خريستو المرّ – الثلاثاء ٣٠ أيّار/مايو ٢٠٢٣
الإنسان مخلوق لديه حسّ عميق للعبادة، كان دوستويفسكي يتحدّث عن "الرغبة الشديدة للعبادة" التي لدينا كبشر. في موقف العبادة يسلّم الإنسان حياته للمعبود ويكرّس نفسه ويخلص له. موضوع تكريس الذات للمعبود والإخلاص له متلازمتان في الأدب الدينيّ والكتب المقدّسة. لكنّ المشكلة هي في المعبود الذي يكرّس الإنسان له نفسه، في هذا الأعلى الذي يعبده. فإن كنّا نلاحظ بأنّ كلّ إنسان يحتاج إلى تكريس نفسه لموضوع ما، أكان دينيّا أم لم يكن، أكان شخصا أو فكرة أو غير ذلك، فليست كلّ مواضيع التكريس شبيهة بعضها ببعض. إذ يمكن تكريس النفس لِمَثَلٍ "أعلى" يتطلب قتل الأطفال (احتلال عنصريّ، دولة عنصريّة) أو لمَثَلٍ أعلى يحمي الأطفال، ولمَثلٍ أعلى يقول بأنّ الناس جميعا متساوون في الكرامة أو ولمَثلٍ يقول بأنّ بعض الناس لهم قيمة أعلى من غيرهم، لفكرة بناء الظروف التي تؤمّن للإنسان حاجاته الحياتيّة الأساس وتحترم حرّيته وكرامته أو لفكرة بناء الظروف التي تساهم في أن يسطو على ثروات الطبيعة والمجتمع وإلحاقها بذاته والسيطرة على الناس وحركاتهم، لهدف جمع الثروة أو لهدف المشاركة في الخيرات، لشهوة السلطة أو لإنماء الحسّ النقديّ والمشاركة في صناعة المصير، للسيطرة والجبن أو للمحبّة والشجاعة، لخدمة الله بخدمة عياله أو لاستخدام اسم الله لخدمة ذاته وجماعته، لعبادة إنسان أو لعبادة الله. أهداف التكريس هي التي توضح إن كان الإنسان يعبد إله حياة أو صنم موت. عادة ما نحترم الجهد الكبير الذي يبذله إنسان في عمل ما، والتضحية التي يصنعها في سبيل تحقيق أهدافه. لكنّ هذا الاحترام في غير محلّه أحيانًا، إذ يجب أن نفكّر دائما في الأهداف التي يسعى الإنسان أن يحقّقها. فالسؤال الأهمّ ليس هو حول الجهد الكبير والوقت والتعب والتضحية التي بذلها الإنسان وإنّما حول الموضوع الذي كرّس له نفسه. موضوع التكريس يختلف بشكل واسع ومتضارب بين الناس. يمكن تكريس النفس لأكثر المُثُل العليا تنوّعًا، لأكثرها خدمةً للحياة ولأكثرها تدميرًا لها. للحكم على المُثل العليا التي يكرّس الإنسان لها نفسه، علينا الاستنارة بما تقدّمه العلوم لنا اليوم حول «طبيعة» الإنسان فنكون أكثر قدرة على الحكم على «الإله» الذي يكرّس له نفسه، على الأهداف التي يضعها نصب عينيه: أهي أهداف توائم مع طبيعة الإنسان أم تعاكسها؟ تقول معطيات العلوم أنّ الإنسان مولود مع قدرة فائقة على التعاضد والتفاعل المتعاطف مع محيطه والناس حوله (يمكن مراجعة كتاب الطيبة الإنسانيّة لجاك لوكومت)، ليس أدلّ على هذا المُعطى من الراحة العميقة التي يختبرها إنسان يساعد إنسانا آخر. هذا يعني أنّ كلّ موضوع تكريس، كلّ إله، يدفعنا للتعاطف مع بعضنا هو محمود ومرغوب وكلّ ما عداه مهما كان مستوى التضحية ومستوى الجهد الذي يبذله الإنسان في سبيله فهو غير محمود ومدمّر. لهذا فإنّ أهدافا مثل جمع الأموال، والتسلّط على الآخرين، والخضوع للآخرين، والتعنيف، والاستغلال، هي أهداف لا تفعل سوى تفسيخ التعاضد والتعاطف مع الآخرين (وحتّى مع الذات إن رأينا أنّها تسيء إلى طبيعة الذات أيضًا)، بينما أهداف المشاركة وتأمين الحاجات الأساس للحياة الإنسانيّة واحترام حرّية الضمير تتوافق مع طبيعة الإنسان. على المستوى السياسيّ الاقتصاديّ هذا يعني أنّ كلّ سياسة واقتصاد يستغلاّن ويدمّران ويقمعان هما نتيجة تكريس الذات لأهداف هي أصنام موت ويجب مواجهتها لأنّها تدمّر الإنسان؛ ولمواجهتها يجب تكريس النفس لأهداف بناء سياسة واقتصاد يعمّم المشاركة، أي لعبادة إله حياة بالفعل. لهذا كتب القدّيس بولس يوما، "إن كنتُ أتكلّم بألسنة الناس والملائكة، ولكن ليس لي محبّة، فقد صرت نحاسًا يطن أو صنجًا يرنّ. وإن كانت لي نبوّة، وأعلم جميع الأسرار وكلّ عِلم، وإن كان لي كلّ الإيمان حتى أنقل الجبال، ولكن ليس لي محبّة، فلستُ شيئا. وإن أطعمت كل أموالي، وإن سلّمت جسدي حتى أحترق، ولكن ليس لي محبّة، فلا أنتفع شيئا"، هذه الكلمات القديمة في الزمن ما تزال تكتسب كلّ ثوريّتها ووهجها عند مَن يتمعّن في ما يؤمن لكي يكرّس نفسه لإله حياة ولا يقع في عبادة إله موت. الإيمان وحده لا يكفي وإن دفع الإنسان إلى تكريس ذاته وبَذلها، السؤال الأساس هو لأيّ هدف يكرّس ويبذل الإنسان نفسه، إلى أيّ «إله» ينحني؟ ولطالما كانت يقظة القلب والعقل مطلوبتان خاصّة في أوساط الذين يعتقدون أنّهم يؤمنون بالله. خريستو المرّ – الثلاثاء ٢٣ أيّار/مايو ٢٠٢٣
خرج المجمع الأنطاكي للكنيسة الأرثوذكسيّة الأنطاكيّة في الأشهر الماضية بقرارات بحقّ مطارنة منها قبول «استقالة» (أميركا الشماليّة) ومنها ما هو قبوله «استقالة» مع تجريد من الأسقفيّة (مطران حمص)، ومنها ما هو إيقاف عن العمل (المعتمد البطريركيّ في السويد) وربّما فاتنا غير ذلك. في كلّ من هذه القضايا، كانت تقوم مجموعة من الناس بالنشر العلنيّ (أو التهديد به) حول مخالفات بحقّ أولئك المسؤولين الذين يعاملهم الناس بكلّ عبوديّة مخالفة للإيمان كأنصاف آلهة، فيضطرّ المجمع صاغرًا إلى التفاعل مع تلك القضايا على شكل قرار لا بدّ منه. لا يسع الإنسان إلّا أن يلاحظ أنّ المجمع يتّخذ هذه القرارات ليس بناءً على آليّتَي مراقبة ومحاسبة علنيّتين وإنّما اضطراريّا بناءً على ضغط شعبي على وسائل التواصل عامّة، وأنّ المجمع يعمل جهده أن تبقى الحقائق مطمورة. لهذا لا نعتقد بجدّية المجمع بالتمسّك بتطبيق القوانين الكنسيّة، أو بنيّته محاربة مَن يسرق، أو مَن يعتدي جنسيًّا على المسيحيّات والمسيحيّين. هذه القرارات وغيرها هي في العمق شكليّة ولا تغيّر شيئًا في البُنى الكنسيّة الموجودة، وقد ترضي الأنا الجماعيّة والفرديّة لأعضاء المجمع بأنّهم فعلوا شيئًا، لكنّها لا تحمي بالفعل أحدًا في الرعيّة. فأوّلًا، القضايا الجنسيّة عادة ما تكون الأمور معروفة للرعيّة ولأعضاء المجمع منذ سنوات، ولكن كلّ ما في الأمر أنّ المجمع بعد فضح الأمور (أو التهديد بفضحها) على العلن على وسائل التواصل الاجتماعيّ يضطرّ إلى تدارك الأمور واتّخاذ قرار. أي أنّه يهتمّ بالهدوء واستمرار الأمور دون فضائح، أكثر من اهتمامه بتنفيذ قوانين الكنيسة (وتحديثها)، أو تدارك استخدام النفوذ الكنسيّ للاستغلال الماليّ، أو الجنسيّ، فهو عادة ما يكون مرتاحًا مع حالات إيذاء الزملاء المطارنة والكهنة للناس بخرق القوانين الكنسيّة شرط عدم معرفة المجتمع الواسع بالموضوع! أقلّ ما يُقال عن هذا الواقع إنّه غير سليم، وإنّ القرارات المجمعيّة المذكورة لا تتعلّق لا بالقوانين ولا بحماية الناس وإنّما بحماية صيت رجال الدين، أو صيت المجمع. أمّا من ناحية القضايا الماليّة وسوء استخدام للنفوذ من أجل الكسب الشخصيّ، فإن كنّا لا نعرف مدى صحّتها لدى مَن كُفَّت يدهم عن العمل الرسميّ لأنّ المجمع يكتفي بـ«تدقيقه» الذاتيّ غير العلنيّ، فإن أحدًا لا يمكنه أن يعرف مدى انتشار السعي للكسب الشخصيّ بين المسؤولين الكنسيّين، ومنهم أعضاء في المجمع نفسه بطبيعة الحال، بسبب الغياب الكامل لأيّ أليّات عمل، وأيّ شفافيّة ماليّة في العمل الكنسيّ (أحد المطارنة جمع يومًا بيده أمانة الصندوق والمحاسبة!)، إذ لا تقارير لشركات تدقيق في المطرانيّات والرعايا والبطريركيّة. السلطة المطلقة هي بيد المطران مباشرة الذي قد يرتئي (أو لا يرتئي) أن يحيط نفسه بمجلس مستشارين، والمجلس في حال وجوده يبقى استشاريًّا معيّنًا من المطران وغير منتخب، ولا سلطة فعليّة له على مجريات الأمور، وخاصّة أنّ أعضاء المجلس هم عادة على علاقة نفعيّة مع المطرانيّة. هكذا، تبقى الأملاك المنقولة وغير المنقولة في كلّ أبرشيّة (أي منقطة جغرافيّة يرأسها مطران) أمرًا مُغلقًا. أخيرًا، إنّ الأوضاع التي تكشف بشكل لا لُبسَ فيه تهميش المجمع لقيمة الإنسان هي موقف المطارنة من قضايا التحرّش الجنسيّ. مرّت سنون على رفع قضايا تحرّش في الكنيسة، وحدثت محاكمات داخليّة قيمتها ما قيمتها، ولكن ماذا تغيّر في الحياة الكنسيّة بعدها؟ لا شيء. من المعروف أنّه عند العلم بحالة واحدة، فذلك يعني أنّ هناك حالات عديدة جدًّا مخفيّة، ولذلك العقل السليم يقول بأنّه ينبغي للمطارنة الحريصين بالفعل على حياة البشر في الكنيسة، أن يجمعوا قومًا مختصّين في هذه القضايا الشائكة ويضعوا خطّة فعليّة لمواجهة حالات التحرّش على صعيدين: سياسات لأجل تفادي وقوع التحرّش، وسياسات وقوانين لاستقبال شكاوى الناس الذين يتعرّضون حاليًّا ونحن نكتب هذه السطور للتحرّش والاعتداء، والذين سيتعرّضون في المستقبل. لكنّ الواقع الذي يفضح طبيعة علاقة المطارنة غير المبالية بقيمة الإنسان ينكشف في اللاشيء الذي قاموا به حتّى الآن على هذا الصعيد. إنّ أساس هذه القضايا وغيرها، كما أساس اللاشيء الذي يقوم به المطارنة، هو انعدام المشاركة في تقرير المصير. من أسس الإيمان أن يكون للشعب المؤمن، وهو للكنيسة، أن يقرّر مصيره، أن يقرّر في حياته الكنسيّة، أن يكون قابضًا على مصيره وفاعلًا في صياغة هذا المصير الكنسيّ في هذا العالم الشرس الذي يزيد من شراسته أعضاء المجمع أنفسهم بغياب أيّة رؤية وعمل من جانبهم لتغيير الواقع. غياب مشاركة الشعب له أسباب عديدة أوّلها هو ارتياح المطارنة للتفرّد، ولتعيين مجالس استشاريّة لا سلطة لها على شيء. روح التسلّط تجتاح المؤسّسات الكنسيّة على صورة اجتياحها لمفاصل الحقل العام في الدول التي تمتدّ عليها مساحة الكنيسة الأنطاكيّة الأرثوذكسيّة (سوريا، لبنان، العراق، الخليج). باتت السلطة الكنسيّة تتشبّه بالسلطويّة السياسيّة عوض تشبّهها بسلطة يسوع المسيح الخادمة. الأمر الآخر الأساس هو غياب الفِعل الشعبيّ، هذا الفِعل غائب في الحقل الكنسيّ مثل غيابه في الحقل العام، القمع العام في الوطن العربيّ والاستكانة له تطبّع الناس بأن تتصرّف بهذه الذهنيّة حتّى داخل الحقل الكنسيّ، وذلك بشكل مخالف للروح التي أطلقها يسوع المسيح الذي حرّر الناس حتّى لا يكونوا عبيدًا لأحد. القرارات التي اتّخذها المجمع تحت ضغط «الفضيحة» تدلّ الشعب المؤمن على أنّ من الأفضل لحياة الرجال والنساء والأولاد أن يضغطوا هم للتغيير، ويبدو أنّ وسائل التواصل الاجتماعيّ مؤثّرة ولهذا تكثر دعوات القيادات الكنسيّة للصمت، ونحن نرجو ألّا يصمتوا، فأخواتنا وإخوتنا لحمنا، كلّ آخر هو نحن. أمّا حركات الشباب فما تزال قياداتها تفضّل العمل الذي ينتمي إلى عالم مات وشبع موتًا: العمل من خلف الأبواب المغلقة. ألا تخشى القيادات أن تكون أغلقت عيونها عن علامات الأزمنة؟ ألا تخشى كلمة يسوع أن «دع الموتى يدفنون موتاهم»، وأنّه "ليس أحد يضع يده على المحراث وينظر إلى الوراء" يمكنه أن يزرع حقلًا؟ المعطيات تقول بأنّ قرارات المجمع الأخيرة لا تعدو كونها اضطراريّة بسبب العلنيّة التي ترافقت مع الأحداث، وأنّ المجمع غير مهتمّ لا من قريب ولا من بعيد بأذى يمسّ بحياة الناس، وبقيمة الإنسان، عندما يكون الأذى صادرًا عن رجال الدين. هذه المقالة لن تقدّم ولن تؤخّر في موقف المجمع، نرجو فقط أن تحثّ الناس على متابعة الفِعل، ولطالما كان الكاتب بمذكِّر وليس بمسيطر. خريستو المرّ – الثلاثاء ٢ أيّار/مايو ٢٠٢٣
إلى ر. ف. يدافع كاتب هذه السطور عن تكامل حقّ الإنسان بحرّية التعبير مضبوطة بقوانين تمنع انحرافها نحو تدمير الحياة (حياة الناس أو الطبيعة)، مع حقّ الإنسان بالعيش الكريم أي حقّه بالطعام والشراب والإقامة والطبابة والتعليم، فهذه الأخيرة ليست امتيازات للبعض دون الآخر، بل حقوق إنسانيّة يجب على الدول تأمينها للجميع وإلّا فقدت الدولة معنى وجودها، ومعنى وجودها بالنسبة للعين الإيمانيّة هو أن تكون الدولة مساحة كي ينمو الإنسان إلى ملء إمكاناته. من هنا، ضرورة مناهضة الأنظمة والفلسفات والطروحات التي تضرب أحد طرفي هذه المعادلة: حرّية التعبير والكرامة البشريّة. لا يمكن أن يتصالح الإنسان مع قمع أو تهميش. لكنّ القمع والتهميش هما العملة الرائجة في أوطاننا المفروضة علينا بحكم الاستعمار على مساحة المدى العربيّ. لبنان ما يزال يحتمل هامشا متناقصًا من حرّية التعبير، ولكنّه غارق منذ تأسيسه في سياسات تهميش الناس حيث لا أمان اقتصاديّ ولا اجتماعيّ، أمّا البلاد العربيّة الأخرى فهي غارقة في الاثنين معا: قمع وتهميش، فحيث يشتدّ القمع ويتعاظم يشتدّ التهميش الاقتصاديّ الاجتماعيّ (دول الخليج ليست استثناء، فالمواطنون الفقراء موجودون فيها رغم المداخيل الهائلة للدولة)، وفي هذا يتساوى القمعيّون المطبّعون مع الكيان الصهيونيّ الإرهابيّ كما وأولئك الذين لم يطبّعوا معه. تتساوى تجربة القمع في جسد المقموع مهما كان موقف القامع من دولة الاحتلال، ولا يستقيم طلب التحرّر من قامع وحشيّ خارجيّ والقبول بقامع وحشيّ داخليّ. أمّا لبنان فيتابع توجّهه نحو المزيد من كمّ الأفواه، نحو المزيد من تشابه الأنظمة. هناك مقاربتان سياسيّتان للأنظمة العربيّة، واحدة تتكلّم فقط عن ضرورة الحرّية وتنسى أنّ غياب الكرامة والقدرة على تحقيق الحاجات الإنسانيّة يُفَرِّغُ الحرّية الشكليّة، الموجودة في بلد كلبنان مثلاً، من مضمونها، فماذا يصنع الإنسان بحرّية تعبيره أمام مائدة طعام فارغة وصحّة معتلّة؟ هذه المقاربة التي لا ترى الحاجات الإنسانيّة ولا تعطيها الأولويّة، تنسى في الآن عينه أنّ غياب هذه الحاجات هو وليد النهب الداخليّ المتعاون مع النهب الخارجيّ لمقدّرات البلاد، وأنّ القمع نفسه هو مدعوم ومطلوب من قوى الاستعمار الخارجيّ. أمّا المقاربة الأخرى، فلا تتكلّم عن الحرّية وتشدّد على تحقيق الحاجات الإنسانيّة، وتكتفي بذلك. وهذا لا يجوز، فالحيوانات نفسها تحقّق الطعام والشراب وما شاكل. دون حرّية الكرامة الإنسانيّة شاحبة باهتة لا حياة فيها. لا يوجد حياة في العيش المحض. كما أنّهم ينسون أنّ الحاجات الأساس أصلا غير متوفّرة حتّى في ظلّ غياب الحرّية. المطبّعون يتصالحون مع غير المطبّعين، ودولة الاحتلال تُستخدم وسيلة للبعض وعذرًا للبعض الآخر لكمّ الأفواه ونهب الثروات، ووسيلة لصمّ الآذان أمام صراخ المساكين، فالأولويّة للأشياء «الكبيرة» في التاريخ، وللرؤى العابرة للحاجات الملحّة، كما توحي الكتابات العابقة بالسياسة والاقتصاد والدروس والعِبَر التاريخيّة في الصحف. لا ينتبه هؤلاء أنّ التاريخ أيضا يدلّنا أنّه باسم تحرير الإنسانيّة سحق النظام السوفياتيّ الإنسان الملموس بتغييب حرّيته، وأنّه باسم الحرّية الإنسانيّة يسحق النظام الرأسماليّ الإنسان الملموس بتغييب تحقيق حاجاته. لا شيء أكثر أهمّية من الإنسان الملموس. ونحن في بلادنا باسم ألف شعار وقضيّة نسحق الإنسان الملموس ونطلب تأجيل الحياة بحرّية وكرامة إلى ما لا نهاية. الإيمان لا يمكنه المصالحة مع هذا التوجّه في العالم العربيّ، لا الآن ولا في المستقبل، قد يصمت المؤمن والمؤمنة أمام الخوف المتراكم أكانوا مسؤولين دينيّين أم لم يكونوا، ولكنّ كلام الانجيل سيبقى يهتك الصمت المترامي: ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، ولا هو يحيا بالحرّية وحدها، وعندما يُخَيّرَ الإنسان بين الاثنين تدعو المجتمعات بطلاتها وأبطالها أولئك الذين اختاروا الحرّيةَ على الخبز (الأسير خضر عدنان مثالًا)، ولكن الأصل هو الجمع بين الاثنين ملكوت الخبز وملكوت الحرّية. خريستو المرّ – الثلاثاء ٢ أيّار/مايو ٢٠٢٣
كلّما عملت السلطات في بلد على خدمة أغنياء، ونتج عن ذلك فشلٌ حتميّ في تقديم بيئة اقتصاديّة واجتماعيّة لحياة أفضل لطبقات واسعة منها، كلّما حاولت إخفاء حقيقة الحرب التي شنّتها تلك السلطات مع أولئك الأغنياء على الفقراء لسلبهم نتاج عملهم، وحاولت تغييب وعيهم لواقعهم بِحَرْفِ غضبهم عن هدف تغيير السياسات والقيادات نحو أمر آخر. في لبنان يقوم السياسيّون والمتموّلون المستفيدون من النظام السياسي-الاقتصادي بعمليّة تغييب الوعي الشعبيّ عن طريق توجيه الغضب الداخليّ المتعاظم جرّاء سياسات التفقير الممنهج التي يتّبعونها إمّا نحو الآخر «الغريب» من الطوائف الأخرى بإلباس صراعهم على الثروة لباساً طائفيًّا، أو نحو «الغريب» من البلاد الأخرى، لكي يغدو «الغريب» كبش محرقة لذلك الغضب. هناك بُعدان لوجود اللاجئين السوريّين في لبنان، البُعد الواقعيّ الملموس، من اقتصاديّ وسياسيّ واجتماعيّ وما شاكل، والبُعد الواقعيّ الأخلاقيّ. صحيح أنّ وجود عدد كبير من اللاجئين بالنسبة إلى عدد السكّان الأصليّين في أيّ بلد يشكّل تحدّيًا اقتصاديّا واجتماعيّا يجب أن يكون أولويّة لأيّ حكومة ومجلس نيابي في أيّ بلد، لكنّ الوضع في لبنان يتميّز بتخلّف الحكومات ومجلس النوّاب عن القيام بأيّ تخطيط لتحسين الوضع المعيشيّ في لبنان، وذلك منذ نهاية الحرب الأهليّة. تخلّف هؤلاء عن القيام بمسؤوليّاتهم هو ما أدّى في النهاية إلى الانهيار الاقتصاديّ، واليوم هم يستمرّون في تخلّفهم عن مسؤوليّتهم بالدفاع عن حقوق اللبنانيّين الاقتصاديّة والاجتماعيّة أمام عمليّة السطو العمليّ عليها. في ظلّ هكذا مشاركة من سلطات البلاد في عمليّة القتل البطيء للشعب اللبنانيّ، لا يمكننا إلّا أن نتوقّع أنّ هذه السلطات لن تقوم بمواجهة التحدّيات الاقتصاديّة والاجتماعيّة الناتجة عن لجوء المواطنين السوريّين إلى لبنان، بل نحن نلاحظ تأليبًا سياسيًّا إعلاميًّا ضدّ المواطنين السوريّين بهدف تحويلهم إلى كبش محرقة يُصَبّ عليها الإحباط والغضب الشعبيّ فينحرفان بذلك عن المسبّبين الحقيقيّين للبؤس العام في المجتمع. أمام هكذا أوضاع، لا يبقى أمامنا إلّا التشديد على الوعي والبعد الأخلاقيّ، الدينيّ خاصّة، في التعامل بين الناس، علّ ذلك يحفّف من احتمال انجرار الناس إلى فخّ كبش المحرقة الذي يروّج له إعلام ينبغي محاكمته، والذي سيتضرّر منه اللاجئون أساسًا وقد تُسفك دماؤهم جرّاء حملات التحريض، وهو ما لن يغيّر في الأوضاع اليوميّة في البلاد إلاّ بدفعها نحو الأسوأ، عدا عن أنّ أيّ غضب موجّه نحو اللاجئين هو غضب في غير محلّه وغير محقّ. ثمّ لم الغضب من اللاجئين أساسًا؟ الأوضاع السيّئة في لبنان سببها السياسيّون وليس وجود اللاجئين. ماذا ينتفع اللبنانيّون واللبنانيّات من غضبهم على اللاجئين؟ وماذا ينفعهم أن يعودوا إلى بلادهم (على افتراض أنّ ذلك ممكن)؟ هل سينزل سعر الدولار؟ هل ستفرّخ مجالات العمل المختلفة في الصناعة والزراعة والاقتصاد الرقميّ والذكاء الصناعي؟ هل سيزيد الدخل الوطنيّ وتوظَّف الثروة الوطنيّة في خدمات صحّية مجانيّة وتعليم جامعيّ متقدّم؟ هل يزيد تمويل الأبحاث؟ هل ستصبح مدارس الدولة أفضل نوعيًّا؟ هل ستعود الكهرباء؟ هل سيُحاسب أيّ من المسؤولين عن الأوضاع الحاليّة؟ حتمًا لا. الغضب تجاه الأبرياء والمستضعفين هو غضبٌ حرام مهما سوّغه إعلام مأجور وسياسيّون قذرون. الغضب الحلال هو ذاك الغضب الذي يجب أن يتوجّه في اتّجاه خلق قوّة قادرة على فرض تغيير حقيقيّ في طريقة تعامل سلطات البلاد مع حقوق المقيمين، مواطنين ولاجئين، فتضطرّهم لتنفيذ سياسات تخدم مصلحة الأكثريّة المهمّشة وليس طبقة الواحد في المئة الأكثر دخلًا. ينبغي فضح محاولات توجيه غضب الطبقات، المسحوقة بسبب المسؤولين، نحو كبش محرقة، ومواجهتها بالعقل وبالبعد الأخلاقيّ، حتّى يحين موعد بعد اقتصاديّ غائب حاليًّا بحكم المواقف العمليّة (وليس تلك الكلاميّة) للقوى المؤثّرة في سياسات الدولة. خريستو المرّ – الاثنين ١ أيّار/مايو ٢٠٢٣
بعض التعليم الديني المسيحي التقليدي غير سليم من وجهة نظر مسيحية. لو أخذنا التعليم الديني التقليدي (وهو تلقيني بمعظمه) لسمعنا شيئاً يشبه التالي: المهم في المسيحية هي الحياة الروحية وليست الماديات، ولذلك يعمل الانسان لليوم الأخير، يوم القيامة، وذلك بأن يكون إنسانًا مُحِبّا، أي إنسانًا لا يؤذي غيره من الناس، بل يساعدهم. بحسب هذه النظرة اليوم الأخير هو أمر منفصل عن اليوم الحالي، والامور "المادية" غير ذات اعتبار أمام الأمور "الروحيّة"، والإنسان مسؤول أمام الله عن علاقاته الفردية فقط. لكن مَن يصغي بشكل جدّي لما يقوله يسوع، وإلى المعاني والعقائد التي صيغت حول كلامه، لرأى أنّ هذا التعليم المنتشر يتعارض مع الإيمان المسيحي. فبحسب هذا الإيمان يسوع هو كلمة الله المتجسّد، وبدخول الله التاريخ البشري على مصراعيه من خلال تجسّد كلمته-يسوع، ثمّ موت يسوع، وقيامته، وصعوده، يكون الله قد كرّم المادة وقدّسها بضمّها إليه بكلمته المتجسّد، بشكل نهائيّ جذريّ، حيث صارت المادّة المتقدّسة في "قلب" الألوهة. التعليم التقليديّ هو أقرب منه إلى الفكرة الأفلاطونية الثنائيّة عن الروح المكرّمة والمادة المحتَقَرة؛ أو إلى تلك الفكرة المانويّة القائلة بالصراع بين عالم روحي خيّر وعالم مادي شرّير، منه إلى المسيحيّة. الحياة الروحيّة في المسيحيّة هي الحياة كلّها مُعاشة بهداية الروح القدس. أمّا اليوم الأخير فهو ليس شيئا منفصلا عن اليوم الحاضر، بل هو تتويج له. يسوع ذكر تلك الجملة المتناقضة بأنّه "تأتي ساعة [ساعة اليوم الأخير] وهي اليوم حاضرة". وهذا يعني أن اليوم الأخير كامنّ في حركة اليوم الحاضر نحو ملء نتوق إليه. وهذا الملء تعكسه الصلاة التي طلب يسوع من أتباعه أن يصلّوها في تلك الجملة القائلة "لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض"؛ فمشيئة الله من كرامة وعدل ورحمة وسلام ومحبّة وحرّية وغير ذلك، يمكنها أن تكون على الأرض بواسطة الإنسان الذي يعمل كي تتحقّق مشيئة الله بأن تتحوّل هذه الأرض لتشبه السماء، أي لتتجسّد فيها المحبّة والحرّية والرحمة والعدل والكرامة والسلام. لكنّ أمورٌ مثل الكرامة والحرّية والعدل والرحمة والمحبة ليست أمورا تخصّ العلاقات الفرديّة فقط، بل لها أبعاد جماعيّة أيضًا إذ يجب أن تتحقّق هذه في العلاقات التي تجمع الناس بعضها ببعض داخل دولة؛ ولكنّ هذا غير ممكن إلّا بالتعاون الجماعيّ بين الناس لفرض سياسات وقوانين تحقّق العدل والكرامة (طبابة وتعليم مجاني للجميع…) والحرّية والرحمة وما إلى ذلك، أي لفرض سياسات وقوانين تجسّد المحبّة في البُنى السياسية والاقتصادية والاجتماعية. العقل والقلب معًا يفرضان علينا أن نتجاوز نظرة ضيّقة للمسيحية لا ترى فيها إلّا البعد الفرديّ، نظرة تدفع كي يستقيل الإنسان من مسؤوليّته عن الجماعة البشريّة، عن العمل في الحقل العام، فيكون بذلك شريكًا لقوى الشرّ بسبب انسحابه أمامها دون القيام بعمل فاعل لدحرها وتأسيس البنى التي تساهم بتحقيق مشيئة الله على الأرض كما في السماء. من وجهة النظر هذه، يكون جميلا وجديدا أن نعيّد عيد العمّال بالتذكير بضرورة العمل الجماعي من أجل تجسيد مشيئة الله بتدمير سياسات استغلال الإنسان للإنسان وبناء سياسات مُشارَكة، فهذه تجعل المحبّة ملموسة في العلاقات الجماعيّة بين البشر، وتشهد للحقَ في اللحظة الحاضرة، وتجسّد تباشير اليوم الأخير في قلب هذا اليوم. بمثل هكذا رؤية إيمانيّة فكرية لاهوتية يمكن أن نحتفل يومًا بالمحبّة متجسّدة داخل البُنى في قلب الجماعة البشريّة، وإن لم يكن ذلك ممكنا خلال فترة حياتنا القصيرة فإنّ عملنا مع غيرنا على تأسيس هكذا بُنى وعيشها، يجعلنا نفرح ونعيّد بتجسيد الأخوّة في قلب هذا العالم المادّي، المُحتَضَن من محبّة الله، بتقاسمنا الآلام والأفراح والجمالات في قلب المأساة البشريّة. كلّ عام وأنتم بخير. |
الكاتبخريستو المر الأرشيف
December 2023
Categories |