خريستو المرّ
الثلاثاء ٣٠ حزيران/يونيو ٢٠٢١ "إنّ اسم استفانوس [أوّل شهداء المسيحيّة] يعني «التاجَ»، «الاكليلَ الامبراطوريّ». موت استفانوس شهيدًا، يعني، في ما يعنيه، إلقاء كلّ تاج وعرش وكرسيّ أمام أقدام المعلّق على الصليب"(نقولا أبومراد) يوم الأحد الماضي وخلال لندوة رقميّة حول كتاب «مع المسيح في جحيم هذا العالم» علّق الصديق د. أسعد قطّان ومن ضمن تعليقه أشار إلى قلق الشاعر الذي يتحسّسه من خلال كتاباتي، وأجبت ما معناه أنّ أحد أسباب هذا القلق هو التضارب الذي أراه بين المسيح المحرِّر وخيانتنا لرسالته باسمه بالذات. ولا شكّ أنّ الجزء الثاني من عنوان الكتاب «نصوصٌ في محوريّة الإنسان» هو مفتاح لفهم المعنى الملموس للإيمان بيسوع المسيح مصلوبًا نازلا إلى الجحيم ومحرّرا الموتى من براثن الموت بالقيامة: المسيح حرٌّ ومُحَرِّر، الإنسانُ مُقدَّس إن كان المسيح قدّوس. العمل على تحرير الإنسان من الموت: موت الظلم والقهر، وموت الاستغلال، وموت العزلة، ليكون قائمًا في الكرامة البشريّة ومحقّقا كمل صورة الله في ذاته، منذ الآن، وهنا على هذه الأرض، هذا ما أعتقده معنى المسيحيّة وهو أحد محرّكات قلقي ودافعي للكتابة. وقد قرأت يوما من انتقد دفاعي الدائم عن الحرّية الإنسانيّة، إنّ دفاعي الدائم هذا هو نتيجة قناعتي بأنّ إيمان المسيحيّة بأنّ الله محبّة وبأنّ الإنسان على صورته يعني مباشرةً بأنّ لا تحقيق لإنسانيّة الإنسان دون أن يصبح محبّة على مثال الله، وأنّه لا محبّة دون حرّية، وبالتالي ومن وجهة نظر لاهوتيّة بحتة، يصبح تحقيق الحرّية شرطًا لتحقيق إنسانيّة الإنسان، لأنّه لا محبّة بذهنيّة عبوديّة. وبتعبير آخر لا معنى للإيمان بدون حرّية. والسبب الآخر لهذا التشديد الدائم هو انتهاك السلطات الدينيّة للحرّية الإنسانيّة في الكنيسة عبر تعليم وتصرّف يسعى لقولبة الإنسان والتسلّط عليه بالإغراء بالمناصب أو بالتهديد بلقمة العيش أو بالتعليم المشوَّه الذي يسعى للتسلّط على الناس والتحكّم بضمائرهم، ولا شكّ أنّ هذا التسلّط الكنسيّ يضاعف الضغط على حرّية الناس التي تعاني أصلا من ضغط السلطات السياسيّة والاقتصادّية. الحرّية تكمن باختصار بالقدرة على قول "لا" لأنّه عندها يمكن لكلمة "نعم" أن يكون لها معنى؛ نفسيًّا ولاهوتيّا لا معنى لمحبّة إن كانت قسريّة. هذه الحرّية مفقودة في بلاد القهر في سوريا وفلسطين ولبنان والعراق وغيرها من بلدان العالم العربيّ. ولكن ما هو غامض هو أنّ الحرّية لا تكتمل أيضًا دون اكتفاء مادّي، دون عدالة اقتصاديّة، فحرّية إنسان لا يملك أن يأكل هي شبه معدومة. من هنا أيضًا، تأكيدي الدائم على أنّ التشديد على حرّية التعبير دون العدالة الاقتصاديّة خطأ كبير وقاتل، قاتل مادّيا (بسبب الأمراض الناتجة عن الفقر) وقاتل روحيًّا لأنّه يُبقي على أشكال من العبوديّة والأَسْرِ التي تنتهك الكرامة البشريّة. الأمر الآخر في الندوة كان بروز حوار حول دور التربية في بناء شخصيّة إنسانيّة تحترم الإنسان والآخر. لا شكّ بدور التربية في بناء الشخصية، ولكنّ ذلك غير كافٍ، لأنّ العلوم الإنسانيّة برهنت بما لا يرقى إليه الشكّ على دور النُظُم والبُنى في التأثير على فكر وتصرّفات الإنسان. فإن كان النظام طائفيّا في كلّ نواحي الحياة فإنّ ضغوط النظام المستمرّة والمحيطة بشكل دائم بالإنسان تؤثّر في أفكاره وتصرّفاته وتغيّر إلى حدّ كبير أثر التربية. من هنا فإنّ ما أودّ قوله في جميع كتاباتي أنّ التشديد على التربية والمسؤوليّة الشخصيّة لا يكفي ويجب أن يكمّله السعي لتغيير الأنظمة والبُنى السياسيّة والاقتصاديّة. إنّ كلمة الصديق د. نقولا أبو مراد النبويّة فوق توضح بأنّ الشهادة ليسوع لا يمكن إلّا بتحويل السلطة لتكون خادمة للإنسان؛ أي، بقراءتي، بتحويل نوع البُنى والأنظمة والسياسات. الشهادة ليسوع شهادة تحرير للإنسان ودفاع عن كرامته، بتحطيم تاج الظلم وتيجان الاستغلال. الكارثة الروحيّة عند المسيحيّين هي غياب القيادة وخفوت صوت التيّارات النبويّة، فترى الغالبيّة الساحقة – وكم أرجو أن أكون مخطئًا - إمّا ينسحبون من الشأن العام وينكفئون هاربين من مسؤوليّة الحياة والإيمان بالطقوس (وبعض هؤلاء ينجذب لتيّارات أصوليّة)، أو صامتون متردّدون راضخون للواقع بشيء من الجبريّة، وإن تدخّلوا في الحياة السياسيّة فهم يتدخلّون للهتاف للمرتكبين والرعاع والمستبدّ والمستغلّ والطائفيّ. هذه الكارثة تتفاقم مع مرّ السنين ولا يبدو لي أنّه سيكسرها سوى عمل روحي «ثوريّ» داخل الكنائس، ثوريّ لأنّه يكسر نمطيّة الكلام المنمّق والخطابات البليدة والمشاريع المنغلقة عندما ينفض الغبار عن كلمات الإنجيل لتضيء نارًا ونورًا على واقع الحياة اليوم. وعندها يعمل المسيحيّون كمواطنين مع مواطنيهم في الشأن العام، بنفسٍ إنجيليٍّ ينفخُ ريحَ الحرّيةِ والكرامة البشريّة. في هذا المجال لا يمكنني اليوم إلّا أن أذكر الشعب الفلسطينيّ في صراع تحرّره المستمرّ من أجل العيش الحرّ من الاحتلال والعنصريّة والاستغلال، والحرّ من البطش الداخليّ، ويثلج القلب ما جاء في بيان "شباب فلسطينيّ مسيحيّ" صادر عن منظّمة كايروس-فلسطين التي تمثّل الكنائس الفلسطينيّة يعلن فيه الشباب أنّنا "نعترف بذنبنا ونتوب عن سلبيتنا وتقاعسنا وعدم تضامننا مع أولئك الذين عانوا أسوأ ما في القمع الاستعماري في الأحداث الأخيرة وعلى مر السنين. لقد فشلنا في أن نكون ملحًا ونورًا في الأرض، وبالتالي نتوب عن تجاوزاتنا بالتزامنا بالعمل. لقد أظهر أولئك الذين يشغلون مواقع سلطةٍ في مجتمعاتنا، أوجه قصورٍ كبيرةٍ في تصريحاتهم وأفعالهم فيما يتعلق بالظلم المستمر المرتكب. نحن نرفض الوقوع في فخ المساواة بين العنف والهيمنة اللذين يرتكبهما النظام، وبين عنف المظلوم الذي يردّ على النظام. إن عدم اتخاذ موقف حازم وصادق ضد الأنظمة الظالمة ومحاولة تبنّي الحياد من خلال إدانة جميع أشكال العنف هو ببساطة إما دليل جهل أو دعمٌ متعمد من الأقوياء". كلام نبويّ إنجيليّ يستطيع أن يتعلّم منه اللبنانيّون والسوريّون والعراقيّون الكثير. Comments are closed.
|
الكاتبخريستو المر الأرشيف
December 2023
Categories |