خريستو المرّ الثلاثاء ٢٢ حزيران/يونيو ٢٠٢١ احتفلت الكنيسة الأرثوذكسيّة بعيد العنصرة يوم الأحد الماضي. والعنصرة ذكرى نزول الروح القدس على التلاميذ بعد خمسين يوم من قيامة المسيح وصعوده. يُخبِرُ الكتاب عن العنصرة باقتضاب فيرد فيه "ولمّا حضر يوم الخمسين كان الجميع معًا بِنَفْسٍ واحدة، وصار بَغْتَةً من السّماء صوت كما من هبوب ريح عاصفة وملأ كلّ البيت حيث كانوا جالسين، وظهرت لهم ألسنة منقسمة كأنّها من نار واستقرّت على كلِ واحد منهم. وامتلأ الجميع من الرّوح القدس". المسيح حاضر بكلمته في الانجيل وحاضر بروحه في الأسرار الكنسيّة، ويمكن القول أنّنا نحيا في مرحلة يبرز فيها عمل الروح القدس الذي أرسله الابن ليكمل العمل الخلاصيّ، أي ليجمع أبناء الله المتفرّقين إلى واحدٍ في قلب الله، في ملكوت الحبّ؛ حتّى يملك الحبّ في القلوب، فنتلألأ بالفرح إذ نصير حبًّا. "كان الجميع بنفس واحدة". هناك وحدة عضويّة تجمع المؤمنين بحيث يعيشوا متعاطفين متحسّسين لبعضهم البعض، خادمين لبعضهم البعض. لا يُقصَدُ من هذا العيش النموذجيّ أن يكون منغلقا بحيث لا تتعاطف الجماعة إلّا على بعضها، وإنّما المقصود منه أن تكون هناك بيئة يتربّى فيها الإنسان على التعاطف والتعاضد لكي يصبح إنسانًا مُحِبًّا أينما كان، مع كلّ إنسان. ليس من "داخل" و"خارج" أمام المحبّين، فالمحبّة لا يمكن أن تنغلق وإلّا خانت نفسها، وكفّت عن كونها محبّة. لا يحبّ الإنسان من يشبهونه فقط عائلةً وطائفةً ودينًا ووطنا وقوميّة ولغة، وإنّما يحبّ حقًّا إن كان الحبّ أصبح عنده طريقة حياة. العاطفة المنغلقة على جماعة ما هي سوى نرجسيّة تحوّل الجماعة إلى مرآة تغرق فيها الذات فتختنق. إن كانت الجماعة المسيحيّة "نَفْسًا واحدةً" فلا تصبح وحدتها حبًّا إلّا إن صارت نَفْسًا واحدة مع البشريّة جمعاء، ومع الخليقة الممتدّة خارج البشريّة. الأمر الآخر الذي طالما ذُكِرّ دون أن نذهب في معناه إلى نهايته، هو أنّ نزول الروح القدس لم يكن بشكل جماعيّ وإنّما أعطى الروح نفسه بشكل ألسنة ناريّة استقرّت على كلّ واحد من المجتمعين. في قلب "النفس الواحدة" التي بدا عليها الجميع، كلُّ إنسان فريدٌ، كلّ واحد مهمّ بحدّ ذاته. لي بالذات ولك بالذات أَعطى الروحُ القدس ذاته. في قلب العلاقة الجماعيّة للجماعة المؤمنة مع الله، هناك علاقة شخصيّة فريدة لكلّ واحد مع الله، ويسوع كان قد سبق فقال أنّه كراعٍ صالح "يدعو خرافه بأسمائها"، أي يدعوها شخصيّا، يعرفها شخصيّا. الله لا يحبّ الناس فقط، هو يحبّك ويحبّني شخصيّا. هناك غياب عام في التعليم الكنسيّ لهذه العلاقة الشخصيّة والضروريّة حتّى التنفّس مع الله. هذا يُفضي إلى عدم توازن بين العلاقة الجماعيّة مع يسوع وكون المحبّين جسده السرّي في الكون، وبين العلاقة الشخصيّة معه؛ فتتضاءل عمليّا أهمّية الفرادة على حساب الجماعة، وهذا يؤدّي في النهاية إلى استتباب أشكال من التعليم "اللاهوتيّ" الفاشيّ، الذي يشدّد على "الوحدة" على حساب الحرّية، فنصل إلى القمع والاستبداد في قلب العلاقات الكنسيّة. إنّ التركيز على عمل الروح في تشكيل الجماعة الكنسيّة أي تشكيل الكنيسة كـ«جسد» للمسيح، ووحدةٍ معه تجعل من الكنيسة حضورًا له في التاريخ؛ دون التركيز على الفرادة ودور الروح القدس في العلاقة الشخصيّة الفريدة بين الله وكلّ إنسان، مرشّحٌ أن يهيئُ ويعطي الأرضيّة اللاهوتيّة لبيئة تتفتّح فيها زهور الشرّ من قمع واستبداد واستغلال وصرف نفوذ واعتداء على كرامة الانسان. الله لا "يقولبنا"، الله يريدنا أحرارًا بفراداتنا، بشخصيّاتنا، بسرّ وجوهنا التي لا يمكن أن يُسبَرَ غورها. معموديّة الروح هي أيضًا معموديّة الحرّية والفرادة، لأنّها معموديّة الحبّ ولا حبّ دون حرّية وفرادة، ولكنّ هذا الحبّ ليس منغلقًا على جماعة، فهناك مهمّة للمسيحيين في العالم: أن يحبّوا هذا العالم بناسه، وأن يتعلّموا من جميع المحبّين ويتعاونوا معهم ليؤسّسوا ويحموا في هذا العالم بُنى العدل والمشاركة، بُنى الوحدة في الفرادة والفرادة في الوحدة، فـ«يصطادوا المسكونة» لله عندما يضيفون إلى بهاء هذا العالم بهاءً بتعميده بالحبّ المُشارِك. Comments are closed.
|
الكاتبخريستو المر الأرشيف
December 2023
Categories |