الثلاثاء 14 تموز/يوليو 2002
خريستو المرّ أنا أستطيع أن أكتب الآن لأنّي لست جائعًا. فعل الكتابة نفسه يعيدني إلى الخبز. لا أشكّ لحظة أنّ الخبز النازل من السماء كلماتٍ، ثمّ جسدًا معلّقًا على الصليب وقائمًا من الموت، هو الخبز الجوهريّ، وأن ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان. ولكن بالخبز أيضًا يحيا الإنسان. وإن كان خبزي أنا أمرًا مادّيًا بحتًا (مع أنّه ليس كذلك فهو في النفس رمز الحياة) فإنّ كلمة الله الساهر في الكتاب وفي الضمير، يُذكّرني بأنّ خبز الآخر بالنسبة إليّ هو أمرٌ روحيّ، فليس من المصادفة أن يكون الذهبيّ الفم اكتشف أنّ بعد سرّ الشكر هناك سرّ الآخر الذي يكمل سرّ المذبح، أي أنّ العمل من أجل سدّ حاجة الآخر هو متابعة للصلاة؛ فكيف له ألّا يكتشف ذلك وقد قال يسوع عن نفسه إنّه والمهمّشين والمحتاجين واحدٌ؟ المسيح هو هو على المذبح وفي جسد المهمّشين ودمهم، والكنيسة هي هي في يسوع الواحد فوق المذبح وفي المقهورين. من هنا أفهم قول أحدهم يومًا إنّه إن آمن بيسوع فلن يستطيع أن ينام؛ إنّ يسوع ذبحه الظلم وكسره التهميش منذ غرق العالم في العالم، ونسي الحاجة إلى الواحد. للمحللين الجيو-سياسيّين أن يخبروا ما يشاؤون عن حروب الناس على المصالح، وأن يصمتوا عن صراخ الضحايا، أو أن يدافعوا عن حتميّة وقوع ضحايا بريئين في معرض "الدفاع" عن الأمّة. أمّا من ركضوا خلف يسوع فلهم أن يبشّروا بأنّ كلّ وجه هو الكون كلّه، وأنّ الضحايا البريئين هم يسوع نفسه، وأنّه لا يجوز أن يُسَحَق الناس باسم أيّة أمّة وأيّ إيمان وأيّ دفاع عن أيّ صنمٍ بنته مجموعة بشريّة. أمام تبرير صلبِ الأبرياء لا يمكن لمن اتّبعوا يسوع سوى إدانة صلب الأبرياء، ولا يمكنهم إلّا أن يقولوا إنّ موت الأبرياء يدين أيّ انتصار، وأنّ يقولوا إنّ جوع الجائعين يدين حضارة الذين لا يأبهون لجوعهم، ويدين دياناتهم وإيديولوجيّاتهم. إنّ الإدانة لا تكفي، فخبزُ الآخر شأن روحيّ بالنسبة إلى من ترك قلبُه الأشياءَ للأشياءِ وتبع المعلّم. لا يمكن لمن يرى مدى الوحشيّة في النظام اللبنانيّ الذي يكشف عن وجهه البوليسيّ بشكل سافر اليوم، والذي يمعن في تمزيق أجساد الناس ونفوسهم، وفي تشويه الإيمان بأدوات الطائفيّة، وفي تجويع شعب كامل، إلّا أن يقوم بكلّ ما باستطاعته لكي يلتحق بصفوف المناضلين الشرفاء أيًّا كان دينهم وفلسفتهم، في مسيرة نضال لا عنفيّ، من أجل الدفاع عن خبز الآخر، من أجل الدفاع عن هذا العالم كهبةِ حياةٍ موجودة ليتشارك فيها الجميع. خبز الآخر يدفعنا إلى إحقاق الحقّ بواسطة العمل الجماعيّ من أجل إنهاء احتكار الخبز والحرّية، لمناهضة الذين ينهشون لحم هذا العالم ولحم الآخر. مَنْ اتّبع يسوع لا ينام قلبه، بل يحتجّ حتّى آخر رمق ضد الظالمين وأنظمتهم الجحيميّة، ولا يقول إنّ الحقّ والعدالة أمران مُرجآن إلى ما بعد الحياة لأنّه مكتوب أنّ الملكوت حاضر اليوم، وأنّ الله يعتمد علينا لنعمل معه من أجل إرساء الضوء في وجه الآخر وفي العلاقات البشريّة، من أجل إرساء تباشير الملكوت في لحم الآخر شَبعًا مادّيًّا ونفسيًّا وروحيًّا. قال يسوع لا يمكن أن تعبدوا ربّين الله والمال، ولو جاء اليوم لقال لا يمكنكم أن تعبدوا ربّين: الله وزعيمكم السياسيّ أو الدينيّ، إن عبدتم الله تنقلبْون عليهما لأنّهما ساهما ويساهمان في تجويع الآخر، وسحقه، ويحوّلان البلاد إلى مربّعِ قمعٍ بوليسيّ. في لبنان على الأقلّ لا يمكنك أن تقول: «لا أستطيع، سأصمت». خبز الآخر ودمه المسفوك في الشوارع وعلى بوّابات المستشفيات، ينادينا. دم الموجوعين يغنّي: «يا كوكب الصُّبح الـمُنير تعال». من يسمعون فليكونوا الجواب، ومن يعطشون فليأتوا معًا إليه، ومن يُريدون فليأخذوا من وجهه في الموجوعين ماء الحياة مجانًا. ومن أراد أن يشرب فليسهر، وليرفض أن يصمت، ولينتزع خبز الآخر من فم الوحش. خبز الآخر ينادينا: هل ننام أم لا ننام؟ Comments are closed.
|
الكاتبخريستو المر الأرشيف
December 2023
Categories |