا يلد الأهل أولادهم مرّة أخرى، ومرّات أخرى؛ ولو انتبهوا يولدون معهم أيضًا. يلاعبنا الله كما يلاعب الأهل أولادهم، يكلّمنا، كلماته جناحي فراشة، وردة، عصفور، موجة، جسمنا نفسه، يلاعبنا ويكلّمنا الله بالكون، بالكون الذي في الخارج، وبالكون الذي في الداخل، برغبتنا نفسها، بالرغبة التي لا تهدأ، ولا تشبع حتّى تجوع. ويومًا، منذ حوالي الألفي عام، نزل إلى مستوانا بشكل أوضح، جعل كلمته إنسانًا. ليس صعبًا على الفكر كثيرا أن يرى كلمة الله تتجسّد، المسلمون يرون كلمة الله تتجسّد في لغة وكتاب، والمسيحيّون يرون كلمة الله يتجسّد في إنسان. نزل الله إلى مستوانا بكلمة من عنده اسمه يسوع. هكذا يؤمن المسيحيّون. وكلمة الله أزليّ وله علاقة خاصّة مع الله يسمّيها المسيحيّون علاقة بنوّة، وبهذا المعنى المسيح هو ابن الله، فهو كلمته المتجسّد. أتى كلمة الله، نزل من عليائه وصار إنساناً، تجاوز تجاوزه لنا نفسه، لكي يلاعبنا بنفسه في مستوانا نحن، ومستوى فَهْمِنا نحن، ولغتِنا نحن. وكما يؤمن الأهل ويرجون، أنّ لَعِبَهم مع أولادهم سيلد أولادهم معنويّا ليصيروا على شبههم، نساءً ورجالاً، نمت قُدراتهم وأضْحوا متمايزين وواحدًا مع أهلهم بالمحبّة والحرّية (وليس بالعنف والتسلّط)، لا شكّ أنّ كلمة الله أمُل أنّه بإتمام لعبته معنا «لـمّا حان ملء الزمان»، بإتمامه لعبته وجهًا لوجه، وعلى مستوانا، بعدما كلّمنا بحضوره في كلمات شعره الأبديّ: الشمس، والنجوم، والسماء، الحبّ، الرغبة... أمُلَ أن نولد من جديد، أن نرى الكون من جديد، ونُدهَشُ به من جديد، ونصير جُدُدًا في المسيح، نصير مثله، فننمو بالمحبّة متمايزين عنه وواحدًا معه، بها [أي المحبّة]. ومن هنا، قال أثناسيوس الكبير من الاسكندريّة الرائعة أنّ «الله صار إنسانا ليصير الإنسان إلهًا». لعبة كلمة الله المتجسّد، الرائعة والمفرحة هذه، لعبة تعلّم فنّ الحبّ والحرّية هذه، مستمرّة، ولا تنتهي بالدخول إلى مملكة الحبّ الأبديّ إلاّ لتبدأ من جديد، «هناك» نلاحق يسوع من أفقٍ لأفق، في سلسلة آفاق يلد الواحد منها الآخر، في لعبة نموّ الإنسانيّ في الإلهيّ، تلك اللعبة المفرحة التي... لا تنتهي. خريستو المرّ الإيمان، الأمل، والثورة أن يؤمن الإنسان هو أن يجرؤ، هو أن يطلب المستحيل وأن يعمل ضمن الواقع المتاح، وأن يدفع حدود الواقع إلى الأمام أبدًا.
أن يؤمن الإنسان هو أن يعمل ليصل الحبيب (أو المسيح)، وأن يأمل وصوله كلّ يوم، وفي نفس الوقت لا ييأس حين لا يصل. أن يؤمن الإنسان هو أن يحيا في تلك المساحة المضاءة بالصبح الآتي والمبلّلة بقسوة العتمة، وأن يزرع في قلب اليوم ذاك الغد الذي يأتي. أن يؤمن الإنسان هو أن يحمل الأمل الذي يتنفّس جُرأةَ، وينمو بالعمل، وأن يحمله بصبر دون كلل. أن يؤمن الإنسان هو أن يقرّر أنّه على هذه الأرض، وقبل أن يغادر، وبما أنّه سيغادر، يريد أن يحيا إلى المنتهى، لا أن يعيش فقط. والأمل هو ابن الإيمان، كما أنّ المحبّة هي ابنة الحرّية؛ والأمل والمحبّة جناحي الثورة، تحلّق بهما فوق التعب واليأس وتمتدّ بهما إلى الأمام. أمّا الثورة، فالثورة هي اللحظة الموجعة بين ما لا يمكن أن يستمرّ وبين الجديد الذي لم يولد بعد، ولهذا تحمِلُ الثورةُ من الشعب في الفرح، لتلدَ غَدَه الجديد. والثورة هي التي ربّتنا من أجلها. فالثورة هي أمّهاتنا عندما كنّ يَضَعْنَا باكياتٍ في هذا العالم البائس لنحيا ويفرحنَ، والثورة هي قلق آبائنا مذ جاء الوحش ودسّ السمّ في الطعام وأكثر من سكّر الكلام، والثورة حارات اللعب التي فتحت سماواتٍ في حجارة الجدران حولنا، والثورة هي معلّماتنا اللواتي قصصن لنا قصّة جناحين لعصفورٍ ضئيلٍ يعاند حجارة كوكب، والثورة أساتذتنا الذين قالوا أنّهم رأوا بنتًا تزلّجت يوما فوق أشعّة الشمس، وولدًا سبح في الناي الخفيف زمنًا أبعد من بلاد السندباد. والثورة نمت فوق يَدَي سائقٍ لعن بلاده كلّ يومٍ وأحبّها كلّ يوم، وفي جسم بقّالٍ توازن عمرًا فوق حبل الكلام بين جرحين: سكّين التاجر وحزن الجارة الدامعة. والثورة مُزارعٌ حدّقتْ حسرتُه طويلاً بهطول الليمون فوق التراب. والثورة يدان تشتاقان لمس قطعة قماشٍ دفنتها حكوماتٌ في مصانع النسيان. والثورة كَبُرَت بين شابٌ وصبيّة يفتّشان بجسميهما عن الأفق المنتحر بين صحن المصرفيّ وسكّينه. والثورة كبرت في الوادي السحيق بين الفعل والكلام، وفي التناقض بين ضيوف التلفاز المتأنّقين ورطوبة الغرفة، وفي الهاوية بين أنين المرضى وبياض المستشفيات. في فراغِ برّادات البيوت الخفيفة كبُرت الثورة. كبُرت في زوايا المدارس المسنّنة، وعتمِ الخطب الدينيّة؛ في الالتباس بين نعومة الهراوات وقساوتها، في رقصة القبائل الحكوميّة فوق أشباح وجوهٍ ذهبت يومًا ولم تعد؛ وفي وعود انتخابيّة هاربةٍ كالظلال. كبُرّت في جسمٍ سبعينيّ أو ثمانينيٍّ مقوّسٍ تحت ضغط الانتظار على كتفيه؛ كبُرَت في خصلة حصان ينتظر الموت في الحلبة. وكبُرت في بئر الغضب الذي ضغطَ نفسه في زجاجة الخوف طويلاً، في المرارة التي تناساها اللسان بلفائف تبغِ الكلام. كبُرّت في الوضوح الصارخ في قلبِ ألف جرح. كبرت حتّى انفجرت شعبًا ينمو. ينمو ويؤمن. فأن يؤمن الإنسان هو أن يقرّر أنّه على هذه الأرض، وقبل أن يغادر، وبما أنّه سيغادر، يريد أن يحيا إلى المنتهى، لا أن يعيش فقط. وأن يؤمن هو أن يرفض فيثور ويأمل. فالأمل ابن الإيمان كما أنّ المحبّة ابنة الحرّية، والأمل والمحبّة جناحي الثورة. أمّا الثورة فهي اللحظة الموجعة بين ما لا يمكن أن يستمرّ، وبين الجديد الذي لم يولد بعد، لكنّه أطلّ برأسه ويولد الآن. خريستو المرّ نظام القتل: فلنُسَمِّ الأمور بأسمائها |
الكاتبخريستو المر الأرشيف
December 2023
Categories |