30 تمّوز، يوليو 2020
علاقتنا بالله ممزوجةٌ دائمًا بخيالاتنا، بما يدعوه علم النفس إسقاطاتنا، أي بما نحن نضعه في الله من ظلال أنفسنا ونقول إنّه منه، سواءٌ أكانت تلك الظلال خوفًا أو إحباطًا أو تسلّطًا. لهذا كانت العلاقة باللّه ملتبسةً دائمًا، وستبقى كذلك حتّى تسقط الحُجُب بالموت، ويظهر لنا الله وجهًا لوجه، فلا يعود هناك مكان لخداع الذات. الآن، لدينا وسائل كثيرة لكي نهرب من أنفسنا، ونقوِّلَ الله ما نريد، ونفسّر الآيات بعكس فحوى الإيمان. أمّا حين تسقط الحجب، فسينتفي الهروب. ما علاقة ذلك بقصّة إبراهيم؟ هناك رمزان هائلان في الحياة البشريّة: رمز الأرض ورمز الدم. وهما رمزان للحياة، وللأمّ التي تمنح الحياة (الوطن-الأرض-الأمّ، عيد الأمّ في بداية الربيع يشير إلى الترابط بين الأمّ والأرض). بالطبع، الله لا يدعونا إلى أن نستغني عن الأرض وعن العائلة، عن رمز الأمّ، فالواقع أنّ الحياة البشريّة متجذّرة طبيعيًّا في أرض معيّنة وفي عائلة معيّنة. لكنّ حكاية إبراهيم مع الله تبدو وكأنّها تتحدّى رمزي الأرض والعائلة. الله يطلب من إبراهيم أن يترك أرضه وعشيرته، ثمّ تقول الرواية إنّ إبراهيم فهم أنّ الله يطلب منه أن يقدّم ابنه أضحية بشريّة لله، كما كانت العادة في بعض الديانات القديمة (هل كان الله يتعامل مع اسقاطات إبراهيم عليه؟). المهمّ، في النهاية يتّضح لإبراهيم أنّ الله لا يريد أضحية بشريّة. يبدو من علاقة إبراهيم مع الله أنّ الإيمان بالله يتطلّب القبول بانفصال حادّ عن رابطة الأرض ورابطة الدم، عن الأمّ. ماذا يمكن أن نقرأ هنا؟ يبدو لي أنّ الحكاية تقول لنا إنّ اتّباع الله، أو العلاقة معه أولويّة مطلقة، أولويّة على العلاقة مع الأرض ومع العائلة والعشيرة. هناك انقطاع عن الأرض والعائلة، عن الأشياء وعن الناس كرمزين لمصدر للحياة، من أجل الاعتراف بأنّ الله وحده مصدر الحياة. هذه الأولويّة التي يدعو اللهُ الإنسانَ إليها، لا تلغي رابطة الأرض ورابطة الدم، وإنّما هي انقطاع عنهما كمصدر للحياة، إنّها عمليّة استقلال نفسيّ عن العشيرة والوطن، علاقة تحرّر من الاندماجيّة في العشيرة والوطن، خروج من رحم الأرض والعشيرة، لكي يولد الإنسان بفرادته وحرّيّته تجاههما عندما يعلم أنّ المصدر الوحيد للحياة هو الله نفسه. وعندما تتمّ هذه الولادة، يمكن للإنسان المولود في الحرّية التي مع الله، إقامة علاقة ناضجة مع أقرباء الأرض وأقرباء الدم، علاقةٍ لا يشوبها الخضوع والاندماج، علاقة أحرار. أولويّة الله تترك للإنسان فسحة حرّية في علاقته مع الأشياء ومع الناس؛ ومن تلك الحرّيّة يطلّ الإنسان على علاقات ناضجة ذات معنى. الانفصال نفسه هو شرط الاتّصال الحرّ، أي شرط المحبّة. شرط التحرّر من الذوبان في الجماعة، وما تعنيه من تعصّب. من هذه الزاوية نرى أنّنا نكون في خطّ إبراهيم إن كان لعلاقتنا بالله أولويّة كيانيّة، بحيث نرى أنّ الله هو أب الجميع، وأنّ الجميع إخوة وأخوات، "عيالٌ"، في عائلة الله الواحدة. حكاية إبراهيم دعوة مفتوحة إلى إنسانيّة يكون الجميع فيها واحدًا. في بلادنا، هل نحن في خطّ إبراهيم؟ كيف نكون في خطّه في ظلّ الأحقاد الوطنيّة (ضدّ الفلسطينيّين، والسوريّين مثلًا)، والغرق في الهويّات المناطقيّة والعائليّة؟ لا شكّ أنّ إبراهيم كان سبّاقًا لنا، ونحن نخونه كلّما تصرّفنا بما تمليه علينا روابطنا البدائيّة التعصّبيّة مع الأرض والدم، عوض الروابط الإنسانيّة مع الوجوه، وجوه الآخرين. إنّ أعضاء عائلة إبراهيم ليسوا اليهود والمسيحيّين والمسلمين، وإنّما أولئك الذين أحبّوا مَن هم خارج روابط الأرض وروابط الدم كما أحبّوا مَن هم داخلها، هم الذين استغنوا عن سفك دم البشر من أجل الله لأنّ الله كشف بوضوح رَفْضَه لذلك من خلال إبراهيم. الأضحى تذكير لنا بأنّ كلّ من يقول إنّه يهرق دمًا بشريًّا من أجل الله في كلّ ظرف، هو يُسقط من خيالاته وشهواته على الله ما رفضه الله بوضوح في حكاية إبراهيم. لا أضحية مقبولة أمام الله سوى ذبيحة القلب الذي يتجاوز روابط التراب والدم ليتوضّأ بالمحبّة ويتعمّد بالضوء. عندها تتجلّى الأرض سماء، وننجو من استعباد أنفسنا للأشياء والناس، من استعباد أنفسنا للهويّات الجماعيّة. قد ينتصر البشر انتصارات جميلة في قضاياهم المحقّة. وقد ينتصرون انتصارات بشعة في قضايا ظلمٍ وتعسّفٍ واحتلالٍ وتطهير عرقيّ. أمّا الانتصار الإلهيّ فيكون عندما ينتصر الله. والله ينتصر عندما ينتصر فينا الحبّ وتنتصر فينا الحرّيّة، فبهما وحدهما نكون قد خرجنا من عبوديّتنا لروابط الأرض وروابط الدم، ليس لكي نتنكّر لها وإنّما لنعود إليها بحرّيّة فتكون هويّاتنا مفتوحة على الجميع مساحاتِ محبّةٍ وحريّة وكرامة إنسانيّة. كلُّ ما عدا ذلك هو إسقاطات على الله، والله منها براء كما نستدلّ من خبرة إبراهيم. Comments are closed.
|
الكاتبخريستو المر الأرشيف
December 2023
Categories |