خريستو المرّ
الثلاثاء ٨ حزيران/يونيو ٢٠٢١ دَهسَ رجلٌ عائلةً في مدينة لندن-أونتاريو الكنديّة لسببٍ واحدٍ ألا وهو أنّه بدا له من لباسهم أنّهم مسلمون. جريمة ذهب ضحيّتها ٤ أشخاص: الزوجين سلمان ومديحة أفضال (٤٦ و ٤٤ عامًا)، وابنتهما يُمنى (١٥ عامًا) ووالدة الزوج (٧٤ عامًا) ولم ينجُ سوى طفل العائلة (٩ سنوات) وهو مصاب بجراح خطيرة. ما ذنب العائلة؟ ما ذنب كلّ وجه فيها؟ لا شيء. أن تكون مُهاجرًا وأن تتعرّف في بلد ما على أصدقاء وزملاء من عشرات الدول والأديان والطوائف والثقافات لا ينجّيك بالضرورة من العنصريّة، ولكن إن حافظت خلال حياتك على نفسك من الحقد، وبالأحرى إن أدَمْت السعي كي تكون إنسانًا متعاطفًا مع الآخر المُهمّش والمُستَضعَف، خاصّة إن كنت من تلك الفئة في بلادك الأصليّة، أمرٌ يسمح لك بأن تتنفّس حرّية من العنصريّة، وبشكل أعمّ من العصبيّة الاجتماعيّة للأديان والطوائف والثقافات والأوطان. قَتَل حاقدٌ العائلةَ لا لسبب إلّا لأنّ ثقافةً حاقدةً صوّرت له أنّهم لا يستحقّون الحياة، أنّهم ليسوا بشرا متساوين في الكرامة معه. نَفْيُ الآخر عن الإنسانيّة خطوةٌ أولى نحو تسويغ قتله، هو قتل له معنويّ يفتح الباب للقتل الجسديّ. هكذا سعى كلّ الحاقدين. هل كان مرتكبو المجازر والداعون إليها يرون الآخرين بشرًا متساوين في الإنسانيّة؟ حتمًا لا. القتل في الحروب يُفهم كفِعلٍ يتناوب عليه كلّ المتحاربين الخائفين من الموت، يَقتلون كي لا يُقتَلوا حتّى ولو لم ينزعوا عن الآخر صفته الإنسانيّة، وتُظهر الأدلّة أنّ الإنسان يكره القتل فطريًّا ويحاول تجنّبه. لكن لا يُمكن عدم إدانة خطابات الحقد التي تبرّر وتمهّد للقتل، وكذلك لا يمكن تبرير من قَتَل أناسًا عزّلًا أو نكّل بهم حتّى ولو كان متأثّرًا بخطابات الحقد، فالإنسان يحكمه ضميره ولا يمكن نزع المسؤوليّة الشخصيّة عن الذات نهائيًّا بحجّة طغيان خطابات الحقد الدينيّ أو العنصريّ أو القوميّ أو أيّ حقد آخر. يبدو لي أنّ من وسائل تعميم الحقد هو الدمج بين الشخص والمجموعة التي ينتمي إليها، أي اختصار الأشخاص وقيمتهم اللامتناهية كأشخاص بوضعهم في خانة فكرة مشوّهة ومختزِلَة ومنحازة عن مجموعةٍ من الناس مختلفةٍ عن المجموعة التي ينتمي الحاقد إليها. محو الوجوه هو الخطيئة التي تمهّد للقتل الحاقد، للعنصريّة، للإرهاب. لا يغدو الآخر وجهًا وإنّما صورة لفكرة مُتَخيَّلة وبشعةٍ عن «الآخرين» «الغرباء». لهذا من الضرورة الوقوف بصلابة أمام كلّ حديث اختزاليّ للآخرين، خاصّة في العائلات وبين الأصدقاء. الاختزال ومحو الوجوه خطيئة تمهّد لجريمة. ولهذا فإنّ الفكر المسيحيّ المشدّد على أنّ الإنسان هو «صورة الله» والفكر الإسلاميّ الذي يرى في الخلق «عيال الله» جذريّان والتركيز عليهما ضرورة، ليس فقط لأنّهما يجعلانا جميعًا من كلّ الأرض، أخوات وإخوة، وإنّما أيضًا لأنّهما يحملان فيهما رؤيةً تُعطي قيمةً كبرى للوجوه: حين ترى إنسانًا أنت ترى الله، وجه الإنسان الآخر يحمل وجه الله إليك، يحمل حضوره كما وجه الولد يحمل شيئا من حضور أهله؛ وإن كان الكلّ عائلة واحدة فكلّ وجه لا مثيل له، وله فرادته التي لا تُختَزَل بكونه عضوًا من العائلة، أخًا أو أختًا. في الأفق اللامتناهي للوجه الإنسانيّ يكمن الأفق اللامتناهي للوجه الإلهيّ، العنصريّة تختزل الفرادة اللامتناهية للوجه بقناعٍ متماثلٍ متشابهٍ تخفي فيه الوجوه. لا مجال لمحاربة لعنصريّة إلّا بضرب الفكر الاختزاليّ الذي يصنع من الآخر فكرةً يضعه بها خارج الإنسانيّة بمحو فرادته. تشديدي اللاهوتيّ المتكرّر على أنّ المحبّة لا يمكن أن تكون دون جمع الوحدة بالتمايز هو لحماية القيمة اللامتناهية للوجوه، للفرادة، حتّى لا تتحوّل مطلق أيّ جماعة أو مجموعة إلى مكان اختناق للإنسان، وأحيانًا إلى آلة قتل. Comments are closed.
|
الكاتبخريستو المر الأرشيف
December 2023
Categories |