الثلاثاء ١٥ حزيران ٢٠٢١
خريستو المرّ ماذا يريد الإنسان في النهاية؟ ليس فقط أن يعيش بل أن يحيا، أن تتأجّج فيه الحياة، أن يفرح. ولكن كيف ذلك؟ الإنسان مفطورٌ على التواصل مع آخرين منذ عمر الساعتين، أي قبل أن يتعلّم وأن يتكلّم. إن مددت لطفل ٍلسانك مدّ لسانه، وإن توقّفت مدّ أيضًا لسانه كدعوة إلى المتابعة، إلى التواصل. هذا شيء ممّا بيّنته الأبحاث في العقود الأخيرة. وقد بيّنت أيضًا، بما لا يدع مجالًا للشكّ، بأنّ الإنسان مفطور على التعاطف. ففي عمر ١٤ شهرًا، يتعاطف الطفل تلقائيّا مع الآخرين دون طلب من أهله، فيقدّم مساعدة لإنسان غريب يُعاني أمامه من صعوبةٍ، مثل فتح باب، أو الإمساك بغرض وقع منه على الأرض، خلال ٧ ثوانٍ (كمعدّل وسطيّ) من ملاحظته للصعوبة التي يعانيها. في عمر ١٨ شهرًا تزيد القدرة على المساعدة في الحالات المعقدّة. وقد يظنّ قارئ أنّ الطفل كان يقلّد بالغًا أمامه، ولكنّ الأمر ليس كذلك، كما أنّ الأطفال كانوا يعبّرون تلقائيّا عن قصدهم الواضح بالتفوّه بعبارة مثل "سأساعدك". كما أنّ الطفل لا يكتفي بالمساعدة، بل يقدّم الدعم العاطفيّ للآخرين. قبل عمر السنتين يقدّم دعما عاطفيّا كأن يحاول إعطاء لعبته الذاتية لولد آخر يبكي، ولكن في عمر السنتين يصبح قادرًا على فهم أوضاع الولد الآخر الذي يبكي بشكل أكثر فيأتي له بلعبته (لعبة الولد الذي يبكي) المفضّلة لكي يخفّف عنه. ماذا عن العطاء؟ عندما قال بولس أنّ العطاء مغبوط أكثر من الأخذ تكلّم عن إحساس، عن خبرة نعرفها جميعًا عندما نُعطي، ونحن نفرح لفرح غيرنا عندما نأخذ منه أيضًا، والمحبّة تقتضي أن نتيح لغيرنا أن يفرح بأن يعطينا. وتبيّن الأبحاث اليوم بواسطة تصوير عمليّات الدماغ بالرنين المغناطيسي (fMRI) أنّ الإنسان يفرح بالعطاء كما وبالأخذ، ولكنّه يفرح بالعطاء أكثر من الأخذ، بل ويشعر بنشوة. ماذا عن المشاركة؟ بيّنت الدراسات أنّ هرمون الأوكسيتوسين (Oxytocin) يحفّز لدينا التعاطف والكرم والثقة بالآخرين، ولكنّها بيّنت أيضًا أنّ نسبة الهرمون تتزايد في أوضاع مثل الوضع، والنشوة الجنسيّة، والثقة بالآخرين وتحقيق العدالة (بعكس انعدام العدالة الذي يحفّز في الدماغ الشعور بالألم والقرف)، ونظرة متعاطفة. أيّ أنّ الأوضاع هذه نفسها تُفرحُنا. وأظهرت التجارب أنّ نظام المكافأة في الدماغ يتحفّز في حالات مثل: التعاطف مع آخر يُعاني، الحبّ، تمنّي أمر جميلٍ لإنسان نحبّه، تمنّي أمر جميلٍ لإنسان لا نحبّه (تذكرون نصيحة أن يذكر الإنسان في صلاته إنسانًا لا يرتاح إليه)، تحقيقُ عدالة، التعاونُ مع آخرين، طلب آخرين منّا التعاون معهم، الأخذ، العطاء (بشكل أكبر من الأخذ). وهذا كلّه يعني أنّ فرحنا لا يتعلّق بشيء يجب أن نجده في مكان ما بعيد عنّا، وإنّما بموقفنا الداخليّ: هل نعطي؟ هل نأخذ؟ هل نتعاطف؟ هل لنتمنّى أمورا جميلة لآخرين؟ هل نطلب التعاون؟ هل نستجيب لطلب تعاون؟ ماذا عن العدل؟ تجارب أخرى لا مجال لذكر تفاصيلها، دلّت أنّ الإنسان يفضّل العدل والمعاملة بالمثل على الربح، أي أنّه يفضّل ألّا يربح مالًا أبدًا في لعبة قد تدرّ عليه مالًا يسيرًا إن شعر أنّ الفريق الآخر في اللعبة لا يلعب بشكل عادل ويستغلّه. وهذا يعاكس النظرة الخياليّة في الاقتصاد أنّ الإنسان مدفوع بدافع الربح فقط. إنّ التجارب الملموسة العلميّة التي ذكرنا نتائجها، تدلّ أنّنا مخلوقون لنفرح بالتواصل والتعاطف والعطاء والمشاركة، والعدل، أي بما ندعوه محبّة. عندما يقول لنا يسوع والأنبياء أن نحبّ ونعدل ونتعاطف ونشارك فإنّهم لا يفرضون علينا فروضًا خارجيّة قسريّة، وإنّما يشيرون إلينا إلى «صورة الله» التي نحن عليها مخلوقون وينبّهونا أن نتبنّاها، أن نقبلها ونتعاون مع الله لتنمو هذه الطاقات-الصورة، نحو ملئها-المثال، عوض أن ندفنها أو نجمّدها، أو نعمل عكسها، فنحكم على أنفسنا بعيدًا عن الفرح. المحبّة ليست حكاية جميلة، إنّها نسيجنا الداخليّ، والفرح ليس بعيدًا «هناك»، إنّه ينبع من طريقة حياة. هذه قصّة الإنسان الجميل على صورة الإله الجميل، كما يمكن أن نقرأها بين سطور العلوم اليوم. Comments are closed.
|
الكاتبخريستو المر الأرشيف
December 2023
Categories |