خريستو المرّ
الثلاثاء ٢٣ تشرين ثاني/نوفمبر 2020 من هو يهوذا الإسخريوطيّ؟ التفاسير الحديثة تعتمد على لقب "الإسخريوطيّ" وأنّ كلمة «إسخريوط» تأتي من كلمة خنجر، لترجّح بأنّ يهوذا كان من جماعة «الخنجريّين»، جماعة «الغُيُر» التي كانت تقوم بالاغتيالات بواسطة الخناجر، للتخلّص من الحكم الرومانيّ والمتعاملين معه. كبقيّة التلاميذ، لحق يهوذا بيسوع وتكشّفت له شخصيّة المعلّم شيئا فشيئا. اعتقد التلاميذ أنّ يسوع هو المسيح الـمُنتَظَر؛ وفي ذهنيّة تلك الأيّام ذلك عنى شخصًا مرسلًا من الله ليقيم حكما أرضيّا عادلاً. لهذا، انتظر التلاميذ أن يقوم يسوع بثورة ليستلم الحكم بالقوّة، وتجادلوا بينهم حول المراكز التي سيتقاسمونها. الأرجح أنّ يهوذا خان يسوع لما اتّضح له أنّ هذا الـ«يسوع» لن يقيم الثورة التي ينتظرها، لن يحقّق له أحلامه، بل كان يقول لهم أنّه سيموت قريبًا. خيانة يهوذا أتت على خلفيّة «محبّةٍ» خائبة: أمل وهميّ بمحبوب سيحقّق الأماني الذاتيّة كلّها، تبعته خيبةٌ منه، فكانت الخيانة. لكنّ يهوذا هو "أحد الاثني عشر"، وتلميذ دعا يسوع "يا سيّدي" وقبّله تعبيرًا عن مودّة ووحدة حال واحترام للمعلّم. علاقة التلميذ بالمعلّم انحرفت تماماً بالنسبة ليهوذا، ولكنّها أيضاً انحرفت بالنسبة للتلامذة الباقين، فهؤلاء عوض أن يتبعوا معلّمهم، هربوا. يهوذا حلم بوطن قوميّ، بقوّة عسكريّة وسؤدد؛ وتلامذةٌ كيعقوب ويوحنّا حلموا بالسلطة وتقاسم النفوذ في مملكة تخيّلوها ليسوع (مرقس ١٠: ٣٧). لكنّ يهوذا ليس شخصيّة ماضية فحسب، يهوذا اليوم يرتسم خَطرًا في كلّ باحث عن كنيسة لقومه هو، عن مسيح قوميّ أو مسيح للمسيحيّين فقط، أو لطائفتهم فقط، هو قابع في كلّ باحث عن مسيح لا يتقاسمه مع أحد. الأرثوذكس في اليونان وفي روسيّا الذين يماهون بين قوميّتهم اليونانيّة أو الروسيّة وبين الكنيسة، يرسمون لنا في تاريخنا وجه يهوذا، الوجه الذي يرغب بالاستيلاء على المسيح في حدود قومه. والأرثوذكس في القسطنطينيّة (إسطنبول) الذين يصارعون الكنائس الأرثوذكسيّة «الشقيقة» الأخرى بابتكار منصب سلطة أعلى بينها، يرسمون وجه التلامذة الذين حلموا في السلطة عن يمين ويسار يسوع. لكن أقرب من ذلك، في أنطاكية، كلّ محاولة سياسيّة أو دينيّة لتقزيم الكنيسة في حدود وطن سياسيّ، ترسم ملامح يهوذا في قلب الكنيسة؛ وكلّ محاولة «أخويّة» لنصب سلطة عليا يخضع لها الناس في الكنيسة ترسم صورة التلاميذ الذين حلموا بالسلطة. لكنّ محاولات ابتكار سلطة عليا غير سلطة يسوع الخادمة، ليست فقط تجربة القيادات الكنسيّة، وإنّما نراها أيضًا تجربة قائمة في المجموعات الأصوليّة التي تبتكر «منصب» حماية الإيمان القويم وتستولي عليه ثمّ ترمي تُهَمَ الهرطقة يُمنةً ويُسرةً على كلّ مَن خالفها قراءتها المتزمّتة للإيمان والتقليد. محاولات ارتكاب القتل لا تنحصر في محاولات قتل الأجساد، هناك محاولة للقتل في كلّ استعلاء، وهي محاولة مُدانة حتّى ولو كنّا نعرف أنّ كلّ استعلاء يعكس في العمق شعورًا بالنقص والهزيمة. ليس يهوذا الإسخريوطيّ فردًا من الماضي فحسب، إنّه جحفلٌ من الأوهام في جسد الكنيسة كجماعة أرضيّة، لا يُخرِج الجحفلَ إلاّ المسيح المنتصر على الموت. الصراع لا بدّ منه في الكنيسة، ولكن لا هويّة في الكنيسة سوى للإخوّة، كلّ مسعى يخرج عن مسعى الخدمة الأخويّة يَنتجُ عن «يهوذا»، عن رغبة بالملكوت ضائعة عن هدفها، فغرقت في التهام ذاتها والآخرين. بعد أوهام السلطة، والهروب، ونكران يسوع، نَقّى التلامذة إيمانهم وغيّروا طريقة حياتهم، فأحبّوا المسيح والناس وخدموهم حتّى الموت. وحدهُ الحبُّ يُتَلْمِذ، والـمُحبُّ مصلوبٌ كلّ لحظةٍ، فالحبّ صعبٌ والخيانة بِقُبلةٍ هي النصيبُ الدائم للحقّ الوديع الشاهد. (إلى قيصر بندلي، ونيقولا الرطل. أخواي)
خريستو المرّ الاثنين ١٥ تشرين ثاني/نوفمبر 2020 الإِخوةُ وجوهٌ. والوجوهُ بحارٌ وقوارب. وجزرٌ كثيرةٌ لرغبةِ الأحلام. والوجه يدعوك إنْ دعا، لقطاف الشمسِ المختبئة في عنبِ الأيّام. ومن سكرةِ الشمس يحيا الإِخوةُ، يغمّسون خبز اللقاء على حافة الزمان. ويترافق الإِخوةُ في الرحلةِ، يترافقون يتخاصمون يتصالحون يبكون يضحكون ويترافقون؛ يترافقون لأنّهم يتحابّون، ويتحابّون فيترافقون إلى أن يترجّل ذلك الربّان. *** يعبر الإِخوةُ إلى الضفّة الأخرى. لا تراهم عيوننا. والقلب يَرى ما لا يُرى. وكيف لا يَرى القلب من صاروا في نسيجِ القلب؟ الإِخوةُ نفيُ الغربة، رؤيةٌ تُشبعُ القلبَ، ثمّ تجوّعه، كي يوجد في ذاته، أعمق. والإِخوةُ نورٌ كي نرى غيومًا بيضاء، تساقطت من وجه الله كي نرى. والإِخوةُ شِبهٌ غريبٌ، يحفظ سر الواحد الذي كثرةٌ. والإِخوةُ مدينةٌ واحدةٌ لا جغرافيّةٌ، تحمل رسالةً من عمقٍ عالٍ، أعلى من محيطٍ مجتمع في صلاة. فالإِخوةُ مكان اللامكان في المكان، واللاوقتُ مُطِلاًّ في الوقت كي لا نموت. والإِخوةُ كتابٌ لا يُقرأ إلاّ بصدام الموج للقوارب، بالوصول وبالرحيل، وبالدموع التي هي الفرح يفرّ بجناحيه كي يحفر فينا الحنان. والإِخوةُ يسمّوننا أسماءَ سرّيةً، بَحْرِيَّةً، بطعم الملح المائيِّ، أسماءَ زئبقيّة، كأسمائنا الإلهيّة. يسمّوننا دون كلام، ربّما بالهواء تحت أجنحة الحمام، أو ربّما بمغامرة إلهٍ تجنّب الحياة الأبديّة. الإِخوةُ نحن حين ننام فنستيقظ على أرض السلام. وقد يصوم الإِخوةُ طويلاً عن فاكهة العين، فيقتاتون من سرّ الرؤية، من فتات الضوء الذي تقاسموه في علّية. الإِخوةُ، لمن يراهم، سرٌّ يشبه نفسه. علاماتٌ فارقة تقول لغة مضيئة. أحرف أبجديّة في قصيدةٍ واحدةٍ كثيرة، ساكتةٍ صارخةٍ، راسخةٍ مسافرةٍ، شديدةٍ ضعيفةٍ، صلبةٍ رخوةٍ، حياةٍ جريحةٍ. الإِخوةُ وجه الله إن رأينا، وطعم عينيه إن لم نرَ. والإِخوةُ غرباء لا موضع لهم يسندون رأسهم على كتف الألوهة. والإِخوةُ قد يجادلون، وقد يسمع صوتهم في الساحات، وقد يصمتون، ولا يُسمع لهم صوت في ساحة، لكنّ قلبًا مرضوضًا لا يكسرون، وينفخون جمرَ القلبِ المتروكِ كي لا ينطفئ. فالأُخوّةُ غريبةٌ، لا يُعرف لها أرضٌ، ريحٌ تهبّ حيث شاءت الكثرة أن تصير واحدًا دون ابتلاع. الأُخوّةُ لغةٌ، وطنٌ للأوطان، مدينةٌ أليفةٌ في المدن الغريبة، ومدينةٌ غريبةٌ في المدن الأليفة. فالإِخوةُ أليفون غرباء، كلّ أرضٍ غريبةٍ وطنٌ لهم، وكل وطنٍ أرضٌ غريبة. والإِخوةُ لا أرضُ هُم، ولا هُم سماء، هُم عرسُ الأرضِ التي تعرّت من ترابها والسماءِ التي خلعت تعاليها. ويسافرُ الإِخوةُ معًا، متفرّقين، كي ينتشر الضوء على خدّ الندى. ويومًا، يومًا ما، يومًا بعيدًا بقرب الصباح، يعبرُ الإِخوةُ إلى الضفّة الأخرى. يومًا، يومًا ما، جميلاً ككتفٍ عارية، لا ترى الإِخوةَ عيونُنا. يومًا، يومًا ما، حزينًا كوداع، يرى القلبُ ما لا يُرى. وكيف لا يرى القلبُ مَن هم في نسيج القلب؟ الثلاثاء 10 تشرين الثاني/نوفمبر 2020
خريستو المرّ "تختلف تعاليم أفلاطون عن تعاليم المسيح، ... فهي ليست متشابهة من جميع النواحي، كما لا تتشابه تعاليم الآخرين والرواقيين والشعراء والمؤرخين. فكل إنسان يتكلم بشكل جيّد بما يتناسب مع نصيبه من الكلمة الباذر (spermatikos Logos)، ورؤية ما يتعلق بها... كلّ ما قيل بشكل صحيح بين الناس، هو ملكٌ لنا نحن المسيحيّين ... لأن جميع الكُتّاب كانوا قادرين على رؤية الحقائق بشكل خافت من خلال زرع الكلمة الباذر (spermatikos logos) الذي كان موجودًا فيهم"، يوستينوس الشهيد (الدفاع الثاني، 13). كان ترتليانوس (145-220) أحد أبرز المدافعين عن المسيحيّة. طرح ترتليانوس على نفسه علاقة المسيحيّة بالثقافة الوثنيّة، فكان من أبرز رموز رفضها، إذ كان يرى بأنّ الثقافة تُفسد الإنسان وتدفعه للخطيئة، فدعا المسيحيّين إلى عدم التعاطي في السياسة، وعدم تعاطي التجارة، ورفض الفلسفة والموسيقى والمسرح، إلاّ أنّه قَبِلَ بشيءٍ من الفائدة في الأدب. وكتب بأنّنا "نريد يسوع المسيح ... ومع إيماننا لا نريد اعتقادًا آخر". في المقابل، جاء فالنتينوس (100 – 160 م.) بتطرّف آخر قائم على نظم المسيحيّة بحسب نمط فكريّ معيّن. في زمن فالنتينوس، كانت الفلسفة الأفلاطونيّة تلعب دوراً ثقافيّاً مهمّا في تفسير العالم، فحاول فالنتينوس تفسير سرّ التجسّد انطلاقا من خلال الأطر الفكريّة الفلسفيّة لعصره. فعوض سرّ التجسّد "غير المنطقيّ"، فسّر فالنتينوس التجسّد من خلال أدوات الفلسفة فإذا بابن الله يصبح فيضًا إلهيًّا ينزل على الإنسان يسوع عند معموديّته ويتركه عند الصلب، مفرغا هكذا المسيحيّة من مضمونها. حاول فالنتينوس استيعاب سرّ التجسّد ومحبّة الله وصليب يسوع المسيح بأدوات منطق فلسفيّ محدّد؛ بحيث يصير الله مُشَرَّحاً بالمنطق، ولا يعود الصليب "جنوناً" عند الوثنيين بل يصبح خاضعًا لضرورات فلسفيّة. رفضت الكنيسة فكر فالنتينوس وكلّ محاولة لاحقة لاستيعاب الله وتشريحه. مقابل هذين التطرّفين دخل الفيلسوف الشهيد يوستينوس (100 - 165) في حوار مع الوثنيّة والفلسفة، مدافعا عن الإيمان الجديد في مقابل الوثنيّة ورفضها لما رأوه خرافات عند المسيحيّين (سرّ الشكر مثلاً)، فبقي ملتزما بإيمانه دون رفض الأدوات الفلسفيّة بل كان يعتبر أنّ الفلسفة الوثنيّة أعدّت الطريق للمسيحيّة وأنّ فلاسفة مثل أفلاطون وارسطو وغيرهما هم شهود للحقيقة الإلهيّة التي تعمل حتّى في الوثنيّة. وهذا القدّيس الشهيد كان مع ذلك لديه بعض الهنّات، فكان مثلا يعتقد بأنّ الخلق لم يحدث من عدم ولكن من مادة موجودة، كما كانت تعتقد الفلسفة الوثنيّة. إن ّتحويل المسيحيّة إلى مُعطى عقليّ بحت كما فعل فالنتينوس مرفوض طبعًا؛ وإن عدنا إلى العقائد المسيحيّة اليوم فإنّنا نجد أنّ موقف يوستينوس من "علوم عصره" (الفلسفة) كان الموقف الأسلم؛ ذلك أنّ كلّ موقفٍ ترتيليانوسيّ يرفض أو يهمّش المعطيات غير الإيمانيّة، ويختصر كلّ خليقة الله بالعقائد والتقليد الكنسيّ، هو موقف مخالف للإيمان لأنّه يرفض أو يهمّش حضور القوى الإلهيّة غير المخلوقة في الخليقة. فبحسب الإيمان، لم يكن للخلقية أن توجد (وأن تستمرّ في الوجود كلّ لحظة) لولا قوى الله غير المخلوقة الحاضرة فيها. الله هو الذي أعطى الخليقة "مَنْطِقاً" في داخلها عندما خلقها ("الكون كلّه رياضيّات"، مثلاً). إنّ القوى الإلهيّة غير المخلوقة هي عماد وجود العالم، عماد وجود الكون المخلوق، ولا يوجد أيّ ظاهرة من ظواهر الكون المخلوق يمكن أن ننظر إليها وكأنّها منفصلة عن تلك القوى الإلهيّة، أكانت الظواهر جسديّة أو نفسيّة أو حيوانيّة أو نباتيّة أو كونيّة. بحسب الإيمان الأرثوذكسيّ، كلّ الخليقة المادّية تحمل حضور القوى الإلهيّة التي تمنحها وجودها، تمنحها "جوهرها" كمخلوقات، أي تمنحها مادّيتها بالذات. إنّ عقيدة الخلق من العدم وحضور القوى الإلهيّة غير المخلوقة في العالم، يُفضِيان لا محالة إلى أخذ كلّ الطبيعة والعقل والعلوم على محمل الجدّ، والنظر إليها كلّها كواحات لقاء بديعة ورائعة بالفكر الإلهيّ الخالق والحاضن للكون، والجاذب الكون إليه. إنّ استكشاف كلمات الله وقصائده، المنثورة في كلّ شيء، أمر رائع. الله حاضرٌ ومتوارٍ في خليقته، ويمكن للإنسان أن يرى أنّ حقائق الكون "زجاجات" فكريّة وجماليّة حمّلها الله رسائل حبٍّ لنا رماها في بحر هذا الوجود. فكيف يستطيع الإنسان ألاّ يُبحر، وألاّ يفتّش، وألاّ يفتح الزجاجات، وألاّ يقرأ بكلّ كيانه، وألاّ يُدمع، وألاّ يفرح؟ الثلاثاء 10 تشرين الثاني/نوفمبر 2020 خريستو المرّ "تختلف تعاليم أفلاطون عن تعاليم المسيح، ... فهي ليست متشابهة من جميع النواحي، كما لا تتشابه تعاليم الآخرين والرواقيين والشعراء والمؤرخين. فكل إنسان يتكلم بشكل جيّد بما يتناسب مع نصيبه من الكلمة الباذر (spermatikos Logos)، ورؤية ما يتعلق بها... كلّ ما قيل بشكل صحيح بين الناس، هو ملكٌ لنا نحن المسيحيّين ... لأن جميع الكُتّاب كانوا قادرين على رؤية الحقائق بشكل خافت من خلال زرع الكلمة الباذر (spermatikos logos) الذي كان موجودًا فيهم"، يوستينوس الشهيد (الدفاع الثاني، 13). كان ترتليانوس (145-220) أحد أبرز المدافعين عن المسيحيّة. طرح ترتليانوس على نفسه علاقة المسيحيّة بالثقافة الوثنيّة، فكان من أبرز رموز رفضها، إذ كان يرى بأنّ الثقافة تُفسد الإنسان وتدفعه للخطيئة، فدعا المسيحيّين إلى عدم التعاطي في السياسة، وعدم تعاطي التجارة، ورفض الفلسفة والموسيقى والمسرح، إلاّ أنّه قَبِلَ بشيءٍ من الفائدة في الأدب. وكتب بأنّنا "نريد يسوع المسيح ... ومع إيماننا لا نريد اعتقادًا آخر". في المقابل، جاء فالنتينوس (100 – 160 م.) بتطرّف آخر قائم على نظم المسيحيّة بحسب نمط فكريّ معيّن. في زمن فالنتينوس، كانت الفلسفة الأفلاطونيّة تلعب دوراً ثقافيّاً مهمّا في تفسير العالم، فحاول فالنتينوس تفسير سرّ التجسّد انطلاقا من خلال الأطر الفكريّة الفلسفيّة لعصره. فعوض سرّ التجسّد "غير المنطقيّ"، فسّر فالنتينوس التجسّد من خلال أدوات الفلسفة فإذا بابن الله يصبح فيضًا إلهيًّا ينزل على الإنسان يسوع عند معموديّته ويتركه عند الصلب، مفرغا هكذا المسيحيّة من مضمونها. حاول فالنتينوس استيعاب سرّ التجسّد ومحبّة الله وصليب يسوع المسيح بأدوات منطق فلسفيّ محدّد؛ بحيث يصير الله مُشَرَّحاً بالمنطق، ولا يعود الصليب "جنوناً" عند الوثنيين بل يصبح خاضعًا لضرورات فلسفيّة. رفضت الكنيسة فكر فالنتينوس وكلّ محاولة لاحقة لاستيعاب الله وتشريحه. مقابل هذين التطرّفين دخل الفيلسوف الشهيد يوستينوس (100 - 165) في حوار مع الوثنيّة والفلسفة، مدافعا عن الإيمان الجديد في مقابل الوثنيّة ورفضها لما رأوه خرافات عند المسيحيّين (سرّ الشكر مثلاً)، فبقي ملتزما بإيمانه دون رفض الأدوات الفلسفيّة بل كان يعتبر أنّ الفلسفة الوثنيّة أعدّت الطريق للمسيحيّة وأنّ فلاسفة مثل أفلاطون وارسطو وغيرهما هم شهود للحقيقة الإلهيّة التي تعمل حتّى في الوثنيّة. وهذا القدّيس الشهيد كان مع ذلك لديه بعض الهنّات، فكان مثلا يعتقد بأنّ الخلق لم يحدث من عدم ولكن من مادة موجودة، كما كانت تعتقد الفلسفة الوثنيّة. إن ّتحويل المسيحيّة إلى مُعطى عقليّ بحت كما فعل فالنتينوس مرفوض طبعًا؛ وإن عدنا إلى العقائد المسيحيّة اليوم فإنّنا نجد أنّ موقف يوستينوس من "علوم عصره" (الفلسفة) كان الموقف الأسلم؛ ذلك أنّ كلّ موقفٍ ترتيليانوسيّ يرفض أو يهمّش المعطيات غير الإيمانيّة، ويختصر كلّ خليقة الله بالعقائد والتقليد الكنسيّ، هو موقف مخالف للإيمان لأنّه يرفض أو يهمّش حضور القوى الإلهيّة غير المخلوقة في الخليقة. فبحسب الإيمان، لم يكن للخلقية أن توجد (وأن تستمرّ في الوجود كلّ لحظة) لولا قوى الله غير المخلوقة الحاضرة فيها. الله هو الذي أعطى الخليقة "مَنْطِقاً" في داخلها عندما خلقها ("الكون كلّه رياضيّات"، مثلاً). إنّ القوى الإلهيّة غير المخلوقة هي عماد وجود العالم، عماد وجود الكون المخلوق، ولا يوجد أيّ ظاهرة من ظواهر الكون المخلوق يمكن أن ننظر إليها وكأنّها منفصلة عن تلك القوى الإلهيّة، أكانت الظواهر جسديّة أو نفسيّة أو حيوانيّة أو نباتيّة أو كونيّة. بحسب الإيمان الأرثوذكسيّ، كلّ الخليقة المادّية تحمل حضور القوى الإلهيّة التي تمنحها وجودها، تمنحها "جوهرها" كمخلوقات، أي تمنحها مادّيتها بالذات. إنّ عقيدة الخلق من العدم وحضور القوى الإلهيّة غير المخلوقة في العالم، يُفضِيان لا محالة إلى أخذ كلّ الطبيعة والعقل والعلوم على محمل الجدّ، والنظر إليها كلّها كواحات لقاء بديعة ورائعة بالفكر الإلهيّ الخالق والحاضن للكون، والجاذب الكون إليه. إنّ استكشاف كلمات الله وقصائده، المنثورة في كلّ شيء، أمر رائع. الله حاضرٌ ومتوارٍ في خليقته، ويمكن للإنسان أن يرى أنّ حقائق الكون "زجاجات" فكريّة وجماليّة حمّلها الله رسائل حبٍّ لنا رماها في بحر هذا الوجود. فكيف يستطيع الإنسان ألاّ يُبحر، وألاّ يفتّش، وألاّ يفتح الزجاجات، وألاّ يقرأ بكلّ كيانه، وألاّ يُدمع، وألاّ يفرح؟ خريستو المرّ
الثلاثاء 3 تشرين ثاني/نوفمبر 2020 ألكبرياء كارثة روحيّة حقيقيّة ولكن ما هي هذه الكبرياء أصلاً؟ ولأيّ سبب هي سيّئة؟ وما مصدرها؟ يجب دائمًا العودة إلى هدف الإيمان المسيحيّ وإلى ما نسمّيه عمل الله الخلاصيّ. هدف الإيمان هو الاتّحاد بالله اتّحادًا يحفظ تمايزنا عنه وعن بعضنا البعض فنشاركه الحياة الإلهيّة، كنعمة مجانيّة من الله، وهذا ما ندعوه التألّه. لكنّ يسوع بيّن لنا أنّ الله محبّة، بالتالي فإنّ طريقة الحياة الإلهيّة هي محبّة، والملكوت هو محبّة. كلّ ما يجعلنا مُحِبّين أكثر يقرّبنا من الله وكلّ ما يبعدنا عن المحبّة يجب تجنّبه لأنّه يبعدنا عن الله وبالتالي يُبعِدُنا عن نبع أنفسنا: نحن مخلوقون على صورة الله، لا نفرح ولا نكون إلّا عندما نكون منسجمين مع الصورة التي خُلِقنا عليها، أي عندما نكون سائرين في خطّ حياةٍ يجعل المحبّة فينا تنمو، وما المحبّة إلاّ حال الوحدة مع الآخرين في احترام التمايز والحرّية. ما ندعوه الكبرياء في الكنيسة هو موقف الإنسان المكتفي بنفسه، والمنقطع قلبيًّا عن الآخرين: الناس والله. وبالطبع الإنسان قادر على الانشطار الحياتيّ، إذ يمكنه أن يتّبع الطقوس الدينيّة وأن يتصرّف بكبرياء. المهمّ أنّ الكبرياء تنبع من موقف داخليّ للإنسان يهمّش فيه قيمة الخارج المختلف عنه، ويرى ذاته، ومن يشبهون ذاته، منبع كلّ حقّ. الخطأ الفكريّ الذي يرتكبه الكثير من المسيحيين هو أنّهم يوازنون بين الكبرياء والعقل، فينقضّون على العقل ويشكّكون فيه بوصفه منبع الكبرياء وسببها، وهذا هراء خالص لأنّ هؤلاء يستعملون عقولهم للوصول إلى استنتاجاتهم. ولكن أحيانًا يميّز بعضهم مواقفهم فيقولون بأنّ العقل المستقلّ عن الإيمان هو ما يسبّب الكبرياء. وهذا أيضًا هراء، فكم من علماء مُلحدين هم رموزٌ في التواضع والحوار، وللمؤمنين أن يتعلّموا منهم الكثير. نبع الكبرياء الروحيّة لا تكمن في العقل وإنّما في مكان آخر، إنّها تكمن في توجّه نفسيّ يغلق فيه الإنسان على ذاته. ولربّما هناك أمرٌ يمكن أن يكون في أصل الكبرياء: النرجسيّة. فالنرجسيّة بحسب الدليل التشخيصيّ والإحصائيّ للاضطرابات النفسيّة، هي اضطراب في الشخصيّة يترافق مع تضخّم إحساسِ الانسان بأهمّيته، وحاجةٍ مفرطة إلى الاهتمام والإعجاب به، وتوقعات غير معقولة لمعاملة خاصّة، واستغلال للآخرين لتحقيق أهدافه الخاصّة، ونقصٍ فادح في التعاطف مع الآخرين، وحسد دائم من الآخرين؛ هي حالة إنسانٍ غارقٍ في نفسه لا يقيم وزنًا لما هو خارج ذاته (هل يذكّرك ذلك بأحد في محيطك؟). ليس العقل هو نبع الكبرياء الروحيّة، العقل مجرّد وسيلة للنفس النرجسيّة لتنفيذ مآربها؛ كما أنّ العقل هو وسيلة النفس المـُحِبَّة كي تهتمّ بمحبوبها وتعرفه وتكون مسؤولة عنه بشكل يحترم حرّيته. لكي يواجه الإنسان الكبرياء ويتمكّن من الانطلاق في خطّ المحبّة، يجب عليه مواجهة الأمراض النفسيّة وعلاجها لا مواجهة العقل. الأدبيّات التي تذمّ العقل وتشكّك فيه في الكتابات المسيحيّة لا تفعل شيئًا سوى أنّها تُضعف صورة الله في الإنسان، وتشكّك الإنسان في قدرته على تجاوز أوضاعه، فتُبقيه في مشاكله. لا يوجد لدى الإنسان موهبة أعلى من العقل لكي يستند إليها في بحثه عن سبل تجاوز الكبرياء، وعيش المحبّة-الملكوت في هذا العالم. التهجّم على العقل مُخطئ ومدمّر، فنموُّ العلوم والفكر النقديّ يساهمان في بناء قدرتنا على التمييز، وعلى دعم صورة الله في الإنسان وبناء الملكوت. العقل هو الذي يدلّنا إلى أسباب الظواهر وكيفيّة علاجها، والإيمان يدلّنا إلى الأهداف الروحيّة التي نريد أن نحقّقها بعد العلاج أو خلاله، وكيفيّة تحقيقها. نعم الكبرياء مشكلة روحيّة كبرى، ولهذا هناك ضرورة قصوى لإدخال مكتسبات العلوم، وبخاصّة علوم النفس، في التنشئة الدينيّة، والدراسات اللاهوتيّة، وفي توجيه الشابّات والشباب المقبلين على الرهبنة أو الكهنوت، بشكل يتناسب مع حقيقة نفوسهم. كم من راهب وراهبة وكاهن ومطران يضرّ نفسه وغيره بوضع ذاته في طريق لا تناسبها. وعوض أن نلاحظ حبًّا أكبرَ ينبع منه نجده ينهش في التسلّط والمال، وحتّى في أجساد المؤمنات والمؤمنين(تحرّش)، تعبيرًا عن اضطرابات في الشخصيّة، وتعويضًا عن انتعاش مفقود على أرض الواقع. القليلون فقط سمعوا صوت الله في قلوبهم فأحبّوا أنفسهم واعتنوا بها فتراجعوا عمّا دخلوا فيه. يحتاج المسؤولون في الكنائس في منطقتنا أن يعانقوا العلوم لنخرج من الجهل، ومن فقّاعة فكريّة خياليّة، لكي نحيا معًا في عالم اليوم ونعالج الكبرياء ومآلاتها المدمّرة. نعم تبًّا للكبرياء، ومرحى بالعقلِ في الإيمان. |
الكاتبخريستو المر الأرشيف
December 2023
Categories |