خريستو المرّ
الثلاثاء ١٧ آب / أغسطس ٢٠٢١ لا كلام ليصف الضحية. لا كلام. لا كلام ليصف الأجساد المشتعلة. لا كلام. لا كلام ليصف خطوط الذلّ الطويلة أمام محطّات الوقود. لا كلام. لا كلام ليصف القلق من عدم توفّر الأدوية التي تناقصت في المنازل. لا كلام. لا كلام ليصف الخوف من المرض. لا كلام. لا كلام ليشرح لهفة وَلَدَيْن أعطتهما أمّهما خبزًا حافيًا ليلتهماه فورًا. لا كلام. لا كلام ليشرح وجع الأمس، لا كلام لينقل يأس اليوم، لا كلام ليغنّي موت الغد. لا كلام في السجن الكبير. لا كلام. وفي ظلّ التفتيت السياسيّ الاقتصاديّ الاجتماعيّ، يتفتّت الوقت إلى نُتَفٍ متناثرة كلّ واحدة منها مرتبطة بالبحث عن قضاء إحدى الحاجات الأساس؛ وفي الآن عينه تندمج تلك النتف لتتّخذ شكل نفقٍ لكابوسٍ كأنّ لا نهاية له. وفي وسط الدمار الكبير يبحث الإنسان عن قدرة على الفعل، ويشعر بانعدامها. لكنّ هذا الواقع ليس قدرًا، هو أساسًا نتيجة استقالتنا من الفعل السياسيّ وتسليم الكثيرين إرادتهم لهؤلاء القتلة. وبالعكس، فإنّ انتظامنا في عمل جماعيّ - وهو أمر صعب وليس مستحيلًا – يعطينا القدرة كي نقف من جديد بوجه هؤلاء القتلة الذين من خوفهم من اجتماعنا يتابعون تفتيت البلاد ويتابعون القتل ويتابعون إلهاءَنا بتأمين الحاجات الأساس ليخلو لهم الطريق أمام نهبهم للدولة، مع حفنة قطّاع الطرق الجالسين في مجالس إدارة المصارف والمصرف المركزيّ، وهم يصولون أمام الكاميرات ويصمتون صاغرين راكعين أمام رُعاتهم الخارجيّين من عرب، وفرس، وأميركيّين، وأوروبيّين. كانت جولة ١٧ تشرين ٢٠١٩ جيّدة جدّا في تثبيت الشعور بالقدرة الشعبيّة، وفي إسقاط هالة شبه القداسة والتأليه لهؤلاء القتلة. ما لم يحدث هو اجتماع على برنامج سياسيّ. العمل الجماعيّ الواسع هو المفتاح. ما يُضعف صوت العقل الذي نراه بوضوح في عدّة مجموعات، ما يُضعف تحوّله اليوم إلى فعلٍ وازنٍ ومنقذ، هو فشل هذه المجموعات حتّى الساعة في تكوين جبهة واحدة يجتمع عليها الناس كبديل. دون بديل لا يمكن للإرادات الفرديّة أن تجتمع، للناس أن ينخرطوا في عمل تحريريّ، مهما كانوا عديدين، وحتّى ولو كانوا أكثريّة. تلك المجموعات التي تأخّرت كثيرا في تكوين جبهة واحدة تتحمّل مسؤوليّة تأخّر ظهور البديل، لا يكفي أن تحمل كلّ واحدة منها صوت العقل. الفعل الجماعيّ يحتاج لخطوات أخرى غير سلامة الحجّة. بالنسبة للمتديّنين، لا شيء أكثر إثارة للغثيان من نفاق رجل دين يدّعي الدفاع عن المظلومين وهو مجاهر بحماية الظالمين. هؤلاء قتلة أيضًا. أمّا المسيحيّون فيؤلمني بينهم اللاهثون وراء أحزاب تتدثّر بالمسيحيّة وهي في عمقها عنصريّة، ومشاركة في تدمير البلاد بالأمس واليوم. كيف يتّفق عند إنسان «إيمانه» بإله محبّة وعدل ورحمة وهو يلهث وراء سفّاح وخبيث وناهب؟ هذه الملاحظة المؤلمة تنسحب على المسلمين أيضًا. كلّ عابدٍ لقاتل يقنع نفسه أنّ قاتله قدّيس، وأنّه لا خيار آخر أمام القاتل لأنّ الآخرين لا يتركون له خيارًا آخر، وأنّ القاتل-القدّيس غير قادر على تغيير كلّ شيء لوحده، وأنّ البديل عن القتل الذي يمارسه هو أكثر سوءًا من القتل، أو هو قتل أوسع. في النهاية المدافعون عن الزعيم القاتل-القدّيس يخيّرونك بين القتل والقتل الأوسع، بين القتل البطيء والقتل السريع! الأتباع باتوا لا يحلمون بالحرّية، وأسوأهم الذين يعيشون في بلاد الغرب حيث يتمتّعون بالحرّية والبحبوحة، ولكن لا يرون بدًّا من أن يُمنَعَ أهاليهم عنهما في لبنان (وسوريا). إنّ صورة النوّاب المنتمين لكلّ الأحزاب، والمجتمعين لحماية المصارف من الخسارة في لجنة المال في مجلس النوّاب، تلك الصورة التي يجب أن نحفرها في قلوبنا وأذهاننا ونذكرها دائمًا، تكذّب فكرة أنّ بعض القتلة-القدّيسين مغلوب على أمرهم، وأنّهم ليسوا بشركاء في الفساد. الكلّ شركاء في الفساد القاتل. وما المهرجانات الخطابيّة حول القصاص، والتي يحسنها الجميع، إلّا كلام موجّه للأتباع حصرًا لكي يبقوا على قناعة مستمرّة بأنّ زعيمهم القاتل قدّيس! هؤلاء قتلة ليس فقط لأنّهم مارسوا القتل يومًا، ولكن لأنّهم يمارسونه اليوم، كلّ يوم. يمارسون القتل مع كلّ مريضٍ لا يجد علاجًا، مع كلّ جائع تتدهور صحّته، مع كلّ طالبٍ لا يستطيع أن يتابع تعليمه، مع كلّ إنسان لا يجد عملًا، مع كلّ خائف من الغد، مع طوابير المنتظرين في الطرقات طوال الليل للحصول على جوازات السفر، مع العيون المنتظرة عودة الماء الهارب، مع النفوس التائهة أمام صمت الكهرباء، مع الناس المختنقة من القلق الذي تغرق فيه البلاد. في هذه المذبحة اليوميّة قد لا تسقط فيها الدماء والأجساد يوميًّا، ولكن تسط فيها النفوس؛ ولسقوط النفوس المضرّجة بأنينها ويأسها وخوفها وقعٌ لا تسمعه إلّا القلوب التي شفّت، وصارت كقلب أمٍّ أو إله، ولهذا يمكنها أن تحكم بلاد. فلتجتمع تلك القلوب على برنامج وطنيّ جامع، تلك القلوب هي الشرعيّة. الضحيّة القادرة خريستو المرّ، الثلاثاء ١٧ آب / أغسطس ٢٠٢١ ----- لا كلام ليصف الضحية. لا كلام. لا كلام ليصف الأجساد المشتعلة. لا كلام. لا كلام ليصف خطوط الذلّ الطويلة أمام محطّات الوقود. لا كلام. لا كلام ليصف القلق من عدم توفّر الأدوية التي تناقصت في المنازل. لا كلام. لا كلام ليصف الخوف من المرض. لا كلام. لا كلام ليشرح لهفة وَلَدَيْن أعطتهما أمّهما خبزًا حافيًا ليلتهماه فورًا. لا كلام. لا كلام ليشرح وجع الأمس، لا كلام لينقل يأس اليوم، لا كلام ليغنّي موت الغد. لا كلام في السجن الكبير. لا كلام. وفي ظلّ التفتيت السياسيّ الاقتصاديّ الاجتماعيّ، يتفتّت الوقت إلى نُتَفٍ متناثرة كلّ واحدة منها مرتبطة بالبحث عن قضاء إحدى الحاجات الأساس؛ وفي الآن عينه تندمج تلك النتف لتتّخذ شكل نفقٍ لكابوسٍ كأنّ لا نهاية له. وفي وسط الدمار الكبير يبحث الإنسان عن قدرة على الفعل، ويشعر بانعدامها. لكنّ هذا الواقع ليس قدرًا، هو أساسًا نتيجة استقالتنا من الفعل السياسيّ وتسليم الكثيرين إرادتهم لهؤلاء القتلة. وبالعكس، فإنّ انتظامنا في عمل جماعيّ - وهو أمر صعب وليس مستحيلًا – يعطينا القدرة كي نقف من جديد بوجه هؤلاء القتلة الذين من خوفهم من اجتماعنا يتابعون تفتيت البلاد ويتابعون القتل ويتابعون إلهاءَنا بتأمين الحاجات الأساس ليخلو لهم الطريق أمام نهبهم للدولة، مع حفنة قطّاع الطرق الجالسين في مجالس إدارة المصارف والمصرف المركزيّ، وهم يصولون أمام الكاميرات ويصمتون صاغرين راكعين أمام رُعاتهم الخارجيّين من عرب، وفرس، وأميركيّين، وأوروبيّين. كانت جولة ١٧ تشرين ٢٠١٩ جيّدة جدّا في تثبيت الشعور بالقدرة الشعبيّة، وفي إسقاط هالة شبه القداسة والتأليه لهؤلاء القتلة. ما لم يحدث هو اجتماع على برنامج سياسيّ. العمل الجماعيّ الواسع هو المفتاح. ما يُضعف صوت العقل الذي نراه بوضوح في عدّة مجموعات، ما يُضعف تحوّله اليوم إلى فعلٍ وازنٍ ومنقذ، هو فشل هذه المجموعات حتّى الساعة في تكوين جبهة واحدة يجتمع عليها الناس كبديل. دون بديل لا يمكن للإرادات الفرديّة أن تجتمع، للناس أن ينخرطوا في عمل تحريريّ، مهما كانوا عديدين، وحتّى ولو كانوا أكثريّة. تلك المجموعات التي تأخّرت كثيرا في تكوين جبهة واحدة تتحمّل مسؤوليّة تأخّر ظهور البديل، لا يكفي أن تحمل كلّ واحدة منها صوت العقل. الفعل الجماعيّ يحتاج لخطوات أخرى غير سلامة الحجّة. بالنسبة للمتديّنين، لا شيء أكثر إثارة للغثيان من نفاق رجل دين يدّعي الدفاع عن المظلومين وهو مجاهر بحامية الظالمين. هؤلاء قتلة أيضًا. أمّا المسيحيّون فيؤلمني بينهم اللاهثون وراء أحزاب تتدثّر بالمسيحيّة وهي في عمقها عنصريّة، ومشاركة في تدمير البلاد بالأمس واليوم. كيف يتّفق عند إنسان «إيمانه» بإله محبّة وعدل ورحمة وهو يلهث وراء سفّاح وخبيث وناهب؟ هذه الملاحظة المؤلمة تنسحب على المسلمين أيضًا. كلّ عابدٍ لقاتل يقنع نفسه أنّ قاتله قدّيس، وأنّه لا خيار آخر أمام القاتل لأنّ الآخرين لا يتركون له خيارًا آخر، وأنّ القاتل-القدّيس غير قادر على تغيير كلّ شيء لوحده، وأنّ البديل عن القتل الذي يمارسه هو أكثر سوءًا من القتل، أو هو قتل أوسع. في النهاية المدافعون عن الزعيم القاتل-القدّيس يخيّرونك بين القتل والقتل الأوسع، بين القتل البطيء والقتل السريع! الأتباع باتوا لا يحلمون بالحرّية، وأسوأهم الذين يعيشون في بلاد الغرب حيث يتمتّعون بالحرّية والبحبوحة، ولكن لا يرون بدًّا من أن يُمنَعَ أهاليهم عنهما في لبنان (وسوريا). إنّ صورة النوّاب المنتمين لكلّ الأحزاب، والمجتمعين لحماية المصارف من الخسارة في لجنة المال في مجلس النوّاب، تلك الصورة التي يجب أن نحفرها في قلوبنا وأذهاننا ونذكرها دائمًا، تكذّب فكرة أنّ بعض القتلة-القدّيسين مغلوب على أمرهم، وأنّهم ليسوا بشركاء في الفساد. الكلّ شركاء في الفساد القاتل. وما المهرجانات الخطابيّة حول القصاص، والتي يحسنها الجميع، إلّا كلام موجّه للأتباع حصرًا لكي يبقوا على قناعة مستمرّة بأنّ زعيمهم القاتل قدّيس! هؤلاء قتلة ليس فقط لأنّهم مارسوا القتل يومًا، ولكن لأنّهم يمارسونه اليوم، كلّ يوم. يمارسون القتل مع كلّ مريضٍ لا يجد علاجًا، مع كلّ جائع تتدهور صحّته، مع كلّ طالبٍ لا يستطيع أن يتابع تعليمه، مع كلّ إنسان لا يجد عملًا، مع كلّ خائف من الغد، مع طوابير المنتظرين في الطرقات طوال الليل للحصول على جوازات السفر، مع العيون المنتظرة عودة الماء الهارب، مع النفوس التائهة أمام صمت الكهرباء، مع الناس المختنقة من القلق الذي تغرق فيه البلاد. في هذه المذبحة اليوميّة قد لا تسقط فيها الدماء والأجساد يوميًّا، ولكن تسقط فيها النفوس؛ ولسقوط النفوس المضرّجة بأنينها ويأسها وخوفها وقعٌ لا تسمعه إلّا القلوب التي شفّت، وصارت كقلب أمٍّ أو إله، ولهذا يمكنها أن تحكم بلاد. فلتجتمع تلك القلوب على برنامج وطنيّ جامع، تلك القلوب هي الشرعيّة. Comments are closed.
|
الكاتبخريستو المر الأرشيف
December 2023
Categories |