الثلاثاء 21 تمّوز / يوليو ٢٠٢٠
خريستو المرّ الخوف من أنفسنا، والخوف من العالم خوفان يتجسّدان في مواقف عدّيدة. أهمّها، ربّما، في فكر يرى الوجود مفصولًا بين عالم المادّة الشرّير وعالم "الروح" الجيّد. إن تُبنا عن هذين الخوفين تتجدّد عيون قلوبنا لنرى حقيقة يسوع البسيطة: هذا العالم جميلٌ ومحبوبٌ من الله. الإنجيل، ومجمل التراث في صفائه (أقول في صفائه لأنّه ليس خاليًا من إسقاطات النفس البشريّة) يحمل طابع المحبّة، ويرى العالم بمادّته محبوبًا من الله لدرجة التجسّد. موقف الحبّ هذا هو الأساس، ولا يمكن لأيّ تفسير أن ينزع الـمُعطى الأساس في المسيحيّة، ألا وهو أنّ الإله صار إنسانًا من مادّة هذا العالم، وعاش كإنسان في هذا العالم، وأحبّ هذا العالم حتّى بذل نفسه لأجله. فكرة مكسيموس بأنّ كلّ شيء، وكلّ شخص، يحمل ختم «الفكرة» أو «الإرادة» الإلهيّة الخالقة التي تخلقه وتجذبه إلى الخالق هي فكرة بديعة. من تبعات هذه الفكرة أقول بكلماتي، إنّ الإنسان مهما تشوّه وكان مكسورًا وناقصًا، وحتّى في ضلالة نفسه، يبقى مشدودًا إلى رغبته الأصليّة بأن يكون واحدًا مع الآخرين، ومع الله ذاك الآخر الـمُطلق. بمعنًى آخر، تبقى صورة الله في الإنسان مشدودةً نحو تحقيق المثال الإلهيّ. هناك تعابير كتابيّة مختلفة تعبّر، من جملة ما تعبّر، عن تلك الحاجة الأساس إلى أمر واحد: أن يكون الإنسان مع آخر دون أن يخسر أيّ منهما ذاته. إنّ تحقيق هذه الحاجة، هذا التوق، هذا الانشداد، يكمن في ما ندعوه: محبّة. أن أكون موجودًا بالفعل هو أن أكون في علاقة محبّة. لكنّ المحبّة تتحقّق ولا تتحقّق، فهي تبقى أمامنا بحيث أنّنا نبلغها ولا نبلغها. يبقى تحقيقها مكسورًا لأسباب عديدة، منها على الأقلّ انكفاء الإنسان عن مسعى الوحدة من وقت لآخر. الفرق بين المؤمن، ومن لا يؤمن في هذا المجال، هو أنّ الاثنين يلاحظان ذلك، ولكن بينما أحدهما يقول إنّ هذا هو الواقع البشريّ، يتابع الآخر بأنّ هذا التوق والنقصان إشارة إلى أفق يشدّنا، إلى كمال محبّة ينادينا، إلى آخرَ أبعدَ منّا، يتحقّق فيه التوق اللامتناهي إلى الوحدة. في الفرح الذي يتذوّقه المحبّون في كلّ محبّة، طعمٌ يكاد يكون ليس من هذا العالم. في وليمة المحبّة تتجلّى دائمًا وليمةٌ أكمل. وهنا خبرة الحبّ نموذجيّةٌ، إنسانان يريدان أن يكونا أقرب ما يكونان من الآخر دون أن يفقد أحدهما نفسه، وفي لحظة قصيدة العشق الخالص التي تُغنّى بكلمات جسديهما يبلغان قمم الوحدة والفرح، ومن هناك يريان المسافة القائمة بين وليمة الضوء الذي يتجلّى في الوجهين وفي ما بينهما من بلاد، وبين انحسارٍ في الاحتفال. بعد الاحتفال كلّ مُحبٍّ حنينٌ. يعود بنا فيروس كورونا بشدّة إلى الحاجة الأساس: الآخر، العلاقة مع الآخر. في شدّة الحرمان من اللقاء، كان – وما يزال- أمامنا فرصة إعادة اكتشاف ما أكّدته المبادئ الإيمانيّة والإنسانيّة (ومنها إلحاديّة) مرارًا: الوجود يُختَبَرُ في علاقات محبّة، الوجود يُختَبَرُ في علاقة حبّ. المسيحيّة عبّرت بطريقتها: الله محبّة، والإنسان على "صورة" الله و"مثاله" مفطورٌ على المحبّة، كطاقة تحتاج أن تنمو طوال العمر بخبرة حرّة، بطريقة حياة (tropos بلغة مكسيموس) حرّة؛ وما الملكوت في النهاية سوى ملكوت المحبّة. عندما قال يسوع لمرتا وكانت مشغولة بعملها اليوميّ "مرتا مرتا إنّك تهتمّين لأمور كثيرةٍ وإنّما الحاجة هي إلى واحد" كان يتوجّه أيضًا إلى كلّ إنسان، في كلّ زمان، لكي يُصغي إلى رغبته الأصليّة: رغبته باختبار علاقات محبّة مع الآخرين. كان يسوع يقول لمرتا ولي ولك: العلاقات هي قصيدة الأحياء، اجعليها واجعلها قصيدةً للضوء، قصيدةً للجمال والحرّية والمحبّة. لا شكّ أنّ علاقات المحبّة قائمةٌ دائمًا في قلب الثالوث لأنّه المحبّة، وجذر كلّ محبّة. ولربّما كانت صلاة الشكر العميقة تُختَصَر بكلمات بسيطة: من ناحيتي أشكر الله وفالنتينا أنّهما موجودان، وأنّهما يغنّيان فيّ. Comments are closed.
|
الكاتبخريستو المر الأرشيف
December 2023
Categories |