الثلاثاء 28 تموز / يوليو 2020
خريستو المرّ في تنظيمنا للحياة الجماعية وأهدافها، مشكلتنا أنّنا نظنّ بأننا نستطيع أن نعيش في عالمين متضادين (أو عوالم متضادة) في الآن عينه: عالم اجتماعيّ عام يقول فيه الإنسان لنفسه ولغيره "الربح هدف" و"أنا أملك إذا أنا موجود"، وعالم إيمانيّ (فرديّ أو في مجموعة صغيرة) يقول فيه مَنْ لم يصبح غريبا بالكامل عن نفسه "أنا أحبّ إذا أنا موجود". المشكلة هي أنّ هذا الانفصال الاصطناعيّ بين عالم اجتماعيّ له مبادئه التي نلتزم بها، وعالم إيمانيّ له مبادئ معاكسة نلتزم بها، هو انفصال وهميّ. فنحن هنا أمام رؤى وبُنى فكريّة ونفسيّة وروحيّة مترابطة كلّ واحد منها مختلف جذريّا عن الآخر، وليس أمام مجموعة خيارات يمكنها أن تتناسق. الإنسان كلّ واحد، لا يوجد فكر لا يؤثّر في النفس وفي التوجّه الروحيّ (أي علاقة الإنسان بالله وبالناس) ويتأثّر بهما؛ لا يمكن للإنسان أن يتصرّف أمام خياراته الفكريّة-النفسيّة-الروحيّة كما يتصرّف في متجر لبيع الزهور: يختار من الأجزاء "الجميلة" من هذه البُنى ومن تلك، ويوائم بينها. لا يمكن، مثلاً، أن يكون الربح القيمة العليا في حياتي الاقتصاديّة، وأن تكون المحبّة القيمة العليا في حياتي الروحيّة، فحياتي هي حياتي، أن يكون الربح في حياتي هو القيمة العليا يعني ألاّ أرتدع عن استخدام الآخر وسيلة لمراكمة أرباحي، وأن يكون الآخر وسيلتي، أي شيئا، فكيف عندها يمكن أن أعتبر الآخر إنسانا مثلي وهدفا لعلاقة محبّة؟ إن كنت أومن بالفعل أنّ المحبّة هي القيمة العليا، أومن عندها أنّني أنا والآخر هما القيمة العليا؛ وعندما تكون قيمة النشاط الاقتصاديّ هي نتيجة عملنا معًا، نتقاسمُ الأرباح بالتساوي، بغضّ النظر إن كنت أنا ساهمت بالمال وهو ساهم بالإدارة وآخر ساهم بالعمل اليدويّ. لم أجد في انجيل يسوع المسيح، أي في تعليمه وفي حياته، أيّ أثر لما يوحي من بعيد أو قريب بأنّ يسوع يرى بأنّ المساهمة الماليّة هي أعلى قيمة من العمل اليدويّ، أو بأنّ العمل الفكريّ أهم من العمل اليدويّ، بل كما يذكر الانجيل صراحة كان المبدأ الأعلى الملموس للجماعة التي لحقت بيسوع هو "أنّ كلّ شيء بينهم كان مشتركا". عندما نعلن إيماننا ببُنيتين متضاربتين، عادة ما تكون البنى الجميلة أخلاقيًّا (المحبّة مثلاً) ستارًا تجميليًّا للبُنى القبيحة الحقيقيّة التي تتبنّاها النفس (المُلكية والمال هي القيمة العليا). يكفي كدليل أعداد المنافقين في الكنيسة (وفي المجموعات الدينيّة الأخرى)، حيث قيمة المحبّة وقيمة الإنسان صورة الله تترافقان مع ممارسة الظلم والقمع في الكنيسة، ومع السكوت عن المظالم الاجتماعيّة والسياسيّة في المجتمع. ويكفي كدليل استغلال العمّال والموظّفين، ومنعهم من تشكيل نقابات أحيانا، واستغلال العاملات الأجنبيّات، في مؤسّسات تملكها الكنيسة، والصمت المخزي للكنائس أمام السياسات الاستغلاليّة التي تنتج الفقر انتاجًا، والسياسات القمعيّة التي تزجّ الناس بالسجون لمجرّد رأي سياسيّ أو نقد للحكّام. ليس مطلوبا من رجال الدين أو الجمعيّات الكنسيّة (كم يُفتَقَدُ صوت حركات الشباب!!!) أن يتبنّوا سياسة فريق ضدّ آخر ولكن أن يقولوا قولة حقّ ويعطوا شهادة نبويّة في القضايا الكبرى. ماذا نجد في الواقع: إنسان (ولمن ينسى المطارنة والبطاركة هم مجرّد بشر) يصرخ مطالبا بحقوق التعيينات الطائفيّة وفي نفس الوقت مناضل "ثوريّ" عندما يتطلّب الأمر؛ وآخر مهادن لكلّ موبقات السلطة ويطالب باحترام موقع طائفته ويختصر الكنيسة بشخصه؛ وآخر يتشدّق بما تمنحه الكنيسة للناس ويتضامن مع أوضاعهم ولا يرضى إلاّ بحماية الفاسدين من طائفته. ثمّ هناك نحن كلّنا، الذين ارتضينا أن ندخل الكنيسة ونحبّ "المحبّة" ثم لا نمانع من استغلال موظّفينا، ونضرب أخواتنا ونسائنا، ونسيء لطلاّبنا ونستغلّ أعمالهم، نحن الذين تمسّكنا بالنظام الطائفيّ الذي يميّز بين أناس ويسمح بنهب البلاد، ونستقيل فكريّا وأخلاقيّا أمام الزعيم السياسيّ والثوب الدينيّ، ونضع أنفسنا أوصياء على حياة الناس الجنسيّة، إلخ. لا توجد منطقة وسطى بين أن يؤمن الإنسان بيسوع ويؤمن بشيء آخر، لا يمكن للإنسان أن يتبنّى رؤيتين مختلفتين جذريّا عن الحياة، "لأنّه إمّا أن يبغض الواحدة ويحبّ الأخرى، أو يلازم الواحدة ويحتقر الأخرى"، تماما كما قال يسوع عن الله والمال. قد تكون الحياة كلّها خروج من عبادة أصنامٍ إلى عبادة الله، المهمّ أن يعي الإنسان واقعه المتمزّق بين رؤيتين حتّى لا يبقى في الوهم. Comments are closed.
|
الكاتبخريستو المر الأرشيف
December 2023
Categories |