30 تمّوز، يوليو 2020
علاقتنا بالله ممزوجةٌ دائمًا بخيالاتنا، بما يدعوه علم النفس إسقاطاتنا، أي بما نحن نضعه في الله من ظلال أنفسنا ونقول إنّه منه، سواءٌ أكانت تلك الظلال خوفًا أو إحباطًا أو تسلّطًا. لهذا كانت العلاقة باللّه ملتبسةً دائمًا، وستبقى كذلك حتّى تسقط الحُجُب بالموت، ويظهر لنا الله وجهًا لوجه، فلا يعود هناك مكان لخداع الذات. الآن، لدينا وسائل كثيرة لكي نهرب من أنفسنا، ونقوِّلَ الله ما نريد، ونفسّر الآيات بعكس فحوى الإيمان. أمّا حين تسقط الحجب، فسينتفي الهروب. ما علاقة ذلك بقصّة إبراهيم؟ هناك رمزان هائلان في الحياة البشريّة: رمز الأرض ورمز الدم. وهما رمزان للحياة، وللأمّ التي تمنح الحياة (الوطن-الأرض-الأمّ، عيد الأمّ في بداية الربيع يشير إلى الترابط بين الأمّ والأرض). بالطبع، الله لا يدعونا إلى أن نستغني عن الأرض وعن العائلة، عن رمز الأمّ، فالواقع أنّ الحياة البشريّة متجذّرة طبيعيًّا في أرض معيّنة وفي عائلة معيّنة. لكنّ حكاية إبراهيم مع الله تبدو وكأنّها تتحدّى رمزي الأرض والعائلة. الله يطلب من إبراهيم أن يترك أرضه وعشيرته، ثمّ تقول الرواية إنّ إبراهيم فهم أنّ الله يطلب منه أن يقدّم ابنه أضحية بشريّة لله، كما كانت العادة في بعض الديانات القديمة (هل كان الله يتعامل مع اسقاطات إبراهيم عليه؟). المهمّ، في النهاية يتّضح لإبراهيم أنّ الله لا يريد أضحية بشريّة. يبدو من علاقة إبراهيم مع الله أنّ الإيمان بالله يتطلّب القبول بانفصال حادّ عن رابطة الأرض ورابطة الدم، عن الأمّ. ماذا يمكن أن نقرأ هنا؟ يبدو لي أنّ الحكاية تقول لنا إنّ اتّباع الله، أو العلاقة معه أولويّة مطلقة، أولويّة على العلاقة مع الأرض ومع العائلة والعشيرة. هناك انقطاع عن الأرض والعائلة، عن الأشياء وعن الناس كرمزين لمصدر للحياة، من أجل الاعتراف بأنّ الله وحده مصدر الحياة. هذه الأولويّة التي يدعو اللهُ الإنسانَ إليها، لا تلغي رابطة الأرض ورابطة الدم، وإنّما هي انقطاع عنهما كمصدر للحياة، إنّها عمليّة استقلال نفسيّ عن العشيرة والوطن، علاقة تحرّر من الاندماجيّة في العشيرة والوطن، خروج من رحم الأرض والعشيرة، لكي يولد الإنسان بفرادته وحرّيّته تجاههما عندما يعلم أنّ المصدر الوحيد للحياة هو الله نفسه. وعندما تتمّ هذه الولادة، يمكن للإنسان المولود في الحرّية التي مع الله، إقامة علاقة ناضجة مع أقرباء الأرض وأقرباء الدم، علاقةٍ لا يشوبها الخضوع والاندماج، علاقة أحرار. أولويّة الله تترك للإنسان فسحة حرّية في علاقته مع الأشياء ومع الناس؛ ومن تلك الحرّيّة يطلّ الإنسان على علاقات ناضجة ذات معنى. الانفصال نفسه هو شرط الاتّصال الحرّ، أي شرط المحبّة. شرط التحرّر من الذوبان في الجماعة، وما تعنيه من تعصّب. من هذه الزاوية نرى أنّنا نكون في خطّ إبراهيم إن كان لعلاقتنا بالله أولويّة كيانيّة، بحيث نرى أنّ الله هو أب الجميع، وأنّ الجميع إخوة وأخوات، "عيالٌ"، في عائلة الله الواحدة. حكاية إبراهيم دعوة مفتوحة إلى إنسانيّة يكون الجميع فيها واحدًا. في بلادنا، هل نحن في خطّ إبراهيم؟ كيف نكون في خطّه في ظلّ الأحقاد الوطنيّة (ضدّ الفلسطينيّين، والسوريّين مثلًا)، والغرق في الهويّات المناطقيّة والعائليّة؟ لا شكّ أنّ إبراهيم كان سبّاقًا لنا، ونحن نخونه كلّما تصرّفنا بما تمليه علينا روابطنا البدائيّة التعصّبيّة مع الأرض والدم، عوض الروابط الإنسانيّة مع الوجوه، وجوه الآخرين. إنّ أعضاء عائلة إبراهيم ليسوا اليهود والمسيحيّين والمسلمين، وإنّما أولئك الذين أحبّوا مَن هم خارج روابط الأرض وروابط الدم كما أحبّوا مَن هم داخلها، هم الذين استغنوا عن سفك دم البشر من أجل الله لأنّ الله كشف بوضوح رَفْضَه لذلك من خلال إبراهيم. الأضحى تذكير لنا بأنّ كلّ من يقول إنّه يهرق دمًا بشريًّا من أجل الله في كلّ ظرف، هو يُسقط من خيالاته وشهواته على الله ما رفضه الله بوضوح في حكاية إبراهيم. لا أضحية مقبولة أمام الله سوى ذبيحة القلب الذي يتجاوز روابط التراب والدم ليتوضّأ بالمحبّة ويتعمّد بالضوء. عندها تتجلّى الأرض سماء، وننجو من استعباد أنفسنا للأشياء والناس، من استعباد أنفسنا للهويّات الجماعيّة. قد ينتصر البشر انتصارات جميلة في قضاياهم المحقّة. وقد ينتصرون انتصارات بشعة في قضايا ظلمٍ وتعسّفٍ واحتلالٍ وتطهير عرقيّ. أمّا الانتصار الإلهيّ فيكون عندما ينتصر الله. والله ينتصر عندما ينتصر فينا الحبّ وتنتصر فينا الحرّيّة، فبهما وحدهما نكون قد خرجنا من عبوديّتنا لروابط الأرض وروابط الدم، ليس لكي نتنكّر لها وإنّما لنعود إليها بحرّيّة فتكون هويّاتنا مفتوحة على الجميع مساحاتِ محبّةٍ وحريّة وكرامة إنسانيّة. كلُّ ما عدا ذلك هو إسقاطات على الله، والله منها براء كما نستدلّ من خبرة إبراهيم. الثلاثاء 28 تموز / يوليو 2020
خريستو المرّ في تنظيمنا للحياة الجماعية وأهدافها، مشكلتنا أنّنا نظنّ بأننا نستطيع أن نعيش في عالمين متضادين (أو عوالم متضادة) في الآن عينه: عالم اجتماعيّ عام يقول فيه الإنسان لنفسه ولغيره "الربح هدف" و"أنا أملك إذا أنا موجود"، وعالم إيمانيّ (فرديّ أو في مجموعة صغيرة) يقول فيه مَنْ لم يصبح غريبا بالكامل عن نفسه "أنا أحبّ إذا أنا موجود". المشكلة هي أنّ هذا الانفصال الاصطناعيّ بين عالم اجتماعيّ له مبادئه التي نلتزم بها، وعالم إيمانيّ له مبادئ معاكسة نلتزم بها، هو انفصال وهميّ. فنحن هنا أمام رؤى وبُنى فكريّة ونفسيّة وروحيّة مترابطة كلّ واحد منها مختلف جذريّا عن الآخر، وليس أمام مجموعة خيارات يمكنها أن تتناسق. الإنسان كلّ واحد، لا يوجد فكر لا يؤثّر في النفس وفي التوجّه الروحيّ (أي علاقة الإنسان بالله وبالناس) ويتأثّر بهما؛ لا يمكن للإنسان أن يتصرّف أمام خياراته الفكريّة-النفسيّة-الروحيّة كما يتصرّف في متجر لبيع الزهور: يختار من الأجزاء "الجميلة" من هذه البُنى ومن تلك، ويوائم بينها. لا يمكن، مثلاً، أن يكون الربح القيمة العليا في حياتي الاقتصاديّة، وأن تكون المحبّة القيمة العليا في حياتي الروحيّة، فحياتي هي حياتي، أن يكون الربح في حياتي هو القيمة العليا يعني ألاّ أرتدع عن استخدام الآخر وسيلة لمراكمة أرباحي، وأن يكون الآخر وسيلتي، أي شيئا، فكيف عندها يمكن أن أعتبر الآخر إنسانا مثلي وهدفا لعلاقة محبّة؟ إن كنت أومن بالفعل أنّ المحبّة هي القيمة العليا، أومن عندها أنّني أنا والآخر هما القيمة العليا؛ وعندما تكون قيمة النشاط الاقتصاديّ هي نتيجة عملنا معًا، نتقاسمُ الأرباح بالتساوي، بغضّ النظر إن كنت أنا ساهمت بالمال وهو ساهم بالإدارة وآخر ساهم بالعمل اليدويّ. لم أجد في انجيل يسوع المسيح، أي في تعليمه وفي حياته، أيّ أثر لما يوحي من بعيد أو قريب بأنّ يسوع يرى بأنّ المساهمة الماليّة هي أعلى قيمة من العمل اليدويّ، أو بأنّ العمل الفكريّ أهم من العمل اليدويّ، بل كما يذكر الانجيل صراحة كان المبدأ الأعلى الملموس للجماعة التي لحقت بيسوع هو "أنّ كلّ شيء بينهم كان مشتركا". عندما نعلن إيماننا ببُنيتين متضاربتين، عادة ما تكون البنى الجميلة أخلاقيًّا (المحبّة مثلاً) ستارًا تجميليًّا للبُنى القبيحة الحقيقيّة التي تتبنّاها النفس (المُلكية والمال هي القيمة العليا). يكفي كدليل أعداد المنافقين في الكنيسة (وفي المجموعات الدينيّة الأخرى)، حيث قيمة المحبّة وقيمة الإنسان صورة الله تترافقان مع ممارسة الظلم والقمع في الكنيسة، ومع السكوت عن المظالم الاجتماعيّة والسياسيّة في المجتمع. ويكفي كدليل استغلال العمّال والموظّفين، ومنعهم من تشكيل نقابات أحيانا، واستغلال العاملات الأجنبيّات، في مؤسّسات تملكها الكنيسة، والصمت المخزي للكنائس أمام السياسات الاستغلاليّة التي تنتج الفقر انتاجًا، والسياسات القمعيّة التي تزجّ الناس بالسجون لمجرّد رأي سياسيّ أو نقد للحكّام. ليس مطلوبا من رجال الدين أو الجمعيّات الكنسيّة (كم يُفتَقَدُ صوت حركات الشباب!!!) أن يتبنّوا سياسة فريق ضدّ آخر ولكن أن يقولوا قولة حقّ ويعطوا شهادة نبويّة في القضايا الكبرى. ماذا نجد في الواقع: إنسان (ولمن ينسى المطارنة والبطاركة هم مجرّد بشر) يصرخ مطالبا بحقوق التعيينات الطائفيّة وفي نفس الوقت مناضل "ثوريّ" عندما يتطلّب الأمر؛ وآخر مهادن لكلّ موبقات السلطة ويطالب باحترام موقع طائفته ويختصر الكنيسة بشخصه؛ وآخر يتشدّق بما تمنحه الكنيسة للناس ويتضامن مع أوضاعهم ولا يرضى إلاّ بحماية الفاسدين من طائفته. ثمّ هناك نحن كلّنا، الذين ارتضينا أن ندخل الكنيسة ونحبّ "المحبّة" ثم لا نمانع من استغلال موظّفينا، ونضرب أخواتنا ونسائنا، ونسيء لطلاّبنا ونستغلّ أعمالهم، نحن الذين تمسّكنا بالنظام الطائفيّ الذي يميّز بين أناس ويسمح بنهب البلاد، ونستقيل فكريّا وأخلاقيّا أمام الزعيم السياسيّ والثوب الدينيّ، ونضع أنفسنا أوصياء على حياة الناس الجنسيّة، إلخ. لا توجد منطقة وسطى بين أن يؤمن الإنسان بيسوع ويؤمن بشيء آخر، لا يمكن للإنسان أن يتبنّى رؤيتين مختلفتين جذريّا عن الحياة، "لأنّه إمّا أن يبغض الواحدة ويحبّ الأخرى، أو يلازم الواحدة ويحتقر الأخرى"، تماما كما قال يسوع عن الله والمال. قد تكون الحياة كلّها خروج من عبادة أصنامٍ إلى عبادة الله، المهمّ أن يعي الإنسان واقعه المتمزّق بين رؤيتين حتّى لا يبقى في الوهم. الثلاثاء 21 تمّوز / يوليو ٢٠٢٠
خريستو المرّ الخوف من أنفسنا، والخوف من العالم خوفان يتجسّدان في مواقف عدّيدة. أهمّها، ربّما، في فكر يرى الوجود مفصولًا بين عالم المادّة الشرّير وعالم "الروح" الجيّد. إن تُبنا عن هذين الخوفين تتجدّد عيون قلوبنا لنرى حقيقة يسوع البسيطة: هذا العالم جميلٌ ومحبوبٌ من الله. الإنجيل، ومجمل التراث في صفائه (أقول في صفائه لأنّه ليس خاليًا من إسقاطات النفس البشريّة) يحمل طابع المحبّة، ويرى العالم بمادّته محبوبًا من الله لدرجة التجسّد. موقف الحبّ هذا هو الأساس، ولا يمكن لأيّ تفسير أن ينزع الـمُعطى الأساس في المسيحيّة، ألا وهو أنّ الإله صار إنسانًا من مادّة هذا العالم، وعاش كإنسان في هذا العالم، وأحبّ هذا العالم حتّى بذل نفسه لأجله. فكرة مكسيموس بأنّ كلّ شيء، وكلّ شخص، يحمل ختم «الفكرة» أو «الإرادة» الإلهيّة الخالقة التي تخلقه وتجذبه إلى الخالق هي فكرة بديعة. من تبعات هذه الفكرة أقول بكلماتي، إنّ الإنسان مهما تشوّه وكان مكسورًا وناقصًا، وحتّى في ضلالة نفسه، يبقى مشدودًا إلى رغبته الأصليّة بأن يكون واحدًا مع الآخرين، ومع الله ذاك الآخر الـمُطلق. بمعنًى آخر، تبقى صورة الله في الإنسان مشدودةً نحو تحقيق المثال الإلهيّ. هناك تعابير كتابيّة مختلفة تعبّر، من جملة ما تعبّر، عن تلك الحاجة الأساس إلى أمر واحد: أن يكون الإنسان مع آخر دون أن يخسر أيّ منهما ذاته. إنّ تحقيق هذه الحاجة، هذا التوق، هذا الانشداد، يكمن في ما ندعوه: محبّة. أن أكون موجودًا بالفعل هو أن أكون في علاقة محبّة. لكنّ المحبّة تتحقّق ولا تتحقّق، فهي تبقى أمامنا بحيث أنّنا نبلغها ولا نبلغها. يبقى تحقيقها مكسورًا لأسباب عديدة، منها على الأقلّ انكفاء الإنسان عن مسعى الوحدة من وقت لآخر. الفرق بين المؤمن، ومن لا يؤمن في هذا المجال، هو أنّ الاثنين يلاحظان ذلك، ولكن بينما أحدهما يقول إنّ هذا هو الواقع البشريّ، يتابع الآخر بأنّ هذا التوق والنقصان إشارة إلى أفق يشدّنا، إلى كمال محبّة ينادينا، إلى آخرَ أبعدَ منّا، يتحقّق فيه التوق اللامتناهي إلى الوحدة. في الفرح الذي يتذوّقه المحبّون في كلّ محبّة، طعمٌ يكاد يكون ليس من هذا العالم. في وليمة المحبّة تتجلّى دائمًا وليمةٌ أكمل. وهنا خبرة الحبّ نموذجيّةٌ، إنسانان يريدان أن يكونا أقرب ما يكونان من الآخر دون أن يفقد أحدهما نفسه، وفي لحظة قصيدة العشق الخالص التي تُغنّى بكلمات جسديهما يبلغان قمم الوحدة والفرح، ومن هناك يريان المسافة القائمة بين وليمة الضوء الذي يتجلّى في الوجهين وفي ما بينهما من بلاد، وبين انحسارٍ في الاحتفال. بعد الاحتفال كلّ مُحبٍّ حنينٌ. يعود بنا فيروس كورونا بشدّة إلى الحاجة الأساس: الآخر، العلاقة مع الآخر. في شدّة الحرمان من اللقاء، كان – وما يزال- أمامنا فرصة إعادة اكتشاف ما أكّدته المبادئ الإيمانيّة والإنسانيّة (ومنها إلحاديّة) مرارًا: الوجود يُختَبَرُ في علاقات محبّة، الوجود يُختَبَرُ في علاقة حبّ. المسيحيّة عبّرت بطريقتها: الله محبّة، والإنسان على "صورة" الله و"مثاله" مفطورٌ على المحبّة، كطاقة تحتاج أن تنمو طوال العمر بخبرة حرّة، بطريقة حياة (tropos بلغة مكسيموس) حرّة؛ وما الملكوت في النهاية سوى ملكوت المحبّة. عندما قال يسوع لمرتا وكانت مشغولة بعملها اليوميّ "مرتا مرتا إنّك تهتمّين لأمور كثيرةٍ وإنّما الحاجة هي إلى واحد" كان يتوجّه أيضًا إلى كلّ إنسان، في كلّ زمان، لكي يُصغي إلى رغبته الأصليّة: رغبته باختبار علاقات محبّة مع الآخرين. كان يسوع يقول لمرتا ولي ولك: العلاقات هي قصيدة الأحياء، اجعليها واجعلها قصيدةً للضوء، قصيدةً للجمال والحرّية والمحبّة. لا شكّ أنّ علاقات المحبّة قائمةٌ دائمًا في قلب الثالوث لأنّه المحبّة، وجذر كلّ محبّة. ولربّما كانت صلاة الشكر العميقة تُختَصَر بكلمات بسيطة: من ناحيتي أشكر الله وفالنتينا أنّهما موجودان، وأنّهما يغنّيان فيّ. الثلاثاء 14 تموز/يوليو 2002
خريستو المرّ أنا أستطيع أن أكتب الآن لأنّي لست جائعًا. فعل الكتابة نفسه يعيدني إلى الخبز. لا أشكّ لحظة أنّ الخبز النازل من السماء كلماتٍ، ثمّ جسدًا معلّقًا على الصليب وقائمًا من الموت، هو الخبز الجوهريّ، وأن ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان. ولكن بالخبز أيضًا يحيا الإنسان. وإن كان خبزي أنا أمرًا مادّيًا بحتًا (مع أنّه ليس كذلك فهو في النفس رمز الحياة) فإنّ كلمة الله الساهر في الكتاب وفي الضمير، يُذكّرني بأنّ خبز الآخر بالنسبة إليّ هو أمرٌ روحيّ، فليس من المصادفة أن يكون الذهبيّ الفم اكتشف أنّ بعد سرّ الشكر هناك سرّ الآخر الذي يكمل سرّ المذبح، أي أنّ العمل من أجل سدّ حاجة الآخر هو متابعة للصلاة؛ فكيف له ألّا يكتشف ذلك وقد قال يسوع عن نفسه إنّه والمهمّشين والمحتاجين واحدٌ؟ المسيح هو هو على المذبح وفي جسد المهمّشين ودمهم، والكنيسة هي هي في يسوع الواحد فوق المذبح وفي المقهورين. من هنا أفهم قول أحدهم يومًا إنّه إن آمن بيسوع فلن يستطيع أن ينام؛ إنّ يسوع ذبحه الظلم وكسره التهميش منذ غرق العالم في العالم، ونسي الحاجة إلى الواحد. للمحللين الجيو-سياسيّين أن يخبروا ما يشاؤون عن حروب الناس على المصالح، وأن يصمتوا عن صراخ الضحايا، أو أن يدافعوا عن حتميّة وقوع ضحايا بريئين في معرض "الدفاع" عن الأمّة. أمّا من ركضوا خلف يسوع فلهم أن يبشّروا بأنّ كلّ وجه هو الكون كلّه، وأنّ الضحايا البريئين هم يسوع نفسه، وأنّه لا يجوز أن يُسَحَق الناس باسم أيّة أمّة وأيّ إيمان وأيّ دفاع عن أيّ صنمٍ بنته مجموعة بشريّة. أمام تبرير صلبِ الأبرياء لا يمكن لمن اتّبعوا يسوع سوى إدانة صلب الأبرياء، ولا يمكنهم إلّا أن يقولوا إنّ موت الأبرياء يدين أيّ انتصار، وأنّ يقولوا إنّ جوع الجائعين يدين حضارة الذين لا يأبهون لجوعهم، ويدين دياناتهم وإيديولوجيّاتهم. إنّ الإدانة لا تكفي، فخبزُ الآخر شأن روحيّ بالنسبة إلى من ترك قلبُه الأشياءَ للأشياءِ وتبع المعلّم. لا يمكن لمن يرى مدى الوحشيّة في النظام اللبنانيّ الذي يكشف عن وجهه البوليسيّ بشكل سافر اليوم، والذي يمعن في تمزيق أجساد الناس ونفوسهم، وفي تشويه الإيمان بأدوات الطائفيّة، وفي تجويع شعب كامل، إلّا أن يقوم بكلّ ما باستطاعته لكي يلتحق بصفوف المناضلين الشرفاء أيًّا كان دينهم وفلسفتهم، في مسيرة نضال لا عنفيّ، من أجل الدفاع عن خبز الآخر، من أجل الدفاع عن هذا العالم كهبةِ حياةٍ موجودة ليتشارك فيها الجميع. خبز الآخر يدفعنا إلى إحقاق الحقّ بواسطة العمل الجماعيّ من أجل إنهاء احتكار الخبز والحرّية، لمناهضة الذين ينهشون لحم هذا العالم ولحم الآخر. مَنْ اتّبع يسوع لا ينام قلبه، بل يحتجّ حتّى آخر رمق ضد الظالمين وأنظمتهم الجحيميّة، ولا يقول إنّ الحقّ والعدالة أمران مُرجآن إلى ما بعد الحياة لأنّه مكتوب أنّ الملكوت حاضر اليوم، وأنّ الله يعتمد علينا لنعمل معه من أجل إرساء الضوء في وجه الآخر وفي العلاقات البشريّة، من أجل إرساء تباشير الملكوت في لحم الآخر شَبعًا مادّيًّا ونفسيًّا وروحيًّا. قال يسوع لا يمكن أن تعبدوا ربّين الله والمال، ولو جاء اليوم لقال لا يمكنكم أن تعبدوا ربّين: الله وزعيمكم السياسيّ أو الدينيّ، إن عبدتم الله تنقلبْون عليهما لأنّهما ساهما ويساهمان في تجويع الآخر، وسحقه، ويحوّلان البلاد إلى مربّعِ قمعٍ بوليسيّ. في لبنان على الأقلّ لا يمكنك أن تقول: «لا أستطيع، سأصمت». خبز الآخر ودمه المسفوك في الشوارع وعلى بوّابات المستشفيات، ينادينا. دم الموجوعين يغنّي: «يا كوكب الصُّبح الـمُنير تعال». من يسمعون فليكونوا الجواب، ومن يعطشون فليأتوا معًا إليه، ومن يُريدون فليأخذوا من وجهه في الموجوعين ماء الحياة مجانًا. ومن أراد أن يشرب فليسهر، وليرفض أن يصمت، ولينتزع خبز الآخر من فم الوحش. خبز الآخر ينادينا: هل ننام أم لا ننام؟ الثلاثاء ٦ تمّوز/ يوليو ٢٠٢٠
خريستو المرّ من ناحية إنجيليّة مبدئيّة كلّ قتل لآخر هو شرّ، إذ أنّ هناك طعنة للأخوّة الإنسانيّة في كلّ قتل. من منطلق الدفاع الانجيليّ عن الحياة، قد يستطيع الإنسان تبرير قتل اضطراريّ كوسيلة أخيرةٍ دفاعًا عن حياة آخَر، ولربّما استطاع أن يبرّره دفاعًا عن حياته. أمّا القتل لغير الدفاع عن الحياة فهو نزول في بحر من ظلام مهما برّره الإنسان. عقوبة الإعدام هي قتلٌ غير اضطراريّ مُبَرَّر اجتماعيًّا؛ وللمجتمع أن يختار خيارات وحشيّة ويبرّرها كما يشاء، ولن تجعل التبريرات الظلمة نورًا. كندا نزعت أولاد السكّان الأصليّين من أهاليهم ووضعتهم جَبْرًا في مدارس داخليّة مسيحيّة لكي تُنسيهم ثقافاتهم ولغاتهم، أرادت أن تمسح الألوان من مجتمعها، لكن كيف يُمحى لون الألم والدم في الخلفيّة، وكيف يُبَرَّر؟ القتل، إذًا، ليس جسديًّا دائمًا. في الثقافة، القتل هو محاولة إلغاءِ طريقةِ حياة، هو قتلٌ معنويٌّ. القاتل المعنويّ يرى الآخر أقلّ منه في الإنسانيّة، ولكنّه لا يحتمل وجوده ويريده أن يزول بتحويله إلى شبهه، وذلك بإلغاء ثقافته أو ابتلاعها، وبتهميشه في بُقعٍ جغرافية معزولة لإخفائه واستغلاله. هذا المنحى يتضاعف إن كان القاتل وجماعته قد تلطّخت أيديهم بدماء الآخرين في مجازر جماعيّة بقيت من دون عقاب، ذلك أنّ وجود الآخر تذكير دائم بالجريمة الأولى. على الآخر أن ينتفي لتُنسى الجريمة الأولى، وإلغاء الآخر المعنويّ وإخفاءه عن مجرى الحياة العامّة يصبح حاجةً من أجل نكرانٍ سحريٍّ للجريمة. هذا، مثلاً، يفسّر جزئيّا القتل المتعَمَّد وسياسات الإلغاء التي يمارسها المشروعُ الكولونياليّ الأخيرُ على وجه الأرض (المشروع الصهيونيّ) بحقّ الشعب الفلسطينيّ، بعد جريمته الأولى بحقّ هذا الشعبَ. في النهاية القاتل المعنويّ لا يرى إلّا نفسه وجماعته ولا يحتمل الغيريّة. في العمق يرى جماعته صنمًا يُعْبَد وكلَّ اختلافٍ تحدًّيا لوجوده ونظرته الوهميّة إلى نفسه ككمال، أو كضحيّة كاملة. لهذا المتديّنون سطحيًّا يحاولون ممارسة القتل الجسديّ والمعنويّ مع كلّ مختلف عنهم، فالأنا التي ترى ذاتها إلهًا قاتلةٌ للمختلف، والأنا التي تقتل تحاول لبسَ لباسِ ألوهة مشوّهة. على الصعيد السياسيّ، القتل المعنويّ يُتَرجَمُ سياسيًّا لعبةَ تخوينٍ تريد أن تُخرس العقل، وأن تحجب النقد عن خيارات سياسيّة تحتمل الخطأ والصواب، وخاضعة بالضرورة للمساءلة. والتخوين محاولة قتل معنويّ تهدف العزل والإضعاف، تستخدمها الأطراف جميعها ضدّ بعضها البعض في مشروع السطو المشترك على السلطة والمال، ويستخدمونها جميعًا ضدّ الشعب إن انتفض ضدّهم حتّى يستقرّ لهم توازن السطو على الغنائم، وتوازنهم هو انعدام توازن حقيقيّ بالنسبة إلى حياة الناس وطعامهم وأمانهم. على الصعيد الفرديّ لا يرتضي البعض الاختلاف والتنوّع ويستاؤون لالتماعِ إنسان آخَرَ، فيسعون إلى تشويه السمعة، وهذه الأخيرة محاولةُ قتلٍ معنويّ يسعى بها القاتل أن يعزل الآخر، ويضيّق عليه فسحة تنفّسه الاجتماعيّ الضروريّة للحياة، علّه يختنق معنويّا، أو علّ تأثيره في الحياة يخبو. وفشل عمليّة القتل المعنويّ جحيمُ القاتل. أمّا على صعيد الجماعات، فالجماعات التي تحوّلت قبائلَ بفعل قمع التنوّع أو تهميشه وعزله، تحاول قتل الأشخاص معنويّا، فتُخرج منها كلّ مختلفٍ عن "الفكر الواحد"، تعزله كي لا ترى كلماتُه النورَ، أو كي لا ترى القبيلةُ نور كلماته. وبهذا تترك نفسها غارقة في عاداتها التي لم تعد في وئام مع الأزمنة، فلا تتجدّد. وفجأة تجد الجماعات نفسها خارج التاريخ بعدما كانت تعكس النور. حكايتنا مع النور ليس قبضًا عليه، هي ديناميّة تحوّل. لا يضمن البقاء في النور إلاّ أن تدخل معه في حوار ومساءلة، شخصيّة وجماعيّة، كي تستضيء وتضيء، وتتجاوز ما رأيته لترى أبعد، وتبقى مُرهفًا لتصغي لأضوائه الجديدة. لكنّ الخوف قد يدعوك للجمود فتستلذّ الماضي لأنّه معروف وأسهل، ويصبح الماضي صنمًا والكلمات جوفاء. ويمكن دائما كسر الأصنام لتتجدّد الحياة وتتأجّج الكلمات. ديناميّة المسير في النور صعبة، ولهذا قال يسوع إنّ الدينونة هي أنّ "النور جاء إلى العالم وأحبّ الناس الظلمة أكثر من النور". الإنسان يدين نفسه، ولا يشرب من نهر النور المتلألئ إلاّ من خرجوا من ظلمات عبادة الذات الفرديّة والجماعيّة، لكي تلفح وجوههم الحياةُ المتأجّجة في شمس الرحلة. |
الكاتبخريستو المر الأرشيف
December 2023
Categories |