خريستو المرّ
الثلاثاء ١٥ كانون أوّل/ديسمبر 2020 هناك كلمات تتردّد في بعض الكتابات وخاصّة العظات، تنظر نظرة سلبيّة إلى هذا العالم "السيّء" والـ"باطل"، وتدعو للابتعاد عن "المادّيات" و"الملذّات" لأنّها تُبعدُ الإنسان عن الله نبع الوجود بل "الأسمى" من الوجود المخلوق، ولذلك علينا أن نرتفع عن الحياة "الأرضيّة" ونتمسّك بتلك "السماويّة". هذه التعابير على "روحانيّتها" الظاهرة، معاكسةٌ لكلّ رسالة يسوع المسيح، وهي صادمة في ديانة قائمة على التجسّد. ويبدو لي أنّها كثيرا ما تُستَخدَم في العظات لكثرة تكرارها دون يبذل الواعظون جهدًا كافيًا لمقارنتها برسالة يسوع وبالعقائد. صحيح أنّ اللقاء المحبّ بالله - أو بتعبير آخر التألّه - هو هدف الحياة الإنسانيّة لأنّه يحقّق فرح الإنسان، ويتجاوب مع توقه العميق لتحقيق إنسانيّته، ولكنّ السؤال الأساس هو أنْ كيف يتمّ هذا اللقاء؟ هذا اللقاء يتمّ في العالم. عندما صلّى يسوع إلى الآب قال أنّه لا يدعو لتلاميذه أن يخرجوا من العالم بل أن يُحفَظوا من الشرّير؛ وعندما تكّلم عن ملكوت السماوات جعل من المشاركة على هذه الأرض (إطعام الجياع، إيواء الغرباء...) معيارًا لدخول الملكوت. هذا يعني أنّ الملكوت يبدأ هنا، من طريقة حياتنا هنا على هذه الأرض؛ ولهذا فحياتنا هنا لها كلّ الأهمّية، ونوعيّة علاقاتنا هنا مع الناس والخليقة لها كلّ الأهمّية، فهي المعيار الذي نقيس به مدى عمق او ضحالة علاقتنا بالله. هذا العالم المادّي له كلّ الأهمّية. بالطبع العالم مليء بالتجارب، ولكن هذا ليس مدعاة للوقوف من العالم موقفا سلبيّا، بحيث نقبله كأنّما على مضض؛ كلام يسوع دعوة كي نقف من العالم موقفا واعيًا مسؤولًا نُمَيِّز فيه ما هو الجيّد وما هو السيّء، موقفًا فاعلاً نعمل فيه، مع الله، على متابعة بناء هذا العالم حتّى يتجلّى (كما تجلّى يسوع على الجبل)، حتّى تتلألأ فيه -قدر الممكن وضمن محدوديّات العالم- أنوارُ الله، أنوارُ الحبّ، في الطبيعةِ وفي العلاقات الإنسانيّة، في البنى السياسيّة والاقتصاديّة كلّما باتت أكثر عدلاً ومُشاركة، في البنى التربويّة كلّما باتت أكثر تنمية لقدرات الحبّ والحرّية في الإنسان، في كلّ أبعاد هذا العالم كلّما حاصَرْنا فيها "عشق الذات" الأنانيّ ووسّعنا مساحات اللقاء والمشاركة. هناك ضرورة للتمييز بين ما هو مناسب لنموّ الفرح في الحياة وما هو غير مناسب لذلك، ولكن هذا أمرٌ بعيد كلّ البعد عن فكرة الابتعاد عن "المادّيات" و"الملذّات"، كأنّ هذه سيّئة بحدّ ذاتها. هذا خطأ كبير، لا يوجد أيّ جانب من جوانب الواقع المخلوق يمكن أن ننظر إليه وكأنّه منفصل عن القوى الإلهيّة غير المخلوقة، عن حضور الله. المادة المخلوقة تدين بوجودها إلى القوى الإلهيّة غير المخلوقة التي منحتها مادّيتها، الإنسان بكلّيته هبة إلهيّة (أمّا الشرّ فهو غير مخلوق، الشرّ هو نتيجة انعدام المحبّة). قال يسوع "جئتُ لتكون لكم الحياة وتكون أوفر"، كلمات يسوع لا تعني أنّه جاء لتكون لنا حياة حقيقيّة غير هذه الوهميّة، بل جاء لتكون لنا طريقة علاقات محبّة ومُشاركة لكي تتلألأ هذه الحياة بالفرح. كانت الأفلاطونيّة تكره الجسد وتراه قبرًا، وكانت المانويّة ترى المادة والجسد شرًّا؛ لا ينتبه المسيحيّون أنّهم يُعرِضون عن المسيح ويتبنّون تلك الفلسفات حين يتحدّثون بعبارات الاحتقار للمادة وللذّات. هذا العالم الماديّ -ونحن منه- هو هبة إلهيّة، والمادة واللذّات ليست أشياء سلبيّة، هي هبات من الله أيضًا. ليس من أمر سيّء في المادّيات واللذّات بحدّ ذاتها، فمقياس الخبرة الجيّدة والسيّئة من المنظور المسيحيّ هو مدى توافق تلك الخبرة أو تعارضها مع المحبّة، لهذا قال القدّيس أغسطينوس: "أحْبِبْ وافعلْ ما تشاء"، إذ عندها تكون المشيئة نورًا. اللذة حين تنبع من الحبّ واللقاء والمشاركة هي تذوّقٌ لفرحٍ سماويٍّ؛ فحتّى في الصلاة نخاطب يسوع ونتكلّم عن "اللذة التي لا نهايةَ لها" في الملكوت، "لذّة المشاهدين جمال وجهك". فلنحيا، ولنحبّ، ولنفرح، ولنتلذّذ، فكلّ لذّة في المحبّة، في هذا العالم المادّي الجميل، هي لذّةٌ روحيّة، تذوّق مُسبَق للذّة التي لا نهايةَ لها، عيدٌ إنسانيّ-إلهيّ، ومشاركةٌ منذ اليوم في رقصة الحبّ الإلهيّ أو هي ولادةٌ في مِذوده. Comments are closed.
|
الكاتبخريستو المر الأرشيف
December 2023
Categories |