خريستو المرّ
الثلاثاء ٣١ آب / أغسطس ٢٠٢١ هناك تشديد كبير في المسيحيّة على المشاركة. الفكرة الأساس هي أنّ كلّ شيء لله ولذلك لا أحد يملك شيئا له، هي خيرات موجودة على الأرض وللإنسان أن يشارك ما كان بين يديه من خيرات مع الآخرين. هذه الدعوة للشركة الأخويّة بين البشر ضروريّة وثوريّة. القدّيس الذهبيّ الفم، فهم تماما الوحدة الكيانيّة التي أقامها يسوع بينه وبينه المستضعفين، ولهذا كان في عظاته يوبّخ الأغنياء قائلا قائلاً «إنّكم تحترمون هذا المذبح حينما ينزل عليه جسم المسيح [القربان والخمر في المناولة]، ولكنّكم تهملون وتبقون غير مبالين حينما يفنى ذاك الذي هو جسم المسيح» أي الفقراء. على أهمّية هذا الطرح وضرورته، لا يوجد أكثر من الوضع اللبنانيّ إظهارًا لمحدوديّته، إذ أنّ المنتسبين إلى الأديان (بحكم القانون وليس القناعة)، بينهم المنافقون، هؤلاء لن يطبقّوا شيئا من تعاليم إيمانهم إلّا القشور. ولكن حتّى لو قام اليوم غير المنافقين في جميع الأديان بمشاركة أموالهم لما كفى ذلك بلدًا بات ٥٠٪ من سكّانه بأقلّ تقدير (أي حوالي ٣ ملايين إنسان) تحت في خطّ الفقر، والباقون - ما خلا طبقة الـ١٪ المستغِلّة - بالكاد يكفون أنفسهم. الآن أكثر من أيّ وقت مضى، يمكن لمن يأخذون إيمانهم على محمل الجدّ أن يدركوا أنّ إيمانهم يمكنه أن يلهمهم على الخير، ولكنّه لا يمكنه أن يقدّم لهم حلوًلا جاهزة. الحلول عليهم أن يقوموا بها هم معتمدين على ما وفّره لهم الجهد الفكريّ الإنسانيّ حتّى الساعة، متعاونيــــــــــــــن مع غيرهم ومتعلّمين منهم. الدولة مجموعة أدوات لفرض نظام من الحياة، هي ليست فكرًا. هي تفرض فكرًا وتوجّهًا. الدولة أداة المجتمع لتنظيم نفسه. الأداة لا تحمل فكرًا. هي وسيلة. النفحة المسيحيّة التي تكلّمنا عنها فوق يمكن ترجمتها بفكر، بالعدالة الاقتصاديّة في المجتمع، مثلًا. العدالة الاقتصاديّة يمكنها أن تكون هدفًا لدولة، والعدالة الاقتصاديّة ليست هدفا اقتصاديّا إنّها هدف أخلاقيّ وروحيّ بالدرجة الأولى، هي أن يقول الإنسان لنفسه، وأن تقول مجموعة من الناس لبعضها، إنّ المشاركة بين الناس في خيرات هذا العالم أمرٌ ضروريّ رفيع الشأن أخلاقيّا. المؤمنون الحقيقيّون (لأنّ الكثيرون كَذَبَة) يعلمون أنّ العدالة الاجتماعيّة ذلك تترجم الحياة الإيمانيّة على الصعيد الجماعيّ. فكما أنّ الأنانية، مثلاً، خطيئة فرديّة (إلى حدّ) ومن الضروريّ مواجهتها على الصعيد الذاتيّ (إلى حدّ)، فإنّ انعدام العدالة، هو استغلال مجرمين مجموعة من السكّان وتعريض حياتهم للخطر، وهو ليس فقط خطيئة المجرمين الفرديّة، وإنّما خطيئة المجتمع الجماعيّة، خطيئة سماح المجتمع لمجموعة من المجرمين بطعن الكرامة البشريّة للسكّان المُستَغَلّين (بفتح الغاء). هناك خطيئة جماعيّة كتلك الفرديّة يجب أن نراها. إنّ قصور التربية المسيحيّة التقليديّة ومكمن فشلها في زمننا، هو تجاهلها ما سمّيتُه هنا بالخطيئة الجماعيّة، هـي تجاهلها تربية المؤمنين على وجود بُنى ظالمة وليس فقط ظلم فرديّ، وعلى ضرورة مواجهة البُنى جماعيًّا كما مواجهة الظلم الفرديّ. إنّ انعدام الحسّ بالمسؤوليّة الجماعيّة عن استتباب بُنى العدالة خطيئة الكنيسة، ولا يعفيها من خطيئة عدم توزيع ثرواتها. قد لا يخرج الطائفيّون المسيحيّون من جهلهم وقساوة قلوبهم، قد لا يخرجون من إعلاء شأن السفلة والخضوع لهم والدفاع عنهم بكلّ غباء ومشاركةٍ في الإجرام؛ لكن الأمل في تلك «البقية الباقية» التي قيل لها "إذا سمعتم صوته اليوم فلا تقسّوا قلوبكم"، سماع صوت الروح اليوم هو أن نفهم أنّ الالتزام في العمل العام مع اللاطائفيّين المؤمنين بضرورة إحقاق العدالة الاقتصاديّة هو ضرورة إيمانيّة، وأنّ المساهمة بإيجاد مظلّة لهكذا عمل يشكّل استجابة لصوت الروح. خريستو المرّ
الثلاثاء ٢٤ آب / أغسطس ٢٠٢١ إلى الكنيسة التي نحن منها وفيها ولها، إلى كلّ مواطنينا الذين نحن منهم ولهم، لقد خنّاكم طويلا، نطلب منكم المغفرة، لقد خنّا سيّدنا طويلا نطلب منه المغفرة. ضلّلناكم وسكتنا. جعلنا من بقاء الكنيسة-الأبنية والكنيسة-المؤسّسات هدفنا، وأقنعنا أنفسنا بأنّ بهذا تبقى المسيحيّة عبر التاريخ، فوضعنا يدنا بيد الوحش وسكتنا عن الدماء التي كانت على يديه فصارت على أيدينا. وبقفّازاتِ الكلمات سترنا أيدينا. وقلنا لأنفسنا فعلنا خيرًا، وقلنا لكم خذوا منّا مؤسّسات لا يمكنكم الدخول إليها، ولكن لا تهتمّوا سنساعدكم بفتات أموال العصابات التي صادقناها لتمرّر لنا مشاريعنا ونمرّر لها مشاريعها. كلّ ذلك «خدمة لاسمه القدّوس»، هكذا قلنا وكان اسمٌ آخر يتبدّى بين الكلمات، اسم يعاند القداسة ويأكل الطريق إليها كي يتوه وجه الإنسان عن وجه الله. طلبنا المؤسسات والتاريخ فخسرنا الله في التاريخ، وكان ينبغي لنا أن نطلب وجه الله أولًا كي نزرع كلماته هوَ في التاريخ، لتصبح كلماته الريح التي تحكم القلوب وما يُنشئ الحبُّ من مؤسّسات. نسينا الحبّ، نعم نسينا، وقصّة المسيح معنا قصّة حبّ ولا شيء إلّا الحبّ. نسينا الحبّ وما طلب هو منّا شيئًا إلّا الحبّ. «أحبب وافعل ما تشاء» قال قدّيس يوما ونحن فعلنا ما نشاء ولم نحبّ، أو أحببنا كنزًا غير ذاك الذي خبّأه الله في وجهه، فتهنا. نعم تهنا ونحن اليوم نطلب منه ومنكم المغفرة. حججنا عبر طرقات كثيرة إلى وجهات كثيرة والطريق الواحد إلى وجوهكم لم نحجّ إليه، ونطلب منكم مغفرةً لأنّنا نسينا أنّ وجهه ساكنٌ في وجوهكم أنتم، وأنّ بَعدَهُ هوَ علينا أن نعتبر كلّ الوجوه وجهه، أكانت وجوهًا مؤمنةً أم ملحدةً أم لا أدريّةً. قُدرتنا على الفِعل والبناءِ والأمرِ والنهيِ خَدَعَتنا.. لا... نستميحكم عذرًا، إنّنا نخادع أنفسنا حتّى اللحظة ... نحن خدعنا أنفسَنا وظننا أنّ أموالنا وسلطتنا وتَقَرُّبُنا من الأغنياء والمتنفّذين هي القدرة، واستقامةُ الطريق، والنجاة؛ ونسينا الطريق والحقّ والحياة، أضعنا ذاك الذي هو الطريق والحقّ والحياة والذي منه تنبع طرقات الحبّ وإليه تتّجه، ومنه يتفجّر الحنان ماءَ حياةٍ في صحارى هذا العالم، ومنه ينبع الضوءُ في التراب فيتجلّى قنديلًا من جمالٍ قبل أن يشعّ كشمسٍ في الدهر الآتي. استقرّينا في المدينة الحاليّة ونسينا الآتية، فلم نلد الآتية في يوميّات الحاليّة، لأنّنا لم نولد من فوق. أطلنا العبادات الجميلة فدفنّا أنفسنا ودفنّاكم فيها ولم نتلُ على مسامعكم يومًا آية الشجاعة والمسؤوليّة: كلّ ما لم تفعلوه بأحد إخوتي هؤلاء الصغار فبي لم تفعلوه. ضلّلناكم بالانفعال من أجل ما نعتبره تهجّما على اسم يسوع، وعندما اعتقلوا يسوع، وأفقروا يسوع، وجوّعوا يسوع، وفقأوا عين يسوع، وكسروا عظام يسوع، وقتلوا يسوع، سكتنا. والأعظم أنّنا قلنا لكم أن تسكتوا. وهناك الأفظع ولا نتجرّأ حتّى أن تطلب منكم المغفرة عليه، عندما يُعتدى على إنسان في قلب كنيسة يسوع، عندما يُعتدى على يسوع في قلب كنيسته نتّهم من يرفع الصوت بأنّه يخرّب كنيسة يسوع! تضارب مجرمٌ أليس كذلك؟ مجرمون نحن، نعترف، القفّازات ما زالت على أيدنا تخفي الدماء، وطالما أخفينا صوت الضحايا بالتراتيل الرخيمة والأثواب المزركشة والمهرجانات والابتسامات اللطيفة، وأرضينا ضمائرنا بأنّنا نوزّع المساعدات عليكم ونحن نحمي مَنْ جَوَّعَكم، نوزّع المساعدات ونحن نثبّت أسباب جوعكم. نطالب من الدولة أشياء لنا. نطالب بإعفاءات ضريبيّة لمؤسّساتنا ونسكت عن الضرائب التي تسحقكم، نطالب بتسهيل معاملاتنا ونصمت لنَحْرِ حياتكم ومستقبلكم. وحين يتسنّى لنا، نصادر اسمكم لنطالب بمناصب لحاشيتنا ونقول أنّها حقوق الطائفة بأسرها، نقول أنّنا ضدّ الطائفيّة، ولكنّنا معها مرحليّا، ولم يقل يسوع يومًا: كونوا ضدّ الخطيئة، ولكن كونوا معها مرحليًّا. لسنوات كنّا نصمت حين ينبغي أن نشهد، ونتكلّم حتّى نغطّي عن جريمة صمتنا بورق كلمات صفراء. وحين نضطرّ، نُسمعكم كلمات تشبه الثورة على الظلم لتظنّوا أنّنا معكم بينما نحن أصدقاءٌ لهاضمي حقوقكم، وحماتُهم. اليوم نقول لكم المغفرة، ونقول أنّنا قرّرنا التالي: - بما أنّكم أنتم الكنيسة، فكلّ ممتلكات الكنيسة تعود إليكم، واليوم نقول سنوزّع كلّ الأراضي والأوقاف والممتلكات على الفقراء ونعود إلى ما كنّا عليه قبل وحش السلطة وأوهام الامبرطوريّة، سنعود كنيسةً ليسوع ليسود هو فينا، ولا يسود أحد منّا على آخر، بل تكون السيادة فينا للخدمة. نحن خدّامكم. ستكون الكنيسة في التاريخ بنا نحن البشر لا بالمؤسّسات. - الكنيسة ليست الدولة. لن نُبقي من مؤسّسات إلّا تلك التي يمكنها أن تخدم مجانًا كلّ إنسان محتاج. نشجّعكم أن تتنظّموا مع مواطنيكم لتطالبوا بحقوقكم من الدولة، عالمين أنّ كلّ ظلم هو ضدّ المسيح، وضدّ الإيمان، وينبغي أن تعملوا على رفعه متحلّين بالأخلاق الانجيليّة - لن نُبقي من أملاكٍ لنا، كمسؤولين معكم عن رسالة يسوع في هذا العالم، سوى على بيوت متواضعةٍ يمكننا أن نستقبل فيها كلّ إنسان، وما من إنسان لدينا أقلّ أو أعظم شأنا من آخر، ولكنّ علينا أن نعطي أولويّة، والأولويّة الإنجيليّة هي للفقراء والمظلومين لأنّهم وجه يسوع المميّز، فهم الذين وحّد نفسه بهم - صلاتنا أن تروا يسوع موجوعًا في المظلومين، وأن تحبّوا يسوع ما يكفي لتعملوا بلا هوادة مع مواطنيكم لرفع الظلم لن نطيل. نرجو من يسوع الذي في وجوهكم المغفرة. نهاية البيان الذي لم يُكتب. خريستو المرّ
الثلاثاء ١٧ آب / أغسطس ٢٠٢١ لا كلام ليصف الضحية. لا كلام. لا كلام ليصف الأجساد المشتعلة. لا كلام. لا كلام ليصف خطوط الذلّ الطويلة أمام محطّات الوقود. لا كلام. لا كلام ليصف القلق من عدم توفّر الأدوية التي تناقصت في المنازل. لا كلام. لا كلام ليصف الخوف من المرض. لا كلام. لا كلام ليشرح لهفة وَلَدَيْن أعطتهما أمّهما خبزًا حافيًا ليلتهماه فورًا. لا كلام. لا كلام ليشرح وجع الأمس، لا كلام لينقل يأس اليوم، لا كلام ليغنّي موت الغد. لا كلام في السجن الكبير. لا كلام. وفي ظلّ التفتيت السياسيّ الاقتصاديّ الاجتماعيّ، يتفتّت الوقت إلى نُتَفٍ متناثرة كلّ واحدة منها مرتبطة بالبحث عن قضاء إحدى الحاجات الأساس؛ وفي الآن عينه تندمج تلك النتف لتتّخذ شكل نفقٍ لكابوسٍ كأنّ لا نهاية له. وفي وسط الدمار الكبير يبحث الإنسان عن قدرة على الفعل، ويشعر بانعدامها. لكنّ هذا الواقع ليس قدرًا، هو أساسًا نتيجة استقالتنا من الفعل السياسيّ وتسليم الكثيرين إرادتهم لهؤلاء القتلة. وبالعكس، فإنّ انتظامنا في عمل جماعيّ - وهو أمر صعب وليس مستحيلًا – يعطينا القدرة كي نقف من جديد بوجه هؤلاء القتلة الذين من خوفهم من اجتماعنا يتابعون تفتيت البلاد ويتابعون القتل ويتابعون إلهاءَنا بتأمين الحاجات الأساس ليخلو لهم الطريق أمام نهبهم للدولة، مع حفنة قطّاع الطرق الجالسين في مجالس إدارة المصارف والمصرف المركزيّ، وهم يصولون أمام الكاميرات ويصمتون صاغرين راكعين أمام رُعاتهم الخارجيّين من عرب، وفرس، وأميركيّين، وأوروبيّين. كانت جولة ١٧ تشرين ٢٠١٩ جيّدة جدّا في تثبيت الشعور بالقدرة الشعبيّة، وفي إسقاط هالة شبه القداسة والتأليه لهؤلاء القتلة. ما لم يحدث هو اجتماع على برنامج سياسيّ. العمل الجماعيّ الواسع هو المفتاح. ما يُضعف صوت العقل الذي نراه بوضوح في عدّة مجموعات، ما يُضعف تحوّله اليوم إلى فعلٍ وازنٍ ومنقذ، هو فشل هذه المجموعات حتّى الساعة في تكوين جبهة واحدة يجتمع عليها الناس كبديل. دون بديل لا يمكن للإرادات الفرديّة أن تجتمع، للناس أن ينخرطوا في عمل تحريريّ، مهما كانوا عديدين، وحتّى ولو كانوا أكثريّة. تلك المجموعات التي تأخّرت كثيرا في تكوين جبهة واحدة تتحمّل مسؤوليّة تأخّر ظهور البديل، لا يكفي أن تحمل كلّ واحدة منها صوت العقل. الفعل الجماعيّ يحتاج لخطوات أخرى غير سلامة الحجّة. بالنسبة للمتديّنين، لا شيء أكثر إثارة للغثيان من نفاق رجل دين يدّعي الدفاع عن المظلومين وهو مجاهر بحماية الظالمين. هؤلاء قتلة أيضًا. أمّا المسيحيّون فيؤلمني بينهم اللاهثون وراء أحزاب تتدثّر بالمسيحيّة وهي في عمقها عنصريّة، ومشاركة في تدمير البلاد بالأمس واليوم. كيف يتّفق عند إنسان «إيمانه» بإله محبّة وعدل ورحمة وهو يلهث وراء سفّاح وخبيث وناهب؟ هذه الملاحظة المؤلمة تنسحب على المسلمين أيضًا. كلّ عابدٍ لقاتل يقنع نفسه أنّ قاتله قدّيس، وأنّه لا خيار آخر أمام القاتل لأنّ الآخرين لا يتركون له خيارًا آخر، وأنّ القاتل-القدّيس غير قادر على تغيير كلّ شيء لوحده، وأنّ البديل عن القتل الذي يمارسه هو أكثر سوءًا من القتل، أو هو قتل أوسع. في النهاية المدافعون عن الزعيم القاتل-القدّيس يخيّرونك بين القتل والقتل الأوسع، بين القتل البطيء والقتل السريع! الأتباع باتوا لا يحلمون بالحرّية، وأسوأهم الذين يعيشون في بلاد الغرب حيث يتمتّعون بالحرّية والبحبوحة، ولكن لا يرون بدًّا من أن يُمنَعَ أهاليهم عنهما في لبنان (وسوريا). إنّ صورة النوّاب المنتمين لكلّ الأحزاب، والمجتمعين لحماية المصارف من الخسارة في لجنة المال في مجلس النوّاب، تلك الصورة التي يجب أن نحفرها في قلوبنا وأذهاننا ونذكرها دائمًا، تكذّب فكرة أنّ بعض القتلة-القدّيسين مغلوب على أمرهم، وأنّهم ليسوا بشركاء في الفساد. الكلّ شركاء في الفساد القاتل. وما المهرجانات الخطابيّة حول القصاص، والتي يحسنها الجميع، إلّا كلام موجّه للأتباع حصرًا لكي يبقوا على قناعة مستمرّة بأنّ زعيمهم القاتل قدّيس! هؤلاء قتلة ليس فقط لأنّهم مارسوا القتل يومًا، ولكن لأنّهم يمارسونه اليوم، كلّ يوم. يمارسون القتل مع كلّ مريضٍ لا يجد علاجًا، مع كلّ جائع تتدهور صحّته، مع كلّ طالبٍ لا يستطيع أن يتابع تعليمه، مع كلّ إنسان لا يجد عملًا، مع كلّ خائف من الغد، مع طوابير المنتظرين في الطرقات طوال الليل للحصول على جوازات السفر، مع العيون المنتظرة عودة الماء الهارب، مع النفوس التائهة أمام صمت الكهرباء، مع الناس المختنقة من القلق الذي تغرق فيه البلاد. في هذه المذبحة اليوميّة قد لا تسقط فيها الدماء والأجساد يوميًّا، ولكن تسط فيها النفوس؛ ولسقوط النفوس المضرّجة بأنينها ويأسها وخوفها وقعٌ لا تسمعه إلّا القلوب التي شفّت، وصارت كقلب أمٍّ أو إله، ولهذا يمكنها أن تحكم بلاد. فلتجتمع تلك القلوب على برنامج وطنيّ جامع، تلك القلوب هي الشرعيّة. الضحيّة القادرة خريستو المرّ، الثلاثاء ١٧ آب / أغسطس ٢٠٢١ ----- لا كلام ليصف الضحية. لا كلام. لا كلام ليصف الأجساد المشتعلة. لا كلام. لا كلام ليصف خطوط الذلّ الطويلة أمام محطّات الوقود. لا كلام. لا كلام ليصف القلق من عدم توفّر الأدوية التي تناقصت في المنازل. لا كلام. لا كلام ليصف الخوف من المرض. لا كلام. لا كلام ليشرح لهفة وَلَدَيْن أعطتهما أمّهما خبزًا حافيًا ليلتهماه فورًا. لا كلام. لا كلام ليشرح وجع الأمس، لا كلام لينقل يأس اليوم، لا كلام ليغنّي موت الغد. لا كلام في السجن الكبير. لا كلام. وفي ظلّ التفتيت السياسيّ الاقتصاديّ الاجتماعيّ، يتفتّت الوقت إلى نُتَفٍ متناثرة كلّ واحدة منها مرتبطة بالبحث عن قضاء إحدى الحاجات الأساس؛ وفي الآن عينه تندمج تلك النتف لتتّخذ شكل نفقٍ لكابوسٍ كأنّ لا نهاية له. وفي وسط الدمار الكبير يبحث الإنسان عن قدرة على الفعل، ويشعر بانعدامها. لكنّ هذا الواقع ليس قدرًا، هو أساسًا نتيجة استقالتنا من الفعل السياسيّ وتسليم الكثيرين إرادتهم لهؤلاء القتلة. وبالعكس، فإنّ انتظامنا في عمل جماعيّ - وهو أمر صعب وليس مستحيلًا – يعطينا القدرة كي نقف من جديد بوجه هؤلاء القتلة الذين من خوفهم من اجتماعنا يتابعون تفتيت البلاد ويتابعون القتل ويتابعون إلهاءَنا بتأمين الحاجات الأساس ليخلو لهم الطريق أمام نهبهم للدولة، مع حفنة قطّاع الطرق الجالسين في مجالس إدارة المصارف والمصرف المركزيّ، وهم يصولون أمام الكاميرات ويصمتون صاغرين راكعين أمام رُعاتهم الخارجيّين من عرب، وفرس، وأميركيّين، وأوروبيّين. كانت جولة ١٧ تشرين ٢٠١٩ جيّدة جدّا في تثبيت الشعور بالقدرة الشعبيّة، وفي إسقاط هالة شبه القداسة والتأليه لهؤلاء القتلة. ما لم يحدث هو اجتماع على برنامج سياسيّ. العمل الجماعيّ الواسع هو المفتاح. ما يُضعف صوت العقل الذي نراه بوضوح في عدّة مجموعات، ما يُضعف تحوّله اليوم إلى فعلٍ وازنٍ ومنقذ، هو فشل هذه المجموعات حتّى الساعة في تكوين جبهة واحدة يجتمع عليها الناس كبديل. دون بديل لا يمكن للإرادات الفرديّة أن تجتمع، للناس أن ينخرطوا في عمل تحريريّ، مهما كانوا عديدين، وحتّى ولو كانوا أكثريّة. تلك المجموعات التي تأخّرت كثيرا في تكوين جبهة واحدة تتحمّل مسؤوليّة تأخّر ظهور البديل، لا يكفي أن تحمل كلّ واحدة منها صوت العقل. الفعل الجماعيّ يحتاج لخطوات أخرى غير سلامة الحجّة. بالنسبة للمتديّنين، لا شيء أكثر إثارة للغثيان من نفاق رجل دين يدّعي الدفاع عن المظلومين وهو مجاهر بحامية الظالمين. هؤلاء قتلة أيضًا. أمّا المسيحيّون فيؤلمني بينهم اللاهثون وراء أحزاب تتدثّر بالمسيحيّة وهي في عمقها عنصريّة، ومشاركة في تدمير البلاد بالأمس واليوم. كيف يتّفق عند إنسان «إيمانه» بإله محبّة وعدل ورحمة وهو يلهث وراء سفّاح وخبيث وناهب؟ هذه الملاحظة المؤلمة تنسحب على المسلمين أيضًا. كلّ عابدٍ لقاتل يقنع نفسه أنّ قاتله قدّيس، وأنّه لا خيار آخر أمام القاتل لأنّ الآخرين لا يتركون له خيارًا آخر، وأنّ القاتل-القدّيس غير قادر على تغيير كلّ شيء لوحده، وأنّ البديل عن القتل الذي يمارسه هو أكثر سوءًا من القتل، أو هو قتل أوسع. في النهاية المدافعون عن الزعيم القاتل-القدّيس يخيّرونك بين القتل والقتل الأوسع، بين القتل البطيء والقتل السريع! الأتباع باتوا لا يحلمون بالحرّية، وأسوأهم الذين يعيشون في بلاد الغرب حيث يتمتّعون بالحرّية والبحبوحة، ولكن لا يرون بدًّا من أن يُمنَعَ أهاليهم عنهما في لبنان (وسوريا). إنّ صورة النوّاب المنتمين لكلّ الأحزاب، والمجتمعين لحماية المصارف من الخسارة في لجنة المال في مجلس النوّاب، تلك الصورة التي يجب أن نحفرها في قلوبنا وأذهاننا ونذكرها دائمًا، تكذّب فكرة أنّ بعض القتلة-القدّيسين مغلوب على أمرهم، وأنّهم ليسوا بشركاء في الفساد. الكلّ شركاء في الفساد القاتل. وما المهرجانات الخطابيّة حول القصاص، والتي يحسنها الجميع، إلّا كلام موجّه للأتباع حصرًا لكي يبقوا على قناعة مستمرّة بأنّ زعيمهم القاتل قدّيس! هؤلاء قتلة ليس فقط لأنّهم مارسوا القتل يومًا، ولكن لأنّهم يمارسونه اليوم، كلّ يوم. يمارسون القتل مع كلّ مريضٍ لا يجد علاجًا، مع كلّ جائع تتدهور صحّته، مع كلّ طالبٍ لا يستطيع أن يتابع تعليمه، مع كلّ إنسان لا يجد عملًا، مع كلّ خائف من الغد، مع طوابير المنتظرين في الطرقات طوال الليل للحصول على جوازات السفر، مع العيون المنتظرة عودة الماء الهارب، مع النفوس التائهة أمام صمت الكهرباء، مع الناس المختنقة من القلق الذي تغرق فيه البلاد. في هذه المذبحة اليوميّة قد لا تسقط فيها الدماء والأجساد يوميًّا، ولكن تسقط فيها النفوس؛ ولسقوط النفوس المضرّجة بأنينها ويأسها وخوفها وقعٌ لا تسمعه إلّا القلوب التي شفّت، وصارت كقلب أمٍّ أو إله، ولهذا يمكنها أن تحكم بلاد. فلتجتمع تلك القلوب على برنامج وطنيّ جامع، تلك القلوب هي الشرعيّة. خريستو المرّ
الثلاثاء ١٠ آب / أغسطس ٢٠٢١ الطائفيّون يختزلون العالم حولهم بصورة خياليّة تقسمه إلى جماعات لها صفة دينيّة لا تحول ولا تزول عبر التاريخ، ويختزلون فرادة كلّ إنسان في كلّ جماعة بصورة نمطيّة عن تلك الجماعة، بحيث أنّه في نهاية الأمر لا يعود الطائفيّون يتعاملون سوى مع صور دماغيّة لديهم عن الآخرين وليس مع الآخرين كبشر حقيقيّين. ماذا يعني بالضبط الإنسان «الشيعي» و«السنّي» و«الدرزي» و«المارونيّ» «والأرثوذكسيّ»، إلى ما هنالك من تنويعات؟ لا شيء. ماذا تقول كلمة «المسيحيّ» عنّي أنا، لا شيء. الإنسان يموت في الذهن الطائفيّ لتحلّ مكانه صورة وهميّة عنه. بعد الاختزال تصبح المجازر ممكنة عند تشويه تلك الصورة الاختزاليّة في الذهن بواسطة أدوات «البخّ» الإعلاميّ الذي يتقنه جميع المتقاتلين في كلّ حرب، ويمكن العودة إلى «أدبيات» خطابات القادة (إقرأ المجرمون) في الحربين اللبنانية والسورية للوقوف على أمثلة جاهزة حول شيطنة جماعات بأكملها بأفكار اختزاليّة. الاختزال هو ضدّ الواقع والعلوم بأسرها، وهو عندنا طائفيّ وقد يكون قوميّا أو لغويّا أو يقع تحت راية مطلق أيّ شعار اختزاليّ. اقتصاديّا، الطائفيّة هي وسيلة تسعى فيها الجماعات إلى الاستيلاء على الثروة على حساب الجماعات الأخرى وحياتها، وهي بذلك استغلاليّة وناهبة. والواقع اللبنانيّ بيّن كيف أنّ الواقع أنّ تركّز الثروات داخل الجماعة الطائفيّة يتمّ في القمّة بحيث أنّ الواقع يدلّ أنّ الثروات التي تُنهب باسم جماعة طائفيّة لا تتركّز سوى في القيادات. سياسيّا الطائفيّة وسيلة إضعاف للدولة ووجودها هزيمة لحقوق الناس وللمواطَنة. لكنّ الطائفيّون يستعملون اللغة الدينيّة واسم الله للوصول إلى أهدافهم السياسيّة والاقتصاديّة، ولهذا، فروحيّا، الله نفسه يصبح مُلحقًا بالجماعة ومصالحها عوض أن تلحق به الجماعة، أي يصبح الله وسيلة عوض أن يكون هدفًا، وهنا يكمن الكفر العمليّ بالله لدى الطائفيّين، رغم اجترارهم للآيات، واستخدامهم المكثّف لاسم الله. عندما يصبح مشروع الله في الأرض (مهما عنى ذلك في الذهن) مندمجًا بطائفة ومصالحها فنحن في تيّار استخدام الله لا في تيّار خدمته بخدمة خلقه، وفي تفريغ الإيمان من معانيه، في تجويف المعاني والإبقاء على قشرة الكلمات. روحيًّا، كلّ طائفيّ عابد لوثن الجماعة. لكن رغم الطائفيّة التي نرى آثارها العنيفة والقبيحة القريبة والبعيدة، معظم الناس ليسوا عنيفين ولا قبيحين. معظم الناس مسالمين ويريدون أن يقضوا حياتهم بسلام وهناء، وإن أخذنا طرابلس الحبيبة مثلًا، عندما كانت المعارك العبثيّة بين الفئات الأفقر في المدينة تتراجع، كان عشرات الآلاف يسيرون ضدّ العنف والتقاتل. كلّ ما في الأم أنّه في غياب الدولة، يمكن لمئات من المسلّحين أن يختطفوا مدينة ويرتهنوا عشرات الآلاف. والقباحة التي يتصرّف بها عشرات الأشخاص أو شخص واحد لا يمكن تعميمها على طائفة بأكملها إلّا في الذهن الطائفيّ الذي يختزل الإنسان كما أسلفنا. بالنسبة للأحداث الطائفيّة التي حدثت بين الجنوب والجبل يجب أن تذكّرنا من جديد ليس بالخوف من الآخر، بل بأنّ الزعماء الطائفيّين، ولو هم يوزّعون جزءا يسيرا من مغانمهم، فهم لا يبنون زعاماتهم إلّا على امتهان كرامتنا وعلى جثثنا، ويجلسون على كراسي السلطة والتحكّم فوق بحر من الضحايا، هؤلاء الذين يموتون فورا وأولئك الذين يموتون ببطء، هم يقدّموننا أضاحٍ بشريّة لوثن الطائفة المتخفّي تحت اسم الله. خريستو المرّ
الثلاثاء ٣ آب / أغسطس ٢٠٢١ في تجربة شهيرة (نُشِرَ البحث عام ٢٠٠٥) حول الإحساس بالعدالة عند القرود، قامت الباحثة سارة بروزنان والباحث فرانس دو وال بالتجربة التالية: أعطت الباحثة لكلّ من قردين بَحْصَةً صغيرة ثمّ مدّت يدها لتستعيدها، ثمّ ناولت قطعة من الخيار لكلّ قرد ما أن أعاد البحصة إليها، وكان القردان متعاونان. بعد ٢٥ مرّة من مبادلة البحص بقطع الخيار، عاملت أحد القردين بشكل غير عادل، إذ عند إعادة البحصة إليها ناولت أحدهما قطعة خيار بينما ناولت الآخر حبوبًا من الزبيب (وهي مرغوبة جدّا عند القرود). بعد فترة من تكرار الأمر، توقّف القرد الذي أُعطي قطعة الخيار عن أخذها وأعلن غضبه مرّات برمي قطع الخيار خارج القفص وأحيانا رمى البحصة أيضًا. وللتأكّد من أنّ القرد كان غاضبا من انعدام العدالة وليس فقط من مجرّد وجود قطع زبيب ليس باستطاعته الحصول عليها، أعاد الباحثان التجربة بالشكل التالي: أبرزت الباحثة الزبيب وقطع الخيار في بداية التجربة للقردين، وأبقت القطع أمامهما للتدليل أنّها من الممكن أن تعطيهما خيارًا أو زبيبًا، ولكن عند تعاونهما لم تعطهما إلاّ الخيار، ولم يغضب أيّ من القردين رغم وجود الزبيب وعدم حصولهما عليه، ممّا يؤكّد أنّ ما أثار الغضب في التجربة الأولى لم يكن مجرّد عدم القدرة على الحصول على الزبيب وإنّما عدم حصول أحد القردين على الزبيب في حين حصل الآخر عليها، أي أنّ السبب كان في انعدام العدالة في التوزيع. وفي تجربة مشابهة أخرى (نشرت نتيجتها عام ٢٠١٠)، مع نوع آخر من القرود هو البونوبو (bonobo)، أعطى الباحث «فرانس دو وال» قِرْدَةً واحدة من البونوبو حليبًا مع قطع زبيب كمكافأة لتعاونها، وحرم رفاقها المتعاونين منهما؛ فما كان من تلك القردة بعد فترة إلّا أن امتنعت عن أخذ الحليب والزبيب ورمتها على الأرض مُحَمْلِقَةً بالباحث ومشيرة إلى رفاقها، معلنة بذلك رفضها حالة انعدام العدالة بحقّ رفاقها! وكما هو الأمر في بعض الحيوانات القريبة من الإنسان، كذلك الأمر في الإنسان، إنّ حالة انعدام العدالة في المجتمعات مرفوضة من عمق البنية النفسيّة الإنسانيّة، ويحتجّ عليها الضمير بشكل صارخ. إنّ رفض اللاعدالة محفور في الضمير، أو مرسوم في صورة الله فينا، ويدفعنا دفعا للاحتجاج على الظلم والسعي لتحطيم أساساته. لا يمكن الاستمرار في الظلم دون ردّ فعل، المهمّ توجيه ردّ الفعل في برنامج سياسيّ-اقتصاديّ مرتكز على فلسفة عدالة، يمكنها أن تعتمد على نفس الإنسان التوّاقة إلى العدالة بحكم تكوينها. ما من أحد قادر أن يقتبل الإيمان إن لم يدافع عن الإنسان المظلوم، إن لم يتجاوب مع احتجاجات ضميره فيرفض أنظمة الظلم ويسعى لتجاوزها. إنّ الذي أحبّ بالقول وبالفعل، يسعى للعدالة على هذه الأرض لأنّ الظلم يدوس الإنسان. كيف نمدّ الأعياد بعد الأعياد، ونزرع حياة وسط الموت؟ هذا ألم وسرّ الذين أحبّوا. |
الكاتبخريستو المر الأرشيف
December 2023
Categories |