خريستو المرّ
الثلاثاء 8 كانون أوّل/ديسمبر 2020 لولا الفنّ لما كان هذا العالم المأساويّ مُحتملاً. الفنّ محاولة مفرحة ومأساويّة لاختراق العاديّ. كلّ فنّ يسعى في العمق إلى إعادة تشكيل الواقع، إلى خلقه بشكل جديد فاتن ومدهش. حتّى ولو نظرنا إلى فنّ كالطبخ نجده محاولةً لخلق جمال ودهشة ينتظرها معدّ الطعام من عيون ضيوفه. في العمق، الدهشة التي تطلّ بنا إلى عالم آخر هي ما يحرّك الفنّانة والفنّان كما والمتلقّي الذي يعيد خلق القطعة الفنّية بتفاعله معها بشكل فريد خاص به. ولا شكّ أيضًا أنّ الفنّ سبيلٌ إلى القلوب، جسرُ الفنّان إلى نفسه وجسره إلى العالم؛ وقد يكون اللقاءُ هو المسعى الأخير للفنّان حين يجمع الفنُّ الفنّان بنفسه، ويجمع الآخرين والعالمَ بنفس الفنّان، ويجمع الفنّان بهم. فبالفنّ يفتح الفنّان كوّة في العاديّ ليلتقي هو والآخرون من خلالها بأنفسهم في تناقضاتها وتوقها، وبذلك يتحوّل النتاج الفنّيّ إلى مساحة لقاء، وتتحوّل القطعة الفنّية الواحدة إلى قطعٍ عديدة متشابهة ومختلفة، متقاطعة وفريدة، بحسب ما يعيش كلّ شخص من خلالها. بشبه أعجوبة، يجمع الفنُّ جميع المحتفلين بلقاء ذواتهم حول مائدة البهاء، يجمعهم ببعضهم البعض في بحثهم المأساويّ إلى تجاوز الواقع والاتّحاد مجدّدا بما ضاع من أنفسهم خلال تفاصيل الحياة، ليمشوا قُدُمًا. في كلّ هذا، الفنّان خالقٌ على صورة الخالق، وفي مسيرة خلقه يتحوّل إلى والد لعالم جديد من الألق والفرح والمأساة. بالفنّ يجبل الفنّان العالم من جديد كلّما أطلّ إنسان بواسطة الفنّ إلى بئر ذاته وما ينام فيها من ضياء وحنين. يُزَيّن لي أنّ الله هو إلى حدّ كبير الفنّان الأوّل، الذي اخترق العاديّ-الأبديّ ليخلق هذا العالم فيصبح العالمُ جسرَ دهشةٍ أمام الإنسان ليلاقي نفسه في حنينها الأصيل، ويطلّ بذلك إلى عالم أبعد ويتجاوز واقعه المأساويّ كمخلوق محدود يتوق إلى اللامحدود. وكأنّ الله يجمعُ بفعلِ الخلقِ جميعَ المحتفلين بلقاء ذواتهم بهذا العالم، يجمعهم حولَ مائدة البهاء الأبديّ في العاديّ، أثناء رحلة بحثهم عمّا ضاع من أنفسهم في تفاصيل الحياة اليوميّة؛ يجمعهم قُدُمًا وينتظر أن يكون كلّ واحد منهم خالقًا على شبهه، فيجبل معهم هذا العالم من جديد. هذا ليس التوبة، هذا مكمّل للتوبة. هذه الرؤية هي حلقة مفقودة في معنى الحياة الإيمانيّة كما تعكسها التربية الدينيّة التقليديّة. التوبة عن الخطايا (أي تغيير طريقة الحياة لتصبح محبّة) لها مكانة الصدارة في الإيمان المسيحيّ، ولكنْ بقطع التوبة عن مفاعيلها الملموسة الأرضيّة نفرّغ التوبة من مضمونها. فبدون العمل الأرضيّ الملموس تتحوّل التوبة إلى مسعى لخلاص فرديّ أو جماعيّ منفصل عن العالم، ويغدو التألّه (الحياة في وحدة مع الله) مشروعًا لا علاقة له بهذا العالم. لكنّ الخلاص الذي أتي به المسيح الذي نحتفل بميلاده قريبا، لا يهدف فقط إلى فتح باب التوبة للإنسان، بل يتطلّب عملاً خلاّقًا كجواب على عمل الله الخالق. "كلّ إيمان بلا أعمال مائت" وعمل الله الأساس هو فعل الخلق الذي يتابعه كلّ لحظة ("أبي إلى الآن يعمل"). إنّ الخلاص الذي أتى به المسيح يكمن في تحرير الحرّية الإنسانيّة من الضياع، لكن كلّ حرّية لا يمكن أن تصير معنى إلاّ إذا اتّجهت نحو تحقيق مشروع. المسيح حرّرني، حسنا، إذًا ماذا سيكون جوابي؟ ماذا سأفعل أنا بحرّيتي؟ وماذا سنفعل معًا بهذه الحرّية؟ لقد ترك الله مسألة الإجابة عن هذا السؤال لنا، لكلّ واحد منّا ولكلّنا معًا. الجواب هو مسؤوليّة شخصيّة وجماعيّة تقع على عاتقنا. لقد الله خلق هذا العالم قطعة فنّية، ويريد أن يخلق ويشكّل هذا العالم معنا، له ريشته ولنا ريشتنا، وينتظر منّا أن نمدّ ألواننا فوق قماشة هذا الكون لنكمّل اللوحة. يقول الإنجيل أنّه عندما صعد يسوع إلى السماء شَخَصَ التلاميذ بأنظارهم إلى السماء، وعندها رجلان بلباس بيضٍ قالا لهم "ما بالكم واقفين تنظرون إلى السماء؟ إنّ يسوع هذا الذي ارتفع عنكم إلى السماء سيأتي هكذا كما رأيتموه منطلقًا إلى السماء"، أي أنّ يسوع أتمّ مهمّته بينكم، أضاف ألوانه في لوحة هذا العالم، لقد فتح لكم باب تحرير حرّيتكم من الضياع، دلّكم على وجهة تحقيق توقكم العميق كي تكونوا آلهة، والآن أتى دوركم، عيونكم الآن ينبغي أن تعود إلى الأرض كي تضيفوا إلى لوحة الخلق ألوانكم. عملكم الآن ليس في حنين إلى عودة يسوع، بل في العمل معه، مع روحه الذي يرسله إليكم؛ غيّروا طريقة حياتكم، ولكن.... أيضًا..... اعملوا أن تكونوا مثله، أن تصقلوا موهبة الفِعل الحرّ، موهبة الإبداع الخالق التي فيكم والتي تجعلكم على شبهه. التوبة ليست من صورة الله في الإنسان، بينما القدرة على الخلق هي من هذه الصورة. الله أحبّنا فأظهر نفسه في حقيقته لنا؛ الآن، دورنا أن نجيب محبّتَه بأن نصير أنفسنا في بهائها الخالق. هكذا يكون هذا العالم لقاء دائم بيننا وبينه. الله آمن بنا كبشر فتجسّد وصار مثلنا، يبقى أن نؤمن به ونكون مثله: مبدعين في الحياة العاديّة. هذا أيضًا فعل محبّة وجواب على محبّة الله "الذي أحبّنا أولاً". الخلاص الذي أتى به يسوع فتح باب القدرة على الحياة الحقّة، جوابنا لا يمكن فقط في التوبة، وإّنما في أن نحيا هذه الحياة ونصير كلمات إلهيّة حرّة مبدعة. لا شكّ أنّ المحبّة التي نحبّ بها بعضنا بعضا هي أيضًا جواب خلّاق على هبة الحبّ الإلهيّ المجانيّة، جواب حقيقيّ مبدع، فتحقيق المحبّة في العلاقات الشخصيّة كما وفي بُنى المجتمع يتطلّب فعلاً خلاّقا لابتكار بُنى حياة ومشاركة كي لا يقع العالم، ونقع، في فم الموت. الحياة الإيمانيّة لا تختصرها التوبة. فنّ التوبة وفنّ الفِعل الخلّاق الحرّ هُما حبٌّ خلّاق، هما جناحا الحياة الروحيّة؛ وقد يكون هناك أجنحةٌ كثيرة. Comments are closed.
|
الكاتبخريستو المر الأرشيف
December 2023
Categories |